المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415450
يتصفح الموقع حاليا : 270

البحث

البحث

عرض المادة

الذميون أو أهل الذمة في الإسلام

الذميون أو أهل الذمة في الإسلام
The Dhimmis
«الذميون» أو «أهل الذمة» هم من يجوز عقد الذمة معهم، وهم أهل الكتاب، ومن سن بهم الشرع سنة أهل الكتاب مثل المجوس. و«الذمة» في اللغة هي العهد والأمان والضمان، ولذا يُقال لأهل الذمة «أهل العهد». والمصطلح يعني أن أهل الذمة « في ذمة الله ورسوله وليسوا في ذمة أحد من الناس ».


والذمة ذُكرت في القرآن الكريم مرتين في سورة التوبة (الآيتين 8 ـ 10) اللتين أكدتا أن وضع الغلبة إذا كان من نصيب المشركين فإنهم لن يرقبوا في مؤمنٍّ إلاًّ ولا ذمة.

وتعبير «الذمة» كان أحد مفردات الخطاب العربي قبل الإسلام، حيث كانت عقود الذمة والأمان صنيعة التعايش الذي صادف سمات في الشخصية العربية. فقد عرف العرب من قديم التناصر بالجوار، بما يسمونه «عقد الجوار أو الذمة». وكانت رعاية الجوار عندهم من مقتضيات شهامة العربي. وكان على المجير أن يحمي الجار أو المستجير ويقاتل عنه، ويطلب حقه، ويمنعه ويمنع أهله مما يمنع منه نفسه وأهلـه وولده. فمسـألة الذمة كانت حالة تعاهدية تعارف عليها عرب الجاهلية.

واللفظ اصطلاحاً ظهر مع استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها الحديث الشريف: "من آذى ذمياً فأنا خصمه"، وقوله (صلى الله عليه وسلم) في خطبة الوداع: "أوصيكم بأهل ذمتي خيراً". ومن خلال هذه الصيغة دخل تعبير «أهل الذمة» قاموس التخاطب مع غير المسلمين سواء في الممارسات أو في كتب الفقه. ويضع الفقه الإسلامي «الذميَّ» مقابل «المسلم» من جهة، ومقابل «المشرك» من جهة. كما يوضع «الذمي» مقابل «الحربي»، وهو «الكتابي الذي يعيش في دار الحرب»، ومقابل «المُستأْمَن»، وهو «الكتابي الذي يأتي لدار الإسلام للاتجار أو الزيارة فيُعطَى الأمان ويُصرَّح له بالعيش لمدة محددة». وأصبح تعريف عقد الذمة (المستقر في كتب الفقه المختلفة) أنه عقد يصير غير المسلم بمقتضاه في ذمة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد، وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام.

وأهم سمات عقد الذمة أنه تعاقد قانوني بين طرفين، وليس حالة قانونيـة دائمة، وهو تعاقد يسـتند إلى ظروف محدَّدة ومن ثم يزول بزوالها. وفكرة العقد هنا هي إسهام أساسي للدين الإسلامي في التعامل مع قضية الأقليات، إذ أن العلاقة مع غير المسلمين لم تُؤسَّس على أساس تسامح المسلمين أو عطفهم وحسب، وإنما أُسِّست على مقولات قانونية واضحة تتجاوز الأهواء، محمودة كانت أم مذمومة (على عكس الفقه المسيحي الغربي الذي لم يطرح قط أية بنية قانونية خاصة بالأقليات وترك الأمر برمته للتسامح المسيحي).

هذا التعاقد لا يتم في فراغ وإنما في إطار النموذج المعرفي الإسلامي ومن منطلقاته الأساسية التي يمكن أن نوجز بعضها فيما يلي:

1 ـ التعددية:

يعترف الإسلام بالتعددية وحتميتها، وينطلق منها. بل إن جميع الفقهاء يعتبرون الاختلاف والتعددية سُنّة إلهية تركت بصمتها على جميع الخلق. والإسلام لا يجعل مجرد المخالفة في الدين سبباً يحمل على التقاطع بالتفرقة وسلب الحريات والإخراج من الديار، وإنما جعل العداء سبباً مانعاً من موالاة العدو والامتزاج به والاعتماد عليه (كما يذهب ابن كثير والقرطبي وغيرهم في تفسير سورة الممتحنة).

وقد أكد الدين حرية العقيدة في آيات عديدة منها:"لا إكراه في الدين، قد تبيَّن الرشد من الغي" (البقرة 256)، وأقر حرية الاختيار "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29)، وعلق المشيئة باختيار العبد "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" (السجدة 13).

وقد دعا الإسلام إلى تأجيل الخلافات العقيدية إلى الآخرة لكي يفصل فيها الله سبحانه وتعالى (فهمي هويدي) فالقلوب والضمائر ينبغي أن تُترك لرب القلوب ويوم الحساب "إن الذين آمنوا والذين هادوا، والصابئين والنصارى، والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" (الحج 17).

