المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415037
يتصفح الموقع حاليا : 265

البحث

البحث

عرض المادة

رؤيـــة فـرويــد

Freud's World View
ينتمي فرويد إذن إلى تقاليد التفكيك والتقويض المادية التي تودي بالإنسان كمقولة مستقلة عن عالم الطبيعة/المادة، ويقف على قمة هذه التقاليد الفيلسوف إسبينوزا الذي أدرك العالم من خلال نموذج حلولي هندسي بارد صارم. ولكن فرويد لم يكن مادياً على طريقة إسبينوزا اللا تاريخية الجامدة، وإنما كان مادياً على طريقة هيجل الدينامية الحركية، مادية المضمون مثالية الخطاب والديباجات. ومنظومة هيجل المادية واحدية مثل منظومة إسبينوزا ولكنها لا تتحقق دفعة واحدة في الزمان والمكان وإنما من خلال متتالية تاريخية. ولكن هذه المتتالية تنتهي عند نقطة محددة حيث يتحد المقدَّس والزمني ويتحد الفكر والمادة، أي أنها تنتهي بالتجسد الكامل حيث يصبح التاريخ جسد الإله لا يختلف كثيراً عن إله إسبينوزا الذي هو الطبيعة، ولكن إله هيجل إله عضوي ينمو تدريجياً إلى أن يصل إلى ذروته ولحظة اكتماله في نهاية التاريخ والفردوس الأرضي.


ينطلق فرويد من المفهوم التطوري الهيجلي (والدارويني) وإن كان لا يشارك النزعة الطوباوية الهيجلية. وقد أحدث ثورة في مفهوم الشخصية. فقد كان يرى أن الشخصية ثمرة التفاعل المتبادل بين التكوين الوراثي للفرد وبيئته الاجتماعية، أي أن الشخصية فيما يرى فرويد هي التفاعل المتبادل بين حاجات الفرد الداخلية (الغرائز والدوافع) والعالم الخارجي. والفرد يكشف عن حاجاته ورغباته الغريزية عن طريق البيئة، التي إما أن تتيح لهذه الرغبات والحاجات فرصة التحقق والإشباع أو تحول دون ذلك عن طريق التعويق أو الإنكار.

ورغم هذه الرؤية الدينامية في العلاقة بين الذات والبيئة إلا أن فرويد يسقط في الجمود والانغلاق حين ركز على الغرائز والدوافع بوصفها صاحبة الدور الأكبر في هذه العلاقة. أما البيئة فقد كان دورها سلبياً إلى أقصى حد،ينحصر في أنها إما أن تساعد على إشباع حاجات الفرد أو تعمل على إحباطها. ومن هنا كان تركيزه على الغريزة والدوافع وتهميشه لدور الحضارة وكل ما يقع خارج نطاق الذات وعالم الغرائز والدوافع.

وتتميَّز الغريزة بأربع خصائص: مصدرها وهدفها وموضوعها وقوتها. فالمصدر، هو حالة البدن وحاجته للإشباع، والهدف هو التخلص من التوتر الذي يصاحب هذه الحالة، والموضوع هو الشخص أو الشيء الذي تتجه إليه الغريزة، أما القوة فهي شدة الحاجة المحركة للغريزة. والغريزة لفظ عام أما المصطلح الذي يفضل فرويد استخدامه فهو «اللبيدو» والتي يمكن ترجمتها بعبارة «طاقة شهوية» (يتحدث هوبز عن دافع واحد يسيطر على الإنسان هو اللبيدو دومناندي libido dominandi، أي شهوة السيطرة). وهو مرتبط باللاشعور والهو والقوى المظلمة داخل الإنسان التي لم تحتك بالحضارة ويتسم بأنه غير منطقي وغير أخلاقي أو متجاوز للمنطق والأخلاق.

ويذهب كثير من مفسري فرويد إلى أن اللبيدو هي الطاقة الجنسية الكمية إلا أنها لا تعني مجرد النشاطات واللذة التي تتعلق بعمل الجهاز التناسلي وإنما تعني أيضاً مجموع التنبيهات والنشاطات التي تظهر منذ الطفولة وتنشأ عنها اللذة، وبهذا المعنى يشكِّل مفهوم الحـياة الجنسـية في نظـر فرويد مفهوماً أشـمل من مفهوم الحياة التناسلية. فاللبيدو هو ما يجعلنا نعيش الحياة ونحب ما نعمل، ونُقبل على ما نحب بعشق.

واللبيدو ليس غريزة وإنما دافع، فالغرائز (مثل البقاء المادي) ثابتة ذات طابع بيولوجي حتمي، أما الدوافع فهي متغيِّرة وأقل حتمية، يتغيَّر هدفها وموضوعها وقوتها. وقد كان اللبيدو في البداية جزءاً لا يتجزأ من غريزة البقاء ولكنه انفصل عنها وأصبح مستقلاً، فمص الثدي على سبيل المثال عمل بيولوجي له أبعاد لبيدية. فهو مصدر للبقاء ومصدر للذة الجنسية في الوقت نفسه. ومع انفصال اللذة عن البقاء والدوافع عن الغرائز يظهر قدر من التناقض إلى أن تصبح اللذة الجنسية نهاية في حد ذاتها، مستقلة تماماً عن الرغبة في البقاء. وهي في هذه الحالة تُعدُّ انحرافاً عن غريزة البقاء نحو هدف آخر. وسنلاحظ هنا نمطاً أساسياً عند فرويد: هو أن نقطة انطلاقه حتمية مادية، ولكنه يبذل في الوقت نفسه محاولات مستمية لخلق ثغرة أو حيز داخل النظام المادي المصمت يسمح للإنسان بقدر من حرية الإرادة.

واللبيدو ـ كما أسلفنا ـ هو الطاقة النفسية الكمية التي يستثمرها الإنسان في تعامله مع العالم الخارجي ولا يمكن فصله عن مفهوم صورة الجسد (إيماجو Imago) أو على حد تعبير ألفيم، المحلل النفسي البرتغالي، "صورة الجسد هي ظلام القاعة الذي نرى فيه الفيلم السينمائي". فالإنسان كما يراه فرويد يستثمر طاقته النفسية أو اللبيدو من خلال تصوره صورة جسده عبر مراحل تطورية معينة تبدأ برؤيته العالم كفم وثدي، مروراً بالمرحلة النرجسية حيث يركز الإنسان على جسده وحده، إلى أن يفهم أن ثمة آخر في هذا العالم.

ويرى بعض مفسري فرويد أننا حين نترك نطاق التعريفات النظرية والقول وننتقل إلى مستوى الإجراءات وتشغيل النموذج، فإننا نجد أن فرويد كان، في واقع الأمر، يحصر اللبيدو في الجنس بالمعنى الغرائزي الحتمي. ونحن نميل للأخذ بهذا الرأي الأخير، ولكننا نضيف إلى هذا أن الجنس لم يكن المتعة الجنسية فحسب (وفرويد كما أسلفنا كان ينظر للجنس نظرة سلبية للغاية تَنمُّ عن الاشمئزاز) وإنما كان تصوراً أشمل ذا طبيعة حلولية. فالجنس هو اللذة التي تنتج عن الاتحاد بعنصر ما والشعور بالذوبان فيه، أي أنه يرتبط تماماً بالرغبة المحيطية في ذوبان الذات في موضوع أكبر منها. وهذا التعريف تعريف وسط مركَّب، بمعنى أنه يستوعب كلاً من الحتمية والرغبة في تأكيد حرية الاختيار.

ويظهر التناقض بين تأكيد الحتمية والرغبة في خَلْق ثغرة أو حيز (يستطيع الإنسان أن يمارس من خلالهما حريته وفرديته) في لجوء فرويد إلى الإيقاع الهيجلي الثلاثي الذي يسم الفكر الغربي الحديث (الأطروحة والأطروحة المضادة والأطروحة الثالثة المركبة - صراع الأضداد واتحادها) وكلها محاولات ناجمة عن استخدام نموذج مادي واحدي لتفسـير الكـثرة والتعـدد والتركيب اللامتناهي الذي يسم الظاهرة الإنسانية.

ويُقسِّم فرويد النفس الإنسانية (أو الخريطة النفسية) إلى ثلاثة أقسام طوبولوجية:

1 ـ اللاشعور: مستودع الدوافع البدائية والجنسية والعدوانية ومقر الرغبات والحاجات الانفعالية التي قد تكون من القوة بحيث تشكل تهديداًَ لصاحبها إذا ظهرت في شعوره وإدراك وجودها، ومن ثم فهو يحاول دفعها إلى عالم اللاشعور.

وعملية الكبت هذه هي نفسها عملية لا شعورية. وكلما حاولت هذه المشاعر الظهور في منطقة الشعور فإنها تُواجَه بمقاومة كبيرة. فمحاولة جعلها شعورية لا تتحقق إلا بصعوبة بالغة وبطرق عديدة. واللاشعور من ثم هو منطقة اختزان الذكريات، المؤلم منها والمخجل، والمشكلات الناجمة عن الدوافع المتعارضة التي يتعذر حلها. ويؤثِّر اللاشعور في سلوكنا اليومي ويوجهه، رغم أنه يقع خارج مجال شعورنا وإرادتنا. فالرغبات اللاشعورية أشد قوة وأعمق أثراً من الاتجاهات والمشاعر الشعورية.

