المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415039
يتصفح الموقع حاليا : 255

البحث

البحث

عرض المادة

كلـود ليفي شتراوس (1898- ) والبنيوية

Claude Levi-Strauss and Structuralism
عالم أنثروبولوجي فرنسي وأحد أعمدة الفكر البنيوي. وُلد في بلجيكا ثم انتقل إلى فرنسا. ينتمي إلى عائلة من البورجوازية الفرنسية اليهودية المثقفة المندمجة. ورغم أن أحد أجداده كان حاخام فرساي، إلا أنه نشأ في جو علماني في منزل عائلته في بلجيكا التي وُلد بها أو في منزله في باريس (فيما بعد).


تلقَّى ليفي شتراوس تعليمه الجامعي في السوربون وتخرَّج في كلية الحقوق عام 1931. ثم التحق بالبعثة الجامعية الفرنسية في البرازيل حيث أصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ساو باولو في الفترة 1935 ـ 1939، وهي الفترة التي قام فيها بعمل أبحاث حقلية إثنوجرافية بين قبائل البورورو في وسط البرازيل والتي على أساسها أقام نظريته في علم الأساطير. خدم في الجيش الفرنسي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبعد سقوط باريس عام 1940. رحل إلى نيويورك حيث عمل كأستاذ زائر لأبحاث علم الاجتماع في جامعة نيو سكول أوف سوشيال ريسيرش New School of Social Research بين عامي 1941 و1945، ثم عاد ليعمل كأستاذ لعلم الأديان في مدرسة الدراسات العليا بالسوربون. ومنذ عام 1959، شغل ليفي شتراوس منصب أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الكوليج دي فرانس، وانتُخب عام 1973 عضواً بالأكاديمية الفرنسية.

من أهم كتبه الأبنية الأولية لعلاقات القرابة (1949) الذي بلور فيه نظريته الخاصة بأن التبادل التعاقدي هو العامل الاجتماعي الأساسي. وفي كتاب الأنثروبولوجيا البنيوية (1958)، بلور ليفي شتراوس نظريته الأنثروبولوجية متخذاً اللغويات نموذجاً يُحتذَى. ثم صدرت له مجموعة من الدراسات بعنوان الأساطير أو مقدمة لعلم الميثولوجيا  (1964 ـ 1971) في أربعة أجزاء: النيء والمطبوخ، و من العسل إلى الرماد، و أصل آداب المائدة والإنسان العاري.

ولفهم فكر ليفي شتراوس (وظهور ما بعد الحداثة)، لابد من فهم الفكر البنيوي (في سياقه الغربي) باعتباره تجلياً لإشكاليات العلمانية الشاملة والتأرجح بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع.

و«البنيوية» هي المقابل العربي للكلمة الإنجليزية «ستركتشراليزم Structuralism». وهي فلسفة لا عقلانية مادية تشكل ثورة ضد الوضعية وضد تشيؤ الواقع واللغة (والتمركز حول الموضوع) وتحاول في الوقت نفسه ألا تسقط في الذاتية ( والتمركز حول الذات). وهي تدَّعي أنها تتجاوز الميتافيزيقا، ولذا فهي ترفض الوجودية والفكر الإنساني الهيوماني بشكل عام.

ورغم أن الفلسفة البنيوية ترفض الفلسفة الهيومانية، إلا أنها فلسفة متمركزة حول الإنسان. وبالفعل، تظهر الطبيعة البشرية أحياناً في الفكر البنيوي كمعيار (بل كمطلق ومرجعية نهائية) حينما يتحدث ليفي شتراوس عن رغبة البشر في التواصل باعتبار أن هذه الرغبة إحدى سمات الإنسان الأساسية، وهي رغبة تعزله عن عالم الطبيعة/ المادة وتخلق مسافة بينهما. وتتبدَّى الرغبة في التواصل في واقع أن الإنسان ينتج أنظمة إشارية. والإنسان البدائي، رغم بدائيته وبساطته، لا يبحث مثل الحيوان عن طعامه وحسب (كما يتصور النفعيون) ولا يبحث عن لغة طبيعية نفعية مباشرة (كما يتصور الوضعيون)، وإنما يبحث دائماً عن رموز وإشارات للتواصل ولتفسير العالم. فهو حينما يجد شيئاً لا يسأل «هل هذا الشيء صالح للأكل (بالفرنسية: بون آ مانجرييه bon a manger)» كما يتصور دعاة النفعية المادية، وإنما يسأل «هل هو صالح للتفكير من خلاله (بالفرنسية: بون آ بانسيه bon a penser)» أو «صالح لاستخدامه رمزاً (بالفرنسية: بون آ سيمبوليزيه bon a symboliser)». وهذا الإنسان البدائي الذي يرغب في التواصل يبحث عن الحقيقة ويصل إليها من خلال منطقه الخاص. ولأن الأساطير ليست مجرد قصص خيالية وإنما لها منطقها الخاص (بالفرنسية: مثيو لوجيك mythologique) الذي يختلف عن منطقنا الخاص (بالفرنسية: لوجيك logique)، فإن الإنسان البدائي قد لا يعرف علمنا المجرد ولكنه يملك علمه الخاص الذي يدركه بمنطقـه الخاص ومن خلال نظامه الإشـاري المتعيِّن ومقولاته المتعيِّنة، ولذا سمى ليفي شتراوس هذا العلم «علم المتعيِّن» (بالإنجليزية: ساينس أوف ذي كونكريت science of the concrete). بل إن النزعة الإنسانية تظهر عند ليفي شتراوس بشكل متطرف في قوله إن للعقل الإنساني وظيفة رمزية وإنه يتسم بالقدرة على توليد دوال أكثر من عالم المدلولات، إذ أن الإنسان يجد أن العالم ليس مفعماً بما فيه الكفاية بالمعنى، وأن العقل يحوي من المعاني ما يفوق ما يوجد في الواقع من أشياء. وهذه هي طريقة ليفي شتراوس في الحديث عن أسبقية الإنسان على الطبيعة. ويذهب ليفي شتراوس إلى أن مشكلة الإنسان الحديث هي أنه قد قمع هذا الاتجاه في العقل الإنساني نحو توليد الرموز والإشارات.

