المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414157
يتصفح الموقع حاليا : 191

البحث

البحث

عرض المادة

تاريــخ يهـودي أم تواريـخ جماعـات يهوديــــة؟

?Jewish History or Histories of the Jewish Communities
«التاريخ اليهودي» مصطلح يتواتر في الكتابات الصهيونية والغربية، وفي الكتابات العربية المتأثرة بها. وهو مصطلح يفترض وجود تاريخ يهودي مستقل عن تواريخ الشعوب والأمم كافة، كما يفترض أن هذا التاريخ له مراحله التاريخية وفتراته المستقلة ومعدل تطوُّره الخاص، بل وقوانينه الخاصة. وهو تاريخ يضم اليهود وحدهم، يتفاعلون داخله مع عدة عناصر مقصورة عليهم، من أهمها دينهم وبعض الأشكال الاجتماعية الفريدة. ومفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري تتفرع منه وتستند إليه مفاهيم الاستقلال اليهودي الأخرى ومعظم النماذج التي تُستخدَم لرصد وتفسير سلوك وواقع أعضاء الجماعات اليهودية.


يضرب المصطلح بجذوره في التشكيل الحضاري الغربي، سواء في جانبه الديني أو في جانبه الاقتصادي. لقد جاء في العهد القديم أن الخالق « اختار الشعب ». والاختيار يعني درجة من درجات الحلولية الكمونية الواحدية (إذ لماذا يختار الإله شعباً دون الشعوب الأخرى؟). وقد تزايد الحلول والكمون الإلهي في الأمة إلى أن وصل الحلول إلى مرحلة وحدة الوجود فتوحَّد الإله والشعب وتاريخه وأرضه وأصبح هناك جوهر واحد للأمة والإله، لا يوجد الواحد منهما دون الآخر، ويتم على هذا النحو زوال ثنائية الخالق والمخلوق والإله والشعب (والمطلق والنسبي، والأزلي والزمني والمقدَّس والتاريخي). ويصير تاريخ هذا الشعب محط عناية الاله، بل يصبح تجسيداً لفكرة مقدَّسة ومطلقة، فيتداخل المطلق والنسبي والمقدَّس والمدنَّس، وتصبح أية حادثة تقع لليهود ذات دلالة دينية عميقة. ومن هنا، فإن كتاب اليهود المقدَّس (العهد القديم) هو أيضاً سجل تاريخهم، حيث يتم تقديم العبرانيين وهم يخرجون من مصر تهديهم ذراع الإله القوية وتنقذهم من الغرق، ثم يُلحق بهم العذاب في الصحراء ولكنه يسدد خطاهم في غزوهم لأرض كنعان. ويعقد الإله معهم المواثيق، ويقبل منهم أفعالهم كافة الأخلاقية منها وغير الأخلاقية. ولهذا، أصبح تاريخ اليهودية هو نفسه تاريخ اليهود.

وكما ورثت المسيحية العهد القديم وجعلت منه أحد كتبها المقدَّسة، كذلك ورثت الحضارة الغربية هذه الرؤية. ولذا، فإن الإنسان الغربي يعتبر اليهود ورثة العبرانيين القدامى؛ و يراهم في عزلتهم لا يزالون مستمرين في مسيرتهم في الصحراء، نحو كنعان عبر التاريخ الإنساني بأسره وفي كل أرجاء العالم. وقد تبدَّى ذلك في المفهوم الكاثوليكي للشعب الشاهد الذي يقف على حافة التاريخ، شـاهداً على عظمة الكنيسة. كما يتبدَّى في المفاهيم الاسـترجاعية البروتستانتية التي تجعل من عودة اليهود إلى صهيون في نهاية التاريخ شرطاً لعملية الخلاص وشرطاً لتأسيس الفردوس الأرضي. وقد تمت علمنة هذا المفهوم في العصر الحديث، فتحول اليهود من شعب يهودي مقدَّس له تاريخ يهودي مقدَّس إلى الشعب اليهودي المستقل صاحب التاريخ اليهودي الفريد. وهذه كلها مفاهيم تفترض عزلة اليهود، كما تفترض أن لهم وجوداً وتاريخاً مستقلين.