2 ـ الشعور (الوعي): مستودع الإحساسات والأفكار القادمة من العالم الخارجي أو تلك القادمة من عالم الوعي، والشعور يمثل الجانب السطحي للشخصية، والمستوى الظاهر لها.

3 ـ ما قبل الشعور: مستودع الإحساسات والأفكار التي كانت شعورية منذ فترة وتم اختزالها ومن ثم بوسع الشخص تَذكُّرها حسب إرادته، ولكنها لم تكن في وعيه وانتباهه طوال الوقت. وهذا الجزء هو مُستقَر الذكريات ومستودع اللغة والأفكار المتداولة والشائعة وما يتعلمه الإنسان وخبراته السابقة.

ويظهر التقسيم الثلاثي مرة أخرى في تقسيم الجهاز النفسي إلى الهو والأنا والأنا العليا:

1 ـ الهو (باللاتينية: إيد Id): وهو البُعد البيولوجي في الشخصية ومستودع الغرائز ويمثل كل ما هو موروث وموجود في البدن. وتحوي الهو الفوضى والظلام والطيش واللاشعور، وهي قوة مجهولة لا يُسبَر لها غور. والهو لا تتحمل التوتر وتبحث عن الإشباع بغض النظر عن الظروف المحيطة، وتتحرك حسب مبدأ اللذة ومحاولة تقليل التوتر. ولا علاقة للهو بالعالم الخارجي وهو غير متكيف مع المجتمع فهـو لا يعـرف القـيم أو الخير أو الشـر أو الأخلاق. والهو لاشعوري ويسعى للتعبير عن نفسه على نحو غير مباشر، فمثلاً الأحلام وهفوات اللسان تجليات مُقنَّعة لمضمونات لاشعورية أفلتت من الأنا وصارت علنية ولا تخضع إلا لما أسماه فرويد «مبدأ اللذة».

2 ـ الأنا (باللاتينية: إيجو Ego): وهو المكون النفسي الذي ينمو من الهو تحت تأثير البيئة ويمثل الأنا الشعور والعقل والنور. والأنا هو الجزء من الشخصية الذي يَنشُد العثور على مخارج واقعية لدوافع الهو فيقوم بإشباعها أو كفها أو تأجيلها تبعاً لما يمليه الواقع الخارجي. وفي الوقت نفسه يؤمِّـن الأنا الشخص من الوقوع في نزاع مع محيطه ويجنبه التجارب الأليمة، وهو مصدر ضبط النفس ووسيلة التكيف مع المحيط. ويتوهم الأنا (الشعور) أنه يستجيب للعالم الخارجي وفق معارف صادقة أو ما يسميه فرويد «مبدأ الواقع». ولكن فرويد يذهب إلى أن هذا إن هو إلا خداع للذات، فالأنا تظن أن سلوكها يتحكم فيه العقل والمعرفة إلا أنها تأتمر في واقع الأمر بأوامر الهو وغريزتي الجنس (إيروس) والموت (ثناتوس) وإن كان يتم هذا بشكل مقنَّع قد لا تدركه الأنا نفسها.

3 ـ الأنا الأعلى (باللاتينية: سوبر إيجو Superego): وهو المكون الاجتماعي والأخلاقي والحضاري وينمو من الأنا ووظيفته السعي إلى تحقيق الغايات والمُثُل العليا (الاجتماعية والأخلاقية والحضارية). ويبدأ تكوين الأنا الأعلى في الطفولة، فالطفل يسعى إلى تحقيق اللذة ويسترشـد في سـلوكه بمبدأ اللذة ويسـتجيب لدوافعـه وغرائزه بلا حدود. ولكن كلما كبر بدأ يدرك مبدأ الواقع فيتعلم قواعد السلوك التي يتلقاها من أبويه ومن خلال نظام المكافأة والعقاب. وبالتدريج يتكون الرقيب وهو المثل الأعلى الذي يستخلصه الأنا من بين الأوامر والنواهي التشريعية والأخلاقية والدينية ويتعلم كيف يضبط سلوكه بما يواجهه من حقائق فيحقق أكبر قدر من اللذة مع أقل ضرر ناجم عنها. وهكذا تتكون الأنا الأعلى التي توعز للأنا بكبح جماح الهو وتحثها على إحلال الأهداف الأخلاقية محل الدوافع الغريزية (ولذا فهي أقرب إلى ما نطلق عليه «الضمير»). ومع هذا يمكن القول بأن موقف فرويد تجاه الأنا الأعلى يتسم بالتأرجح بين نقطتين: فمن ناحية تظهر الأنا الأعلى كوسيلة لإعلاء الرغبات وتحقيق الأهداف الأخلاقية، ولكن من ناحية أخرى تظهر باعتبارها رقيباً صارماً يصادر الرغبات الجنسية الضرورية ويؤدي إلى شعور بالذنب لا مبرر له.

وقد أدمج فرويد الأنا في اللبيدو وأحل محلهما مفهوم الإيروس (الذي يُعبِّر عن نفسه من خلال غرائز حب الذات وحفظ النوع). ولزيادة تركيب الرؤية وضع فرويد الإيروس مقابل ما أسماه «ثناتوس» وهو عكس الحياة. وفي محاولته تفسير كنه ثناتوس (رغبة الموت والهدم) لا يقترب فرويد قط من العناصر الاجتماعية والتاريخية إذ يظل يدور في إطار الحلولية الكمونية المادية، فيحاول تفسير الثناتوس تفسيراً مادياً تطورياً حتى يبقى داخل نطاق النموذج المادي الواحدي الصارم. ولذا نجده في كتاب ما فوق مبدأ اللذة يذهب إلى أن المادة الحية العضوية تحتفظ داخلها بذكرى أصلها غير العضوي ولذا فهي تنزع إلى العودة إلى الأصل غير الحيوي. وأطلق على هذا مبدأ «إجبار التكرار»، أي الرغبة المحتومة في تكرار الحالة السكونية المتوازنة التي عاشتها المادة العضوية عندما كانت مادة غير عضوية (وكأن المادة تحوي داخلها سراً غير مُدرَك ومع هذا يدفعها هذا السر دفعاً، فهو تيلوس مادي حلولي تماماً). ويبدو أن الثناتوس سوف تنجح في النهاية في القيام بدورها وهو التحلل أو الموت الذي هو نهاية كل كائن حي. ومن ثم قال فرويد قولته الشهيرة: "إن هدف الحياة هو الموت"، وهي مقولة لا معنى لها بطبيعة الحال، إلا إذا كانت الإشارة إلى الموت البيولوجي، وهذا ما نعرفه جميعاً دون حاجة لفرويد. أما القول بأن الرغبة في الموت هو هدف الحياة فهو من لغو القـول الذي لا يفـسر شـيئاً والذي لا توجـد أية قرائن مادية أو عضوية عليه.

ورغم أن اللبيدو هو المحرك الأول في النظام الفرويدي إلا أنه يتحقق في الزمان من خلال متتالية ثابتة يمر بها كل الأفراد، لا تختلف كثيراً عن تلك المتتاليات التاريخية العديدة التي كان العقل الغربي قد أفرزها في القرن التاسع عشر. فهناك متتالية كونت: مرحلة دينية ـ مرحلة ميتافيزيقية ـ مرحلة وضعية. كما توجد متتالية ماركس: شيوعية بدائية ـ عبودية ـ إقطاع ـ رأسمالية ـ شيوعية. وكانت هذه المتتاليات تنتهي دائماً في لحظة تحقُّق النموذج، قمة التقدم ونهاية التاريخ والفردوس الأرضي، أي الحضارة الغربية الحديثة.

يشارك فرويد في فكرة المتتاليـة التاريخـية والمراحل الثابتـة ولكنه لا يشارك في النزعة الطوباوية. وقد حاول أن يُفسِّر نمو الشخصية الإنسانية من خلال نظرية نمو الغريزة الجنسية من عدد من «الغرائز المكوِّنة» (اللبيدو) التي تظهر لدى الطفل منذ الميلاد. ويذهب فرويد إلى أن الإنسان حيوان يُولَد عاجزاً تماماً يعتمد في بقائه على رعاية الأم والأب وأعضاء المجتمع الإنساني، وبدون هذه الرعاية فإن الطفل الإنساني يهلك. في هذه المرحلة يُلاحظ فرويد أن الطفل ليس ذاتاً متكاملة موحَّدة، وإنما هو حقل من القوى المتغيرة الحدود، ليست له هوية واضحة، والحدود بين الذات والموضوع ليست ثابتة. والطفل خاضع تماماً لمبدأ اللذة. لا يعرف الفرق بين الأجناس فهو ليـس بذات كما أنه لا جنس له (بالإنجليزية: أنجندرد سابجيكت ungendered subject). ويجد الطفل لذة جنسية في جسده وترتبط غرائزه الجنسية ببعض الأجزاء المعينة أو الأعضاء في الجسم. وهذه هي مرحلة الشهوية الذاتية (بالإنجليزية: أوتو إيروتيك auto-erotic). والطفل في هذه المرحلة لا يرى جسده باعتباره موضوعاً كاملاً. والغرض الأساسي من كل فعل يقوم به الإنسـان في هـذه المرحلة هو إشـباع الحاجات الحسـية وتحصيل أكبر لذة، أي تحقيق مبدأ اللذة. ثم يبدأ الطفل في النمو من خلال مراحل عدة هي في جوهرها ترتيب تدريجي للدوافع اللبيدية وإدراك متزايد لمبدأ الواقع. إذ سرعان ما يدرك الإنسان أيضاً وجود مبدأ الواقع ويصطدم به. وبالتالي يزداد الفعل الإنساني تركيباً، وبدلاً من تحقيق مبدأ اللذة وحسب، فإنه يحاول تحقيقه في إطار الاعتراف بمبدأ الواقع والحدود التي يفرضها على الذات، ومن ثم يحاول الإنسان تقليل الألم وتحاشي التوتر.