كل هذا يعني حتمية الاختلاف، والاختلافات في الدين على هذا الأساس لا يمكن أن تكون سبباً للعداء والحرب. ويذكر القرضاوي أن أساس التعامل مع غير المسلمين هو "اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله تعالى" و"ليس المسلم مكلفاً أن يحاسب الكافرين على كفرهـم أو يعاقب الضالين على ضلالهم" و"إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل ويحب القسط"، "يأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقـاكم. إن الله عليم خبير" (سورة الحجرات 13).

2 ـ العدل:

وهو القيمة القطب في الإسلام (فهمي هويدي). العدل في المجتمع المسلم يقوم وفقاً لجملة من الثوابت منها رفع قيمة الإنسان، والاستخلاف، والمساواة، وتحريم الله الظلم على نفسه وتحريمه بين الخلق. وهذه القيمة يتمتع بها الناس جميعاً لأنهم أخوة، فكلهم لآدم (الغنوشي). وإذن فمادام غير المسلم إنساناً، فإن له بمقتضى هذه الصفة في الدين الحصانة والكرامة والحماية. وأكد سليم العوا، في ذلك السياق، عصمة الدم.

والعدل في الإسلام قيمة مطلقة وليست نسبية، فهي واجبة الالتزام في كل الظروف، وهي في مواجهة الأعداء، كما هي مع الأهل والحلفاء"لا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا" (المائدة 8)، أي لا يدفعكم بُغض قوم إلى اقتراف جريرة الظلم بإزائهم. ولذا كتب عمر بن الخطاب إلى أحد عماله يقول: "وأما العدل فلا رخصة فيه من قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل وإن رئى ليناً، فهو أقوى، وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور".

والعدل تحري الإنصاف والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه، والحكم بين الناس بالحق الذي لا يحوم حوله باطل، وهو نقيض الظلم (محمد سيد طنطاوي). والعدل الإلهي يتجلى على الصعيد الاجتماعي في الدعوة إلى إقامة مجتمع إنساني حر مفتوح تملك جميع العقائد والمذاهب والآراء أن تعيش في ظله، وليس الإكراه عنصراً من عناصر تكوينه ولا بقائه (سيد قطب). وهذا المجتمع قائم على الإيمان بالعقيدة وعلى تطوع كل فرد فيه بصيانة النظام، حدوده مفتوحة بلا حواجز ولا قيود لجميع المسلمين من كل جنس ولون، ولغير المسلمين كذلك من المسالمين. بل إن المشرك ليملك في الوطن الإسلامي أن يستجير فيُجار ويتحتم حينئذ على الدولة الإسلامية أن تحميه وتكفله. وقد نصَّت وثيقة المدينة (الصحيفة) على أن « من خرج من المدينة آمـن، ومن قعد آمن إلا من ظلم وأثم » (الغنوشي).

3 ـ المساواة التامة بين البشر:

ويرتبط بقيمة العدل الإيمان بالمساواة التامة بين البشر التي تنبع من رؤية إنسانية للإنسان تنبو عن عرْق أو دين أو لغة أو خلافه. وليس للمسلم من هذه الزاوية أية أفضلية على غيره، وإنما هو إنسان شأن أي إنسان آخر إذ خلقنا الله من نفس واحدة. كما ذهب أبو الأعلى المودودي وفهمي هويدي وإدوارد الذهبي والغنوشي وسليم العوا وسيد قطب إلى أن هذه المساواة التي تمثل خلفية معرفية لمفهوم الذمـة تعود بالمفكـرين إلى طبيعة التكريم الذي قضاه الله للإنسان « ولقد كرمنا بني آدم » (الإسراء 70) فالإنسان في الإسلام هو مخلـوق الله المختـار، الذي خلقه وسواه وعدَّله، ونفخ فيه من روحه. ومعنى التكريم هنا أي جعلنا لهم كرماً، أي شرفاً وفضلاً، وأياً كان مناط التكريم، أكان لأن الإنسان نفساً، أو لهداية الإنسان بالعقل، أو لاستخلافه، فإن نتاج هذا التكريم أن صار للإنسان، كل إنسان، قدسيته في هذا الدين. وقد صار الإنسان في حمى محـمي، وحرم مُحـرَّم، ولا يزال كـذلك حتى يهـتك هو حرمة نفسه، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانباً من تلك الحصانة، وهو بعد ذلك بريء حتى يثبت جرمه، وهو بعد ثبوت جرمه لا يفقد حماية الشرع كله، لأن جنايته ستُقدَّر بقدرها، ولأن عقوبته لن تجاوز مقدارها. بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه كما يحمي أولياءه وأبناءه، هذه الكرامة التي كرَّم بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم.