ومما دعم إحساس الإنسان الغربي بوجود تاريخ يهودي مستقل، اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية (المالية أوالاستيطانية) في المجتمعات الغربية. ومثل هذه الجماعات يتم عزلها عن بقية المجتمع حتى تبدو وكأنها خاضعة لآليات وحركيات تاريخية مستقلة، مع أنها في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من المجتمع، وخاضعة للآليات والحركيات التاريخية نفسها التي يخضع لها هذا المجتمع، تصعد بصعوده وتهبط بهبوطه رغم استقلالها النسبي. وقد ظل دور الجماعة الوظيفية حكراً تقريباً على الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وذلك على عكس الحضارات الشرقية حيث اضطلعت جماعات إثنية ودينية مختلفة، من بينها اليهود، بدور الجماعة الوظيفية.

وغني عن الذكر أن مفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري في الفكر الغربي وفي إدراك الإنسان الغربي لليهود. لكن المقدرة التفسيرية لهذا المفهوم ضعيفة إلى أقصى حد، فهو مفهوم اختزالي بسيط إلى أقصى حد. والإيمان بنموذج التاريخ اليهودي المستقل له نتائجه السلبية لا من الناحية المعرفية وحسب، وإنما من الناحية الإنسانية والأخلاقية كذلك.

أما من الناحية المعرفية، فإننا نجد أن رصد واقع الجماعات اليهودية، وتفسيره من خلال نموذج التاريخ اليهودي يُبسِّط هذا الواقع ويختزله ويجعله تافهاً، كما أنه يُضخِّم جوانب ثانوية منه ويتجاهل عناصر أساسية فيه. إن استقلالية أي بناء تاريخي تعني استقلالىة أبنيته الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك استقلالية الأبنية الحضارية والرمزية المرتبطة به، كما تعني تجانسها النسبي في كل مرحلة من مراحله. وكذلك فإن استقلالية أي بناء تاريخي تعني أن هذا البناء يضم جماعة من الناس لا وجود لها خارجه ولا يمكن فهم سلوكها إلا في إطار تفاعلها معه. ولكن من الثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية المنتشرة في العالم كانت تتَّسم بعدم التجانس وعدم الترابط وبأن أعضاءها كانوا يوجدون في مجتمعات مختلفة تسودها أنماط إنتاجية وأبنية حضارية اختلفـت باختلاف الزمان والمكـان. فيهـود اليمن، في القرن التاسع عشر، كانوا يعيشون في مجتمع صحراوي قَبَلي عربي. أما يهود الولايات المتحدة في الفترة نفسها، فكانوا يعيشون في مجتمع حضري رأسمالى غربي. فإذا بحث المرء في العنصر المشترك بين يهود الىمن ويهود الولايات المتحدة، لوجد أنه هو الدين اليهودي وحسب، وهو عنصر واحد ضمن عناصر عديدة تحدد سلوك اليهودي. بل إن الأنساق الدينية اليهودية ذاتها، بسبب تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وبسبب غياب سلطة مركزية دينية، تختلف اختلافاً حاداً وجوهرياً من حضارة إلى أخرى، ومن هنا نشأت قضية الهوية اليهودية. ولكل هذا، نجد أن سلوك اليهودي اليمني تحكمه عناصر البناء التاريخي العربي الذي يعيش فيه، تماماً كما تحكم سلوك يهود الولايات المتحدة مكونات البناء التاريخي الغربي والأمريكي. غير أن نموذج التاريخ اليهودي، بما يفترضه من وحدة وتجانس، يجعل المؤرخ يهمل كل عناصر عدم الوحدة وعدم التجانس التي تُشكِّل الجانب الأكبر في مكوِّنات واقع أعضاء الجماعات اليهودية، وهي عناصر نتصور أنها أهم من عناصر الوحدة والتجانس، ولها قيمة تفسيرية ورصدية أعلى.

ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا من صناع القرار في عصور التاريخ المختلفة، وخصوصاً في الغرب. فقد كانوا يقتربون أحياناً من أعضاء النخبة الحاكمة ومؤسسات صنع القرار باعتبارهم جماعة وظيفية، وكانوا يبتعدون عنها أحياناً أخرى. ولكن القرار ظل دائماً في يد هذه النخبة. ومما له دلالته أن أول تاريخ لأعضاء الجماعات اليهودية في العصر الحديث، والذي كتبه أسحق ماركس يوسط (1793 ـ 1860)، بدأ بالعبارة التالية: « هل يمكن أن يُكتب تاريخ مستقل للعبيد؟ ». والواقع أن الردّ بالنفي إن أراد المؤرخ أن ينظر إلى تاريخ العبيد خارج الإطار السياسي والاجتماعي والحضاري للمجتمعات التي يوجدون فيها، ذلك أن تاريخ العبيد ليس تاريخاً مستقلاً بل هو جزء من تاريخ المجتمع ككل. وما يهمنا هنا هو تأكيد أن الأحداث الكبرى التي تقع للجماعات اليهودية تكمن جذورها وأسبابها في مجتمع الأغلبية. ويمكن القول بأن نموذج التاريخ اليهودي المستقل يُوجِّه رؤية المؤرخ توجيهاً خاطئاً، إذ يذهب هذا النموذج إلى أن الأحداث التاريخية الكبرى التي قررت مصير الجماعات اليهودية (كظهور الدولة الآشورية أو ظهور الإمبريالية الغربية) تقع خارج نطاق هذا التاريخ اليهودي. وتصبح هذه الأحداث، رغم مركزيتها وقدرتها التفسيرية، أحداثاًً هامشية ذات أهمية ثانوية.

إذا افترضنا جدلاً وجود تاريخ يهودي مستقل، فما أحداث هذا التاريخ؟ وهل تأتي الثورة الصناعية، مثلاً، ضمن أحداث هذا التاريخ، أم أنها حدث ينتمي إلى التاريخ الغربي؟ والواقع أننا نجد أن الثورة الصناعية حدث ضخم في التاريخ الغربي ترك أعمق الأثر في يهود العالم الغربي وأحدث انقلاباً في طرق حياتهم ورؤيتهم للكون في القرن التاسع عشر، أي بعد وقوعه بفترة وجيزة. لكننا نجد أيضاً أن هذا الانقلاب لم يحدث لهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم أقلية تُوجَد داخل التشكيل الحضاري الغربي. ومن هنا، فإننا نجد أن هذا الانقلاب في طرق الحياة والرؤية للعالم قد حدث أيضاً لأعضاء الأغلبية ولأعضاء الآليات الأخرى الموجودة داخل المجتمعات الغربية. وفي الوقت نفسه، لم يتأثر يهود العالم العربي بالثورة الصناعية بالدرجة نفسها وفي الوقت نفسه، ذلك لأن التشكيل الحضاري العربي كان بمنأى عن هذه الثورة الصناعية في بداية الأمر. لكن هذا التشكيل بدأ بعد حوالي قرن من الزمان يتأثر بالثورة الصناعية، وبالتالي فقد بدأ أثرها يمتد إلى معظم المجتمعات العربية بأغلبيتها وآلياتها. أما يهود إثيوبيا، مثلاً، فلم يتأثروا إلا بشكل سطحي، ذلك لأن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي كانوا يعيشون في إطارها ظلت بمنأى عن تلك التحولات الكبرى التي ترتبت على أحداث الثورة الصناعية، بل بقيت هذه التشكيلة ذات طابع قَبَلي حتى وقتنا الحاضر. وبعبارة أخرى فإن الآثار المترتبة للثورة الصناعية في أعضاء الجماعات اليهودية هي مسألة تتعلق بأثر الثورة الصناعية في كل جماعة يهودية على حدة، وترتبط أشد الارتباط بآثار هذه الثورة في المجتمعات التي تعيش في كنفها هذه الجماعات اليهودية.