وتمر الشخصية بثلاث مراحل أساسية (الإيقاع الثلاثي الهيجلي دائماً) تفضي إلى مرحلة رابعة أخرى، وإن كان فرويد كعادته أضاف مراحل انتقالية حتى تزداد خريطته البسيطة تركيباً:

1 ـ المرحلة الفمية (الشفوية): وهي مرحلة تلعب فيها الشفتان دوراً أساسياً وفيها يحصل الطفل على اللذة من خلال عملية الرضاعة وفي علاقته بثدي الأم ومصه. وتتسم هذه المرحلة بالاتجاه نحو امتلاك الأشياء والاحتفاظ بها (وتستمر هذه المرحلة حوالي 18 شهر(.

2 ـ المرحلة الشرجية (الإستية): وهي مرحلة يحصل فيها الطفل على اللذة من خلال عملية التبرز، فطرد الفضلات يسبب له إحساساً بالارتياح ويزيل عنه مصدر الضيق والتوتر. والسمة الأساسية في هذه المرحلة هي الإخراج. ويبدأ الطفل يشعر بأن بوسعه أن يتحكم في مشاعر أمه عن طريق إخراج البراز (فهذا يسبب لها السعادة) أو الاحتفاظ به (فيسبب لها الضيق). ويُلاحَظ أن الطفل يبدأ في تَعلُّم جدلية الحياة من خلال معرفته الفرق بين المرحلتين: الاحتفاظ مقابل الإخراج، والتملك مقابل العطاء، والنشاط مقابل السلبية.

3 ـ المرحلة القضيبية: وهي مرحلة تحتل فيها المشاعر الجنسية والعدوانية (المرتبطة بوظيفة الأعضاء التناسلية) مركز الثقل. ويُلاحَظ أن هذه المرحلة قضيبية وليست عضوية جنسية (بالإنجليزية: جنيتال genital) أي مختصة بالأعضاء التناسلية، فالقضيب ـ عند فرويد ـ هو المركز. وفي هذه المرحلة يحصل الطفل على اللذة من خلال تخيله الممارسات الجنسية والعبث بأعضائه التناسلية.

وهذه المرحلة تهيئ لظهور مُركَّب أوديب (نسبة إلى أسطورة الملك أوديب الذي قتل أباه، وتزوج أمه جهلاً بحقيقة علاقته بهما). ومُركَّب أوديب يتلخص في أنه ميل جنسي من جانب أحد نوعي الجنس تجاه أحد الوالدين من الجنس المقابل، مع ميل عدواني تجاه أحد الوالدين من الجنس نفسه. فالصبي يميل إلى أمه، والفتاة تميل إلى والدها. ونتيجة ذلك يشعر الطفل بتهديد من الوالد من الجنس نفسه، إذ يخاف أن يقوم أبوه بخصيه. ويرى الطفل أن الطفلة دون قضيب فيظن أن الأب قد قام بخصيها، فيضطر إلى أن يكبت ميوله الشبقية نحو أمه ويقبل مبدأ الواقع ويُعزِّي نفسه بأنه سيصبح هو نفسه أباً فيما بعد ويتوحد مع الأب وقيمه، ومن ثم يصبح موضوعاً له جنس (بالإنجليزية: جندرد سابجيكت gendered subject). ويصبح الإنسان محل الحب والكره والخوف والتوقير في آن واحد.

ولابد أن نشير هنا إلى أن مُركَّب أوديب هو جوهر المنظومة الفرويدية، فهو ليس مسألة تحدث على مستوى الفرد وحسب، وإنما تحدث على مستوى الجماعة والتاريخ الإنساني، أي على مستوى الحضارة ككل. فمن خلال مُركَّب أوديب ينتقل الطفل من حالة الالتصاق (المحيطية) بالأم ومن حالة الطبيعة إلى حالة الانفصال عن الأم والطبيعة والانتقال إلى حالة الحضارة. ومُركَّب أوديب بداية القيم والقانون وكل أشكال السلطة الدينية والاجتماعية والسياسية. ويُعدُّ تحريم الجماع بالمحارم رمز كل أشكال السلطة التي سيقبلها الإنسان (كما سنبين فيما بعد). إن قصة أوديب هي أسطورة التكوين (بالإنجليزية: جنسيس genesis) بالنسبة لفرويد.

4 ـ مرحلة الكمون: بعد أن يكبت الطفل ميوله الشبقية نحو الأم، وبعد أن يصبح الأب محل الحب والكره يدخل الطفل مرحلة من الكمون الجنسي تستمر من السادسة حتى بداية سن البلوغ والمراهقة (12 عاماً) حين تبدأ المرحلة الخامسة. ويتوقف جانب كبير من مستقبل الابن على مدى نجاحه في صرف رغبته اللاشعورية في غشيان المحارم ورغبة الموت وتوجيهها نحو غايات اجتماعية مقبولة.

5 ـ المرحلة التناسلية: وهي المرحلة التي تتجه فيها الميول الجنسية إلى الجنس الآخر، ويتحول الشخص من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين والتأهب للزواج والاستقلال الأسري، أي أن جزءاً كبيراً من اللبيدو يتجه إلى الخارج، بعيداً عن الأهداف الجنسية، إلى مختلف الموضوعات والنشاطات التي تُكوِّن معاً الحضارة الإنسانية، إذ يحقق الفرد قدراً من التسـامي. والوظيفـة البيولوجيـة لهـذه المرحلة هي التكاثر وحفظ النوع.

بيد أن هذه المكونات (الشعور وما قبل الشعور واللاشعور والهو والأنا والأنا الأعلى وإيروس وثناتوس) لا تعمل مستقلة بعضها عن بعضها الآخر، بل تعمل معاً في اتساق متكامل، وليس هناك فصل حاسم بين وظائفها. والتطور السوي هو تكامل تحت سيادة تلك الغرائز المرتبطة بالأعضاء التناسلية. ويعتقد فرويد أن الانحرافات الجنسية لدى الراشدين ترجع إلى الفشل في تحقيق السيادة واستمرار السيطرة غير الملائمة لبعض الغرائز المكونة الأخرى غير الغريزة التناسلية.

وقد زاد فرويد تعقيد الصورة التي وضعها عن الجنسية وتطورها وذلك بإعطاء تصور لمراحل العلاقة بالموضوع. وأولى هذه المراحل هي المرحلة الذاتوية حيث يتمركز الطفل حول ذاته. ثم المرحلة النرجسية حيث يرى الآخر من خلال نفسه، وتتوجه اللبيدو إلى الذات. ومرحلة حب الموضوع المكتملة النمو والتي تتجه فيها الدفعات الجنسية إلى الخارج نحو شـخص (أو في الشكل البديل، نحو شيء) خارج الذات.

وبالطبع لا يكتمل أبداً نمو الشهوية الذاتية، شأنها شأن أية وظيفة بدائية أخرى من وظائف العقل والجسم. إذ يظل هناك قدر معين من اللبيدو يجد إشباعه عن طريق الشهوية الذاتية، فنحن جميعاً نستمتع بأحاسيس نابعة من المناطق والأعضاء الشهوية في الجسم كالأعضاء الجنسية، والفم، والشرج، والجلد، والعضلات... إلخ. وبالنسبة للفم فإن الاستمتاع بتناول الطعام (جاسترونومي gastrononmy) قد طوَّر تلك الأحاسيس إلى ما يقارب الفنون الجميلة. ونحن جميعاً نُوجّه، بشكل سويّ، قدراً معيَّناً من «الحب» إلى أشخاصنا (قدري حفني).

وحين وصل فرويد إلى قضية المرأة نجده يتناولها بطريقة واحدية مادية حتمية، موغلة في الحتمية. وبدلاً من تَعقُّب وضع المرأة التاريخي وظروف حياتها في كل مرحلة من مراحل المجتمع فإنه يسميها «القارة المظلمة» من ناحية، وهي من ناحية أخرى رجل تم خصاؤه، تقضي حياتها تعاني من إحساس عميق بالنقص التشريحي الذي يشوب تكوينها الأنثوي. ويذهب فرويد إلى أن صغار الفتيات يُرجعن افتقارهن إلى التكوين التشريحي الذكري إلى الخصاء كعقوبة عن خطيئة. وتكتشف الطفلة أن أمها مخصيّة مثلها، فتنقل مشاعرها إلى الأب وتحاول إغواءه، وهي محاولة محكوم عليها بالفشل، فتترك الطفلة الأب لتعود للأم وتَقبَل وضعها كأنثى، وهو وضع يتسم بالدونية والسلبية. وبدلاً من القضيب الذي تحسد الذكر عليه، تحلم بأن يكون لها طفلٌ تحمل به من الأب. وهكذا أصبحت صفات المرأة التشريحية هي شخصيتها بل ومصيرها الحتمي.