ولا شك في أن هذا الذي سبق يخص فيما يخص أهل الذمة وإن كان أعم وأشمل. غير أن لأهل الذمة مزية خاصة لكونهم أهل توحيد يشاركهم في ذلك المجوس وكذلك السامرة والصابئة بشرط أن يوافقوا اليهود والنصارى في أصل عقيدتهم. ويقول الإمام علي رضي الله عنه إنهم قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا، ويؤكدها السرخسي من مشاهير الفقهاء بقوله: « ولأنهم قبلوا عقد الذمة، لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم ». بل أكثر من ذلك ذهب الفقه الإسلامي إلى أن حقوق الأقليات غير المسلمة طالما كانت مستمدة من الشريعة فإنها لا تتأثر بسـوء معاملة الأقليات المسـلمة في الدول غير الإسـلامية وعليه، فلا يجوز، لدار الإسلام أن تسيء معاملة الأقليات غير المسلمة في إقليمها بحجة الأخذ بقاعدة « المعاملة بالمثل ». وذهب محمد عمارة إلى أبعد من ذلك حيث لم يعتبر ما للذميين حقوقاً وإنما هي ضرورات واجبة.

تأسيساً على تلك الأسس الفكرية كان لا مناص من اعتبار النظام الإسلامي أن أهل الذمة جزء من الرعية الإسلامية، مع احتفاظهم بعقيدتهم، ومن ثم فقد كانت المعاهدات الخارجية يُمثَّل فيها المسلمون والذميون كأمة متحدة.

ويؤكد محمد الغزالي أن الإسلام يرى أن من عاهد المسلمين من اليهود أو النصارى أنهم قد أصبحوا من الناحية السياسية أو الجنسية مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم من واجبات، وإن بقوا من الناحية الشخصية على عقائدهم وعبادتهم وأحوالهم الخاصة. ويؤكد الفكر الإسلامي أن انضواء الأفراد والجماعات في نطاق النظام السياسي الإسلامي قد أدَّى إلى اعتماد « الأمة »، و«الرابطة الأمتية » إطاراً عاماً يحدد سلوك الأفراد واتجاهات الفعل السياسي ضمن المجتمع المسلم.

وإذا كان ذلك كذلك فإن الدعوة لاعتبار الذميين مواطنين تطرح نفسها بقوة خاصة مع تعدد فئات ومستويات معضدات هذه الفكرة. وعندما تناول العديد من المفكرين (فهمي هويدي ـ لؤي صافي ـ راشد الغنوشي ـ إدوارد الذهبي ـ سليم العوا، وغيرهم) صحيفة المدينة بالتحليل، وجدوا أن أهل الكتاب كانت لهم بموجب نص هذه الصحيفة حقوق المواطنة الكاملة يمارسون عبادتهم بحرية، ويناصحون المسلمين، ويتناصرون في حماية المدينة، ويتعاونون، كلٌّ في موقعه على حمل أعباء ذلك. ولعل من نص الصحيفة هذه ما يبرر ذلك حيث قالت: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مُتناصَر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. مواليهم وأنفسهم.. إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ [يهلك] إلا نفسه وأهل بيته.. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة دون إثم". (نص وثيقة المدينة). وأكد ذلك أحمد طه السنوسي في تناوله فكرة الجنسية في التشريع الإسلامي المقارن.

وهكذا فإن مفهوم الذمة لا يتعارض مع مفهوم المواطنة حتى ذهب فهمي هويدي إلى إعادة النظر في مفهوم الذمة الذي يُعبِّر عن تصنيف وليس تمييز، ولا يرتب اختلافاً يسـتدعي اسـتمرار الالتـزام بـه.

وأكد ذلك راشد الغنوشي في حديثه عن ارتفاع المواطنة في الدولة الإسلامية عن كل الفوارق الجنسية والقومية واللغوية وسواها من الفوارق التي أقيمت بين البشر. وهذه المواطنة رتبت حقوقاً لكل من توطن هذه الدولة، وألزمتهم بواجبات كذلك. وقد أكد أن مبدأ مساواة المواطنين في الدولة الإسلامية ثابت فلا تختلف حقوق وواجبات المسلمين عن حقوق غير المسلمين إلا فيما يقتضيه اختلاف العقيدة. فحَمْل المسلمين على ما يخالف عقيدتهم أو الذميين كذلك هو طعن في مبدأ العدالة والمساواة، كأن يُحْمَل الذمي على ترك الخمر ولحم الخنزير، أو يُحْمَل المسلم على أكل لحم الخنزير وشرب الخمر.