هل هذا يعني أن الإنسان هو المرجعية النهائية في الكون وأن العقل يُولِّد معياريته النهائية من داخل ذاته؟ هنا سنكتشف نمط التمركز حول الذات الذي يؤدي إلى التمركز حول الموضوع، وسنجد أنه قد بدأ يؤكد نفسه بشكل حاد. ولكن التمركز حول الموضوع سيأخذ في حالة البنيوية شكل التمركز حول البنية.

وكلمة «بنية» لها معنى محدَّد في الفلسفة البنيوية. فهي تُستخدَم في علم اللغة البنيوي للإشارة إلى المنهج الذي يدرس السمات اللغوية المختلفة لا كتفاصيل في حد ذاتها وإنما كجزء من بنية عامة لا يمكن أن تُردَ إلى ما دونها. وقد استُخدمت الكلمة بعض الوقت في علم اللغة للإشارة إلى منهج العالم اللغوي بلومفيلد حيث كان يقوم بتقسيم السمات المباشرة للكلام وتصنيف هذه السمات، وهذا ما سماه تشومسكي «البنية السطحية». ومقابل ذلك، طرح تشومسكي مفهوم «البنية العميقة» أو «البنية الكامنة». ولذا سَمَّى تشومسكي اتجاهه في علم اللغة «النحو التوليدي». ولكن يمكن القول بأن كلمة «توليدي» كما يستخدمها تشومسكي ترادف تقريباً كلمة «بنيوي» كما يستخدمها ليفي شتراوس (في علم الأنثروبولوجيا) أو جان بياجيه (في علم النفس).

وواضع أساس علم اللغة البنيوي (ورائد الثورة البنيوية) هو عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير (1857 ـ 1913) الذي ذهب إلى أن علاقة الدال بالمدلول (الاسم والمسمى ـ الكلمة ومعناها ـ الإشارة والمشار إليه) لا تستند إلى أية صفات موضوعية لصيقة بالدال أو كامنة فيه، ومن ثم فالعلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية أو جوهرية أو ثابتة بل اعتباطية. ويرى دي سوسير أن النظام اللغوي نسق إشاري مبني على علاقة الاختلاف بين الثنائيات المتعارضة، فمعنى كل إشارة ينبع من اختلافها مع إشارة أخرى. والنظام اللغوي ككل يعمل من خلال سلسلة الاختلافات والثنائيات المتعارضة هذه، فالمعنى ـ كما أسلفنا ـ ليس كامناً في الإشارة ذاتها ولا حتى يضاف إليها وإنما هو أمر وظيفي يتحدد داخل شبكة العلاقات داخل النص نفسه، أي أن المعنى يُولَد من داخل اللغة نفسها وليس من الواقع.

وقد بيَّن ليفي شتراوس أن الأساطير، مثل اللغة، نظام يتسم باعتباطية وعشوائية علاقة الدال بالمدلول، فالأسطورة (أو الكلمة) ليس لها معنى في حد ذاتها، فعلاقتها بالواقع (معناها) مسألة عرضية ليست كامنة في الأسطورة أو الكلمة ذاتها أو في الواقع ذاته وإنما هي مسألة عُرفية (اتفاقية). كما أن الكلمة والأسطورة لا يمكن أن يظهر لهما معنى إلا إذا أصبحا جزءاً من شبكة أكبر منهما. هذه الشبكة تتسم بما يُسمَّى «التعارضات الثنائية» (بالإنجليزية: بايناري أوبسيشنز binary oppositions). فما يحدد المبتدأ والخبر ليس خاصية مادية في أي منهما وإنما علاقة تعارض بينهما. واللغة والأساطير ليس لهما وجود موضوعي بل ليس لهما مضمون محدَّد، ولكن لكلٍّ منهما منطقه الشكلي المجرد العام.

وانطلاقاً من هذا، يمكن أن نُعرِّف البنية بأنها ليست صورة الشيء أو هيكله أو عناصره أو أجزاءه أو وحدته المادية أو شيئيته الموضوعية ولا حتى التعميم الكلي الذي يربط أجزاءه. وحدَّد بياجيه خصائص البنية بأنها ثلاث:

1 ـ الكلية، وتعني أن البنية ليست موجودة في الأجزاء.