وعالم الشعور واللاشعور وما قبل الشعور والإيروس والثناتوس والهو والأنا والأنا الأعلى عالم صراعي (تماماً مثل عالم داروين الإمبريالي) لا تهدأ فيه النفس ولا تستقر. إذ تقوم الأنا والوعي بعمليات كبت مستمرة بينما تقوم الهو واللاوعي بمحاولات دائمة للاقتحام. وفي غياب أية مرجعية خارجية ومع إنكار قدرة الإنسان على التجاوز فإن الصراع يتأجج وتشتد حدته وتتحول النفس البشرية إلى ساحة حقيقية للصراع والاضطرابات لا يختلف كثيراً عن الصراع الدائر في المجتمع التعاقدي.

ولكن الصـراع ليـس واضـحاً دائماً إذ تحاول الهو أن تخادع الرقيب. وأشار فرويد إلى عدة طرق تسلكها موضوعات الكبت في صورة متنكرة لتجد لها منفذاً إلى الشعور من بينها: الأعراض العصابية ـ النسيان (أي حجب ذكرى معيَّنة بذكرى أخرى أو تشويهها بحيث يختفي المكبوت) ـ الهفوات (فلتات القلم واللسان وما شابه ذلك) ـ النكتة. مثال ذلك لو نسى امرؤ اسم شخص ما، فإن هذا يعني أنه في أعماق أعماقه لا يحب هذا الشخص أو أنه يرغب في أن يزيحه بعيداً عن طريقه. إن العاطفة أو الرغبة التي سبق للمرء أن طردها من شعوره اعتراضاً منه عليها، تشق طريقها قسراً في صورة متنكرة في هيئة نسيان. كما يذهب فرويد إلى أن موضوع الدعابة هو أولاً وأساساً التسرية والعدوان وأن الدوافع المكبوتة ورغبات العدوان والتسرية كثيراً ما تنفذ إلى الشعور تحت ستار النكتة.

ويذهب فرويد إلى أن الأعراض العصابية، مثل حالات الخوف المزمن أو الشلل أو غيرهما، إنما هي بعض المسالك الخادعة التي تشقها عنوة الرغبات أو الدوافع أو الأفكـار المكبوتـة والتي تحتفظ بشـحناتها من الطاقـة النفسية الثائرة أبداً، لتفرغ هذه الشحنة إما في شكل أعراض نفسية أو بدنية أو كليهما معاً. بل إن فرويد يذهب إلى أن المحلل بوسعه أن يجد مادته في كل ما يصدر عن المريض من أفعال وأقوال: « من كانت له عينان تبصران وأذنان تسمعان فسوف يرى اللاشعوري في كل الأرجاء ».

ولكن المادة التي ستصل إلى المحلل ذات محتوى ظاهر يخبئ المعنى الباطن، ويلجأ اللاشعور إلى التخبئة من خلال آليات عديدة (تُسمَّى آليات أو ميكانزمات الدفاع) من بينها التكثيف « أي الإدغام اللاشعوري للأفكار» (بالإنجليزية: كوندنسيشن condensation) والنقل والإزاحـة (بالإنجليزية: ديسبليـسمنت displacement) والترميز والنكوص. ومن ثم يبدو المحتوى الظاهر كما لو كان لغزاً أو رسالة هيروغليفية أو كلاماً لا معنى له. لكل هذا يصبح الكبت مفتاحاً لفهم كل الظواهر العقلية السوية والعصابية (بل هو مفتاح فهمنا للحياة العقلية بوجه عام(.

أما عن العلاج فقد ذهب فرويد إلى أن المشكلة هي أن نسمح لما هو لاشعوري بالنفاذ إلى الشعور. وإذا تحقق لنا ذلك فبوسعنا تفسير محتواه اللاشعوري ومن ثم تزول الأعراض، ذلك لأن موضوع الكبت إذا دخل نطاق الشعور فإن شحنة الطاقة النفسية تجد سبيلها للانطلاق.

وكما أسلفنا، بيَّن فرويد أن هناك عدة سبل للوصول إلى مادة اللاشعور. ولكن فرويد اقترح ثلاثة طرق أساسية للحصول على المواد التي سيخضعها للتحليل:

1 ـ التداعي الطليق (الحر ـ اللا إرادي(:

التداعي الطليق أو الحر محاولة تستهدف الإفلات في غفلة من الرقيب أو الضمير أو الأنا الأعلى. ويشجَّع المريض على الإفصاح عن كل ما يرد إلى خاطره دون تَدبُّر سابق أو اتساق ودون حجب أية فكرة أو تصوُّر لأنه غير لائق أو محيِّر أو تافه أو مؤلم أو مشين أو غير معقول أو مخالف لقواعد الأخلاق والمعاملات، ودون أي تدخُّل أو توجيه من جانب الطبيب الذي يكون دوره، في بداية الأمر، مجرد مُستمع ومُسجِّل لما يسمع. ومن ثم يمكن أن تفلت الألفاظ والعبارات والتصورات الذهنية من الرقيب وتنكـشف المشـاعر المكبوتة في اللاشعور وتخرج إلى دائرة الشعور. حينئذ يتلقفها المحلل ليجد فيها زاداً من الرموز التي يمكنه أن يؤولها على نحو يكشف له معناها اللاشعوري وذلك على أساس أن التفكير الإنساني يأخذ شكل سلسلة من الخواطر المترابطة. وتسلسل الترابطات يؤدي إلى المشاعر والأفكار والدوافع التي تسببت في مشاكل المريض النفسية ثم من وراء ذلك إلى تجاربه الأصلية التي أدَّت إلى حدوث عدم التكيف النفسي.

2 ـ الأحلام:

يرى فرويد أن الأحلام تؤدي وظيفة مماثلة. فإذا كان هدف التداعي الطليق السماح للفكرة اللا إرادية بالنفاذ إلى اللاشعور في لحظة تَوقُّف الرقابة، فإن الأحلام بالمثل تخادع الشعور أثناء النوم، وهي الفترة التي تتوقف فيها الرقابة نسبياً، ومن ثم تسمح بمرور الدلالات الرمزية لمادة اللاشعور المكبوتة. وكان فرويد يرى أن الأحلام بنية مترابطة تمام الترابط لها منطقها الداخلي الخاص، ولذا يمكن إخضاع الأحلام والمادة الرمزية التي تحتويها لفن التأويل، شأنها في هذا شأن التداعي الطليق. وقد أُطلق على هذه الأحلام عبارة «الأحلام النمطية». ومع هذا فمن المهم أن نذكر أن فرويد ركز على فكرة التأويل الشخصي لكل رمز يرد في الأحلام. وفي كثير من الأحيان كان يرفض فكرة التأويل العام للرموز.


3 ـ الطرح أو التحويل:

الطريقة الثالثة التي ابتدعها فرويد وطورها للتحليل النفسي هي «الطرح»، فالعلاقة الوثيقة بين المحلل والمريض والتي يكشف خلالها المريض عن مكنون نفسه تؤدي إلى قيام علاقة عاطفية مشبوبة من جانب المريض تجاه المحلل تتدرج ما بين العشق الجنسي وبين الاستخفاف الشديد والكراهية المقيتة. ويُفسِّر فرويد هذه الظاهرة بأن المريض يعيد تمثيل الانفعالات التي عاناها في موقف سابق وكبت ذكرياته عنها وينقل انفعالات طفولته المبكرة ومشاعرها واتجاهاتها إلى المحلل. ويذهب إلى أن هذه الانفعالات المطروحة تزودنا بدلالات المادة اللاشعورية المكبوتة. كما تعطي المريـض فرصـة الاسـتبصار، فهـي طريقة لتحقيق الشــفاء للمريض.

وهنا يظهر الإيقاع الثلاثي مرة أخرى: المريض - المادة المشفَّرة الناتجة عن عمليات التداعي الحر والأحلام والطرح - وأخيراً يظهر المحلل الذي يلعب هنا دور الإله، أو على الأقل المفسر القادر على فك شفرة النص المقدَّس، ومن ثم فتفسيره في واقع الأمر أكثر قوة كما أنه مفعم بالمعنى أكثر من النص الأصلي نفسه.

