ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
تربيـة يهوديــة وتربويــون يهــود
Jewish Education and Educators
« تربية يهودية» مُصطلَح يفترض وجود شعب يهودي ذي تاريخ مشـترك ومصير مشـترك، ومن ثم يصـبح له نوع خاص ومتميِّز من التربية. إلا أن هذا الافتراض لا تدعمه الحقائق التاريخية، ومن ثم فمقدرته التفسيرية والتصنيفية منخفضة للغاية. فمن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا شعباً واحداً باستثاء فترة قصيرة من تاريخهم، أي منذ استقرارهم في كنعان (فلسطين) في حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد وحتى تهجيرهم إلى بابل في حوالي القرن السادس قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة، كوَّن العبرانيون شعباً أو قوماً له سمات إثنية محدَّدة وديانة مرتبطة بالمكان (فلسطين) ويجمعه إطار ثقافي واحد ويتحدث لغة مشتركة. ورغم أن العبرانيين احتفظوا ببعض السمات الإثنية بعد العودة إلى فلسطين، إلا أننا نجد أن انتشارهم في البلدان المختلفة بدأ أيضاً خلال هذه الفترة، وظهرت تجمعات يهودية كبيرة في كل من بابل والإسكندرية لها ظروفها الثقافية المحددة وحركياتها المختلفة عن حركيات العبرانيين في فلسطين، ومن ثم لها مؤسساتها التربوية التي تلبي احتياجاتها باعتبارها أقلية لها أوضاعها الثقافية والحضارية المتعينة. ولهذا، فيمكننا أن نتحدث عن «التربية العبرانية» أو عن «التربية عند العبرانيين». وقد قسمنا هذه المرحلة إلى فترتين: قبل التهجير إلى بابل، وبعد العودة من بابل، ذلك أنه رغم وجود وحدة ثقافية تسم التشكيل الحضاري العبراني إلا أن ثمة تحولاً جوهرياً حدث للعبرانيين عند تهجيرهم إلى بابل، وهو تحول انعكس على مؤسساتهم التربوية المدرسية وغير المدرسية. فقد أوجد العبرانيون اليهود منذ عودتهم من بابل، وتحت تأثير تجربة التهجير والمعيشة في إطار الحضارة البابلية، وحتى سقوط الهيكل عام 70م، المؤسسات التربوية الثلاث اللازمة لتطوير ونقل ونشر الديانة اليهودية، وهي: تنظيم الكتبة والحلقات التلمودية، والمعبد اليهودي، ثم أخيراً المدرسة الأولية التي ظهرت تحت التأثير الهيليني وكرد فعل له. وخلال هذه الفترة، حاول سيمون بن شيتا (75 ق.م) نشر التعليم بين الشباب، ثم جاء يوشع بن جمالا (65 ق.م) بقرار جعل التعليم إجبارياً وعممه مجاناً.
ومع سقوط الهيكل عام 70م على يد تيتوس، أصبح من المستحيل التحدث عن «الشعب العبراني» أو عن «الثقافة العبرانية»، ومن ثم أصبح من المستحيل الحديث عن «التربية العبرانية». ونظراً لتنوع أحوال وتجارب واحتياجات الجماعات اليهودية، لا يمكن الحديث عن «تربية يهودية» باعتبارها كياناً فكرياً واحداً أو عن «مدرسة يهودية» باعتبارها نمطاً مؤسسياً متكرراً، وإنما يمكن الحديث عن «تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الهيليني» أو «تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب»... وهكذا، أي بنسبة الجماعة اليهودية إلى مكان وزمان محدَّدين. وبذلك نكون قد نحتنا مُصطلَحات وصُغنا مقولات تحليلية لها مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية.
ولتوضيح هذه النقطة يمكن أن نشير على سبيل المثال إلى يهود الإسكندرية في العصر الهيليني الذين تأغرقوا بشكل سريع وانضم أطفالهم وشبابهم إلى المدارس الهيلينية، بل وأقاموا صلواتهم وتعلموا مبادئ دينهم باللغة اليونانية من خلال الترجمة السبعينية. أما أعضاء الجماعات اليهودية في بابل، فتبعت تربيتهم نمطاً مختلفاً نتيجة تكوُّن التشكيلات الإمبراطورية المختلفة في هذه المنطقة، فأرسل أعضاء الجماعات اليهودية أطفالهم إلى مؤسسات تعليمية خاصة بهم، كما قدمت الحلقات التلمودية في بابل فيما بعد إسهامات في تطوير التراث الديني اليهودي المتمثل في التلمود البابلي.