وعقد الذمة يختص به الإمام أو نائبه، وشـروطه قسـمان: مستحَق ومستحَب. أما المستحق، فهو أداء الجزية والخراج والضريبة التجارية والتزام أحكام القانون الإسلامي ومراعاة شعائر المسلمين ومشاعرهم وألا يعينوا أهل الحرب. وهي شروط ملزمة إذا نقضوها انتقض عهدهم.

وأهم عناصر الذمة هي الجزية وهي من الكلمة الفارسية «جازيت» أي «الخراج الذي يُستخدَم في الحرب». والجزية ضريبة أساسها نَصّ القرآن وإجماع المسلمين، ووجه إيجابها أن الإسلام أوجب الخدمة العسكرية على أبنائه، وجعلها عليهم فريضة دينية مقدَّسة، واعتبر أداءها عبادة، فكان من لطفه مع غير المسلمين ألا يلزمهم بما يعتبر عبادة في غير دينهم. والجزية على غير المسلم بدل مالي عن الخدمة العسكرية المفروضة على المسلمين، لذلك فهي لا تجب إلا على القادر على حمل السلاح من الرجال، ولا تجب على امرأة ولا صبي ولا شيخ ولا على ذي عاهة، ولا تُفرَض على راهب، كما تسقط عمن تجب عليه إذا لم تستطع الدولة أن تقوم بواجب حماية أهل الذمة من مواطنيها، وتسقط أيضاً باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام. وقد أُعفي من الجزية نصارى اليونان لغير الاشتراك في القتال (الإشراف على القناطر)، كما فُرضت الجزية على مسلمي مصر كمسيحييها لما أعفوا من الخدمة العسكرية. ومن الممكن تأجيل تحصيل الجزية من المعسر. لكل هذا، يذهب بعض الكُتَّاب إلى أن الجزية لا يمكن تصنيفها كضريبة رأس كتلك التي كانت تفرضها الجيوش الفاتحة على الشعوب المغلوبة.

ويؤكد الغنوشي أن الضريبة التجارية، فرضها عمر على أهل الذمة بنصف العشر من مال التجارة الذي ينتقل من بلد إلى بلد (بينما كان التاجر المسلم يؤدي ضريبة مقدارها ربع العشر)، وهي ضريبة لم يرد فيها نص معصوم، إنما فُرضت باجتهاد مصلحي اقتضته السياسة الشرعية، وعلى هذا: لو تغيَّر الوضع فيما يتعلق بالنظر إلى الذمة وأصبـح يُؤخَذ منه ضرائب على أمواله الظاهرة والباطنة ما يسـاوي الزكاة، لأمكن حينئذ أن يؤخذ من التاجر الذمِّي مثل ما يُؤخذ من المسلم ولا حرج. وقد أُعفيت أموال التجارة الداخلية من الضرائب، أما زرعهم وثمارهم التي يستغلونها من أرض الخراج فليس عليهم شيء فيها غير الخراج، وهي ضريبة كان يدفعها المسلمون أيضاً.

ويذهب السنوسي والغنوشي إلى أن التزام الذميين بأحكام القانون الإسلامي، يَصدُر عن واقع أنهم يحملون جنسية الدولة الإسلامية ويلتزمون بقوانينها فيما لا يمس عقائدهم وحريتهم الدينية. وأما مراعاة شعور المسلمين فيقتضي ألا يسبوا « الإسلام ورسوله وكتابه جهرة »، وألا يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها، ما لم يكن ذلك جزءاً من عقيدتهم كالتثليث والصلب عند النصارى، وغير ذلك من مظاهر السلوك.

بل إن المودودي يذهب لأبعد من ذلك فيرى أن لغير المسلمين في الدول الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة والرأي والتفكير والاجتماع والاحتفال ما للمسلمين سواءً بسواء، وعليهم من القيود والالتزامات ما على المسلمين أنفسهم، فيجوز لهم انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين من حق في نقد مذاهبهم ونحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم وكذلك غير المسلمين. ولغير المسلمين كذلك الحرية الكاملة في مدح نحلهم. ولا يحق للحكومة الإسلامية أن تعترض على انتقال أحد من غير المسلمين من نحلة غير إسلامية إلى أخرى غير إسـلامية. ولكن لا يمكن لمسـلم أن يسـتبدل دينه في حدود الدولة الإسلامية، وإن ارتد مسلم فيقع وبال ارتداده على نفسه. ولن يُؤخذ غير المسلم الذي حمله على ذلك بذنبه.