ولم يكتف فرويد بتقديم هذه الخرائط البسيطة أو المتشابكة للنفس الإنسانية بل عمم مفاهيمه على كل نشاطات الإنسان الحضارية (الفن ـ العلم ـ الثقافة ـ أصول المجتمع ـ الأخلاق ـ الدين ـ الحرب). فحينما يُعاد توجيه اللبيدو نحو موضوعات مختلفة، فإن هذا يتم من خلال عملية إزاحة متدرجة من موضوع لآخر، ولكل غريزة مُكوِّنة شكل من أشكال التسامي المميَّزة الخاصة لها، فالمشاعر التي كانت مُوجَّهة أصلاً إلى الأم تُوجَّه إلى المرأة المحبوبة أو المدرسة أو المدينة أو الوطن. ومشاعر الحب والكراهية والإعجاب والرهبة التي كانت مُوجَّهة للأب تُوجَّه نحو السلطة سواء أكانت الملك أم رئيس الجمهورية أم مدير المخابرات أم رجل الدين أم صاحب العمل. وكان فرويد يذهب إلى أن ثمة تلازماً حتمياً بين الحضارة من جهة وكبت الرغبات الغريزية (الحصان الجامح) والمرض النفسي من جهة أخرى، فكلما تقدمت الحضارة زاد قمع الإنسان لدوافعه البدائية. ويتبع ذلك نجاح أو فشل المرء بقدر أو بآخر في إعلاء الطاقة الجنسية المقموعة. ولكن هذا حل لا يتيسر إلا لقلة من الناس، أما الغالبية الساحقة فهـم يخفـقون في هذا، فالعصاب هو ثمن الحضارة بكل أوامرها التي تضع قيوداً على إشباع غرائز الإنسان، فكل إنسان متحضر هو إنسان عصابي بدرجة أو أخرى (عرَّف أحد المعلقين على فرويد الإنسان بأنه «حيوان عصابي»). وبسبب إحساس الناس بالقيود التي تفرضها عليهم الحضارة وبسبب ضيقهم بها فإنهم يندفعون إلى وسائل الإشباع البديل كالتدخين أو المخدرات أو الدين أو الأعمال الفنية الإبداعية.
انطلاقاً من هذه الرؤية أعد فرويد ما أسماه «دراسة تسجيلية للمشاعر المرضية» عن ليوناردو دافنشي. وحاول في دراسته هذه أن يُفسِّر على ضوء منهج التحليل النفسي الأسباب التي من أجلها كان ليوناردو فناناً وعالماً في آن واحد. ويذهب فرويد إلى أن ليورنادو دافنشي أصبح فناناً بسبب مُركَّب أوديب الذي كان ذا صورة خاصة في حالته هو. إذ كان طفلاً يتيماً عاشقاً لأمه التي أيقظت فيه قبل الأوان نشاطه الجنسي ومن ثم تَسامَى بطاقة هذا النشاط إلى نشاطه كفنان. أما كونه عالماً فمرجعه إلى أن نشاطه الجنسي وهو طفل تَركَّز حول « البحث » عن الموضوعات الجنسية ثم عاوده هذا النشاط في مقتبل حياته، بعد أن كبته، في شـكل رغبـة حضارية في البحث في الطبيعة. وهكذا يُردُّ فن دافنشي إلى اللبيدو والبحث عن الطبيعة وإلى الطاقة الجنسية التي لم تتحقق.

ولا يختلف الدين كثيراً عن الفن، فهو أيضاً عصاب ووسواس عام و« مرض نفسي أصاب البشرية »، كما لا يختلف عن الأحلام أو التداعي الحر فهو يمثل إخراج صراعات الإنسان اللاشعورية ورفعها إلى المستوى الكوني، وهو في جانب منه يزود الإنسان بإشباعات بديلة لدوافعه البدائية، وفي جانب آخر يعمل كقوة قامعة لتلك النزعات.

وينطلق فرويد في كتابه الطوطم والمحرم من الافتراض الذي قال به داروين بأن الكائنات البشرية الأولى كان لها نمط من الحياة شبيه بنمط الحياة عند القردة العليا، أي أنها كانت تكوِّن جماعات صغيرة يرأسها ذكر قوي ومستبد هو سيد جماعته وأب لها لا حدود لما له عليها من سلطان. هذا الأب كان أباً غيوراً يستأثر بكل الإناث ولا يكاد أبناؤه يشبون عن الطوق حتى يطردهم خارج العشيرة أو يخصيهم أو حتى يقتلهم. ولكن حدث ذات يوم أن التأم شمل الإخوة المطرودين فقتلوا أباهم ووضعوا بذلك حداً لعصر العشيرة الأبوية، وحيث إنهم كانوا من أَكَلة لحوم البشر فقد التهموا لحم أبيهم نيئاً في محاولة التوحد به. وبعد فترة بدأت الجماعة تختار حيواناً قوياً مرهوباً ليحل محل الأب هو «الحيوان الطوطمي» أو «الطوطم». وظلت الجماعة تحتفظ للحيوان الطوطمي بالانفعالات الثنائيـة نفسها التي كانت من نصـيب الأب (أي التبجيل والبغض والخشية معاً)، ومن ثم فإن الطوطم برغم كونه موضع العبادة والحماية كان يُقتَل ويُلتَهم من أفراد الجماعة، وكان ذلك يتم في احتفال ذي طقوس خاصة هو الوليمة الطوطمية (التي ربما كانت أول احتفال بشري).

غير أن الأبناء وكل الأخوة غير الأشقاء أدركوا أن المصير الذي حل بالأب سوف يحل بالضرورة بهم ما لم يؤلفوا حلفاً فيما بينهم يُحرِّم القتل والزواج من داخل القبيلة. وهكذا ظهرت " الأباعدية " أو الزواج بعيداً عن الجماعة التي ينتمي لها الفرد، أي أن جريمة قتل الأب وغشيان المحارم أدَّت في واقع الأمر إلى انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الحضارة، وهي التي أدَّت إلى بناء مجتمع على أساس عقد اجتماعي من نوع خاص يتضمن التنازل عن الغرائز وإدراك الالتزامات المتبادلة.

ولكن فرويد لا يكتفي بهذا العنصر العملي المادي، إذ نجده يتحدث عن إحساس بالذنب نشأ لدى جماهير الناس منذ عصور ما قبل التاريخ إثر جريمة قتل الأب وغشيان المحارم وأكل لحوم البشر. وانطلاقاً من مفهوم لاماركي تطوري يذهب فرويد إلى أن هذا الإحساس بالذنب أصبح على مدى آلاف الأعوام بمثابة ذاكرة سلالية مكبوتة داخل اللاشعور لها شحنتها القوية الفعالة. وبالتدريج تَحوَّل الأب القتيل إلى صورة الإله السماوي المحب الذي يَعد المؤمنين بالسعادة في عالم آخر إن هم تنازلوا عن رغباتهم الغريزية في هذا العالم، وما الخطيئة الأولى إلا ذكرى جريمة قتل الأب الإله، أما الوليمة الطوطمية والتناول المسيحي فهما شعيرتان يعيد بهما الإنسان تمثيل الجريمة والتهام الأب البدائي. وهكذا يصبح كل شـيء واضـحاً مفككاً، وهكـذا نكتشـف أن عقدة أو عقيدة أوديـب ليسـت محرك الأفراد وحسـب وإنما محرك التـاريخ والحضارة أيضاً. وفي الصفحات الأخيرة من الطوطم والمحرم يقول فرويد: « بوسعي إذن أن أنهي وألخص هذا البحث السريع بالقول بأننا نجد في مُركَّب أوديب بداية الدين والأخلاق والمجتمع والفن ».

ويُظْهر فرويد المقدرة التفكيكية التقويضية نفسها في دراسته للحضارة الإنسانية، فتفسيره لنشأتها لا يختلف كثيراً عن تفسيره لنشأة الفن والدين. فالمدنية تبدأ حين يتفق عدد من البشر على فرض حدود على إشباع الفرد لرغباته. ورؤية فرويد للطاقة الجنسية ـ كما أسلفنا ـ رؤية كمية، فثمة طاقة جنسية محددة في كل فرد وفي كل مجتمع، فإن أشبع كل فرد هذه الطاقة لن يكون هناك مجال للحياة الاجتماعية لكي تستمد من الحياة الجنسية الطاقة الضرورية لتأمين ديمومتها وتأمين تماسك الجماعة. « ولذا تنزع المدنية دائماً إلى وضع حدود لحياة الإنسان الجنسية، فهي في طورها الطوطمي بدأت بتحريم عشق المحارم، ثم تطورت المدنية بتحريماتها وقوانينها وعاداتها لتضع قيوداً جديدة على كل من الرجل والمرأة وهو ما أدَّى بحكم الضرورة الاقتصادية إلى سحب قدر كبير من الطاقة من أصولها الجنسية كإجراء احتياطي صارم. وهو يضرب مثلاً لذلك بحضارة الغرب (أي الحضارة المسيحية) التي بدأت بتحريم مظاهر الحياة الجنسية في الطفولة برغم وضوح مظاهرها، ثم أعقبت ذلك بوضع حدود لحياة الراشدين بما تفرض من قصر الاختيار بينهم على أفراد من الجنس الآخر وبما تحرِّم من ضروب الإشباع خارج العملية الجنسية بوصفه شذوذاً غير مباح. وهي في إصرارها على لون واحد من الحياة الجنسية للناس جميعاً تتجاهل الفروق بينهم ولا يعنيها أن يُحرم عدد قليل منهم من المتعة الجنسية وبذا تُنزل بهم ظلماً اجتماعياً فادحاً. وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل إنه حتى الحب الغيري (أي لأفراد من الجنس الآخر) قد تَعرَّض أيضاً لقيود إضافية بتحريمه خارج الزواج الشرعي وخارج الوحدانية، أي أن مدنية الغرب تقول للناس إنها لا تريد من الحياة الجنسية أن تكون في ذاتها مصدراً للذة وأنها لا تحتملها إلا لعدم وجود بديل لها لبقاء الجنس البشري وحسب » (جرجس).