وبمجيء العصور الوسطى في الغرب والتشكيل الإسلامي في الشرق، أصبحت الحضارات التي يعيش اليهود بين ظهرانيها أساساً حضارات دينية توحيدية حيث ساد الإسلام الشرق العربي والمناطق المجاورة والأندلس وسادت المسيحية أوربا. وقد مثل الدين وعلومه المختلفة محوراً أساسياً للدراسة في المؤسسات التعليمية لشعوب هذه البلدان. ولم يختلف الوضع بالنسبة إلى الجماعات اليهودية التي عاشت في هذه المناطق، فكوَّنت العقيدة اليهودية وكتبها المقدَّسة المادة الأساسية التعليمية للجماعات اليهودية. ومع هذا، نجد أن مناهج التعليم وأساليب التدريس اختلفت من جماعة يهودية إلى جماعة يهودية أخرى طبقاً للأوضاع الثقافية والحضارية للشعوب التي عاشت بينها وطبقاً لوضع الجماعة نفسها. ففي أوربا حيث تدنت الأوضاع الثقافية للبلدان الأوربية، ودعمت نظم الإدارة الذاتية عزلة الجماعات اليهودية الثقافية، تدنى مستواهم الثقافي وتخلف مستواهم التعليمي، واقتصرت مؤسساتهم التعليمية على تدريس الكتب الدينية، بل على تأكيد التوافه من أمور دينهم واستخدام أسلوب من الجدل العقيم في التدريس، كما تخلفوا عن تحصيل العلوم والمعارف التي بدأت تأخذ طريقها إلى الحضارة الأوربية منذ عصر النهضة. أما في بلدان العالم الإسلامي، فقد ازدهرت ثقافة الجماعات اليهودية تحت تأثير الحضارة الإسلامية وشارك أعضاؤها في النهضة الثقافية والعلمية. ولكونهم أهل ذمة، سُمح لهم بكثير من الحريات وأُحْسنَت معاملتهم اجتماعياً وثقافياً، ومن ثم فإن عزلتهم لم تكن على نحو ما كانت عليه عزلة الجماعات اليهودية في بلدان أوربا. وبطبيعة الحال، أثرت هذه الأوضاع في ثقافة الجماعات اليهودية ومؤسساتهم التعليمية. ورغم أن الدراسات الدينية احتلت مركزاً مرموقاً فيها، إلا أن المنهج التعليمي لم يقتصر عليها بل اتسع ليشمل كثيراً من المعارف والعلوم، فاحتوى على اللغة العربية والقواعد والشعر والمنطق والبلاغة والرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية والميتافيزيقا. كما ظهر بين الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي أدب مكتوب عن التربية والتعليم أخذ شكل فصول من كتب أو وصايا أو تعليقات. وكان من أهم المفكرين الذين كتبوا عن التربية يوسف بن عكنين (شمال أفريقيا)، ويهودا بن عباس في الأندلس. ولم تختلف مناهج الدراسة كثيراً بين الجماعات اليهودية في كل من إيطاليا وجنوب فرنسا.
وإذا كان التعليم الديني قد شكَّل محوراً رئيسياً وعنصراً مشتركاً بين مؤسسات التعليم للجماعات اليهودية خلال العصور الوسطى في الغـرب وفي العصـر الإسـلامي الأول والثاني في العـالم الإسلامي، فإن هذا العنصر يختفي تدريجياً ويزداد التنوع وعدم التجانس في تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية منذ أواخر القرن الثامن عشر حيث بدأت المجتمعات الأوربية تدخل مرحلة تصاعدت فيها تدريجياً وتيرة التصنيع والتحديث، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور الدولة القومية العلمانية المركزية التي طالبت أعضاء الجماعات اليهودية بأن يندمجوا في المجتمعات التي يعيشون فيها وأن يدينوا لها وحدها بالولاء. وأدرك حكام أوربا المستنيرون أن تحديث وعلمنة تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية هو أنجح الوسائل لتحقيق هذا الهدف. ففتحت أمام أعضاء الجماعات اليهودية أبواب التعليم الحكومي العلماني، كما سُمح لهم بتأسيس مدارس علمانية خاصة بهم، الأمر الذي دفع المثقفين اليهود من دعاة حركة التنوير (هسكلاه) إلى تحديث التعليم اليهودي التقليدي، فقاموا بتأسيس عدد من المدارس اليهودية التي جمعت مناهجها بين المواد العلمانية والمواد الدينية، كما شجعوا أعضاء الجماعات اليهودية على إرسال أولادهم إلى المدارس الحكومية، وكان أهم دعاة هذا الاتجاه موسى مندلسون ونفتالي هرتز فيسلي وغيرهما. ومنذ ذلك الوقت، تزايد إقبال أعضاء الجماعات اليهودية على التعليم الحكومي العلماني، وكذلك إقبالهم على المدارس الخاصة بهم، كما تم تهميش التعليم الديني والاقتصار على المدارس التكميلية التي كان يحضرها التلاميذ بعد حضورهم المدارس الحكومية. وحتى المدارس التلمودية العليا (يشيفا) نفسها (التي تُخرِّج الحاخامات والمتخصصين في مجال الدين)، هبت عليها هي الأخرى رياح التطوير والتحديث. ومع هذا، يُلاحَظ أنه، داخل التشكيل الحضاري الأوربي، اتخذت عملية تحديث تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية أشكالاً مختلفة. ففي أوربا الغربية، تمت عملية التحديث دون مقاومة. أما في شرق أوربا وفي روسيا القيصرية، فإن عملية تحديث التعليم حققت نجاحاً في بدايتها، إلا أن تعثُّر عملية التحديث (في المجتمع ككل) في نهايات القرن التاسع عشر أدَّى إلى تزايد اغتراب أعضاء الجماعات اليهودية وتزايد انخراطهم في الحركات الثورية والعمالية اليهودية والصهيونية التي أشرفت على إقامة سلسلة من المؤسسات التعليمية الخاصة بها والتي اتسمت بتوجهها العلماني الإثني ـ اليديشي أو الصهيوني. غير أن قيام الثورة البلشفية وبناء الدولة السوفيتية أنهى هذا الوضع في روسيا. أما في بولندا وسائر بلدان أوربا الشرقية، فقد تزايدت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية إلى الأمريكتين.