2 ـ التحولات، وهي التي تمنح البنية حركة داخلية وتقوم في الوقت نفسه بحفظها وإثرائها دون أن تضطرها إلى الخروج عن حدودها أو الانتماء إلى العناصر الخارجية.

3 ـ التنظيم الذاتي، ويعني أن البنية كيان عضوي متسق مع نفسه منغلق عليها مكتف بها، فهي كل متماسك له قوانينه وحركته وطريقة نموه وتغيره ومن ثم فهي لا تحتاج إلى تماسكه الكامن.

ويرى بياجيه أن المثل الأعلى للبنيوية هو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بذاتها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية.

والبنية ليست ذاتية ولا موضوعية، ولا هي مادية أو مثالية، وهي ليست كامنة في العقل وليست انعكاساً لشيء في الواقع على عقل الإنسان، وليس لها وجود متعال، وليس لها وجود ذاتي أو تجريبي أو موضوعي أو وضعي. فالبنية، في واقع الأمر، شبكة العلاقات التي يعقلها الإنسان ويجردها ويرى أنها هي التي تربط بين عناصر الكل الواقعي أو تجمع أجزاءه، وهي القانون الذي يتصور الإنسان أنه يضبط العلاقات بين العناصر المختلفة. وهذا القانون هو الذي يمنح الظاهرة هويتها ويضفي عليها خصوصيتها. ويتم التعرف على البنية من خلال علاقة التعـارض والتشـابه بين العناصر المختلفـة (ويُطلَق عليها «قوانين التركيب»). ولا يهم أصول البنية التاريخية ولا عوامل تكوينها ولا مضمونها ولا فاعليتها الوظيفية، فهذه عناصر يجب تعليقها (وضعها بين قوسين) للتوصل إلى البنية المجردة.

ولكن ما علاقة البنية بالإنسان الفرد؟ تبدأ المنظومة البنيوية في الانتقال التدريجي من تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة (أو الكل) إلى إعلان المساواة والتسوية بينهما. ولإنجاز ذلك، يلجأ البنيويون إلى الحل الحلولي الكموني التقليدي، وهـو الزعم بأن ثمة تماثلاً (بالإنجليزية: هومولوجي homology) بين العقل والواقع، وأن البنية بهذا المعنى متطابقة مع كل من العقل والواقع.والبنية التي تُماثل الواقع كامنة في العقل الإنساني،لا بمعنى عقل الأفراد وإنما العقل الجمعي للإنسانية بأسرها منذ بداية التاريخ حتى الآن،لا فرق في هذا بين العقل البدائي والعقل المتحضر.وهي بنية ثابتة لا تتغيَّر بتغير الزمان أو المكان ولا تتأثر بتغير الأفراد أو المجتمعات أو التحولات التاريخية،وهي لا تعكس الواقع المادي أو مشاعر الفرد أو التاريخ الإنساني وإنما تُعيد إنتاجها كلها حسب أشكالها الثابتة الكامنة.

لكن، كما هو الحال دائماً مع النظم الحلولية، يتساقط هذا التماثل بين الإنساني وغير الإنساني. ويتحرك غير الإنساني إلى المركز ليؤكد أن له الأولوية والأسبقية (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) ومن ثم يتـحرك الإنساني إلى الهامش ويذوي ويختفي ويذوب في الكل اللاإنساني. وبالفعل، نكتشف أن البنية التي قيل إنها كامنة في عقل الإنسان أمر لا شعوري يقع خارج إرادة الإنسان. فالإنسان داخل المنظومة البنيوية ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، هو مجرد مفردة تتشكل منها جُمل لغوية ومنظومات أسطورية. والذات الإنسانية الواعية إن هي إلا جزء من بناء ضخم شامخ يتحرك حسب هواه أو قوانينه، وما الذات سوى حامل ترتكز عليه البنية.

إن المعنى لا يبدأ وينتهي من تجربة الإنسان الفرد الحر الذي يفرض المعنى على الكون أو يجده كامناً فيه. فالمعنى، إن وُجد، هو شيء يحدث للإنسان وللكون. فما يُنتج المعنى في واقع الأمر هو البنية (النظام الدلالي والعلاقات الإنسانية في حالة اللغة، والمنظومة الأسطورية في حالة الأسطورة). وما حديث الأفراد أو قصصهم أو رؤاهم إلا تجلٍّ لهذا النظام وتلك المنظومة. فاللغة والأسطورة ليس لهما بداية في أي وعي خاص، فهما يسبقان وجود العقل البشري، ولذا فهو يُدرك الواقع من خلال اللغة والأسطورة ويقوم بتصنيف الواقع من خلالهما (دون وعي منه). فالإنسان (بمعنى الذات المتفردة) لا يفكر من خلال الأساطير وإنما الأساطير (كبنية مستقلة) هي التي تفكر من خلاله، وهو لا يتحدث من خلال اللغة وإنما تتحدث اللغة من خلاله، وهي تحرك الإنسان أينما كان وتتبدَّى في كل رسائله (رغم أنفه) وفي أي موضوع ينتجه.