ثمة صراع جوهري بين رغبة الفرد الذي يأمل في الإشباع الجنسي ومتطلبات المجتمع التي تتعارض مع هذه الرغبات، فنمو المدنية رهن بما تفرضه على الفرد من قيود، ولذا فالإنسان يبغض المدنية. وقد لعب الدين دوراً أساسياً في عملية إعلاء الرغبة الجنسية والرغبة العدوانية عن طريق توليد الإحساس بالذنب بحيث يوجه الفرد إلى نفسه العدوان الفظ نفسه الذي كان يوجهه كطفل في خياله إلى العالم الخارجي على صورة قتل الأب فتصبح هذه النزعة العدوانية من مقومات الضمير. وينشأ توتر بين الضمير وصاحبه يؤدي إلى الشعور بالذنب الذي يظهر في صورة الحاجة إلى العقاب، ثم يَعقُب ذلك الندم. والندم منبعث من ثنائية شعور الطفل إزاء أبيه: البغض والحب معاً (قتل الأب الطوطمي وإشباع دافع البغض ونزعة العدوان من جهة، والحب الذي يظهر في صورة الندم من جهة أخرى).

ويرى فرويد أن الأديان لم يفتها إدراك الدور الذي يلعبه الشعور بالإثم في المدنية، فزعمت أنها تعمل على خلاص الإنسان من هذا الشعور الذي تسميه الخطيئة. وقد حاولت المسيحية تحقيق هذا الخلاص عن طريق التضحية بحياة فرد واحد يحمل معه ذنوب البشر جميعاً. وهكذا تدعو الأديان إلى المحبة والتضحية بالذات وتُعمِّق في الإنسان الإحساس بالذنب إن أشبع رغباته. وهكذا كلما خطونا نحو المدنية زاد الثمن الذي ندفعه، وهو ثمن باهظ ليس له ما يبرره، إذ أن الرغبة في الإشباع والعدوانية أمور مفطورة في الطبيعة البشرية.

ويتساءل فرويد عن حكمة الدعوة إلى فضائل مستحيلة مثل كبح جماح الرغبات الجنسية والعدوانية، فكل خبرات الحياة والتاريخ تبيِّن أن الإنسان أناني عدواني بطبعه. وإذا كانت هذه الخصال أساسية في الإنسان فإن الشيوعية، شأنها شأن الدين، تقوم بعملية تزييف للطبيعة البشرية، فالعدوان حَكَم حياة الإنسان كجماعة في العصور البدائية حين لم يكد يكون للملْكية الخاصة وجود، والعدوان يحكم حياته كفرد وهو لا يزال في المهد وحتى قبل أن يكون مفهوم الملكية بمعناها الشرجي قد تكوَّن لديه. وحتى إذا زالت من حياة الناس المنافسة من أجل الثروة المادية فستظل المنافسة في مجال العلاقات الجنسية قائمة. ولو زالت المنافسة من هذا المجال وسمحنا بالحرية الجنسية التامة وأزلنا نظام الأسرة (وهو لب حضارتنا) فسوف تكون هناك مجالات أخرى لإشـباع هـذا الميل إلى العـدوان لأن الإنسـان لن يشعر بالراحة دونه. وحينما طَلَب أينشـتاين من فرويد خطاباً يدعـو فيه إلى السـلام رد الأخير عليه قائلاً إن الحـرب أمـر طبيـعي تماماً، إذ أنها ترتكز على أساس بيولوجي مكين « فثمة غريزة للكراهية والتدمير تلتقي في منتصف الطريق مع تجار الحرب » (جرجس).

ولكن هذا العداء المتبادل بين الناس ينطوي على تهديد مستمر للمجتمع بالتفكك، بل والفناء، لا تجدي في دفعه المصلحة المشتركة بينهم. ولكن في الإطار الدارويني/الفرويدي ثمة حل دارويني/فرويدي للمشكلة، فبدلاً من قمع الميول العدوانية (وهو أمر مستحيل على أية حال) تُوجَّه هذا الميول نحو الجماعات الأخرى أو نحو الأفراد الذين هم خارج الجماعة، ويمكن في هذا الإطار فهم حتمية حالة الحرب والتصفيات العرْقية والدينية. وفي هذا الشأن يذكر فرويد « فضل » اليهود على المدنية، فقد انتشروا في أرجاء العالم ومن ثم اتجه إليهم عدوان الشعوب التي عاشوا بينها فأتاحوا لتلك الشعوب فرصة التنفيس عن طاقة العدوان.

ولكن في الغابة الداروينية المليئة بالبشر المصابين بالعصاب النفسي والذين لا همَّ لهم إلا إشباع غرائزهم الجنسية والعدوانية يظهر دائماً السوبرمان محرك التاريخ. ويظهر مُركَّب أوديب كنموذج تفسيري لكل شيء، فجماهير السبمن تشعر بحاجتها النفسية العميقة والنظرية للخضوع لسلطة بديلة لسلطة الأب (الذي تم ذبحه في بداية التاريخ والذي يقوم كل طفل بذبحه على الأقل مرة واحدة في حياته). وهذه الرغبة تُوجَد في الإنسان منذ الطفولة ولابد من التعبير عنها، ولذا فهي تتوجه للرجل العظيم الذي يحمل كل سمات الأب، وهو رجل يكون محط إعجابنا وموضع ثقتنا، ولكننا لا نملك إلا أن نهابه أيضاً. هذا الرجل العظيم هو الدكتاتور الذي يعـفينا من مسـئولية التفـكير والاختـيار على المستوى الاجتماعي، وهو المحلل النفسي الذي يلعب الدور نفسه على المستوى الفردي.

ولكن هذا الحل، شأنه شأن كل الحلول التي يطرحها فرويد، يحوي جرثومة فنائه، فالدين وهم يُعمِّق الإحساس بالإثم، وتوجيه طاقة العدوان للخارج يعني أشكالاً مختلفة من العدوان، وعملية الإعلاء مكتوب عليها الفشل، وزيادة التمدن تعني زيادة الألم، والرجل العظيم يمكن أن يكون رجلاً عصابياً (وكان هتلر يقرع الأبواب). لذا انتهى فرويد بالغوص في العدمية واللاعقلانية المادية: « إنني الآن قادر على أن أنصت دون ارتياب لأولئك النقاد الذين يؤكدون لنا أن المرء الذي يُقوِّم غايات الحضارة ووسائلها لا يسعه إلا أن يَخلُص إلى نتيجة واحدة هي أن كل شيء لا يساوي الجهد المبذول من أجله، وأن الحضارة لم تُنتج لنا في نهاية الأمر سوى ما لا طاقة للإنسان بتحمُّله ». وهكذا انتصر الحصان الجامح وسقط راكبه وتحول إيمان العالم العقلاني المادي بسلطان المعرفة إلى استخفاف مطلق بها، تماماً كما أصبحت مهمة المحلل النفسي تحويل البؤس الهستيري إلى شقاء عام! وهكذا يتفكك المفكك الأكبر وتلفه الظلمات التي ادعى أنه اكتشفها في النفس البشرية.

ورغم إسهامات فرويد المهمة في فهم أنفسنا فثمة نقط قصور عديدة لابد من معرفتها لمعرفة حدود المنظومة الفرويدية.

1 ـ نموذج فرويد المعرفي (شأنه شأن كثير من المفكرين العلمانيين الشاملين في القرن التاسع عشر)، نموذج حلولي واحدي مادي، يحاول تفسير الواقع بأسره في إطار عنصر مادي واحدي كامن في المادة. والنماذج المادية عادةً نماذج واحدية صراعية داروينية. وفرويد لا يمثل استثناءً من هذه القاعدة. وحدود نموذجه هي نفسها حدود النماذج المادية الصراعية، وهو يُسقط من اعتباره إلى حد كبير ما يقع خارج نطاق النماذج المادية مثل مفهوم حرية الإرادة والمقدرة على التكيف، بل على التجاوز الجذري.

2 ـ نظرية التحليل النفسي نظرية أحادية التفسير ترفض تَعدُّد السببية وذلك يتضح في:

أ ) تفسير ظاهرة المقاومة: فإذا وافق المريض على ما يقوله المحلل فهو يثبت صحة وجهة نظر التحليل النفسي، وإذا لم يوافق فهو يقاوم ما هو موجود داخله بالفعل، وبالتالي يثبت المريض في كلتا الحالتين صحة وجهة نظر المحلل النفسي!

ب) القدرة التفسيرية المطلقة: تدَّعي نظرية فرويد القدرة على تفسير كل شيء بدءاً من فلتات اللسان مروراً بتدخين السجائر وصولاً للعلاقات الجنسية الكاملة، كما تشمل مقدرتها التفسيرية كل المراحل التاريخية منذ بداية ظهور الإنسان حتى نهاية الحضارة مروراً بأية ظاهرة اجتماعية ثقافية تخطر على قلب بشر!

3 ـ أسقط النموذج الفرويدي الجوانب الاجتماعية ورغبة الإنسان في التواصل مع الآخرين. وكل أتبـاع فرويد الذين تمردوا عليه كان تمردهم يمثل محاولة لاسترجاع بعض العناصر التي أسقطها فرويد (يونج واللاشعور الجمعي ـ أدلر ومفهوم الجماعة والعنصر الاجتماعي). وبالطبع كان هناك من دفعوا أطروحته إلى نتيجتها المنطقية فأثاروا في نفسه الفزع مثل فيتلز (ومع هذا يجب أن نضع في الاعتبار أن فرويد نفسه في كتاباته كان يحاول أن يفلت من قبضة النموذج الحلولي الواحدي المادي، ومن هنا الحديث " الميتافيزيقي" عن ثناتوس والندم).

