المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414204
يتصفح الموقع حاليا : 104

البحث

البحث

عرض المادة

التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية (روسيا وبولندا) حتى الحرب العالمية الأولى

Education of the Jewish Communities in Eastern Europe (except Russia and Poland) to the First World War
بعد تقسيم بولندا للمرة الثالثة، ضمت روسيا غالبية يهود اليديشية. وتزامنت هذه العملية مع تغيرات سياسية واقتصادية كان المجتمع الروسي يمر بها في مجرى انتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع صناعي. فعلى الصعيد السياسي، قامت محاولة لفرض ضرب من الوحدة على مئات الأقليات والتشكيلات الحضارية حتى يتسنى للحكومة المركزية التعامل معهم. وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأت تظهر في روسيا اتجاهات نحو التصنيع، وتحديث بنية المجتمع الاقتصادية. وكانت عملية التحديث هذه تتم تحت إشراف القياصرة المطلقين وطبقة النبلاء الإقطاعيين، ومن خلال بيروقراطية غير مستنيرة وغير مؤهلة عرقلت عملية تحديث المجتمع، فأدَّى ذلك إلى قيام الاضطرابات والثورات التي انتهت بالثورة البلشفية عام 1917.


وقد حدَّدت هذه الأوضاع علاقة الجماعات اليهودية بكل من المجتمع الروسي والدولة الروسية. فاتبعت الدولة معهم، مثلهم مثل غيرهم من الأقليات، سياسة الترويس بالقوة حتى يتم استيعابهم ودمجهم في الثقافة الروسية.

ومنذ بداية القرن التاسع عشر، ومع المحاولات الأولى للحكومة الروسية في مجال تحديث وترويس الجماعات اليهودية، أدرك المسئولون في الحكومة الدور الفعال الذي يمكن أن يلعبه التعليم الحديث في هذا المضمار، ومن ثم اتخذ المسئولون من التعليم وسيلة لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية ودمجهم في الإطار الثقافي العام للمجتمع. وساعد الحكومة القيصرية في جهودها رواد حركة التنوير.

بدأ التيار التنويري يدخل روسيا عن طريق أوربا الغربية وبالذات ألمانيا منذ بداية القرن التاسع عشر. وكانت ليتوانيا وأوكرانيا من المناطق الأولى التي دخلها الفكر التنويري، وقد حمله إليهما التجار والعلماء المتجولون والأطباء. كما ساعد اشتراك بعض اليهود من مدن ليتوانيا وبولندا في الدوريات التي أصدرها دعاة التنوير في ألمانيا في نشر الفكر التنويري بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا.

وكان من أوائل دعاة التنوير إسرائيل زاموسك ويهودا هرديتس ويهودا مرجوليوث وباروخ تشيك ومنديل ليفين. وقد ساهم هؤلاء التنويريون الأوائل في نشر الثقافة الحديثة عن طريق كتابة أو ترجمة بعض كتب العلوم الحديثة إلى العبرية، فقام باروخ تشيك بكتابة عدة كتب في الرياضيات والفلك، كما ترجم منديل ليفين كتباً في الطب والرحلات. وقام جونزبرج بترجمة كتاب اكتشاف أمريكا الذي ألَّفه كامب وكتاب تاريخ العالم لفولتير، كما ألَّف كتاباً عن تاريخ الحرب الفرنسية الروسية عام 1812. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها اللغة العبرية لنقل العلوم الحديثة.

كذلك قام أحد اليهود الأغنياء (يهوشاو زيتلين) بتأسيس مركز للمستنيرين في ضيعته. واعتمد هؤلاء المستنيرون الأوائل على علاقتهم بالسلطات الروسية كتجار وأطباء وموردي مواد غذائية، وقدموا مجموعة من المقترحات إلى الإدارة الروسية لتحسين وضع اليهود من أهمها إتاحة الفرصة لأعضاء الجماعات اليهودية للاشتغال بالحرف المختلفة والعمل بالزراعة وفتح مدارس حديثة لهم.

