المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415012
يتصفح الموقع حاليا : 232

البحث

البحث

عرض المادة

هنري برجسون (1859-1941) واللاعقلانية المادية

Henri Bergson and Materialist Irrationalism
أحد أهم الفلاسفة الفرنسيين في مطلع القرن العشرين. وُلد في باريس في 8 أكتوبر 1859. وكان أبوه موسيقياً مشهوراً وسليل أسرة يهودية ثرية هي أسرة «أبناء بيريك» أو «بركسون» التي اشتُق منها اسم «برجسون» بعد أن اندمجت الأسرة في المجتمع الفرنسي (وتغيير الاسم حتى يفقد ملمحه اليهودي أمر مألوف بين أعضاء الجماعات اليهودية). كانت أم برجسون من أصل إنجليزي يهودي، ولكنها كانت هي الأخرى مندمجة في مجتمعها. ولذا، فقد تلقَّى برجسون تعليماً فرنسياً علمانياً، وأظهر نبوغاً في الدراسات الكلاسيكية والرياضيات معاً. دخل برجسون مدرسة المعلمين العليا الشهيرة عام 1878، وتجنَّس بالجنسية الفرنسية عام 1880 عندما بلغ سن الرشد. وفي عام 1881، حصل على الليسانس في الرياضيات والآداب معاً، ثم حصل على درجة الأجريجاسيون في الفلسفة عام 1881. وإذا كان تعليم برجسون فرنسياً، فإن حياته المهنية كانت كذلك أيضاً؛ فقد عُيِّن أستاذاً بالكوليج دي فرانس عام 1900، وانتُخب عضواً بأكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية عام 1901، ثم عُيِّن بالأكاديمية الفرنسية، وحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1908. ومن أشهر مؤلفاته التطور الخلاق (1907)، و منبعا الأخلاق والدين (1932).


ويمكن توصيف عالَم برجسون بأنه مثل معظم الأيديولوجيات العلمانية يحاول أن يرد العالم بأسره إلى مبدأ واحد، وهو في حالته مبدأ التطور الدارويني، ولكنه يبذل محاولة لتهذيبه (لا لتغيير جوهره). وعالَم داروين عالَم حلقاته متصلة صلبة، كل عنصر فيه يؤدي إلى ما بعده، وتتطور الكائنات في إطاره حسب قوانين برانية صارمة تنضوي تحت رايتها كل الأشياء، فهو عالم لا ثغرات فيه؛ مطلق مصمت ميت.

وعلى طريقة مفكري عصر ما بعد الاستنارة والصورة المجازية العضوية للكون، أي شأنه شأن نيتشه ووليام جيمس، يحاول برجسون أن يُحيي هذا العالم الميت المغلق بأن يجعله كياناً تطورياً عضوياً مُفعَماً بالحياة التي تنبعث من داخله وتحركه وهي سبب نموه. فهذه طبيعة الأنساق الفكرية العلمانية حيث يتحوَّل المطلق إلى مبدأ حالٍّ في المادة، كامن فيها، ولا يمكنه أن يظهر إلا بأن يتجسد من خلالها. فيصبح الكون عالمَاً تطورياً حيوياً سائلاً حلقاته متصلة، لا ثغرات فيه ولا يستطيع أحد أن ينفلت من قوانينه وحركة نموه. ويمكن القول بأن كل فلسفة برجسون هي محاولة يائسة لإحياء عالم ميت وتأكيد للحرية في عالم السببية المادية الصلب.

ينطلق برجسون من مفهوم أساسي في كل من الحضارة والفلسفة الغربية وهو مفهوم الشيء، فالشيء هو مقولة نظرية وصل إليها المنظّرون من خلال عملية تجريد طويلة. وفُرضت هذه المقولة على العالَم الذي تم النظر إليه باعتباره مجموعة أشياء محددة صلبة، فالفلسفة الغربية ترى أن العالم هو أساساً شبكة من الجواهر المرتبطة بعضها بالبعض بطرق مختلفة، وهذا هو منطق الأشياء الصلبة، منطق عصر العقل والاستنارة وعالم نيوتن الآلي الصلب. لكن ثمة منطقاً آخر وعالمَاً آخر يتسم بالسيولة والتماوج والتمازج هو عالَم ما بعد الاستنارة، عالَم الصورة المجازية العضوية للكون. ويمكن القول بأن ثمة ثنائية صلبة تجري في كل أعمال برجسون تشبه الثنائية التي تسم منظومة نيتشه، مع فارق أن نيتشه يهتم بجانب واحد في الثنائية. أما برجسون، شأنه شأن وليام جيمس، فإنه يهتم بكليهما ويقننهما. كما أن برجسون أحل الحدس محل القوة كوسيلة لتجاوز الواقع المادي. ويمكن أن نورد بعض الثنائيات المتعارضة في منظومة برجسون: العقل/الحدس ـ التحليل/الإدراك المباشر ـ العلم المجرد/العالَم المتعيِّن ـ الامتداد المكاني/الامتداد (أو التمازج) الزماني ـ الكمي/الكيفي ـ الصلب/السائل ـ الموجود/الصائر ـ المتقطع/المستمر ـ البرجماتي (وهو العملي القادر على التعامل مع البراني)/ الصوفي (وهو الذي يستخدم الحدس فيتعامل مع الإنسان والأزلية ويصل إلى الجوهر الجواني للأشياء) ـ مجتمع مغلق/مجتمع مفتوح ـ الامتثال للقوانين والأعراف/تجاوز القوانين والأعراف ـ قانون الضرورة البراني للبشر العاديين/قانون الحدس الجواني للنخبة (الأبطال والمتفوقون).