وعلى هذا، فإن الإطار المرجعي للدراسة لا يمكن أن يكون التاريخ اليهودي. ولو أن الباحث جعل هذا التاريخ اليهودي مرجعاته لعجز حتماً عن تفسير كثير من عناصر التفاوت وعدم التجانس في هذا التاريخ، ولاضطر إلى ليّ عنق الحقائق ليفسر سبب تأثر يهود لندن بالثورة الصناعية فور حدوثها وعدم تأثر بعض يهود إثيوبيا بها حتى الآن! أو اضطر إلى تفسير أحداث هذا التاريخ اليهودي الوهمي من خلال عناصر ثانوية أو وهمية، مثل رغبات اليهود وتطلعاتهم وتماسكهم ومدى اضطهاد الآخرين لهم أو عطفهم عليهم. وإذا تأملنا الدراسات التي تفترض استقلالية التاريخ اليهودي فإننا سنجد عبارات مثل: « وكان بورش الأميني متسامحاً مع اليهود فأعادهم إلى بلادهم » أو « وتمت عـدة هجمات ومـذابح ضد اليهود عـام 1882 في روسيا القيصرية » أو « وبدأ اليهود يفكرون في تقليد الشعوب الأخرى لتصبح لهم حركتهم القومية ووطنهم القومي في فلسطين »، وكل هذه العبارات تفترض أن الأحداث التي تقع لليهود تُفسَّر بالعودة إلى تاريخهم المستقل الافتراضي، وإلى رغباتهم وأحلامهم التي يبررها هذا التاريخ الافتراضي. ويتم تجاهل البناء الإداري للإمبراطورية الفارسية التي اعتمدت على الشعوب الموالية لها، أو أزمة الرأسمالية أو النظام القيصري في عام 1882، أو ظهور الإمبريالية الغربية التي كانت تحل مشاكل أوربا عن طريق تصدير هذه المشاكل إلى الشرق، وبالتالي حاولت حل مسألتها اليهودية عن طريق إرسال إلى هود إلى الشرق. لكن عزل التجارب التاريخية للجماعات اليهودية عن سياقها التاريخي الإنساني العام يحوِّلها، في الحقيقة، إلى أجزاء من واقع يهودي عام واحد يمكن فرض أي معنى عليه. ولذا، فإن وقائع اضطهاد اليهود (كاضطهاد يهود فلسطين على يد الفرنجة أو اضطهاد يهود روسيا في أواخر القرن التاسع عشر بسبب التحديث المتعثر) بدلاً من أن تُدرَس من حيث هي وقائع يمكن تفسير كلٍّ منها في سياقها التاريخي المختلف، تصبح تعبيراً عن غربة شعب نُفيَ من بلده، ويصبح الاستيطان في فلسطين وطرد الفلسطينيين من بلادهم ليس جزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي وإنما النهاية السعيدة لتجوال شعب بلا أرض ـ شعب افتراضي تجوَّل بسبب اضطهاد الجنس البشري له في كل زمان ومكـان ـ وتصـبح الدولة الصهيونية الحل الحتمي والوحيد لهذه المأسـاة.

