المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 416232
يتصفح الموقع حاليا : 299

البحث

البحث

عرض المادة

قائمـــة شـندلــر

Schindler's List
«قائمة شندلر» واحد من أهم أفلام المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج. والفيلم يستند إلى قصة روائية ومع هذا يأخذ الفيلم شكل الفيلم الوثائقي من أجل صبغ الفيلم بصبغة حقيقية، ولذا يستخدم المخرج أحياناً بعض المشاهد المألوفة لدى الناس من خلال صور الهولوكوست الكثيرة التي نُشرت أكثر من مرة. وبطل الفيلم هو شندلر، وهو صناعي ألماني سوديتي (من الألمان الذين طُردوا بعد الحرب العالمية الثانية من منطقة السوديت في غربي تشيكوسلوفاكيا). وهو إنسان غير مكترث بالسياسة متمركز حول ذاته مهتم بجمع المال وإنفاقه. ذهب إلى بولندا في بداية الحرب كي يُحقق الربح ويُمتع نفسه. وفي هذا الإطار يعقد صفقة مع النازيين يتم بمقتضاها تزويده ببعض العمال اليهود من معسكرات الاعتقال والإبادة لتشغيل مصنعه الذي ينتج أواني تساعد ألمانيا في جهودها العسكرية. ورغم أن أهداف شندلر المبدئية نفعية مادية دنيئة، خالية تماماً من المثاليات، إلا أن إنسانيته تهزمه تدريجياً ويبدأ في التعاون مع اليهود ويُضحي بثروته من أجلهم إذ يقوم بتقديم الرشاوي لكبار الضباط النازيين كي يضمن بقاء اليهود الذي يعملون في مصنعه. وهكذا تتحول الصفقة المادية المبرمة بين شندلر والنازيين إلى آلية لإنقاذ بضع مئات من اليهود الذين يظهرون على «قائمة شندلر».


ولفَهْم فيلم «قائمة شندلر» حق الفهم لابد أن نضعه في سياقه الحقيقي، وأهم عناصر هذا السياق أن مخرج الفيلم سبيلبرج هو أمريكي يهودي (وليس يهودياً أمريكياً) مندمج تماماً، أي أنه من «اليهود الجدد»، تمييزاً لهم عن يهود أوربا، فتجربتهم الحضارية مختلفة عن تجارب يهود أوربا، فهم لم يعرفوا الجيتو ولا التخصص المهني أو الوظيفي. فقد نشأ سبيلبرج في منزل لم يحافظ على الطقوس الدينية، ولم يُطبِّق قوانين الطعام الشرعية وتزوج من غير يهودية. وكل هذا يعني أن علاقته بهويته اليهودية علاقة واهية للغاية فهي ليست هوية متماسكة متكاملة وإنما هي في واقع الأمر بقايا مجموعة من الرموز وشتات من الذكريات. وتجربة سبيلبرج في المجتمع الأمريكي تجربة إيجابية للغاية فقد حقَّق نجاحاً مذهلاً، وأصبح من أهم رموزه، بل أصبح يشارك في تطوير رموز هذا المجتمع ووجدانه من خلال أفلامه. فكيف يمكنه أن يتقبل الثنائية الصهيونية البسيطة: يهود ضد أغيار؟ وكيف يمكن أن يقبل الطرح الصهيوني لفكرة المركز الإسرائيلي مقابل الهامش اليهودي؟ ومن هنا كان لابد أن يكون بطله شخصاً قادراً على أن يتحرك بكفاءة بين العالمين: عالم اليهود وعالم الأغيار، فهذا أقرب لتجربة سبيلبرج مع المجتمع الأمريكي من الأنماط الإدراكية الساذجة والثنائيات الصلبة التي تُوجَد في الأدبيات الصهيونية حيث يقف اليهودي وحيداً أمام ذئاب الأغيار.

ولكن هناك بُعْداً آخر أعمق في «قائمة شندلر». والأطروحة الأساسية في الفيلم هي أن النازيين لم يكونوا يقتلون اليهود كُرهاً فيهم أو حقداً عليهم، وإنما لأنهم كانوا غير نافعين. ولذا لم يكن يُباد النافع منهم، أي كل من يمكن توظيفه أو تسخيره في خدمة الاقتصاد الألماني. كان هناك من النازيين من يُكِّن كراهية خاصة لليهود، ولكن القيمة الحاكمة الكبرى لم تكن الكراهية وإنما المنفعة. وأدرك شندلر هذا وتحرك في إطاره وتمكن من إنقاذ مجموعة من اليهود من أفران الغاز عن طريق توضيح نفعهم. ولعل أهم اللحظات في الفيلم من هذا المنظور اللحظة التي يقوم أحد الحراس النازيين فيها بتصنيف بعض الأطفال اليهود المرحَّلين إلى مصنع شندلر باعتبار أنهم لا نفع لهم، فهم مجرد أطفال لا يمكن أن يعملوا في المصنع. ولكن شندلر يُبيِّن لهم، في لهجة غاضبة، أن أيدي الأطفال الصغيرة ضرورية لأنها هي وحدها القادرة على الوصول إلى داخل بعض الأواني التي تخصَّص مصنع شندلر في صنعها. المسألة كلها مسألة نفعية عملية لا تعرف الحب أو الكره، خاضعة للحسابات الصارمة، ومن هنا اسم الفيلم: «قائمة شندلر»، وكأن البشر أرقام ووحدات ليست ذات قيمة في ذاتها، تُدرَج في قوائم! بل إن سبيلبرج يتشجع ويتناول قضية المجالس اليهودية، وهي المجالس التي نصبها النازيون والتي تعاون أعضاؤها من اليهود مع السلطات النازية في عمليات الإبادة.