وذكر ليفي شتراوس أكثر من مرة أن العقل البشري ما هو إلا تعبير عن منطق صارم وحتمي وأن فكرة الإبداع إن هي إلا وهم. كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن الذات لم تَعُد ذاتية وأن الواقع لم يَعُد موضوعياً، وأن التفسير ليس ثمرة تفاعل الذات والموضوع، فثمة أسبقية للأداة (اللغة ـ الأسطورة) على الغاية (التواصل الإنساني ـ التفسير). وثمة أسبقية مطلقة للبنية وللعلاقات البنيوية على الوعي الإنساني والذوات الفردية، تماماً كما تفترض المادية القديمة أسبقية المادة على الوعي الإنساني. ولكن المادية الجديدة تضيف أن هذا المطلق الجديد له أسبقية على الواقع الموضوعي ذاته.

لكل هذا، يركز البحث البنيوي لا على السمات الخاصة المتعينة للظاهرة الإنسانية أو الأهداف والدوافع الإنسانية، ولا حتى على العلاقات المادية التي تحقق الترابط بين عناصر البنية، وإنما يركز على النسق العقلي الذي يزودنا بتفسير البنية وتحولاتها. ولكن هذا النسق العقلي هو في واقع الأمر نتاج بنية أولية قَبْلية تتجاوزه وتتجاوز كل التفاصيل الإنسانية والمادية. ولذا، فإن علم الأنثروبولوجيا بالنسبة لكلود ليفي شتراوس هو علم العلاقات المنطقية بين الظواهر الاجتماعية أو هو علم دراسة البنية الكامنة والعلاقات البنيوية المختلفة. ومهمة عالم الأنثروبولوجيا هي تحويل الكامن إلى ظاهر والأسرار إلى قواعد منطقية عامة ثابتة، وبذلك تتضح العلاقات البنيوية الكامنة في مختلف الأنساق الاجتماعية.

في هذا الإطار، يحاول ليفي شتراوس أن يثبت أن كل أساطير العالم (وأساطير الأمريكتين بصفة خاصة) إن هي إلا تعبير عن حكمة خفية وما هي إلا أسطورة واحدة في النهاية (على حد تعبيره). وحاول ليفي شتراوس إنجاز ذلك من خلال نسق تحليلي منطقي صارم يتم فيه تحويل رموز الأساطير واستبدال بعضها بالبعض الآخر من خلال مجموعة معادلات رمزية وجبرية. والأساطير في تصوره تتبع قانوناً عاماً ولذا فهي تقبل التحول إلى معادلات جبرية لأنها بنى اختزالية بسيطة، ولكن الأساطير هي أيضاً المنطق الخفي في كل الحضـارات. فهـي بمنزلة اللوجـوس الذي يمنح المجتمع تماسكه ومعقوليته، ولكنه لوجوس علماني ليس له غرض نهائي، فهو لوجوس بلا تيلوس، مطلق بلا غاية، وميتافيزيقا بلا مسئولية أخلاقية (مثل روايات الخيال العلمي).


ويمكن القول بأن البنية تشبه من بعض النواحي المُثُل الأفلاطونية المستقلة عن الظواهر التي تتبدَّى من خلالها وعن الأفراد الذين يعبِّرون عنها، وإن كانت المُثُل الأفلاطونية، رغم استقلالها عن الإنسان وتجاوزها له، تترك له مجالاً كبيراً لحرية الاختيار وفعل الخير والشر، ولذا فهي في واقع الأمر تشبه فكرة العقل الأول في الأفلاطونية المحدثة الذي تصدر عنه كل العقول الأخرى داخل سلسلة صارمة لا تسمح بحرية الاختيار، وتشبه نَفَس العالم (أنيموس موندي) عند الرواقيين، كما تشبه الروح المطلقة (جايست) عند هيجل. وهي لا تختلف كثيراً عن وثبة الحياة (بالفرنسية: إيلان فيتال elan vital) عند برجسون، أو الايدوس عند هوسرل، أو عالم الحياة عند هوسرل وهايدجر وهابرماس (بالألمانية: ليبنزفلت Lebenswelt)، وقوة الحياة عند كثير من الفلاسفة الحيويين (بالإنجليزية: لايف فورس life force)، وهي قوة تتجاوز الذات والموضوع وإن كانا يحققان اتحادهما من خلالها، وهي مقولة غيبية ميتافيزيقية رغم كل ادعـاءاتها المادية ترتدي مسـوح العقلانية والموضوعية. ولكنها، في واقع الأمر، ليست بعقلانية ولا موضوعية، فهي غير قابلة للقياس أو الرصد أو الفحص أو الملاحظة، ولا يمكن إدراكها بالحواس الخمس. وهذه المقولة هي إفراز الرؤية العضوية الداروينية والنيتشوية للواقع، وهي المعادل الموضوعي (في عصر المادية الجديدة) لفكرة قوانين الحركة المادية (في عصر المادية القديمة).