وإذا ما تركنا الجانب المعرفي، سواء من ناحية الرصد أو من ناحية التفسير، وانتقلنا إلى الجانب الأخلاقي والإنساني، فإننا سنكتشف أن نموذج التاريخ اليهودي المستقل يفترض وجود جوهر يهودي كامن يشكل ما يشبه النمط الفكري الجاهز لكل الأشكال التاريخية التي عاش في إطارها أعضاء الجماعات. حيث يتجاوز هذا الجوهر كل التحولات ويصبغها بصبغته ويتحدى جميع القوانين التاريخية المعروفة ويتخذ اسم «الماضي اليهودي» أو «الاستمرار اليهودي» أو «روح اليهودية» أو «الشعب اليهودي الأزلي» أو «المستقبل اليهودي»، وهذه جميعاً مطلقات علمانية تحل محل الإله الذي يوجه التاريخ اليهودي حسب الرؤىة الدينية الحلولية. ومن هنا، فإننا نذهب إلى القول بأن مفهوم التاريخ اليهودي (في إطاره العلماني العلمي) تعبير عن حلولي بدون إله حيث يصبح مسار هذا التاريخ هو التحقق التدريجي لهذا الجوهر الكامن وللـروح اليهـودية الدينيـة القوميـة. ويتم تفسير كل شيء على هذا الأساس، وتصبح مهمة المؤرخ هي البحث عن الجوهر اليهودي والروح اليهودية وكل ما يعبِّر عنهما، متجاهلاً كل التفاصيل الأخرى. كل هذا يجعل التاريخ اليهودي أمراً لا علاقة له بالواقع الإنساني الدنيوي: تاريخ يشبه البناء المصمت المنغلق على نفسه ويعبِّر عن نمط أو أنماط محددة متكررة لا تتعدى حدود تَجلّي الجوهر اليهودي المطلق. وهذا النمط يأخذ الشكل التالي: منفى ثم عودة؛ المنفى هو الحدث الذي يقع لليهود، والعودة هي الفعل الذي يأتون به، وهذا التاريخ يبدأ عادةً بالعبودية في مصر ثم يتم التغلغل في كنعاة والاستيلاء عليها وتأسيس المملكة العبرانية. ثم يتكرر النمط بالتهجير الآشوري والبابلي، تليه العودة من بابل حسب مرسوم بورش (الذي يؤسس الهيكل)، ثم تأسيس الدولة الحشمونية. ثم يتكرر النمط مرة ثالثة بهدم الهيكل على يد تيتو وشتات اليهود وعجزهم بسبب عدم المشاركة في السلطة وغياب السيادة. وتصل حالة المنفى إلى قمتها في الإبادة النازية (الحدث الأكبر)، ثم تبدأ العودة من خلال تأسيس الحركة الصهيونية ثم تأسيس الدولة الصهيونية (الفعل الأكبر). ويلي ذلك تجميع المنفيين من كل البلاد، وهذا النمط يفترض دائماً نهاية (مشيحانية) للتاريخ تتوقف عندها الدورات ويختفي الجدل ويظهر الفردوس الأرضي.

ومثل هذا التصور للتاريخ، بأنماطه الهندسية المتكررة الرتيبة ونهايته القاطعة، لا يتنافى فقط مع الروح العلمية، وإنما يتنافى مع الروح الإنسانية كذلك. فهو يُسقط عن اليهودي صفة الإنسانية بإنكار تفاعله مع البيئة التي حوله، يتأثر بها ويؤثر فيها، شأنه في هذا شأن كل أعضاء الجماعات الآنية والدينية الأخرى. فالقوات الآشورية والبابلية لم تكتسح الدولتين العبرانيتين وحسب، بل اكتسحت معظم الطويلات الآرامية وغيرها. كما أن أزمة النظام القيصري لم تتسبب في مذابح لليهود وحسب، بل كانت لها آثار سلبية عميقة في قطاعات كثيرة من البورجوازية الروسية وفي جماهير الشعوب الإسلامية وغيرها. فنموذج التاريخ اليهودي يُسقط إنسانية اليهودي، ويخلع عليه هالة أسطورية لا تاريخية إذ تضعه خارج التاريخ الإنساني الفعلي.