وإذا نظرنا إلى الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي، وجدنا أن تطوُّر مؤسساتهم التعليمية اتبع نمطاً مغايراً عن مثيلاتها في مجتمعات أوربا حيث تمت عملية تحديثها في مرحلة متأخرة (وبعد وصول القوات الغربية الإمبريالية)، ونجم عن ذلك تحويل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية وإلى مادة استيطانية تابعة للغرب. وقد اتبع تحديث المؤسسات التعليمية اليهودية في الهند النمط نفسه الذي اتبعه في العالم الإسلامي. أما الجماعات اليهودية في إثيوبيا فقد اتبعت نمطاً مخالفاً للأنماط السالفة الذكر.
وفي المجتمعات الاستيطانية، تأثرت تربية وتعليم الجماعات اليهودية بطبيعة المجتمع الاستيطاني نفسه. ففي الولايات المتحدة، التي اتسمت باقتصادها الحر المفتوح وتربيتها العلمانية ونظامها التعليمي الحكومي المجاني، تمت عملية تحديث تربية وتعليم أعضاء الجماعات اليهودية بسهولة كما تم إكسابهم الهوية الأمريكية. أما في بلاد أمريكا اللاتينية فقد اتبع تطوير تربية وتعليم الجماعات اليهودية شكلاً مخالفاً. إذ اتجهت كل جماعة يهودية إلى إقامة مؤسساتها التعليمية الخاصة بها، فكثُر عدد مدارس اليوم الكامل اليهودية التي يتلقى فيها الأطفال تعليماً يهودياً بعيداً عن تأثير المدارس العامة ذات التعليم الكاثوليكي. واتسمت هذه المدارس بتوجهها الإثني الصهيوني. ولم يختلف نمط تربية وتعليم الجماعات اليهودية في كندا وجنوب أفريقيا كثيراً عن نمط أمريكا اللاتينية.
ومن الملاحظ أن الجماعات اليهودية المختلفة لم تُقدِّم فلاسفة أو مفكرين تربويين لهم ثقلهم الفكري العالمي في مجال التربية، وذلك رغم إنجازات بعض أعضاء الجماعات اليهودية في المجالات الأخرى. فمعظم المفكرين اليهود الذين كتبوا عن التربية اتبعوا النظريات والاتجاهات الفكرية التربوية أو عالجوا المشكلات التربوية التي تمس الأوضاع التربوية القائمة في المجتمعات التي ينتمون إليها، ومن الصعب وصف إنجازاتهم الفكرية بأنها ذات مضمون يهودي. فجيكوب بريير تربوي فرنسي، وهو أول من اهتم بتعليم الصم البكم، وجوزيف فيرتيمر تربوي نمساوي اتبع الاهتمام الفكري السائد في أوربا آنذاك بطفل ما قبل المدرسة وأسس دور حضانة في النمسا، بينما نجد يانوس كورساك البولندي أبدى اهتماماً بالأطفال الأيتام وأنشأ لهم ملجأً وكتب عن كيفية فهم الطفل ومعاملته. وفي الولايات المتحدة، أبدى أبراهام فلكسنر اهتماماً بتعليم الطب وقدَّم تقييماً لكليات الطب في الأمريكتين وكندا ثم في أوربا. ويُعَدُّ كل من لورانس كرين وإسحق بركسون من أتباع التربية التقدمية. أما إسرائيل شيفلر، فهو رائد من رواد مدرسة التحليل الفلسفي في التربية.
-
الاربعاء PM 12:43
2021-04-07 - 1484