ويُفرِّق البنيويون بين التعاقب (بالإنجليزية: دياكرونيك diachronic) والتزامن (بالإنجليزية: سينكرونيك synchronic) ويرون أن البنية خالية من الزمان (ومن هنا معارضتهم النزعة التاريخية والتاريخانية). بل يمكن القول بأن البنية المُثلى هي البنية المجردة تماماً من الزمان، أي البنية الرياضية (فصدق المعادلات الرياضية لا ينبع من أنها متسقة مع واقع خارج عنها وإنما من اتساقها مع نفسها). ويتضح الانتقال من الإنساني إلى اللاإنساني في التحليل البنيوي، فرغم أنه يهدف إلى اكتشاف بنية العقل الإنساني عن طريق تحليل نواتج هذا العقل من أساطير ونظم اجتماعية ولغة وطقوس، إلا أنه لا ينتهي في عالم الإنسان وإنما ينتهي في عالم الأرقام والأشكال الهندسية ومعادلات السالب والموجب. فالتحليل البنيوي يأخذ شكل تصاعُد عمليات التجريد، وتعليق متصاعد للمضامين الفردية والإنسانية، واختزال التفاصيل المتعينة وتصفية الثنائيات، بهدف التبسيط من أجل الوصول إلى مقولة أساسية وبناء أساسي كامن وراء كل الأنساق. ويمكن تصوير البنية باعتبارها ذات طابع هرمي، ويسود القانون نفسه الذي يضبط العلاقة بين العناصر على كل المستويات من قاعدة الهرم إلى أن نصل إلى قمته حيث نجد أن المبدأ البنيوي هو أعلى درجات التجريد؛ مبدأ لا يعرف المكان ولا الزمان، ولا الضحك ولا البكاء، ولا الإنسان ولا التاريخ.

وإذا طبقنا هذا على المفردات المختلفة للحضارة الواحدة (من طعام وطقوس وعادات) فإننا سنكتشف من خلال عملية تجريد متصاعدة أن ثمة لغة كلية واحدة تضمها جميعاً، ويمكننا فهم بنية هذه الحضارة من خلال فك شفرة هذه اللغة. ولكن ثمة تصاعداً لمعدلات التجريد وتعليقاً متزايداً للمضامين الفردية المتعيِّنة للحضارات المختلفة يكشفان لنا أن ثمة لغة كلية شاملة تضم كل لغات الحضارات المختلفة وأن ثمة تماثلاً بنيوياً بين لغات الحضارات المختلفة وأنها في واقع الأمر لغة واحدة.

وتستمر معدلات التجريد بلا هوادة وبكل صرامة إلى أن نصل إلى الثنائيات البسيطة المتعارضة (التي تُختَزل هي نفسها أحياناً) لنصل إلى بنية البنى وأسطورة الأساطير ونموذج النماذج، أي عالم الواحدية. وعلى حد قول ليفي شتراوس، فإنه « إن كان ثمة قانون في أي مكان، فإن القانون موجود في كل مكان »، وكذلك فهو موجود في كل شيء ويتجاوز كل شيء (الإنسان والطبيعة)، ويتحقق في كل المجتمعات بشكل جزئي رغم وجوده الكلي. وهو قانون يمكن ترجمته رياضياً ويشبه المعادلات الرياضية في تجريديته واختزاليته.

وعبَّر ليفي شتراوس عن رغبته في أن يتوصل إلى جدول يشبه جدول مندليف لتصنيف المواد، وهو الجدول الذي تم عن طريقه التنبؤ بوجود مواد في الطبيعة لم تكن معروفة للعلماء، ثم تم اكتشافها فيما بعد. كما يحاول كثير من البنيويين أن يصلوا إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تغطي كل التحولات والتجمعات: الفعلية والممكنة في الماضي والحاضر والمستقبل.

ويمكننا أن نرى هنا كيف أن التحليل البنيوي، رغم كل هذا الحديث عن العقل الإنساني، يعيش في ظلال العلوم الطبيعية والرياضية، ومن هنا الرغبة العارمة في تصفية الخصوصية والفردية، ومن هنا العداء للنزعة التاريخية والنزعة الإنسـانية وكل ما يمت بصلة لعالم الإنسان الفرد، ومن هنا الرغبة في الوصول إلى درجة عالية من اليقينـية لا يمكنها أن تتحقق إلا في المنظومات الرياضية والقوانين العلمية.

ويثير دعاة الاتجاه الإنساني الهيوماني التاريخي الاعتراضات التالية على البنيوية:

1 ـ التحليل البنيوي يتجاهل كلاًّ من الواقع المادي والإنسان الفرد ويعلقهما (كما يفعل الفينومينولوجيون مع الواقع) ويَردُّ كل شيء إلى مبـدأ واحد لا هو موضـوعي ولا هو ذاتي، لا هو مادي ولا هو عقلي، فالبنيوية من ثم شكل من أشكال التفكيك والتقويض الجذري الذي يهدف إلى إلغاء الذات الفردية (أو على الأقل إزاحتها عن مركز الكون) وفي تعليق الموضوع المباشر (المضمون الحقيقي). وبالفعل، نجد أن فوكو (البنيوي التفكيكي) يتنبأ باختفاء ظاهرة الإنسان كليةً، لأنها ظاهرة غير ذات بال، بل إنها نوع من أنواع التصدع في النسق الكوني الطبيعي. وهو أيضاً يُهاجم سارتر لأنه يُدافع عن الواقع الإنساني التاريخي. ويتحدث ألتوسير عن تاريخ يتحرك دون ذات تاريخية فاعلة، تاريخ كله مبني للمجهول إن أردنا استخدام مُصطلَح بنيوي.

2 ـ تدور البنيوية في إطار نموذج واحدي تطبقه تطبيقاً شاملاً على كل شيء، ولذا فهي مذهب أحادي تبسيطي (بل وإرهابي على حد قول أحد النقاد الإنسانيين الهيومانيين).