واهتم دعاة التنوير في روسيا منذ البداية، مثلهم مثل دعاة التنوير الألمان، بتأسيس مدارس تجمع مناهجها بين المواد العامة والمواد اليهودية كوسيلة لتحديث ثقافة الجماعات اليهودية. وكانت أولى المدارس التي تم تأسيسها على هذا النمط مدرسة أومان التي أسسها هايمان هورويتز. كما أسَّس بزاليل ستيرن مدرسة مماثلة في أوديسا عام 1826، وتلتها مجموعة من المدارس في كل من ريجا وكشينيف وفلنا. وخلال هذه الفترة، قام إسحق ليفنسون بتوضيح برنامج دعاة التنوير الروس لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية وتعليمهم. وقام هذا البرنامج أساساً على تأسيس شبكة من المدارس الابتدائية للبنين والبنات تجمع مناهجها بين المواد الدينية واليهودية والمواد العامة والتدريب على بعض الحرف. كما تضمَّن البرنامج تأسيس مدرسة ثانوية للمتميِّزين من الطلبة، كما أكد ضرورة نشر الحرف المنتجة (وبالذات الزراعة) بين الجماهير اليهودية، وضرورة استخدام اللغة الألمانية أو الروسية في التعليم. وبطبيعة الحال، قاومت القيادات الحاخامية الفكر التنويري التربوي واتخذت إجراءات عنيفة ضد أيِّ شاب يُقلِّد « البرلينيين ».

ونظر دعاة التنوير إلى الحكومة الروسية كنصير لهم في محاولتهم تحديث تربية وتعليم الجماعات اليهودية وأعانوها في تأسيس شبكة من المدارس الحديثة المخصَّصة لليهود والتي أُطلق عليها اسم «مدارس التاج». وقد أشرف ماكس ليلينتال على تأسيس هذه الشبكة كما حاول إقناع الجماعات اليهودية في روسيا بإرسال أولادهم إليها.

واتجهت جهود الحكومة الروسية، في محاولتها تحديث ثقافة وتربية الجماعات اليهودية، اتجاهين: فتح أبواب التعليم الحكومي لأعضاء الجماعة اليهودية وإقامة مدارس يهودية مخصَّصة لهم تحت إشرافها من جهة، وتحديث نظام التعليم اليهودي القائم من جهة أخرى.

فتحت الحكومة أبواب المدارس والجامعات الروسية للأطفال والشباب اليهود بقرار صدر عام 1804 خلال حكم القيصر ألكسندر الأول (1801 ـ 1825)، إلا أن عدد الأطفال والشباب اليهود الذين انضموا إليها ظل منخفضاً جداً حتى عام 1840، فبلغ عدد التلاميذ اليهود في المرحلتين الابتدائية والثانوية 48 تلميذاً من المجموع الكلي للتلاميذ المسجلين في المدارس والبالغ عددهم 8017. ولم يختلف الوضع بالنسبة إلى الجامعات، فقد بلغ عدد الطلاب اليهود 15 طالباً من مجموع الطلاب البالغ عددهم 2866.

ويبدو أن سلطة القهال وقفت بشدة ضد هذا القرار ومارست سلطتها في منع الطلاب اليهود من الالتحاق بالمدارس والجامعات الروسية. ونظراً لفشل الحكومة في جذب أعضاء الجماعة اليهودية للتعليم في المدارس الحكومية، وضعت الحكومة خطة لتأسيس مدارس تُخصَّص لليهود تخضع لإشرافها دون النص على حرمان التلاميذ اليهود من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وأصدرت قراراً عام 1844 بتأسيس شبكة من مدارس التاج. وقد تكونت هذه الشبكة من المدارس التالية:

أ ) مدارس أولية من الدرجة الأولى في المدن.

ب) مدارس أولية من الدرجة الثانية في الأقاليم.

جـ) مدارس حاخامية لتدريب المدرسين والحاخامات.