4 ـ النموذج الدارويني نموذج طبيعي/مادي يتسم بالعمومية وبإسقاط الخصوصية الإنسانية والحضارية. وقد حاول فرويد تَجاوُز هذا بتَبنّي النموذج اللاماركي: وهو نموذج يذهب إلى أن الصفات الحضارية المُكتسَبة يتم توارثها، فهو من ثم نموذج مادي علمي يدور في إطار الحتمية (التوارث) ولكنه يُدخل قدراً من الخصوصية (الصفات المتوارثة المكتسبة). ولكن مادية النموذج وعموميته تهزم فرويد فمفاهيم مثل مُركَّب أوديب ومراحل النفس البشرية المختلفة (الفمية ـ الشرجية ـ الكمون ـ التناسلية.. إلخ) هي مفاهيم ومراحل لا تعرف الخصوصية الحضارية ولا الفردية الإنسانية، فهي متحررة من الزمان والمكان. فكل البشر، أفراداً وحضارات، يمرون بالمراحل نفسها ويسقط معظمهم صرعى المرض النفسي، فهناك من يكتب قصيدة وهناك من ينتحر أو يُجن. أما التساؤل عن سبب حدوث هذا لشخص بعينه وحدوث العكس لشخص آخر، فهذا ما لا يستطيع النموذج الفرويدي تفسيره. كما لا يمكنه أن يُبيِّن لنا سبب أفضلية كتابة القصيدة على الانتحار. وأخيراً لا يستطيع النموذج الفرويدي أن يُفسِّر لنا لمَ يؤدي عصاب شاعر ما إلى كتابة قصيدة رديئة أو إلى صرخة ألم بينما يؤدي عصاب شاعر آخر إلى كتابة قصيدة عظيمة.

5 ـ تظهر حدود النموذج الفرويدي في إغفاله طرح بعض الأسئلة الجوهرية. ففرويد يتحدث عن إحساس الإنسان بالذنب بعد مقتل الأب ولا يحدثنا عن مصـدر هـذا الإحسـاس: هل هو تعبير عن اللبيدو والإيروس أم تعبير عن الثناتوس؟ ولمَ يشعر الإنسان بالذنب أساساً؟ ولمَ يتذكر الإنسان شيئاً كريهاً مثل مقتل الأب ويتوارثه ويُشفِّره رموزاً يتعاطاها ليل نهار ثم يحاول بعد ذلك كبتها، مع أنه كان من المفروض، حسب ما تمليه الاتجاهات اللبيدية للإنسان، أن ينسى مثل هذا الفعل ويستمر في قتل الأب واغتصاب الأم والأخوات؟ لمَ هذه اللحظة الفارقة (كما يسميها على عزت بيجوفيتش)؟ لمَ هذا الدُوار الميتافيزيقي الذي يجعل الإنسان يرفض أن يستمر قرداً طبيعياً ويقرر أن يصبح إنساناً معذباً يتذكر الجرم ولا ينساه؟ ألا يشير هذا إلى حس أخلاقي أصيل في الإنسان بجوار اللبيدو؟ إن فرويد يرصد كل هذا ويشير إليه في منظومته، وهو ما يخلق فضاءً إنسانياً داخل المنظومة اللاإنسانية، ومع هذا تظل حدودها المادية مُطبَّقة عليه، تحدد حدود خطابه ومجال حركته ورؤيته.

6 ـ لا تتسم منظومة فرويد بالشمول وحسب وإنما بقدر من الشمولية. فالأحلام، على سبيل المثال، لها معناها الظاهر الذي يختلف عن المعنى الباطن (الحقيقي) الذي لا يستطيع أحد إلا المفسر (السوبرمان) الوصول إليه. وهذا المفسر القوي قادر على فرض المعنى الذي يراه من خلال آلياته. والمعنى الباطن تعبير عن اللاشعور الذي يُوجِّه سلوكنا اليومي، رغم وجوده خارج دائرة شعورنا وإرادتنا. ولذا حين نكتشف في الإنسان وجود قوة فعالة مثل الحب والتراحم والإحساس بالذنب فإن المفسر القوي يردها إلى اللاشعور الذي يُرد بدوره إلى عالم الهو واللبيدو والظلام. وقد انتهى الأمر بالمحلل النفسي إلى أن يقول: « إن الشعور بالخطيئة تعبير عن اللاشعور » وهو قول متناقض يُبيِّن هيمنة أيديولوجيا اللاشعور الحتمية المادية.

7 ـ توجد تحيزات في المنظومة الفرويدية تبين أنه يدور أساساً في إطار غربي:

أ ) أسلفنا الإشارة للرؤية المادية والرؤية التطورية والرؤية الصراعية باعتبارها الرؤى المهيمنة على فرويد، وهي الرؤى السائدة في عصره في أوربا.

ب) يتبنَّى فرويد نموذجاً ذكَرياً واضحاً في التحليل يتحوَّل فيه القضيب ليصبح الركيزة الأساسية للبناء الفوقي. فنجد أن الطفل يعاني من خوف الخصاء والمرأة تعاني من حسد القضيب. وهذا الموقف من المرأة هو امتداد لرؤية الفكر اليوناني للمرأة باعتبارها مخلوقاً أدنى من الرجل ورؤية الجسد الذكَري بوصفه نموذجاً للكمال والاتساق.

جـ) يستخدم فرويد مجموعة من الأساطير اليونانية كصور مجازية يكتشف من خلالها النفس البشرية، ولا شك في أن هذا حدّ من مجاله. ولعله لو استخدم أساطير أخرى وصوراً مجازية أخرى لاختلف نطاق الملاحظة واختلفت الشواهد ومن ثم اختلفت النتائج. وقد أشار عديد من علماء الأنثروبولوجيا إلى وجود العديد من المجتمعات يؤدي تطورها التاريخي وطرق تنشئتها لأطفالها إلى تكوين شخصيات مختلفة تماماً عن افتراضات فرويد. وقد طرح أحد العلماء الصينيين سؤالاً عن مركب أوديب في الصين الذي تسود فيه عبادة الأسلاف، وهل يمكن أن ينشأ مثل هذا المركب في مثل هذا المجتمع؟

د ) تعميمات فرويد مأخوذة من مجتمع فيينا في القرن التاسع عشر بكل ما فيه من سمات التشدد والتزمت الجنسي العلني (والانحلال والتفسخ الجنـسي السـري) وهو ما جـعل كثيراً من الاضطرابات تأخذ شكلاً جنسياً.

8 ـ كثير من مسلمات فرويد لا يمكن البرهنة عليها ولا يمكن تفسيرها عقلياً. ولنأخذ قضية الأحلام:

أ ) ليس هناك ما يدل على ضرورة ربط كل الأحلام بالجنس.

ب) لم ينكر فرويد نفسه أن الأحلام أحياناً تكون ذات مصدر فسيولوجي مثل عسر الهضم أو الإحسـاس بعـدم الراحة ومن ثم فمثل هذه الأحلام ليست ذات هدف ولا معنى.

جـ) لم ينكر فرويد أيضاً أن الأحلام تنبع أحياناً من الوعي ذاته ومن ثم لا علاقة لها باللاوعي. ولكن تظل مشكلة مَنْ الذي يقرر تلك المشكلة الأساسية.

د ) يبدو أن مفهوم فرويد للأحلام والعقل يتناقض مع بعض مكتشفات العالم الحديث.

9 ـ ثمة مفاهيم لم يستطع فرويد أن يحدد موقفه منها تماماً، ولذا فهي تتسم بالإبهام الشديد. فلنأخذ القمع والإعلاء: هل هي أمور مرغوب فيها أم شيء بغيض؟ ففي محاضراته في جامعة كلارك يتحدث عن إمكانية الإعلاء والتجاوز ويؤكد ضرورة أن تصبح بؤرة الدوافع الجنسية هدفاً أكثر بُعداً من الجنس وأن تكون لها قيمة اجتماعية أعلى. ولكنه في المحاضرة التالية يغوص في الحلولية مرة أخرى ويحذر من تَجاهُل الجانب الحيواني لطبيعتنا، وهذا الإبهام يظهر في كتاباته الحضارية مثل كتاب الطوطم والتحريم و موسى والتوحيد.

ولعل هذا الإبهام هو الذي أدى بفرويد إلى التركيز على الشخصيات غير السوية. فالجنس بالنسبة لفرويد هو اللوجوس (الركيزة النهائية) والإشباع الجنسي هو التيلوس (الهدف النهائي). ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن الحضارة مبنية على القمع والإعلاء. وهكذا تصطدم الحتمية اللبيدية بالحقيقة الإنسانية الحضارية، فيظهر موضوع مأساة الحضارة. ولذا كان لابد أن يجد فرويد مخرجاً. ومن هنا كان التركيز على الشخصيات غير السوية، فهذه الشخصيات تعبير عن هيمنة اللاشعور والهو وقوانين الطبيعة/المادة، على عكس الشخصيات السوية التي تؤكد مجموعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تؤكد حرية الإرادة ومقدرة الإنسان على التجاوز والتي تتناقض مع النموذج المادي.

ولعل هذا الإبهام في موقف فرويد وعدم حسمه لهذه القضية هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى استخدام كثير من الناس نظريته في اللبيدو أساساً لتبرير الحرية الجنسية والإباحية والشذوذ، رغم إصراره هو نفسه على أن الكبت، وليس الإشباع، هو أساس الحضارة. فكأن منطق النموذج الواحدي الطبيعي/المادي هو الذي ساد وتفوَّق وهمَّش المقدرة على الإعلاء والتجاوز.