3 ـ النموذج البنيوي مستمد من أصل علمي (لغوي ـ رياضي) ويميل نحو التجريد المخل الذي يُسقط التجربة الإنسانية المتعيِّنة كما يهتم بشكل متطرف بقواعد البنية دون مضمونها.ومن هنا،فإن البنيوية تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية،ولا يهتم بالرؤية الكلية، مجتمع سيطر عليه تماماً العقل الأداتي والترشيد الإجرائي والالتزام بالقواعد دون الهدف والغاية. والبنيوية لا تهتم بالتغيير الذي يتطلب إدراك مثل هذه الرؤية الكلية (ويرى ليفي شتراوس أن سارتر وأمثاله من فلاسفة التجربة المعاشة يُصعِّدون مشاغلهم الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية القائمة، أي أنهم يعودون إلى مرحلة ما قبل العلمية ويتناسون العلم بتجريداته ونماذجه الشكلية).

4 ـ البنيوية (خاصةً عند ليفي شتراوس) فلسفة معادية للتاريخ تَغرق في تجريدات شكلية تنصب على حضارات بدائية يصفها ليفي شتراوس بوصفها «خارج التاريخ» (كما يشير ليفي شتراوس إلى المجتمعات الميدانية بأنها مجتمعات باردة مقابل المجتمعات التاريخية المعاصرة الساخنة). ولذا، فإن البنيوية لا تفهم الانتقال التاريخي ولا حركة التاريخ، فهي تتعامل مع التاريخ المُجمَد (ويرد ليفي شتراوس على هذا بأن الوجودية لا تفهم التاريخ بتركيزها على المسـتقبل، كما أنها أيديولوجيـا متمركزة حول الذات وحول الحاضـر، ولذا فإن التاريخ بالنسبة لها ليس الماضي بكل تركيبيته وإنما هو ما يؤدي إلى الحاضر، ولذا فهي لا تفهم الماضي وتغض نظرها عن أشكال أساسية في التجربة الإنسانية مثل الطقوس والأساطير(.

ويثير أنصار ما بعد الحداثة بعض التحفظات بشأن البنيوية ومفهوم البنية. ولابد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة ذات دلالة عميقة من وجهة نظرنا، وهي أنه، بينما يتهم الوجوديون البنيوية بأنها معادية للإنسان، يتهمها أنصار ما بعد الحداثة بأنها مثل الوجودية متمركزة حول الإنسان. ونحن نذهب إلى أن التناقض الظاهري يدل على تصاعد معدلات العداء للإنسان والحلولية الكمونية في الفلسفة الغربية، فما كان معادياً للإنسان، متطرفاً في عدائه، في الخمسينيات والستينيات، أصبح هو ذاته متمركزاً حول الإنسان، متطرفاً في تمركزه في الثمانينيات.

ويمكن إيجاز تحفظات أنصار ما بعد الحداثة فيما يلي:

1 ـ البنية، رغم ادعاءات البنيويين عن ماديتهم، ليس لها وجود مادي وإنما هي كامنة في العقل الجمعي للإنسان وفي بنية هذا العقل ذاته، أي أنها تشبه إلى حدٍّ ما مقولات كانط الأولية القبَلْية المستقلة المفطورة في عقل الإنسان، فالبنى برامج تُماثل بناء عقل الإنسان، وثمة إمكانية تَواصُل من خلال العقل الإنساني والأساطير ذاتها تُماثل بناء عقل الإنسان. فالبنية، من ثم، لها وجود ميتافيزيقي سابق على الواقع المادي.

2 ـ رغم كل ادعاءات البنيويين عن اختفاء الموضوع الإنساني تماماً، إلا أنه يعاود الظهور وبحدة في كتابات البنيويين. بل إن المشروع البنيوي بأسره محاولة لتطوير مفهوم الإنسان وتأكيد لمقدرة البشر على الترميز والتواصل، بينما تحاول ما بعد الحداثة التحرر تماماً من مفهوم الإنسان ومركزيته.

3 ـ تحاول البنيوية أن تنفي الأصول الربانية أو حتى الإنسانية للإنسان بأن تجعل البنية (بديل المادة) هي الأصل. ولكن البنية (مثل المادة في الفلسفات المادية القديمة) تتسم بشيء من الثبات، ولذا فهي ميتافيزيقا مادية.

4 ـ البنية، حسب تصور البنيويين، لها قانون واللغة والأسطورة والنصوص الأدبية والأعمال الفنية (مهما بلغت من تجريد) تخبر عن الواقع، أي أن الدال له علاقة أكيدة بالمدلول، وهو ما يشي بإيمان بالثبـات.

5 ـ وجود البنية يشير إلى وجود مركز وهامش وحقيقة كلية تتجاوز الأجزاء وكذلك أجزاء خاضعة للكل. والحقيقة الكلية تتسم بالثبات وبالاستقلال عن الطبيعة/المادة وتشير إلى وجود جوهر ثابت لا يتغيَّر بتغير الأجزاء، أي أنها شكل من أشكال الميتافيزيقا.

