المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414165
يتصفح الموقع حاليا : 165

البحث

البحث

عرض المادة

التربية والتعليم عند يهود بابل قبل وبعد انتشار الإسلام

Education of Babylonian Jewry before and after the Spread of Islam
منذ منتصف القرن الثاني الميلادي، كانت الجماعة اليهودية في بابل أكثر الجماعات اليهودية أمناً وازدهاراً. وقد قُدِّر لهذه الجماعة أن تلعب دوراً مهماً في تطور العقيدة اليهودية، وفي توجيه الحياة الثقافية والتربوية لليهود. ومما ساهم في زيادة الأثر الثقافي والديني ليهود بابل على التجمعات اليهودية المنتشرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، دخول معظم هذه الأرجاء تحت الحكم الإسلامي منذ القرن السابع الميلادي. وقد ساهم وجود اللغة والإطار السياسي والإداري المشترك في زيادة الاتصال بين الجماعات اليهودية وإيجاد أسلوب حياة بينهم متشـابه إلى حد كبير (بين القرنين السـابع والحادي عشر الميلاديين).


وعاشت الجماعات اليهودية في بابل كأقلية تدير أمورها ذاتياً، شأنها في ذلك شأن الأقليات الأخرى كافة. وترأس الجماعة اليهودية رأس الجالوت (المنفى). وانتشر اليهود على هيئة جماعات صغيرة يشرف على شئونها المدنية والدينية رئيس يُعيِّنه رأس الجالوت، ومجلس محلي مكوَّن من سبعة أعضاء. وكان من وظائف هذا المجلس الإشراف على المؤسسات الدينية والتربوية. وفي المدن التي وُجدت بها حلقات تلمودية، كان على المجلس أن يقيم بيتاً للدراسة.

تقبَّل يهود بابل تقاليد الفريسيين التي رأت أن الشريعة اليهودية طريقة حياة كاملة تشكل وتؤثر على كل أوجه الحياة الدينية والمدنية للفرد. فكانت التوراة (كما فسَّرها الحاخامات) والمشناه العملين الأساسيين اللذين وجَّها الحياة الدينية لليهود وكذلك وجها تربيتهم. ومنذ القرن الثاني الميلادي، أصبح للجماعة اليهودية الحلقات التلمودية الخاصة بهـا والتي قامت بالتفسـير والإفتـاء وإصـدار القوانين والتشريعات. وبدأ في هذه المرحلة تحوُّل بعض قطاعات من أعضاء الجماعة اليهودية إلى جماعات وظيفية وسيطة تضطلع بوظائف التجارة والربا وجمع الضرائب، وإن ظل العدد الأعظم من أعضاء الجماعة اليهودية يعملون بالزراعة.

واستهدفت التربية بين يهود بابل تعريف أعضاء الجماعة بالشريعة وبتطبيقاتها على أوجه الحياة المختلفة. وكما هو الحال في المجتمعات التقليدية، كانت مكانة الفرد تتحدد بمدى معرفته بالشريعة نظراً لما تعطيه من سلطة دينية ومدنية.

ولعبت الأسرة دوراً أساسياً في تربية وتعليم النشء، فبدأت تربية الطفل مبكراً في المنزل حيث لاحظ الطفل كثيراً من الشعائر والطقوس ومارسها وبدأ في تعلُّم الصلوات. كما ساهم المعبد، مع الأسرة، في عملية تعليم الطفل كثيراً من شعائر الدين وبالذات شعائر السبت والأعياد. وكان في استطاعة قلة من الآباء الاستمرار في تعليم أبنائهم الشريعة، ومن ثم نجد أن الأغلبية العظمى من الأطفال الذكور كان عليهم أن يذهبوا إلى مدرسة أولية لتعلُّم مبادئ الدين وشرائعه.

وتكوَّن النظام التربوي من ثلاث مراحل: مرحلة أولى لتربية الأطفال والصبية، ومرحلة متوسطة، ثم مرحلة عليا في الحلقات التلمودية.

تمت المرحلة الأولى من التعليم في مدرسة أولية أُطلق عليها «بيت الكتاب (بيت سيفر)»، وكانت موجودة في المعبد نفسه، أو في مبنى مُلحَق به، وكان يُشار إلى الأطفال الذين يدرسون في بيت الكتاب باسم «أطفال المعـبد». وكانت الجماعة تُشرف على هذه المدرسة وتقوم بتمويلها، كما كان بعض الآباء يفضل إحضار معلم خاص إلى منزله ليتولى تعليم أبنائه.