وتقرر تمويل هذه المدارس عن طريق فرض ضريبة على الشموع التي يستخدمها اليهود في منازلهم يوم السبت. كذلك قررت الحكومة منح خريجي هذه المدارس الامتيازات نفسها التي ينالها خريجو المدارس الحكومية. وتضمن منهج هذه المدارس بعض المواد الدينية مثل العهد القديم وتاريخه والصلوات واللغة العبرية، علاوة على المواد غير الدينية مثل اللغة الروسية وقواعدها والحساب والجغرافيا وعلمي النبات والحيوان والخط والرسم. وكلفت الحكومة الروسية ماكس ليلينتال، وهو تربوي يهودي من دعاة التنوير من ألمانيا، بتأسيس مدرسة يهودية حديثة في ريجا عام 1840، إلا أن محاولاته باءت بالفشل إذ قاومت الجماعات اليهودية هذه المدارس مقاومة شديدة، حتى أنها حينما فُتحت كانت شبه مهجـورة ولم يلتحـق بها سـوى أولاد الفقـراء من اليهود. وحتى عام 1857، لم يزد عدد الطلبـة اليهـود المسـجلين في هـذه المدارس عن 3293.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، ومع تزايد معدلات التحديث، وكنتيجة للسياسة الليبرالية التي انتهجها القيصر ألكسندر الثاني والتي فتحت أبواب الحراك الاجتماعي والاقتصادي أمام أعضاء الجماعات اليهودية، تزايدت نسبة الأطفال والشباب اليهود المسجلون في المدارس الابتدائية والثانوية. ففي عام 1853، بلغت نسبة الطلبة اليهود 1.25% من العدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 3.2% عام 1863 حتى وصلت نسبة الطلاب اليهود المسجلين في المدارس الثانوية 13.2% من المجموع الكلي للطلاب عام 1873، وهي نسبة تتجاوز نسبتهم إلى عدد السكان. كذلك زاد عدد الطلاب اليهود المسجلين في الجامعات الروسية، ففي عام 1865 بلغت نسبتهم 3.2% من العدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 8.8% عام 1881. ومع ازدياد تسجيل الطلاب اليهود في المدارس الحكومية، أصدرت الحكومة قراراً عام 1872 بإغلاق مدارس التاج التي أنشأتها الحكومة (إلا في الأماكن التي لا توجد فيها مدارس حكومية).

وقد نال دعاة التنوير دفعة قوية وانتشر فكرهم بين كثير من الشباب اليهودي خلال حكم القيصر ألكسندر الثاني (1850 ـ 1881)، حيث أدَّت السياسة الليبرالية إلى تشجيع كثير من اليهود على إرسال أولادهم إلى المدارس الروسية الحكومية. كذلك لعبت الصحافة اليهودية، التي كان معظـم مؤسـسيها وصحفييـها وناشـريها من أتبـاع حركة التنوير، دوراً مهماً في نشر الفكر التنويري داخل مدارس التاج، مثل: مدرسة ريجا، ومدرسة أوديسا، ومدرسة سانت بطرسبرج التي أسستها جمعية نشر التنوير.

كما قام بعض المستنيرين من اليهود بتأسيس مدارس لتعليم البنات، فأُنشئت مدرسة في كل من تشرينجوف (1861) وكيشينيف (1864)، ومدرستان في منسك. وجمعت هذه المدارس بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، فدرست المواد الدينية علاوة على الروسية والعبرية والألمانية. وقام دعاة التنوير بتأسيس جماعة نشر الثقافة بين يهود روسيا عام 1863 لتشجيع الشباب اليهودي على الالتحاق بالتعليم الحديث وتبنِّي الثقافة واللغة الروسية. وعاونت هذه الجمعية كثيراً من الشباب على الالتحاق بالمدارس الحكومية الحديثة، كما نشرت كثيراً من المطبوعات بالروسية والعبرية واليديشية.