والطرف الأول في الثنائية يمثل الجانب العقلي لعالَم الاستنارة الجاف الذي تهيمن عليه صورة مجازية آلية، وهو المجال الخاضع للقياس ولتقييم العقل وقوانين الواقع، أما الطرف الثاني فيمثل عصر معاداة الاستنارة والذي يتمركز حول صورة مجازية عضوية، فهو عالَم الديمومة، عالم مُفعَم بوثبة الحياة الكامنة في المادة، العالَم العضوي الحلولي الذي يتسم بالسيولة والحركية.

وتدور أعمال برجسون حول هذه الثنائية الصلبة وحول تحيُّزه للطرف الثاني في الثنائية (شأنه شأن كل الفلسفات الحيوية). ولعل أهم المفاهيم الفلسفية التي نظر إليها برجسون من منظور هذه الثنائية هو مفهوم الزمن، فالإنسان الغربي الذي اعتبر الشيء كياناً صلباً حينما نظر إلى الزمن اعتبره خطاً مستقيماً. وهذا هو جوهر الرؤية العلمية للزمن التي تثبت العالم كمقولات جامدة: الحاضر هنا ـ الماضي خلفنا ـ المستقبل أمامنا. إنها رؤية مكانية للزمن تنظر للزمن باعتباره امتداداً للمكان، وهي رؤية جامدة تؤدي إلى الحتمية. فنحن هنا وجئنا من هناك في السابق وسنتقدم إلى هناك في المستقبل، ولكن الزمن الحقيقي (الديمومة) هو امتزاج الماضي بالحاضر بالمستقبل، وهو ليس مجرد خط مستقيم يمتد بشكل رتيب من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. ويرى برجسون أن كثيراً من البشر يفشلون في التمييز بين الزمن الحي المُعاش، كتجربة فريدة حية يدركها الحدس، والزمن كمكان جامد يعيه العقل؛ كمٌّ يقاس بالساعة وهو الزمن الموضوعي الآلي (الشيئي) الذي يستخدمه العلم. ويذهب برجسون إلى أن معظم البشر يخلطون بين الامتداد الزماني (أو الحيز الزماني) والامتداد المكاني، وبين الكيف والكم، وبين التزامن والتعاقب.

ويذهب برجسون إلى أن العنصر الحيوي في الامتداد الزمني المتدفق هو وحده الذي يتخلل كل الوجود الحقيقي، فالزمن يُلغي الوعي العقلي الجامد. ومن هنا، فإن عنصر الامتداد (الحيز) الزمني يمكن تعريفه باعتباره التغيُّر المستمر الذي يحدث في الزمن، وهو تغيُّر لا ينبع من أية قوى متجاوزة للزمن وإنما ينبع من طاقة داخلية موجودة في أجزاء الوجود (مهما تنوعت أشكالها)؛ قوة كامنة متشابهة في الجميع: هي الحياة. وهذه الحياة الحالَّة في كل شيء تخلق فيما تحل فيه ميلاً خاصاً وتوجيهاً معيناً يؤثران في كل جزئية من جزئياته: وهكذا يظل الجسم المادي يتشكل ويتغير حسب ذلك التوجيه الذي تمليه تلك الحياة الدافعة الكامنة فيه، ويسميها برجسون «الوثبة الحيوية» (بالفرنسية: إيلان فيتال elan vital) التي تنبع من مصدر لا متناه يوجد داخل الكون ذاته.