كان الهدف من التعليم في هذه المدرسة إعداد الطفل للمشاركة في شعائر المعبد. ولذا، تعلم الطفل القراءة عن طريق نقل الحروف على البرشمان (ورق نفيس شبيه بالرقوق) أو ألواح أردوازية، حيث كان المعلم يرسم محيط الحروف ثم يقوم الطفل بملئها، كذلك حفظ الأطفال الصلوات وأجزاء من أسفار موسى الخمسة مبتدئين بسفر اللاويين. وقد اتبع الأطفال في دراستهم نظام المقاطع أو «السيدرا» (وهي كلمة عبرية بمعنى «مقطع من التوراة»)، فكانوا يحفظون طوال الأسبوع الأجزاء التي ستُقرأ في المعبد يوم السبت، ثم يحفظون بعض أجزاء من كتب الأنبياء وكتب الحكمة والأمثال. ولكن، في مرحلة متأخرة، أُهملت دراسة العهد القديم، فلم يُدرَّس منه سوى أسفار موسى الخمسة، وتم التركيز على التلمود. كما وُجدت بعض المدارس التي تدرس لغة البلد وبعض مبادئ الحساب. أما الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمعلمي المرحلة الأولى فكان متردياً، وكان الكثير منهم يضطر إلى أخذ الهدايا من أولياء أمور الأطفال.

والشيء المهم هنا هو أن هذه المرحلة كانت تقود إلى مرحلة أكثر تعمقاً من الدراسات الدينية، فكان معظم الأطفال ينهون دراستهم عند هذه المرحلة، باستثناء قلة كانت تستمر في مرحلة متوسطة ذات مستويين: مستوى أول كانت تُدرَس فيه المشناه ثم الجماراه تحت إشراف معلم، ثم مرحلة عليا كان الطالب يدرس فيها التلمود بمفرده، وأخيراً ظهرت الحلقات التلمودية في أواخر القرن الثاني الميلادي. غير أن حلقات بابل لم تزدهر إلا في القرن الثالث الميلادي. وكان من أهم الحلقات التلمودية حلقة نهاردعه التي لا يُعرَف تاريخ تأسيسها على وجه الدقة، ثم انتقلت عام 259 ميلادية إلى بومبديثا، ومنها إلى بغداد في القرن التاسع الميلادي. كذلك وُجدت حلقة في سورا، وأخرى في ماهوزا، إلا أن حلقة بومبديثا وحلقة سورا كانتا أهم حلقتين.

ولم تكن الحلقـات التلمودية مؤسسات تعليمية بالمعنى المتعارف عليه، إذ لم تكن للطلبة وإنما كانت حلقات دينية لتجمعات رجال الدين يتدارسون فيها النصوص والتراث الديني اليهودي ذا الطبيعة المزدوجة علماً وشريعة، كما كانوا يجيبون عن الأسئلة الدينية والفقهية ويُصدرون الفتاوى ويقضون بين الناس. وكان لكل حلقة علماؤها ومريدوها. ومنذ وقت مبكر، كان بعض الطلاب يحضرون إلى هذه الحلقات للدراسة تحت إشراف رؤسائها، ومن ثم أصبح لهذه الحلقات وظيفة تعليمية.

كان لكل حلقة رئيس أُطلق عليه بالعبرية «روش هايشيفاه» أي «رأس اليشيفاه» يختاره العلماء، إلا أن تعيينه لم يكن يتم إلا بعد موافقة رأس الجالوت. ومنذ القرن السابع الميلادي، أصبح يطلق على رئيس الحلقة «الفقيه» (بالعبرية: «جاؤون»). ورغم أن علماء الحلقة هم الذين كانوا ينتخبون رئيسها من الناحية النظرية، إلا أن وظيفة الفقيه كانت وراثية وظلت محصورة بين ست عائلات. وكان بإمكان أي طالب الالتحاق بالحلقة، فلم يكن هناك شرط للالتحاق ولم يُحدَّد له أيُّ سن. وكان بوسع الطالب أن يمضي عمره داخل الحلقة إذا كان في مقدوره أن يفعل ذلك، كما كان بوسعه أن يتركها في أي وقت يشاء. ولم تكن الامتحانات تُعقَد إلا حين يصل الطالب إلى مستوى معلم شريعة يعتدُّ به. ولكن، لمجرد متابعة النقاش الدائر، كان على الطالب أن يكون ملماً بكلٍّ من أسفار موسى الخمسة والمشناه وأقوال الحاخامات السابقين التي تتعلق بالشريعة. وكان هناك عدد كبير بين الطلاب من أولاد الحاخامات وعلماء الحلقة حيث كان الأب يترك مركزه لابنه أو لأحد أقاربه ممن يعتقد في كفاءتهم.