ولكن رغم أن أطروحة الفيلم الفكرية تقول إن اليهود لم يُقتلوا كيهود وإن ثنائية يهودي/أغيار الصهيونية ليست حقيقية، إلا أنه على المستوى المرئي الفني أرسل رسالة صهيونية كاملة تتنافى مع مضمون الفيلم الفكري. تتضح الرسالة الصهيونية بشكل متبلور في نهاية الفيلم الملونة ولكنها تتغلغل أيضاً في بنية الفيلم وفي شخصياته، فلا يظهر أمامنا غير شندلر ممثلاً للأغيار، أما بقية ممثلي الجنس البشري فهم يدورون داخل الأُطُر الإدراكية الاختزالية التي ركز عليها الفيلم بشكل سوقي.

أما الضحايا، فنحن نعرف أن الدولة النازية طبقت مبدأ المنفعة المادية لا على اليهود وحسب، وإنما على كل البشر بدون تمييز. ولو فعل سبيلبرج هذا وربط واقعة المحرقة بالنمط التاريخي المتكرر لاتضح النموذج الأكبر وراء الهولوكوست، وهو نموذج غربي نفعي مادي بدأ في أمريكا الشمالية واستمر في أفريقيا وفلسطين ووصل لحظة التبلور النماذجية في اللحظة النازية. ولعل الفارق الوحيد بين عمليات الإبادة الغربية الأخرى وعملية الإبادة النازية، أن عمليات الإبادة الأخرى كانت تتم دائماً ضد السود أو المسلمين أو الآسيويين، هناك وفي بلاد بعيدة، وعلى يد جنود مهمتهم القتل والقتال. أما الإبادة النازية فقد حدثت هنا، على أرض أوربية، وبشكل منهجي مخطط، وعلى يد مجتمع حديث متحضِّر يستمع لموتزارت وبيتهوفن ويُناقش الفلسفة وهو يشم رائحة اللحم الإنساني المحترق (في إحدى مناظر فيلم «قائمة شندلر» يتناقش جنديان نازيان حول الموسيقى وهما يقومان بالهجوم على بعض الضحايا اليهود).

ولكن البشر لا يمكنهم أن يواجهوا حقيقة وجودهم ببساطة، وكذلك الحضارة الغربية لا يمكنها أن تواجه التضمينات الفلسفية الأساسية للرؤية العقلانية النفعية المادية (العقل الأداتي - على حد قول مفكري مدرسة فرانكفورت) التي حوَّلت العالم بأسره إلى مادة استعمالية، ولذا لابد من تحاشي المواجهة، وحيث إن تغيير الحقائق أمر مستحيل في عصر المعلومات، إذن، لنتلاعب بمستويات التعميم والتخصيص، وبدلاً من رؤية الجريمة النازية باعتبارها جريمة حضارة نفعية مادية ضد البشر، فإنها تعمَّم للغاية أو تخصَّص للغاية فتصبح بالنسبة للحضارة الغربية جريمة الألمان وحدهم ضد اليهود وحدهم، أما بالنسبة لليهود فتصبح جريمة الأغيار كلهم ضد اليهود كلهم، فيحتكر اليهود دور الضحية أما الجزار فهو إما الألمان الأشرار وحدهم (شيء خاص للغاية، مجرد حادثة عرضية) أو الجنس البشري بأسره (شيء عام للغاية ولذا فالجميع مسئول)، وفي كلتا الحالتين تتم تبرئة الحضارة الغربية الحديثة. وهكذا تضيع الحقيقة وتميد الأرض وتُوظَّف الحقائق لا للرؤية وإنما للتعمية. ومن ثم يمكن الاستمرار في الإبادة في فيتنام وفلسطين والبوسنة والهرسك مع الثرثرة المستمرة عن ضحايا النازية، وضرورة إيقاف المذابح.

  • الاثنين PM 12:02
    2021-04-05
  • 2456
Powered by: GateGold