هذا فيما يتصل بالمستحق، أما المستحَب فيحوي شروطاً عديدة من بينها لبس الغيار (وهو الملابس ذات اللون المخالف للون ملابس المسلمين لتمييزهم عنهم). كما كانت الشروط المستحبة لعقد الذمة تختلف باختلاف الزمان والمكان، وكان الإخلال بها لا يُعَد نقضاً لعهد الذمة. ويذهب الدكتور قاسم عبده قاسم إلى أن الشروط التي اصطُلح على تسميتها «المستحَق» استهدفت في أساسها حماية الإسلام والجماعة الإسلامية، كما أنها تتفق في مجموعها مع روح الشريعة الإسلامية، أما الشروط التي عُرفت باسم «المستحب» فواضح أنها اجتهادات من وضع الفقهاء في مرحلة متأخرة نتيجة اتصال الذميين ببعض الغزاة إبّان الحروب الصليبية، وقد كانت نوعاً من المغالاة في فرض القيود لا تستهدف الحماية كما قلنا، غير أنها غير معصومة، فلم تُفرَض على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم). وتؤلف هذه الشروط بقسميها صورة «العهـد العمري» أو «الشـروط العمرية» المنسـوبة إلى الخليفة عمربن الخطاب. وجدير بالذكر أن «عهد عمر» ظل مجهولاً بصورته التقليدية طوال القرنين الهجريين الأول والثاني، ولم يبدأ ظهوره بشكله النهائي إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بصحة أصوله التي اهتمت بحماية المجتمع الإسلامي. وقد وضع الخليفة عمر بن الخطـاب شـروط العهد العمري بشـكل متَّسـق مع روح الشريعة الإسلامية.

وقد ضمن الإسلام لأعضاء الأقليات غير الإسلامية حقوقاً عديدة من أهمها:

1 ـ حق العبادة: ضمن الإسلام لأهل الذمة حق العبادة ضماناً مطلقاً، فلا إكراه في الدين بنص القرآن، ولا يُجبَر أحد ولا يُضغَط عليه لترك دينه إلى غيره. « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين » (سورة النحل 125).

وذهب القرضاوي وغيره إلى أنه لا يحق للمسلم أن يُحاسب غير المسلم على معتقداته حتى ولو كان كافراً. وفضلاً عن إباحة زواج المسلم بكتابية فإن علي عبد الواحد وافي يرى أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته الكتابية من أداء عباداتها وشعائرها، بل إن بعض المذاهب ترى أنه ينبغي له أن يصحبها إلى حيث تؤدي هذه العبادات في كنيستها أو بيعتها إذا رغبت في ذلك.

ويوضح الشيخ محمد الغزالي أن الإسلام لم يفرض على الكتابيين ترك أديانهم، بل طالبهم ـ ماداموا يؤثرون دينهم القديم ـ أن يدعوا الإسلام وشأنه، يعتنقه من يعتنقه دون تَهجُّم مر أو جدل يسيء. بل إن الإسلام كفل في الحرية الدينية لأهل الكتاب حرية إقامة الشعائر في أماكن عبادتهم، وحقهم في تجديد ما تَهدَّم منها، وبناء الجديد منها، ودق نواقيسهم إيذاناً بصلاتهم، بل لهم إخراج صلبانهم في يوم عيدهم.

وبالنسـبة لبناء الكنائـس ودور العبـادة، أورد الشـيخ القرضاوي عهد عمر بتأمين الكنائس القائمة وقت الفتح الإسلامي، ثم أورد عهد خالد "لهم أن يضربوا نواقيسهم في أية ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلاة، وأن يُخرجوا الصلبان في أيام عيدهم". وذكر بشأن بناء الكنائس الجديدة أن من فقهاء المسلمين من يجيزها في الأمصار الإسلامية، وحتى في البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، "إذا أذن لهم إمام المسلمين بناء على مصلحة رآها"، وذلك على مـذهب الزيدية وابن قـاسم. وأورد أمثلة من مصر، وما ذكره المقريزي "وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خوف".

2 ـ قدر من الاستقلال الثقافي والديني: ويستند هذا الحق إلى أمر الله سبحانه وتعالى لرسوله (عليه الصلاة والسلام) أن احكم بين الناس بالعدل « وإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » (سورة المائدة 42)، أي أنه يمكن أن يُتركوا وشأنهم يطبقون قوانينهم في مجال حياتهم الخاصة. وقد كان ليهود بني قريظة بعض الحقوق في إدارة شئونهم الخاصة (أي أن العلاقة مع الدولة كانت فيدرالية إلى حدٍّ ما، إن صح التعبير). وبالفعل، كان من حق الأقليات أن ينظموا أمورهم الداخلية بالكيفية التي تلائمهم، فكان لهم حق تعليم أبنائهم تعاليم دينهم، وأن تسود قوانين الأسرة الخاصة بهم وأحكامهم الخاصة، وكانت لهم محاكمهم الخاصة، أي أن الإسلام ضمن قدراً كبيراً من الإدارة الذاتية للأقليات.