واستمرار هذه الوثبة الحيوية وتعبيرها المستمر عن نفسها من خلال الزمان هو العنصر الأساسي في الكون. وينتج عن هذا أن ما يكوِّن الوعي هو الذاكرة، فالذاكرة هي التي تستوعب الامتداد الزمني لأنها تراكم لكل إنجازات الماضي وتستدعي الصور الذهنية التي مرت بنا في التجـارب الماضـية مقرونةً بمـا ســبقها وما تـلاها، فتتمكن بـذلك من الحكم على المواقف المشـابهة التي قد تعرض لنا حكماً صادقاً. فالذاكرة، من ثم، علم. لكن للذاكرة فوق هذا عمل آخر. فمن خلالها ينمو الماضي ليصبح الحاضر، ومن خلال الحدس، الذي هو جوهر الذاكرة، يدرك الإنسان جوهره الشخصي باعتباره (هو ذاته) امتداداً زمنياً وحيوياً، وكذلك يدرك الامتداد الزماني المبدع الذي هو الحقيقة المطلقة. وبواسطة الذاكرة يمكن أن يستوعب الخلود بأسره في لحظة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الصيرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة، فهي من ثم تحوِّل الإنسان من آلة صماء في يد القوانين المادية ليصبح كائناً مدركاً حرّ الإرادة قادراً على الاختيار.

ولكن برجسون يدور في إطار الواحدية الكونية، أي أنه يرى أن ثمة عنصراً واحداً يُكوِّن العالم بأسره، ولذا فهو يصفي كل الثنائيات. فالكائنات الحية كلها تتصف، في جوهرها، بالصيرورة التي تعني تطور الكائن بانتقاله من مرحلة إلى أخرى وخضوعه لحكم الزمن. والحقيقة الأولى هي الصيرورة لا الوجود، والتغير لا الثبات. وهذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبدع والتي تتلمس الحرية من قيود المادة هي الإله، فالإله والحياة اسمان لمسمَّى واحد. وأغلب الظن أن هذه الحياة الدائمة التخلص من أغلالها وأصفادها ستظفر في آخر الأمر بما تريد، فتتغلب على الموت وتتحقق لها الحرية والخلود (وهي لحظة نهاية التاريخ، والفردوس الأرضي، وتحقُّق الفكرة المطلقة في التاريخ ونهاية الدورة الكونية لتبدأ دورة أخرى).

ومما يجدر ملاحظته أن الوثبة الحيوية في منظومة برجسون تحل محل الإله في كثير من المنظومات الدينية التقليدية. ومن ثم، فإن الإله في فلسفة برجسون كيان متغيِّر متحرك قابل للنمو والتزايد باستمرار. وهو صيرورة كاملة، فهو ليس هنا ولا هناك، وهو ليس موجوداً ولا يتصف بأي كمال من الكمالات التي ننسبها في العادة إلى المبدأ الإلهي، كما أن صفة القدرة المطلقة ليست من صفاته. ولا يوجد هنالك فارق بينه وبين العالم، فالاختلاف بينهما في درجة الشدة والتوتر أو الترقي، كما لا يوجد فارق بين الإله والإنسان. ويمكننا القول بأن مفهوم الإله في فكر برجسون يتأرجح بين فلسفة وحدة الوجود الروحية وفلسفة وحدة الوجود المادية، فهو يُسمِّي المبدأ الواحد الذي يسري في الكون أحياناً «الإله» ويسميه أحياناً «الوثبة الحيوية». ومهما تكن التسمية، فإن العالم بأسره يُردُّ إلى هذا المبدأ الواحد.

فإذا كان الإله صـيرورة وحركة نحـو هدف، فإن الهدف هو الإنسان، فهو النقطة التي تتحقق فيها الوثبة الحيوية (وهذا يشبه من نواحٍ كثيرة مبدأ الإصلاح [تيقون] في القبَّالاه اللوريانية وفي كثير من المنظومات الغنوصية حيث يبلغ الإله كماله ووحدته بل ووجوده من خلال الإنسان، كما أن الكون حين يصل لحظة الكمال يشبه الإنسان). وكل هذا تعبير عن الواحدية الكونية وعن وحدة الوجود بدون إله، ولكنها وحدة وجود فيضية من نوع خاص تجعل الإله الينبوع الحر الخالق الذي تنبعث منه الحياة والمادة على السواء بمقتضى جهد إبداعي يتجلى في تطوُّر الأنواع الحية وظهور الشخوص البشرية. ويظهر الفكر الأخروي لهذه المنظومة في لحظة الكمال النهائية التي ستتحقق داخل الزمان التاريخي وتلغيه في ذات الوقت.