وكوسيلة لترويس وتحديث الجماعات اليهودية، حاولت الحكومة القيصرية تحديث النظام التعليمي اليهودي التقليدي، ففرضت إشرافها على المدارس الأولية الخاصة (حيدر) وعلى معلميها، كما حاولت تغيير مناهجـها وتحسـين طرق التدريس فيها وتحسين الأوضاع التعليمية داخلها، إلا أن هذه المدارس كان بمقدورها تجاهل قرارات الحكومة نظراً لأنها كانت مدارس خاصة بعيدة عن قبضتها. ومع هذا، فقد تحسنت تجهيزات بعض هذه المدارس وكذلك الأوضاع الصحية داخلها تحت تأثير حركة التنوير، كما زادت رواتب معلميها، إلا أن مناهجها وطرق التدريس فيها لم تتغيَّر كثيراً عما قبل. ولكن أثر جهود كلٍّ من الحكومة وحركة التنوير في المدارس الأولية الخيرية (تلمود تورا) كان أكثر وضوحاً منه في المدارس الأولية الخاصة (حيدر) حيث إنها كانت مؤسسات تمولها الجماعة، فأدخلت بعض المواد غير الدينية على منهجها مثل اللغة الروسية (والترجمة منها إلى العبرية) والحساب، كما أدخلت التعليم المهني والحرف اليدوية في برامجها. وأُدخل في هذه المدارس نظام الامتحانات كطريقة للتقييم داخلها. كذلك حاولت الحكومة تحديث المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، فأصدرت عدة قرارات شملت ضرورة تدريس اللغة الروسية والحساب والخط إلى جانب المواد الدينية، وتنظيم أوقات الدراسة داخلها. إلا أن قرارات الحكومة لم تؤثر كثيراً في هذه المدارس نظراً لكونها - كما أسلفنا - مؤسسات خاصة. ولعل أهم نتائج محاولات الحكومة الروسية تحديث ثقافة وتربية الجماعات اليهودية هو بروز فئة من المثقفين والرأسماليين اليهود لديهم ثقافة علمانية حديثة.

وباغتيال ألكسندر الثاني عام 1881، زادت الاتجاهات الرجعية في روسيا القيصرية، وصدرت عدة قوانين تحدُّ من الحريات ومن فرص الحراك الاجتماعي والاقتصادي للأقليات والجماعات غير الروسية. ولم تكن الجماعة اليهودية سوى إحدى الجماعات التي وقعت ضحية عملية القمع الرجعية، حيث صدرت قوانين مايو عام 1882 التي قلصت حقوقهم كثيراً. كما صدر قانون النسب (1887) الذي حدَّد نسبة قبول التلاميذ والطلبة اليهود في المدارس والجامعات الروسية، فحُدِّدت نسبة الطلبة اليهود المسجلين في التعليم العالي والجامعي بـ 11% في منطقة الاستيطان، و5% خارج منطقة الاستيطان، و3% في كل من مدينتي موسكو وبتروجراد، ثم خُفِّضت النسَب إلى 7% و 5% و 2%على التوالي. وأدَّت القوانين الرجعية التي صدرت خلال هذه الفترة إلى تسييس طبقة المثقفين والمتعلمين من اليهود وانضمامهم إلى الحركات الثورية الروسية أو اعتناقهم الأفكار القومية الصهيونية أو اليديشية. أما الجماهير اليهودية، فقد تعرقل حراكها وبطؤت عملية استيعابها ودمجها في المجتمع الروسي.