3 ـ حمايتهم ضد العدوان الخارجي والظلم الداخلي: يذكر شمس الدين الرملي الشافعي أن دفع الضرر عن أهل الذمة واجب كدفعه عن المسـلمين:

أ) العدوان الخارجي: من حقوق أهل الذمة حمايتهم من الاعتداء عليهم بحفظهم ومنع ما يؤذيهم وفك أسرهم ودفع من يقصدهم بأذى "ولو كانوا منفردين ببلد". وينقل عن ابن حزم في مراتب الإجماع "إن من كان في ذمتنا [من أهل الكتاب] وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع [أي بالخيل] والسلاح ونموت دون ذلك، صيانةً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". ولقد أصر شيخ الإسلام ابن تيمية في تفاوضه مع قائد التتار على إطلاق من تم أسره من أهل الذمة مع إطلاق المسلمين حيث قال: "لا نرضى إلا بامتثال جميع الأساري من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمة ولا من أهل الملّة".

ب) حمايتهم ضد الظلم الداخلي: من حقوق أهل الذمة أيضاً حمايتهم من الظلم الداخلي، ونُقل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله "من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه [أي خصيمه] يوم القيامة". وقوله (صلى الله عليه وسلم) "من أذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة". وقوله (صلى الله عليه وسلم) "من أذى ذمياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد أذى الله". وفيما ذكره ابن عابدين أن "ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثماً". ومن كتب الفقه نجد قول القرافي المالكي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا، لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا (أي حمايتنا)، وذمتنا وذمة الله تعالى وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيَّع ذمة الله وذمة رسوله وذمة دين الإسلام". وحق الحماية المقرر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم وحماية أموالهم وأعراضهم كما أسلفنا القول، فكلها مكفولة باتفاق المسلمين. ومن قتل ذمياً غير حربي قُتل، ومن سرقه قُطعت يده. وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يعدونه ـ حسب دينهم ـ مالاً وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين (كالخمر والخنزير). ومن حقوقهم تأمينهم عند العجز أو الشيخوخة أو الفقر، فالضمان الاجتماعي في الإسلام يشمل المسلمين وغير المسلمين.

قال الإمام أبو يوسف صاحب كتاب الخراج: "وحدثني عمر بن نافع عن أبي بكر قال: مرَّ عمر (رضي الله عنه) بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخاً ضرير البصر فضرب عمر عضده، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده، ثم أرسل به إلى خازن بيت المال وقال له: انظر هذا وضرباءه. فو الله ما أنصفناه، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)، والفقراء هم الفقراء المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ثم وضع عنه الجزية وعن ضربائه". قال أبو بكر: "أنا شهدت ذلك من عمر ورأيت ذلك الشيخ".

وقد أباح الإسلام لأهل الذمة حرية العمل والكسب، ومزاولة ما يختارونه من مهن، ومباشرة ما يرتاحون إليه من نشاط اقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين الذين يعيشون معهم. ولا يرى الإسلام أي حرج في أن يشتغل مسلم عند أهل الكتاب أو يشتغل أهل الكتاب عند مسلم، أما عن تولِّي غير المسلمين الوظائف العامة، فذكر لأهل الذمة « الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلبت عليه الصبغة الدينية، كالإمامة ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات لأن الإمامة والرئاسة العامة في الدين والدنيا وهي خلافة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقيادة الجيش ليست عملاً مدنياً صرفاً، بل هي من أعمال العبادة لكونها جهاداً، والقضاء حكم بالشريعة الإسلامية فلا يُطلَب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به. وأشار في ذلك إلى ما صرح به الماوردي من جواز تقليد الذمي وزارة التنفيذ دون وزارة التفويض. ولذا كان اشتغال اليهود والنصـارى في الوظائـف الكبيرة والصغـيرة أمـراً شـائعاً في بلاد الإسلام. ومع هذا يرى طارق البشري أنه في العصر الحديث، بعد أن أصبحت الدولة كياناً مركباً متداخلاً، وأصبح القرار السياسي نتيجة دراسة خبراء ومستشارين، فإن من الممكن لأهل الذمة أن يتقلدوا أية مناصب (إلا تلك المناصب ذات الصيغة الدينية، بطبيعة الحال).

وفيما يتصل بعقد الذمة في الدولة (الإسلامية) الحديثة فكما يرى العوا ليس له محل من الوجود إذ أن تلك الدولة لم تقم على حق الفتح، حتى يكون هناك عهد ذمة لأهل تلك البلاد، بل قامت على حق التحرر من الاستعمار، ذلك التحرر الذي شارك في صنعه كل من المسلمين والمسيحيين، ومن ثم أصبح الإطار القانوني الذي يحكم تلك العلاقة هو المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. بل يمكن القول بأن قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" يُعاد استعمالها في أجلى صورها، ويبقى حق المسلمين فيها هو حق الأغلبية في كل بلاد الدنيا، ويظلل المجتمع بأسره فكرة النظام العام التي تسمح بتطبيق القوانين الإسلامية واحترام كل من الأغلبية والأقلية لها.