10 ـ تدثر التحليل النفسي بلغة موضوعية وتحدَّث فرويد بأسلوب يوحي بأنه متجرد من الزمان والمكان، وبأن المفاهيم التي يستخدمها مفاهيم قابلة للاختبار وترقى لمستوى القوانين النظرية العامة، وهو أمر يشكك فيه معظم الباحثين للأسباب التالية:

أ ) كثير من المصطلحات التي يستخدمها فرويد إما عامة إلى درجة كبيرة (اللبيدو)، أو خاصة إلى درجة كبيرة (مركب أوديب)، أو غامض إلى أقصى حد (ثناتوس)، أو متناقضة (إيروس وثناتوس).

ب) هذه المصطلحات تعبِّر عن مفاهيم ومقولات من الصعب اختبارها (وإن كان هناك من المفاهيم الفرويدية ما تم اختباره وبالفعل أثبت مقدرته التفسيرية).

جـ) بنى فرويد أداءه على أساس نظريات إثنولوجية لم تتأكد صحتها فقد كان يتلقف أية نظرية إثنولوجية يتراءى له أنها تتلاءم وأغراضه رغم أنها أصبحت موضع استهجان من قبَل علماء الإثنولوجيا. وقد قال دفاعاً عن منهجه هذا: « إنني أولاً وقبل كل شيء لست عالم إثنولوجيا بل عالم تحليل نفسي: ومن ثم كان من حقي أن أنتقي من بين المعطيات الإثنولوجية كل ما أراه مفيداً لأبحاثي التحليلية ». وهكذا نراه يقتبس كل ما يبدو مفيداً لوجهة نظره ويتخذه أساساً لنظريته عن نشأة المجتمع والأخلاق والدين.

د ) كانت طريقة فرويد في جمع البيانات غير منهجية وغير مضبوطة، فهو لم يسجل كلام المرضى مباشرةً بل كان يدونه بعد الجلسات، الأمر الذي يثير إمكانية أنه كان يعيد تفسيرها وهو يسجلها في وقت لاحق. كما أنه لم يحاول أن يتأكد من صحة أقوال مرضاه. وقد بدأت تظهر معلومات تبيِّن أنه كان ينام أحياناً أثناء مقابلاته مع مرضاه، كما كان يكتب بعض خطاباته أثناء الجلسات. بل إن هناك أيضاً من الأدلة ما يشير إلى أنه كان يزيف المعلومات أحياناً. ويُقال إنه نصح أحد المرضى بأن يترك زوجته بناءً على طلب عشيقة المريض التي دفعت لفرويد مكافأة مالية نظير هذا. وهناك كذلك قضية علاقته بأخت زوجته.

هـ) كان فرويد يلوي عنق الحقائق فمريضته الشهيرة دورا على سبيل المثال قالت إن أحد أصدقاء أسرتها تحرش بها جنسياً، فكتب فرويد أنها تقمع ذكريات الطفولة عن ممارسـة العادة السـرية بل وتكبت رغبتهـا في أن يتم التحرش بها جنسياً. وحينما كانت دورا ترفض ادعاءات فرويد كان يخبرها أن رفضها يعني القبول لأنها مقاومة لا شعورية. فقد كان فرويد يرفض أية إجابة لا تتفق مع وجهة نظره طالما استقر رأيه على شيء، وكان يستخدم كل ذكائه وكل قدرته على الإقناع لإجبار مريضه على التصريح بصحة رأيه.

و ) لم يشرح فرويد قط طريقة استخلاصه للنتائج من البيانات التي جمعها.

ز ) نطاق البيانات التي جمعها فرويد كان ضيقاً للغاية فقد استند أساساً إلى بعض المشاهدات التي كان مجتمع فيينا يزخر بها، كما أن انتماءه اليهودي ساهم ولا شك في تضييق نطاق هذه البيانات. كما أن خبراته الشخصية كانت محدودة إلى حد كبير. ورغم كل هذا جعل فرويد من تلك المشاهدات أساساً لنظرية عامة في الشخصية تُطبَّق على الناس جميعاً أياً كان الوضع الحضاري الذي يعيشون فيه.

11 ـ ويقودنا هذا إلى النقطة الأخيرة وهي شخصية فرويد نفسه، وهي قضية مهمة بسبب ارتباط التحليل النفسي به. ومن المعروف الآن أن فرويد لم يكن شخصية سوية تماماً، فقد كان يعاني ـ كما بيَّنا ـ مشكلة هوية حادة بسبب كونه يهودياً غير يهودي، الأمر الذي سبَّب كثيراً من الإبهام في مفاهيمه.

ويشير الدكتور قدري حفني إلى شخصيته التسلطية وكيف أنه كان لا يقبل المعارضة. فحينما اختلف مع يونج وصفه بأنه الكذاب ـ المدعي ـ المهرطق (وهو ما يُبيِّن أن فرويد كان يرى أن التحليل النفسي البديل العلماني للدين، وأن المفسر هو البديل العلماني للكاهن). وحيث إن المسألة مسألة دينية فإن فرويد كتب إلى إرنست جونز مشجعاً إياه على طرد أنصار يونج من جمعية لندن مستخدماً في خطابه مصطلحاً شـبه ديني ( « إن عزمك على تطـهير جمعيـة لندن من أنصار يونج لأمر رائع » ).

ووصف فرويد أدلر، بعد اختلافهما، بأنه « كومة من النفايات مليئة بالسم والشر». وقال إنه « صنع من القزم عملاقاً ». فرد أدلر: "... حتى القزم، إذا ما احتل مكانه على كتفي عملاق ضخم، فإنه يستطيع أن يرى أبعد ممن يحمله". فرد فرويد، مرة أخرى، قائلاً: «... قد يصدق ذلك على القزم، ولكن لا يصدق، بحال، على قملة في شعر ذلك العملاق ». بل إن الأمر ليمضي إلى ما هو أبعد من ذلك. فبعد وفاة أدلر، في الأول من مايو 1937، كتب آرنولد زفايج إلى فرويد معبِّراً عن تأثره لذلك، إذ أن أدلر وافته المنية فجأة وهو يسرع الخطى عبر أحد شوارع إسكتلندا في طريقه لإلقاء إحدى محاضراته، فإذا بفرويد يكتـب لزفايج، في 22 يونيـه 1937، مؤنباً إياه، لإبدائه مثل تلك المشاعر، قائلاً: «... إنني لا أفهم تعاطفك من أجل أدلر. إن ملاقـاة الموت في أحد الشـوارع الفاخرة في إسكتلندا ليُعدُّ، بالنسبة إلى ولد يهودي خرج من ضاحية متواضعة من ضواحي فيينا، حدثاً رائعاً في حد ذاته، ودليلاً على مدى ما بلغه من رفعة. لقد كافأته الدنيا بسخاء نظير ما قدمه من خدمات بمعارضته التحليل النفسي ». وكل هذه الملاحظات تدل على ضيق الأفق والتسلط والفشل الذريع في فهم الآخر.

وقد ترك فرويد أثراً عميقاً في كثير من العاملين بالتحليل النفسي. فقام بعض أتباعه ببلورة بعض العناصر في المنظومة الفرويدية دون غيرها. ففيتلز مثلاً ذهب إلى أن الترخيصية الجنسية هي الحل الطبيعي لمشاكل البشر النفسية. وقام ويلهلم لايخ بالبحث عن الحل السحري في طاقة الأورجون التي ذهب إلى أنها الأساس العلمي للتحليل النفسي، وتحدث كارل أبراهام الألماني عن « سقوط قضيب الأم ». وقد تحوَّل التحليل النفسي في الولايات المتحدة إلى نوع من العبادة الوثنية حيث صار المحللون يعتقدون أنهم كهنة وأن مهنتهم مقدَّسة. وامتلأت كتب التحليل النفسي بالترهات التي تهدف إلى إقناع الفرد بأن كل ما يفعله سويّ، طالما أنه يريحه نفسياً ويُشبع رغباته.

وعلى المستوى الفلسفي أكد بعض أتباع فرويد البُعد الحتمي، فذهب لاكان الفرنسي إلى أن اللاشعور هو الأساس فاستخدم منهج اللغويات ليخبرنا بأن اللاشعور هو من يتكلم أو يفكر حينما يتكلم الإنسان أو يفكر. كما ذهب لاكان إلى أن الاتصال البشري مستحيل حيث إن اللاشعور سيتدخل في الطريق. ولكن ظهر محللون نفسيون رفضـوا مثل هـذه الحتمـية مثل إريك إريكسون وإريك فروم ودونالد وينكوت. فإريكسون يُصِّر على تاريخية طريقة التحليل النفسي وبالتالي ينفي عنها الجانب الحتمي والفكر الاختزالي الذي يقفز من الفرد إلى المجتمع، ويتحدث عن الروح والخالق كضرورة للإيمان والثقة (على عكس فرويد « الذي لا إله له » على حد قوله). وبالمثل يرى وينكوت أنه لا يكفي أن نقول إن ثمة سبباً عضوياً للمرض النفسي، بل يجب أن نتساءل عن سبب اختلال هذا التوازن العضوي من الداخل. فالإنسان ليس آلة ولا مجموعة مركبات. والسؤال الأساسي عنده هو: لماذا وكيف أصبح الإنسان إنساناً؟

  • الاربعاء PM 12:21
    2021-04-07
  • 1336
Powered by: GateGold