6 ـ تسقط البنيوية بسبب هذا كله في الثنائيات المتعارضة، وتحتفظ بالثنائية باعتبارهـا طبيعية وحتمية وذات دلالة. ومن هذه الثنائيات ما يلـي: جسد/عقل ـ داخل/خارج ـ كتابة/قراءة ـ حضور/غياب ـ مكان/زمان ـ حرفي/مجازي ـ ذكر/أنثى. وافتراض مثل هذه الثنائيات يعني تجاوز الصيرورة وعالم الحس المادي المباشر.

7 ـ من أهم الثنائيات المتعارضة في البنيوية ثنائية الطبيعة/الحضارة. فقد حدَّد شتراوس هدفه بأنه الوصول إلى طبيعة الذهن البشري الأساسية، وهو ما يوحي بأن لهذا تركيباً طبيعياً ثابتاً. لكن هذا التركيب الطبيعي ليس مصدره الطبيعة/المادة وإنما النظم الثقافية (اللاطبيعية ومن ثم اللامـادية). فطبيعة الإنسـان مرتبطة بخروجـه عـن الطبيعة (المادة). فالمبادئ الكلية للذهن البشري بوجه عام ليست كامنة في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه الإنسان، وإنما هي مبادئ اهتدى إليها الإنسان في ذلك التنظيم الثقافي الذي يتحكم به في حياته والذي يُعبِّر مباشرةً عما هو أساسي في طريقة تفكيره.

والشائع في النظريات المادية هو النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على أنها الأصل وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، لكن ليفي شتراوس يقلب الآية ويرى الثقافة أصلاً والطبيعة )في حالة الإنسان بالذات) مشتقة منها. وإذا كان من الشائع أيضاً وصف الطبيعة الخام بأنها ثابتة والثقافة بأنها نسبية متغيِّرة، فإن ليفي شتراوس يؤكد أن الثقافة هي العنصر الثابت في تكوين الإنسان ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته، فالإنسان يصنع طبيعته عن طريق ثقافته. فمنذ اللحظة التي يُحظَر فيها زواج المحارم، يظهر عنصر ثقافي في المجتمع الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي، والقانون) يشكل الطبيعة متمثلة في غريزة الجنس ويتحكم فيها. ففي هذا الحظر وذلك التحريم، تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين بناء جديد يحل فيه التنظيم المعقد المميِّز للإنسان محل العفوية والعشوائية المبسطة التي تميز بناء الحياة الحيوانية (فؤاد زكريا(.

كل هذا يعني أن ثنائية الثقافة والطبيعة تحل مشكلة أصل الإنسان بطريقة غير مادية وتشير إلى أصل الإنسان الرباني بشكل حييّ متعثر. كما يعني ذلك ببساطة أن البنية تفلت من قبضة الصيرورة وتتسم بقدر من الثبات والتجاوز والمعنى، وأنها لا تزال متمركزة حول اللوجوس والتيلوس، وأن البنيوية متمركزة حول الإنسان ككائن ثابت متجاوز لعالم الطبيعة/المادة. وكل هذا يشير إلى عالم وراء عالم الصيرورة والواحدية المادية، أي أن البنيوية لاتزال ملوثة بالميتافيزيقا (حسبما يقول أنصار ما بعد الحداثة). وفي الإطار الحلولي الكموني الواحدي، فإن هذا يمثل فضيحة لا يمكن قبولها، فهذا يعني أن الإله لا يزال يُلقي بظلاله على العالم رغم أن الإنسان قد أعلن موته، ومن ثم ظهرت ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة لتحقيق المشروع النيتشوي لا لقتل الإله وحسب وإنما لإزاحة ما يُحتمل أن يكون قد تركه من ظلال على الطبيعة والإنسان ولتطوير نظام حلولي كموني لا يفلت أي عنصر فيه من دوامة الصيرورة اللامتناهية ولا يطفو فوق سطح المادة. وهكذا، فإن ما كان جنينياً متعثراً في البنيوية، يصبح واضحاً متبلوراً في ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.

ويمكننا الآن أن نتوجه إلى يهودية ليفي شتراوس. وقد أرجع هو نفسه أصول فكره ومنهجه إلى ثلاثة مصادر )اليهودية ليست أحدها: (

1 ـ الماركسية التي استمد منها فكرة الجدل ووحدة الأضداد وكذلك فكرة البناء الأساسي أو الركيزة النهائية.

2 ـ التحليل النفسي الفرويدي الذي استمد منه فكرة اللاشعور والرمز وعملية التحويل.

3 ـ علم الجيولوجيا الذي وجد فيه الأفكار المتناثرة المتصلة بالتراتبية والطبقات وصولاً إلى القلب النهائي أو ما أسماه أحياناً «أسطورة الأساطير».

وقد حاول إدموند ليش، وهو من أتباع ليفي شتراوس، تطبيق طريقته في التحليل الأسطوري على اليهودية. ولكن ليفي شتراوس نفسه أبدى عدم اهتمامه بالديانات ككل إلا من حيث اعتبارها نصوصاً إثنوجرافية. وهو يطرح مقابل الفكر الديني نسقه العقلاني المادي الصارم الخالص.