هذه هي ركيزة النسق الأساسية: وثبة حيوية تعبِّر عن نفسها من خلال مادة واحدة، والتاريخ الكلي للبشرية إن هو إلا محاولتها التعبير عن نفسها عبر الزمان. ومادام الزمان هو نسيج الواقع، فإن التطور هو الحقيقة الوحيدة الثابتة. والتطور تسلسل منطقي من الأحداث والصور، وهو تحرك ليس آلياً برانياً مدفوعاً من الخارج وإنما هو حيوي مدفوع من الباطن، من داخل المادة نفسها، والتطور يأخذ شكل تزايد في التركيب فتيـار الحياة، التي تدفعه الوثبـة الحيـوية نبـع في وقت ما وفي نقطة من مكان ما، وانتقل من جسم إلى جسم ومن جيل إلى جيل، ويمضي قدماً نحو أعلى صور الحياة وأرفعها.

ورغم هذه السيولة الكونية، نجد أن برجسون يُقسِّم البشر بصرامة إلى هؤلاء الذين يدركون الزمان كامتداد مكاني وكأنه كادرات فيلم سينمائي يتتابع الواحد تلو الآخر دون حركة أو وصل أو حياة، لا حياة في كل وحدة على حدة، وهم يدركون أنفسهم كتجل صلب في المكان وكوحدة جامدة صلبة باردة، ويستخدمون عقولهم وحسب في إدراك الواقع وتجميده وقتله. لكن هناك أيضاً أولئك الذين ينظرون للزمان باعتباره حيوية متدفقة متموجة، تُولَد وتنمو دائماً وكأنه الشريط السينمائي الذي يُلغي صلابة كل صورة على حدة فيبث فيها الحياة والحركة الدائمة ويربط بين أشتاتها ويكوِّن منها حقيقة واحدة متحركة (والحركة غير قابلة للقسمة، وهي متصلة تأخذ شكل ثبات لا يمكن فصل أولها عن آخرها، وذلك على عكس المسار المكاني فهو قابل للقسمة). وهذا الفريق من البشر يتمتعون بالبصيرة والحدس، ولذا فإنهم يدركون الواقع في كليته وحيويته. وهم يدركون أنفسهم ككيان حركي حي قادر على الوصول إلى جوهر الأشياء.

ونلاحظ هنا أن التقسيم الثنائي الصلب الذي يوجد في فلسفة نيتشه ووليام جيمس: الأقوياء والضعفاء، المنتصرون والمهزومون، الأبطال والعاديون، والمتصوفون الذين يُولِّدون القوانين التي يُحكم بها عليهم، والمتعبدون والخاضعون لقوانين المجتمع. وعامة الناس هم، بطبيعة الحال، الضعفاء الخاضعون المهزومون الذين تسري عليهم القوانين العادية، أما الآخرون فهم نخبة صغيرة، مجموعة محدودة تتحرر من قيود العادة التي تربط الإنسان بالحقائق الاجتماعية والأخلاقية والإدراكية للواقع، لتحلِّق في عالم السيولة، ذلك الجزء الذي تدفعه الوثبة الحيوية بلا توقُّف، فهم قمة الحرية والإبداع.

وقد أدَّت الوثبة الحيوية في مجال الأخلاق إلى ظهور ضربين مختلفين منها يقابلان هذين الاتجاهين المتمايزين، اتجاه الغريزة واتجاه العقل، الأول تناسبه الأخلاق المغلقة، وهي أخلاق الجماعات المغلقة على نفسها التي تشبه من بعض الوجوه مجتمع النحل أو النمل، والثاني تناسبه الأخلاق المفتوحة التي تتجاوز حدود الجماعة، وعليه يتوقف مصير الإنسانية لأنه هو الذي يفتح أمام التطور البشري أفقاً واسعاً لا نهائياً. وتقوم الأخلاق المغلقة على الإلزام الذي يفرض على الجماعة نظاماً من العادات يحقق لها وحدتها ويصون كيانها، بينما الأخلاق المفتوحة تصدر عن نزوع عام تتمثل فيه جاذبية القيم وحب الإنسانية؛ الأولى يسميها برجسون الأخلاق الاجتماعية ومَثَلُها الأعلى تحقيق العدالة والتضامن الاجتماعي، والثانية يسميها الأخلاق الإنسانية ومثلها الأعلى المحبة والكمال الأخلاقي. ولكن الوثبة الحيوية لم تستطع أن تنتج إلا مجتمعات مغلقة بطريقة أو بأخرى، ولذلك فإنها عندما عجزت عن الاستعانة بالنوع بأكمله لم تجد بُداً من أن تستعين ببضع شخصيات ممتازة اتخذت منها أدوات لتحقيق مقاصدها وأغراضها، وهؤلاء هم الأبطال والأنبياء والمصلحون، رموز الوثبة الحيوية ودعاة المحبة والإيثار، وهم الصفوة المختارة التي تُحقِّق للحياة حركتها الصاعدة. ونحن هنا نواجه السوبرمان، الإنسان المتأله (أو تساديك) قمة التطور وتجسيد المطلق في التاريخ والنقطة التي ينغلق عندها النسق فهو مكتف بذاته لا يشير إلى نفسه.