لكل ما تقدَّم، استبعدنا تماماً مصطلحات مثل: «التاريخ اليهودي» و«الماضي اليهودي» و«القَدَر اليهودي» و«المصير اليهودي»، وكذلك سائر المصطلحات التي تفترض وحدة التاريخ اليهودي بشكل مباشر مثل «الاستمرار اليهودي». كما استبعدنا كل المصطلحات التي تفترض هذه الوحدة بشكل غير مباشر مثل «العبقرية اليهودية» و«الجوهر اليهودي». واستبدلنا بكل هذا مصطلحات تفترض التنوع وعدم التجانس مثل «الجماعات اليهودية»، وهو مصطلح يفترض أن الجماعات اليهودية خاضعة للآليات التاريخية التي يخضع لها أعضاء المجتمعات التي يعيش في كنفها إلى هود. وقد فصلنا تماماً بين التاريخ المقدَّس الذي ورد في العهد القديم والأحداث التاريخية التي وقعت للعبرانيين وللجماعات اليهودية من بعدهم، وفصلنا بين تاريخ اليهودية وتواريخ الجماعات اليهودية، ومن ثم فإننا لا نستخدم مصطلحات مثل «مرحلة الهيكل الأول» أو «هدم الهيكل» أو «الكومنولث الأول» أو «العصر التلمود» إلا في سياق الحديث عن التطورات الدينية، إذ أن كل هذه العبارات تشير إلى أحداث ذات دلالة دينية بالنسبة إلى الجماعات اليهودية ولكنها لا تصلح لتفسير المسار العام للتاريخ الدنيوي والإنساني في كليته. ونحن، بهذا، نؤكد انتماء أعضاء الجماعات اليهودية إلى بنىً تاريخية متعددة حيث يتسنى للدارس فهم سلوك أعضاء الجماعات اليهودية فهما مركباً، أي باعتبارهم أشخاصاً حقيقيين وبشراً يتفاعلون مع العناصر التاريخية المتشابكة المختلفة التي تحدِّد سلوكهم.

ومن الحقائق التي تستوجب الذكر أن عدد المؤرخين من اليهود كان دائماً صغيراً محدوداً. وحينما تفاعل أعضاء الجماعة اليهودية مع الحضارة العربية الإسلامية، فإنهم تعلموا الكثير منها ولكنهم لم يتعلموا كتابة التاريخ. ولهذا، ظل إسهام المبدعين منهم مقصوراً على الأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية.

ونحن نرى أن نموذج التاريخ اليهودي هو النموذج الأساسي الكامن في موقف الحضارة الغربية تجاه « اليهود » أي الجماعات اليهودية. فالنزعة الصهيونية في الحضارة الغربية، والتي تمنح اليهود مركزية وقداسة، نابعة من افتراض وجود تاريخ يهودي مستقل يختلط في الأذهان بالتاريخ المقدَّس. كما أن معاداة اليهود، هي الأخرى، تعبير عن أن اليهودي شخص له سماته الفريدة والمحددة وطبيعته الخاصة النابعة من انتمائه لتاريخ يهودي مستقل. ونقطة الانطلاق بالنسبة إلى كلٍّ من الصهيونية والنازية (في موقفهما من اليهود) هي افتراض وجود شعب يهودي له شخصية مستقلة وتاريخ مستقل. وفي تصوُّر كلٍّ من بغفور وهتلر، فإن المسألة اليهودية ناجمة عن وجود هذا الكيان اليهودي العضوي المستقل داخل الحضارة الغربية، يدمرها وتدمره. ولذا، لابد من التخلص منه إما عن طريق إرساله إلى فلسطين أو عن طريق إلقائه في أفران الغاز، فاليهودي يجب أن يخرج من الحضارة الغربية.

  • الخميس PM 03:15
    2021-04-08
  • 854
Powered by: GateGold