ورغم كل هذه العقلانية الظاهرة، يرى البعض أن المقولات (الدينية والإثنية) اليهودية تركت أثرها الواضح في مقولات ليفي شتراوس التحليلية العلمية:

1 ـ يذهب ليفي شتراوس، شأنه شأن البنيويين، إلى أن البنية أهم من الذات وأن القوة البنيوية (التي تأخذ شكل أسطورة الأساطير وقواعد اللغة... إلخ) لها أسبقية على المجتمع. ولكن البنية ليست شيئاً خارجياً وإنما هي مستقرة في الذات الجمعية. والبنية الكامنة في الذات الجمعية لا تختلف كثيراً عن تصور أسفار موسى الخمسة للإله، فهو إله متجاوز للواقع المادي وللأفراد ولكنه حالّ في الشعب بأسره وفي العقل الجمعي اليسرائيلي. وهو الذي يوجهه ويوجه تاريخه، تماماً كما تفعل البنية عند البنيويين والماديين الجدد.

2 ـ يرى بعض الدارسين أن مقولة الثنائيات المتعارضة تعود إلى التعارض الثنائي الذي يعيشه كل يهودي، أي ثنائية اليهود/الأغيار.

3 ـ يبدو أن الثنائية في حالة ليفي شتراوس كانت أكثر عمقاً، فهو يهودي/غير يهودي؛ بلجيكي/فرنسي؛ إثنولوجي/عالم؛ جندي في الجيش الفرنسي/أجنبي دائم. وهناك أخيراً ثنائية الأنثروبولوجي مقابل « العالم المتحضر » و » المتقدم.«

4 ـ يرى البعض أن اشتغال ليفي شتراوس بالأنثروبولوجيا هو في ذاته تعبير عن يهوديته، فالأنثروبولوجي يشبه اليهودي التائه أو المتجول، وهو شخص يوجد في كل المجتمعات ولا يضرب بجذوره في أيٍّ منها، فهو في كل مكان ولا مكان، الغريب الدائم، المغترب عن كل الأوطان.

5 ـ الأنثروبولوجي هو شخص يترك عالَم الحضارة المتقدمة المستقرة ليذهب إلى عالم الحضارة البدائي ويحوِّل هذا العالَم إلى معياريته الكامنة ويحكم من خلالها على العالم المتحضر. فكأن الأنثربولوجي يُعلن ولاءه للبدائي على حساب الحضاري وللهامشي على حساب المركزي. ولذا، فالأنثروبولوجي عنصر من عناصر التفكيك والتقويض في العالم، فهو من دعاة الاستنارة المظلمة والهرمنيوطيقا المهرطقة، واليهودي لا يختلف كثيراً عن ذلك، فهو أيضاً عنصر تفكيك وتقويض في مجتمع الأغيار الذي أخرجه من وطنه وشتته وأحل آخرين محله وجعله عنصراً بلا جذور، ولذا فنشاطه التفكيكي وإنكاره المركز ودعوته للتشتيت ورغبته في زعزعة الثقافة الغربية (المسيحية) المستقرة تعبير عن رغبته الدفينة في الانتقام من الحضارة المسيحية.

ورغم وجاهة كل هذه العناصر، إلا أنها في واقع الأمر ليست مقصورة على اليهودي. فالاغتراب والتشتت صفة أساسية لمعظم المثقفين في العصر الحديث بعد انحسار الإيمان الديني واليقين العلمي. ويعيش معظم المثقفين في ثنائيات حادة لعل أهمها أنهم يعيشون في عالم مادي متحرك ينكر المركز والقيمة ومع هذا يظل طموحهم الإنساني الفطـري لمركز وعـالم تحكمـه القيم الإنسانية. ولذا فـلا توجد خصوصية « يهودية » في هذا المضمار.

وفكرة الذات الجمعية التي تكمن فيها البنية فكرة أساسية في الحضارة الغربية، قد يكون العهد القديم أحد مصادرها. ولكن العهد القديم نفسه ليس مقصوراً على اليهود، فهو كتاب مقدَّس لدى كل من اليهود والمسيحيين ومكوِّن أساسي في الحضارة الغربية ككل. ومهما كان الأمر، فإن فكرة الذات الجمعية التي تحوي داخلها ما يحركها ويكفي لتفسيرها فكرة محورية في الحضارة الغربية الحديثة وقد عبَّرت عن نفسها في مفهوم الشعب العضوي وفي النظرية العنصرية والإمبريالية ككل، ولذا لا يمكن اعتبارها فكرة « يهودية».

ونحن نرى أن نموذج الحلولية الكمونية ذو مقدرة تفسيرية أعلى في هذا المثال. ويمكن وصف فلسفة ليفي شتراوس (والبنيوية ككل) بأنها شكل من أشكال وحدة الوجود المادية. وهذه الحلولية الشاملة، والتي تسم أيضاً الأنساق الفلسفية عند كلٍّ من إسبينوزا وهيجل وماركس (ومعظم الأنساق الفلسفية العلمانية)، نزعة عامة في الحضارة الغربية الحديثة، ولا يمكن تفسيرها بردها إلى يهودية ليفي شتراوس. ولعل انتماءه اليهودي (أو بقايا هذا الانتماء) يُفسِّر حدة الحلولية وصرامتها، ولكنه لا يُفسِّر بأية حال مركزيتها في فكره، فهذا أمر ليس مقصوراً عليه (هو اليهودي!) وإنما سمة عامة يشاركه فيها معظم المفكرين الغربيين العلمانيين.

  • الاربعاء PM 12:04
    2021-04-07
  • 3977
Powered by: GateGold