المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415292
يتصفح الموقع حاليا : 270

البحث

البحث

عرض المادة

الكوميديــــا وأعضــــاء الجماعـــات اليهوديـــة

Comedy and Members of Jewish Communities
الكوميديا هي إحدى الصفات التي يحاول بعض الباحثين استخدامها لإثبات أن ثمة شعباً يهودياً له استمرارية تاريخية وله صفاته العرْقية والنفسية المميَّزة. ولذا، نجد أن الكثيرين يتحدثون عن «الكوميديا اليهودية منذ أقدم العصور» وعن «أن روح الكوميديا الموجودة في التوراة والتلمود وغيرها من الكتب الدينية اليهودية».


ويأتي اللَبْس هنا من استخدام اللفظ «كوميديا» للدلالة على أكثر من مدلول مختلف، فلا إنكار لوجود كوميديا في التوراة والتلمود، ولكن من الصعب العثور على صلة بين هذه الكوميديا ونمط الكوميديا التي يستخدمها اليوم أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، أو تلك التي كانت سائدة بين يهود اليديشية في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. فالتوراة والتلمود وغيرها من الكتب الدينية اليهودية تتميز بأنها كُتب جادة تدعو إلى الجهامة وتحض على الحزن وتسم الضحك بأنه صفة الضعفاء وغير القادرين. ومع هذا نجد في هذه الكتب شخصية مضحكة مخادعة أو شخصية «الفهلوي». وربما كان التجسيد الأمثل لهذه الشخصية في التوراة هو يعقوب أو يسرائيل، فهو الذي خدع أخاه عيسو في ميراثه وهو الذي خدع أباه إسحق وأخذ البركة التي كان يود أن يمنحها لأخيه. وشخصية الفهلوي القادر على الخداع نجدها عند الرومان في شخصية ديونيزيوس أو باخوس إله الخمر واللهو وهيرمس صاحب الألف وجه، ونجدها عند أهل الشمال في شكل الإله لوكي (إله متعدد الخصال وهو أخبث الآلهة). وترتبط بهذه الشخصية التي تخفِّف من قتامة الدين الحلولي وجهامته احتفالات شعبية صاخبة وماجنة يتم فيها انتخاب إنسان يجسِّد هذه الشخصية ويلعب دور ملك الاحتفال. وكانت هذه الاحتفالات عند بعض أعضاء الجماعات اليهودية هي احتفالات عيد النصيب (البوريم) التي وُصفت بأنها « احتفالات التحلُّل من الارتباطات وإطلاق العنان للهو والمرح ». وكان يتم انتخاب المهرج الأكبر والماجن الأعظم ملكاً للبوريم. وفي هذا الإطار، إذن، يمكننا رؤية الجانب الكوميدي في الكتابات الدينية اليهودية بوصفه امتداداً لأفكار الديانات الوثنية الطبيعية الحلولية.

أما بالنسبة للجماعات اليهودية التي نشأت في شرق أوربا والتي تتحدث اليديشية، فظهرت بينها أشكال وأنماط من الكوميديا تميَّزت بالسخرية من الدين ومن الذات اليهودية، واستمدت ملامحها من وضع اليهود في هذه المجتمعات كجماعات وظيفية تعيش على هامش المجتمع وفي عزلة عنه ولكنها تسعى في الوقت نفسه إلى الاندماج فيه.

وتزخر الكوميديا اليديشية بالسخرية من الأسلوب التوراتي والكتابات الدينية وطريقة الحاخامات في التعبير. والدين هنا هو موضع السخرية لأنه مصدر الإزعاج الأول والعقبة الرئيسية في طريق الاندماج، وبالتالي تكون الكوميديا السـاخرة وسـيلة اليهود في التخلـص من يهوديتهم. ونحن نرى هذا بكثرة في كتابات الكاتب اليديشي الساخر شالوم عليخيم، خصوصاً في كتابه مغامرات مناحم مندل. بل إن احتفالات عيد النصيب (بوريم) في هذه المرحلة تحوَّلت إلى احتفالات تسخر من الدين والحاخامات. وكانت الفقرة الرئيسية في الاحتفال هي «توراة البوريم» أو المحاكاة الساخرة للتوراة حيث صار ملك البوريم تجسيداً للحاخام الأعظم وسخرية منه. هنا صارت الكوميديا وسيلة من وسائل الاندماج في المجتمع وأيضاً طريقة لإنكار الذات من أجل إتاحة الفرصة للدخول في منظومة الآخر.