ورغم صدور قوانين عام 1887 التي حددت عدد الطلبة اليهود في التعليم العلماني الحديث، إلا أن الطلب على التعليم العلماني استمر بصورة عامة وإن تذبذب بين الارتفاع والانخفاض وفقاً لتطبيق أو عدم تطبيق سياسة النسب التي حددها القانون. وقد بلغت نسبة الطلبة اليهود المسجلين في الجامعات والمعاهد العليا الروسية 13,2% عام 1894، وهبطت إلى 7% عام 1902، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى 12% عام 1907، وعاودت الانخفاض مرة أخرى عام 1913 حتى بلغت 7,3%. فإذا ما أضيف أن عدد الطلاب اليهود المسجلين في جامعات أوربا الغربية، وكان يتراوح بين 1895 و2405 طالب عام 1902/1903، لاتضح أن عدد الطلاب اليهود المسجلين في التعليم العالي العلماني كان آنذاك آخذاً في الزيادة، ومن ثم استمرت حركة علمنة وتحديث ثقافة طبقة المثقفين والمهنيين اليهود. كذلك تزايد عدد المدارس اليهودية الخاصة المتأثرة بالفكر الاندماجي والتي استخدمت اللغة الروسية لغة للتدريس وجمع منهجها بين المواد الدينية وغير الدينية، وإن التحق بها أولاد الميسورين فقط من اليهود. فقد بلغ عدد التلاميذ المسجلين في هذه المدارس قبل الحرب العالمية الأولى نحو 30 ألف تلميذ (نحو 7,5% من مجموع التلاميذ اليهود ممن كانوا في سن التعليم). وظل التعليم في المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر) يمثل تعليم المرحلة الأولى لأكثر من نصف الأطفال اليهود المسجلين حيث بلغت نسبتهم 53,8% من مجموع الأطفال اليهود. ولم تنخفض هذه النسبة حتى عام 1910، الأمر الذي يشير إلى أن استيعاب الجماهير اليهودية في الثقافة الروسية كان يتم ببطء شديد. إلا أن التعليم اليهودي التقليدي في الفترة 1881 ـ 1917 شهد تغيرات أثرت في فلسفته ومحتواه، إذ انعكست عليه عملية التسييس التي حدثت على مستوى المثقفين اليهود، ومن ثم فإن هذا النوع من التعليم خضع للتيارات الأيديولوجية القومية السائدة بين هؤلاء المثقفين، حيث اتجه كل تيار إلى إقامة مدارس يهودية خاصة به تعكس فكره وأيديولوجيته، كما تكاثرت المدرسة الأولية اليهودية وظهرت أشكال عديدة منها.

وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، بدأت المدرسة الأولية المطوَّرة (بالعبرية: حيدر متوكان) في الظهور. وخضع هذا النوع من المدارس لتأثير الحركة الصهيونية، فكانت المناهج فيها تجمع بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، إلا أن المواد الدينية وُجِّهت وجهة صهيونية، فاحتوى منهج هذه المدارس على تعليم اللغة العبرية لا كلغة مقدَّسة، وإنما كلغة قومية تستخدم في شتى المجالات المختلفة للحياة. كما تمت دراسة ما يُسمَّى «تاريخ اليهود» وجغرافية إرتس يسرائيل، أي أرض فلسطين، وزاد الاهتمام بالعهد القديم باعتباره التعبير الحقيقي عن الجوهر اليهودي الأصلي والتعبير الأمثل عن اليهود المرتبطين بأرضهم، على عكس التلمود الذي كُتب بعد النفي (أي بعد انتشار اليهود) خارج فلسطين. كذلك دُرِّست بعض المواد غير الدينية الأخرى مثل التاريخ العام والرياضيات واللغة الروسية حيث تمت دراستها بشكل موجز ومختصر. وقد اتبعت هذه المدارس تنظيماً حديثاً، فحدَّدت ساعات الدراسة وأدخلت نظام الامتحانات ومنحت شهادات لخريجيها. كذلك تم تحسين معداتها وطرق التدريس المتبعة فيها. وكان بعض هذه المدارس مختلطاً، ثم قامت جمعية أحباء صهيون بتأسيس مدارس مخصَّصة للبنات حيث بدأت إقامة هذه المدارس في جنوب روسيا في منطقة كييف وبساربيا وأوديسا، ثم انتشرت في منطقة الاستيطان وفي جاليشيا النمساوية، وكذلك في بعض أجزاء من رومانيا.