إن موقف الإسلام من أهل الذمة لا يستند إلى حالة عاطفيـة أو عقلية وإنما إلى قاعدة قانونية فقهية وإلى الرؤية الإسلامية للكون. ولعل الواقعة التالية التي يذكرها ميخائيل شـاروبيم في الكافي تبلور هذه الفكرة. فمن المعروف أن الوالي عباس الأول، الذي تولَّى الحكم قبل محمد سعيد، كان شديد النقمة على النصارى، وأخرج منهم كثيرين من خدمة الدولة، وأراد أن يدبر إخراجهم من وطنهم وإبعادهم إلى السودان، ولزمه لتنفيذ هذا الأمر أن يستصدر من الأزهر فتوى بجوازها، فطلب إلى الشيخ الباجوري، شيخ الجامع الأزهر وقتها، الرأي في جواز إبعادهم، فرفض الشيخ إنفاذ رغبة الوالي قائلاً: « إنه إن كان يعني الذميين الذين هم أهل البلاد وأصحابها، فالحمد للّه لم يطرأ على ذمة الإسلام طارئ، ولم يستول عليها خلل، وهم في ذمته إلى اليوم الآخر». إن القاعدة الفقهية الخاصة بأهل الذمة وحقوقهم المطلقة مسألة ثابتة لا تحتمل النقاش.

ولكن، لا يستند الدين الإسلامي في موقفه من أهل الذمة إلى القاعدة القانونية والفقهية وحسب، وإنما هناك أيضاً التسامح كعنصر تكميلي، وهذا هو معنى «البر والقسطاس»، فهي عبارة تؤكد أن الموقف الإسلامي من أعضاء الأقليات لا يستند إلى العدل الاجتماعي (المستند إلى هيكل القانون) وحسب، وإنما إلى الإحسان (المستند إلى التسامح الشخصي) أيضاً. وبمعنى آخر لابد من القسطاس أي العدل (البراني) والبر (الجواني). ولذا يحض القرآن على البحث عن الرقعة المشتركة بين المسلمين وأهل الذمة. « ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون » (سورة العنكبوت 46).

ويشير الشيخ القرضاوي في علاقة المسلمين بغيرهم إلى ما لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، وهو الروح التي تبدو من حسن المعاشرة ولطف المعاملة ورعاية الجوار وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، ومن إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب، وزيارتهم وعيادة مرضاهم والتعامل معهم. وقد أجاز الفقهاء للمسلم أن يوصي أو يوقف شيئاً من ماله لغير المسلمين من أهل الذمة، وتكون هذه الوصية أو الوقف أمراً نافذاً.

وبوسعنا أن ننتقل الآن من المعيارية الإسلامية إلى ممارسات المسلمين التاريخية، وأن نثير قضية مهمة وهي أن بعض التشريعات المنظمة للعلاقة مع الذميين كانت تحمل دلالة وظيفية وحسب. ولكن، بعد حين، نُسيت الوظيفة التي من أجلها تم التشريع وتحوَّل الحظر إلى رمز. فعلى سبيل المثال، كان الذميون يُمنَعون من ركوب الخيل، وإن ركب الذمي الخيل فعليه أن يدلَّي بقدميه من ناحية واحدة لاعتبار أمني، أي لتأكيد أن الذمي لا يحمل السلاح. ولكن هذا طال نسيانه ولم يبق من أمر طريقة الركوب الخاصة سوى جانبه الرمزي وحده.

ويتبدَّى تحويل الوظيفة إلى رمز في قضية الغيار (الرداء) أيضاً. والواقع أن إلزام الذميين بلبس الغيار لم يُطبَّق في أيام الرسول، أما عند الفتح الإسلامي، فقد كان غيار السكان المحليين مختلفاً عن رداء العرب المسلمين حيث مُنع المحليون من ارتداء زيّ العرب كضرورة أمنية في عصور الفتح. وكان الهدف من الاختلاف في الزي تأكيد التمايز وليس التميز، بمعنى أن الزيّ شكل من أشكال التعبير، أو هو لغة خاصة يتحدث بها الإنسان ويعبِّر بها عن هويته. والواقع أن التلمود ينصح اليهود بألا يرتدوا ملابس مثل ملابس الفرس (العنصر السائد في الإمبراطورية الفارسية التي كان يعيش فيها اليهود). وفي العصر الأموي، استبدل بالغيار الزنار. ولعل الهدف منه كان إدارياً بحيث يمكن التمييز بين الذميين والمسلمين بما تقتضيه ضرورة تسيير شئون الدولة، وكان الزنار يشبه في ذلك بطاقة تحقيق الشخصية، ولكن بعض الفقهاء نسوا وظيفة الغيار الإدارية أو الأمنية العملية وفرضوا عليه مدلولاً رمزياً بحيث أصبح الهدف منه الإذلال والتمييز.