كما أخذت الكوميديا شكل السخرية من ازدواجية المرغوب/المرفوض التي جسَّدها أعضاء الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية تقوم بدور مهم ومطلوب في المجتمع الذي تعيش فيه، ولكنها تحيا في الوقت نفسه منبوذة منه وعلى هامشه، وكثير من الكتابات الكوميدية في جميع أنحاء العالم تزخر بالسخرية من الجماعات الوظيفية، فنجد معروف الإسكافي كشخصية ساخرة، والأحدب مهرج الملك، وحلاق بغداد، وحلاق إشبيلية)، ومن هنا تبلورت في الأدب اليديشي الساخر سمات اليهودي المهاجر البخيل القذر. وقد قَبل هذا الأدب الساخر صورة اليهودي التي تقدمها كتابات الآخرين أو الأغيار ولكنه خفَّفها، فمن يهودي مالطة وشيلوك تاجر البندقية ذات المحتوى التراجيدي تحوَّلت شخصية اليهودي إلى ذلك اليهودي البخيل الذي يقع في شر أعماله والذي يرى كل شيء من خلال المال.

نستطيع أيضاً أن نحدد ملامح كوميدية خاصة بيهود الولايات المتحدة منذ بداية هذا القرن حيث كانت الولايات المتحدة محطة لجوء لكثير من يهود اليديشية. وكان دخولهم عالم الإمتاع والفن أمراً طبيعياً حيث إنه مجال المرفوض/المرغوب الذي يميِّز مجالات عمل الجماعات الوظيفية. ولذا، نجد أنهم دخلوا مجالات مسرح الفودفيل والمسرحيات الموسيقية، ولا ننسى بالطبع السينما الصامتة. وكان الانتقال بين المجالات الثلاثة يتم في حرية تامة. ونذكر في هذا المجال آل جولسون نجم المسرحيات الموسيقية الكوميدية والإخوة ماركس (من الفودفيل إلى السينما) وماكس ليندر (من المسرح إلى السينما) وغيرهم.

واشتغال عضو الجماعة اليهودية المهاجر بالكوميديا يحقِّق له نوعاً من القبول الاجتماعي، إذ أن الآخر سيقبله باعتباره مسخرة المجموعة والتي لا غنى عنها. وهو بسخريته من الذات اليهودية، يمارس إحساساً يمارسه أعضاء الأغلبية، ومن ثم فهو يحقِّق نوعاً من الاندماج فيهم بسخريته هذه. كما أن القيام بهذا الدور يحقِّق للمؤدي الإحساس بالابتعاد عن الذات التي يتعمد السخرية منها وإنكارها. ولنا أن نلاحظ أن عضو الجماعة اليهودية في أدائه الكوميدي كان يسخر من الصفات التي يخلعها المجتمع المضيف على اليهود مثل البخل والدناءة والقذارة، وهي ليست بالصفات الخطيرة التي تؤدي إلى لفظهم أو رفضهم تماماً، وإنما هي صفات هزلية تسمح لهم بدخول المجتمع باعتبارهم المرغوب/المرفوض.

كانت المسرحيات الموسيقية التي شارك فيها اليهود، كبرلين وجرشويين وآخرين، تتكلم (في الأساس) عن الزنوج كما في «بورجي وبس» و«سفينة الاستعراض» وغيرهما. والزنوج هم الجماعة الوظيفية التي تتعرض لأكثر أنواع الاضطهاد والتمييز لأنها أكثر الجماعات الوظيفية تميُّزاً، فاللون والمظهر الجسماني هو ما يميِّزها. وبالتالي، تتيح تلك المسرحيات لليهود ميزة الإحساس بالتميُّز والاندماج والانتماء للجماعة النخبوية في إطار المجتمع الهرمي، كما تتيح لهم (وهو الأهم) استخدام آلية الإزاحة أو نقل المشاكل التي تعاني منها الأنا وإسقاطها على الآخر، وبالتالي تيسير عملية قبول الأنا داخل مجتمع «الآخرين».