وكانت المشناه النص الأساسي الذي يتم تدارسه في الحلقة، كما أن الدراسة كانت شفهية بالأساس. وعلى أية حال، لم تكن المشناه الموضوع الوحيد. وكان رئيس الحلقة يبدأ محاضرته باقتباس من المشناه، ثم يذكر آراء الشراح (أمورائيم)، ويتبع ذلك محاولة تطبيق النص موضوع الدراسة على مجموعة المواقف التي قد تُقابل اليهودي في حياته اليومية. وفي بعض الأحيان، كان العلماء لا يتفقون مع التفسيرات المسجلة في المشناه أو مع طريقة تطبيقها. وكانت هذه الاختلافات في الآراء والتفسيرات تؤدي أحياناً إلى مناقشات حامية الوطيس. كذلك كان للدراسة جانب أكثر بساطة وأقل جدية، فمن حين لآخر كان أحد العلماء يقوم باقتباس قصص أو مُثُل أخلاقية ليوضح موضوعاً ما أو ليشرح نصاً توراتياً.

وبتدوين الجماراه البابلية، أصبحت الجماراه موضوع الدراسة الرئيسي داخل الحلقات، وتصاعَد النشاط الديني التربوي الذي كان له أكبر الأثر في ذيوع صيت حلقات بابل. وتمثل هذا النشاط في اجتماعات الكالاه. و«كالاه» كلمة عبرية تعني «كلّ» وهو ما يعني أن هذه الاجتماعات كانت بالغة الأهمية يتم فيها حسم كل الأمور. وهذا التفسير لأصل الكلمة ليس بعيداً عن رأي آخر يذهب إلى أنها مُشتَقة من كلمة عبرية معناها «عروس» أو من كلمة «إكليل» الآرامية، فهذا يعني أن حلقات الكالاه تتويج للدراسات التي تتم في كل المؤسسات الدينية والتربوية الأخرى، وهو ما يعود بها إلى المعنى الأول. وكانت اجتماعات الكالاه تُعقَد في شهري أغسطس/سبتمبر، وفبراير/مارس حين تفتح الحلقات أبوابها للعامة والخاصة لدراسة الشريعة وتطبيقاتها المختلفة. ولم تكن هذه الاجتماعات مقصورة على سكان بابل وحدهم، بل كان يحضرها دارسون من شمال أفريقيا وإيطاليا أو غيرها من البلاد التي وُجدت فيها جماعات يهودية.

وكانت دورة الكالاه تضم علماء الحلقة الذين كانوا يشكلون «بيت دين»، أي محكمة دينية لها صلاحية الإفتاء (ويُقال إنها كانت تضم مثل السنهدرين 70 عضواً) ويتبعها سنهدرين أصغر لتلخيص أقوال الحاخامات وفتاواهم وإجاباتهم على الأسئلة التي يطرحها الحاضرون أو على تلك الأسئلة التي تصلهم من الجماعات اليهودية المنتشرة في البلدان المختلفة.

وكانت حلقة الكالاه تستغرق ثلاثة أسابيع من الشهر، أما الأسبوع الرابع فكان يُخصَّص لاختبار الطلاب. كما كان الفقهاء يقومون بشرح الأجزاء الصعبة أو الغامضة من التلمود. كذلك كان من أهم أنشطة الكالاه تصحيح النسخ غير الواضحة من التلمود، أو تلك التي تكون قد حُرِّفت أثناء عملية النسخ. ومارس علماء بابل تأثيرهم على الجماعات اليهودية المختلفة من خلال علمائهم الذين كانوا يأتون لحضور الاجتماعات ويرجعون بإجابة الفقهاء على الأسئلة المرسلة منهم.

  • الاربعاء PM 12:52
    2021-04-07
  • 956
Powered by: GateGold