ولا يمكن حسم هذه القضية إلا بالتمييز بين المعيارية الإسلامية (المثالية) والممارسات الإسلامية الواقعية،وهو تمييز ليس ممكناً وحسب في إطار الإسلام وإنما حتمي وواجب لمن يؤمن بالإسلام ديناً يهديه سواء السبيل، ويتحرك في إطاره ويحتكم إلى منظومته القيمية والمعرفية.

وما يهمنا من وجهة نظر هذه الموسوعة أن نشير إلى أن التشريعات الإسلامية الخاصة بأهل الذمة (ومنهم أعضاء الجماعة اليهودية) لم تخلق قابلية لدى الجماعات اليهودية للتحول إلى جماعات وظيفية.

ويمكننا أن نضيف بعض العناصر الأخرى التي ساعدت على استقرار وضع الجماعات اليهودية كأهل ذمة داخل التشكيل الحضاري الإسلامي وساهمت في عدم فرض دور وظيفي فريد أو متميِّز.

1 ـ لم يلعب اليهود دور «قاتل الرب» الذي يلعبونه في الرؤية المسيحية للكون ولذا فالرؤية الأخروية (الإسكاتولوجية، رؤية الخلاص النهائي الإسلامية) لم تفرض على اليهود دوراً مميَّزاً (كما هو الحال في المجتمعات المسيحية).

2 ـ لم ينظر إلى اليهود باعتبارهم الشعب الشاهد الذي يقف في ضعفه دليـلاً على عظمة الكنيسـة، وفي ذلته وهـزيمته دليلاً على انتصارها.

3 ـ لم ينظَر المجتمع الإسلامي إلى اليهودي من خلال مفهوم العودة الألفية التي ترى أن الخلاص لن يتحقق إلا بعودة اليهود إلى فلسطين وتنصيرهم.

4 ـ لا توجد علاقة حب وكُره بين الإسلام واليهودية كما هو الحال بين المسيحية واليهودية. فالمسيحية تعتبر العهد القديم (كتاب اليهود المقدَّس) أحد كتبها المقدَّسة. كما أن الإسلام لا يرى نفسه تحقيقاً لليهودية أو نفياً لها (كما حدث في المسيحية). فالإسلام يعترف بأنبياء اليهود وبالمسيح عليه السلام وبكتب اليهود والمسيحيين المقدَّسة. ولكنها مع هذا لم تُتخذ كتباً مقدَّسة لأن الإسلام يرى أنها حُرِّفت. ويظهر الفرق بين موقف المسيحية والإسلام من اليهود في أن الإسلام يشير إلى «شريعة اليهود» أما المسيحية فتشير إلى «قانون اليهود» و«خرافة اليهود» بل «خيانة اليهود».

5 ـ ظهر الإسلام في منطقة هامشية بالنسبة لليهودية، على عكس المسيحية التي نشأت في فلسطين مركز اليهودية. وفي البداية استفاد اليهود من الحكم الروماني في قمع المسيحية (وفي صلب المسيح حسب الرؤية المسيحية). ولكن حينما قويت شوكة المسيحية وتحولت الإمبراطورية إلى المسيحية قامت السلطة الرومانية بالقضاء على بقايا اليهودية في فلسطين.

6 ـ لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية يمثلون قوة سكانية ذات وزن في العالم الإسلامي.

7 ـ حرَّم الإسلام الربا ولكنه نظر للتجارة باعتبارها نشاطاً إنسانياً كريماً، ولذا مارسها المسلمون (واليهود والنصارى) ولم يحدث تمايز اقتصادي كبير لأعضاء الأقليات.

لكل هذه الأسباب لم يتحول كثير من أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية، وكان هرمهم الوظيفي والمهني لا يختلف في مجموعه عن الهرم الوظيفي والمهني السائد في المجتمع. هذا لا يعني أنه لم تتحول قطاعات منهم إلى جماعات وظيفية، فقد حدث هذا بلا شك ولكن بدون الشكل الحاد وبدون التبلور الذي أخذته هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية. وقد اختلف الوضع تماماً مع نهاية القرن التاسع عشر ومع وقوع كثير من البلدان العربية في قبضة الاستعمار الغربي ووصول كثير من اليهود الإشكناز إذ تم تحويل الغالبية الساحقة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي إلى جماعات وظيفية تقوم على خدمة الاستعمار الغربي وترعى مصالحه ويقوم هو بحمايتها، ولذا حصل كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من أبناء البلاد على جنسية إحدى البلاد الغربية.

  • الاحد PM 11:55
    2021-04-18
  • 2714
Powered by: GateGold