وارتبط انتشار المدرسة الأولية المطوَّرة بحركة إحياء اللغة العبرية، فنادى آحاد هعام بـ «أُسَر المدارس» كوسيلة لنشر الفكر الصهيوني واللغة العبرية، وكان من قادتها عدد من الصهاينة مثل وايزمان وديزنجورف والشاعر بياليك. وبعد اعتراف الحكومة الروسية بجمعية أحباء اللغة العبرية عام 1907، أشرفت هذه الجمعية على العديد من المدارس الأولية للبنين والبنات ودور الحضانة، كما أقامت فصولاً مسائية لتعليم اللغة. وفي الوقت نفسه لعبت جماعة نشر الثقافة بين يهود روسيا دوراً مهماً في نشر هذه المدارس، وجُنِّد بعض خريجي المدارس التلمودية للتدريس في هذه المدارس. وطوِّر منهج جديد لهذه المدارس، وافتُتح فصل جديد لتدريس العبرية عن طريق المحادثة، كما عُقدت برامج صيفية لتدريب معلميها. وفي وارسو، فُتحت حضانة للأطفال اليهود عام 1909، وبدأت دورات تدريبية لمعلمي الحضانات على طريقة فروبل. ونظم معلمو هذه المدارس أنفسهم في نقابة في جاليشيا. ولعبت نقابة المعلمين دوراً في تحسين التدريب داخل هذه المدارس، فظهرت كتب مدرسية ومطبوعات للأطفال والشباب والكبار باللغة العبرية.

كما ظهرت مدارس أولية خاصة متأثرة بالفكر القومي اليديشي. ففي عام 1908، صرح مؤتمر شيرنوفتس الذي عقده أتباع هذا الاتجاه بأن اليديشية هي اللغة القومية للجماعات اليهودية في روسيا، ومن ثم كثفت الدوائر اليديشية جهودها لتأسيس شبكة من المدارس تستخدم اللغة اليديشية كلغة للتعليم. لكن نجاح هذه الحركة كان محدوداً نظراً لمعارضة كل من الحكومة الروسية والاندماجيين من اليهود والصهاينة لهذا التيار الفكري. ورغم هذا، فإن جماعة نشر الثقافة قامت عام 1909 بإعانة نحو 27 مدرسة منها 16 مدرسة للبنات و3 للبنين و 8 مدارس مختلفة احتوى منهجها على تعليم اليديشية. وخلال الحرب العالمية الأولى، حينما رفع الحظر عن هجرة يهود منطقة الاستيطان إلى داخل روسيا، كان هناك 42 مدرسة تستخدم اللغة اليديشية مقيَّد بها 6000 تلميذ و130 مُعلماً، كما منحت السلطات الروسية المدارس الخيرية الأولية (تلمود تورا) تصريحاً بتدريس بعض المواد باليديشية. أما المدارس التلمودية العليا، فلم يحدث فيها كثير من التغير لا في مناهجها ولا في طرق تدريسها، بل أغلقت الحكومة الروسية عام 1892 مدرسة فولوجين التلمودية العليا لتجاهلها التنظيمات التي أصدرتها الحكومة الروسية. وقد ظهرت شبكة من المدارس التلمودية العليا في بعض المدن الروسية تحت تأثير حركة الموزار. كما ظهرت بعض المدارس التلمودية المطوَّرة مثل مدرسة ليدا العليا عام 1905، والتي كان من مهامها إعداد الحاخامات والمعلمين من خلال تعريفهم بالثقافة عامة وإعطاء الطلبة الذين سينخرطون في الأعمال التجارية ثقافة يهودية. وأُسِّست في العام نفسه مدرسة عليا للدراسات اليهودية.

ومع بداية الحرب العالمية الأولى، كان هناك ثلاثون مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) مسجلاً فيها حوالي 10 آلاف طالب في روسيا، وقد غطت هذه المدارس معظم دول البلطيق ومعظم بولندا وبساربيا.

  • الاربعاء PM 01:29
    2021-04-07
  • 897
Powered by: GateGold