وماذا عن البُعد اليهودي في فلسفة برجسون؟ كان برجسون يذهب إلى أن اليهودية ديانة مغلقة من وحي مجتمع مغلق، وأنها دين ساكن إستاتيكي جامد، أخلاقه مغلقة تحمل الفرد على الإخلاص بشكل غريزي للجماعة. أما الكاثوليكية، في رأيه، فهي ديانة عالمية تتجاوز اليهودية، وهي دين منبعه الحدس لا الغريزة وغايته الاتصال بالوثبة الحيوية التي تكمن وراء شتى مظاهر الوجود. وإذا كانت اليهودية تُعلّم اليهودي التشبث بالحياة، فإن الكاثوليكية تعلم المسيحي الانفصال عن كل شـيء (لا التعلق بأهداب الحياة) وهو شـيء يتسم به المتصوفون وحدهم. والمسيح في نظر برجسون أكبر شخصية صوفية عرفها التاريخ بحيث يمكن القول بأن كل المتصوفة أتباع له. والصوفي المسـيحي يشـعر بأن الحب يستنفد وجوده كله، وهو ليس حب إنسان للإله، ولكنه حب الإنسانية من خلال الإله وبواسطته. ثم يُعرِّف برجسون إله الصوفية بأنه حياة ومحبة تعبر عنهما تلك الوثبة الحيوية التي تَصدُر عنها ديانة المتصوفين، وهم وحدهم الذين يتلقون عن تلك الطاقة الخلاقة التي هي الأصل في رؤاهم وكشوفهم، وعلى عاتقهم تقع مسئولية توجيه الإنسانية إلى حياة مستقرة مليئة بالمحبة والتعاطف.

وإذا ما أردنا أن نحدِّد البُعد اليهودي في فلسفة برجسون، فإننا سنجد أنه أقرب إلى إسبينوزا منه إلى اليهودية الحاخامية. فكلاهما يهاجم جمود اليهودية ولكنه يدور في إطار وحدة الوجود (الروحية والمادية)، وكلاهما يُغيِّب الإله بأن يجعله مجرد قوة دافعة للمادة أو للزمان كامنة فيها تتخلل ثناياها وتضبط

وجودها. ولكن وحدة الوجود ليست سمة من سمات اليهودية وإنما هي أيضاً السمة الأساسية للرؤية العلمانية المتمركزة حول الإنسان أو المادة أو حول الإنسان باعتباره مادة، فكأن فكرة وحدة الوجود هي الإطار الذي ينتظم كلاًّ من اليهودية والعلمانية وكلاًّ من إسبينوزا وبرجسون، وكذلك كل الفلاسفة اليهود وغير اليهود الذين يتحركون في هذا النطاق.

ولعل هذا يساهم في كشف النموذج الكامن وراء كثير من الفلسفات العلمانية الحديثة (بل ووراء حركة الحداثة ككل) فهذه الفلسفات شكل متطور من أشكال وحدة الوجود والرؤية الحلولية، فجميعها فلسفات حيوية، مثل فلسفة برجسون، ترى المطلق في النسبي وترى المثل الأعلى باعتباره شيئاً كامناً في المادة أو في الزمان، وتنظر إلى الواقع من منظور عضوي حسب قوانين عضوية كامنة فيه، وإن وُجدت ثغرة فإن النقيض يحدث على الفور: التبعثر الذري. وهي فلسفات تُحلُّ محل الأخلاق مقولات نفسية مثل القوة والتوازن وتحقيق الذات.

ومما يجدر ذكره أنه رغم إعجاب برجسون الشديد بالكاثوليكية، إلا أنه لم يتخذ الخطوات النهائية للانضمام للكنيسة وقبول التعميد حتى لا يتخـلى عن أولئك الذين سـيقع عليهـم العذاب والاضـطهاد من بني جنسه. وقبل موته بأسابيع، ترك برجسون فراش مرضه ووقف في صف طويل مع أولئك المطالبين بتسجيل أنفسهم كيهود، وذلك حسب مقتضيات القانون الذي أصدرته حكومة فيشي، وقد رفض إعفاءه من هذا الإجراء.

  • الاربعاء AM 11:56
    2021-04-07
  • 1343
Powered by: GateGold