أما فيما يتعلق بمجال التمثيل، فقد اتجه معظم أعضاء الجماعة اليهودية من الجيل الأول إلى الكوميديا كتطوير لعملهم في الفودفيل والمسرحيات الموسيقية (بالإنجليزية: مويوزيكالز musicals)، وأهم من قدَّمهم تاريخ السينما: ماكس ليندر وماك سينيلت والإخوة ماركس وآل جولسون. ومع تنظيم صناعة السينما في الثلاثينيات، لم يحدث تغيير كبير في طبيعة عمل الممثلين اليهود، فالتغيير في النطاق الإداري المالي كان أسرع وأهم منه في النطاق الفني. ولذا، ظلت الكوميديا المجال الأول للممثلين اليهود أمثال جيري لويس وبوليت جودار وآدي كانتور وملفين دوجلاس وغيرهم.

وإذا كان من غير الممكن الحديث عن كوميديا يهودية، فلا يمكن أيضاً الحديث عن كوميديا أمريكية يهودية واحدة، إذ أن هذه تتطوَّر وتتنوَّع بتطوُّر المجتمع وبتعدُّد الأجيال من المهاجرين إلى أبناء المهاجرين إلى أبناء الجيل الثالث، فيُلاحَظ مثلاً أنه، مع استقرار أوضاع الجماعات اليهودية المهاجرة في الولايات المتحدة وصعودها درجات متوالية في السلم الاجتماعي، ومع ازدياد وضوح الطابع المادي الدنيوي للمجتمع، أخذت الكوميديا التي ينتجها اليهود الأمريكيون أكثر من شكل يُعبِّر كلٌ منها عن محتوى مختلف. فهناك كوميديا الطبقة المتوسطة وأبرز ممثليها المؤلف المسرحي نيل سايمون وهي كوميديا تعبِّر عن مشاكل الطبقة المتوسطة الأمريكية، ومن أمثلتها «جناح كاليفورنيا» و«نفس الموعد العام القادم» و«فتاة الوداع» وغيرها، وكلها تتكلم عن صعوبة التواصل وانعدام الأمان وتآكُل المؤسسات الاجتماعية كالأسرة والكنيسة أو المعبد... إلخ.

ويحاول سايمون أن يصبغ أعماله، سواء المسرحية أو السينمائية، بصبغة الدعابة اللفظية واللعب بالكلمات والتي يعتبرها البعض من السمات اليهودية عند سـايمون ويُرجعونها إلى الألاعيب اللفظية في التـوراة. وهي، كما نرى، حجة واهية وإلا أمكننا أن نرجع أية ألاعيب لفظية إلى أصل توراتي. ويعود محتوى الألاعيب اللفظية عند نيل سايمون أساساً إلى فكرة انعدام التواصل أو تعدُّد مستويات الحديث،الأمر الذي يعني أساساً الإحساس بعدم الأمان.

ويُلاحَظ التطور نفسه في مجال التمثيل السينمائي، فكثير من الممثلين اليهود الذين بدأوا حياتهم في مجال الكوميديا، أمثال توني كيرتس وبيتر سيلرز وكيرك دوجلاس، واتجهوا فيما بعد إلى الأدوار التراجيدية الجادة. بل نجد أن الممثلين من جيل الستينيات، كداستين هوفمان، قلما يؤدون الأدوار الكوميدية. وذلك دليل على تغيُّر وضعية أعضاء الجماعة اليهودية في المجتمع، فلم يعودوا الهامشيين والمنبوذين القادمين من الخارج الذين يتعيَّن عليهم إضحاك الآخرين والسخرية من أنفسهم حتى يجدوا مجالاً للقبول والاندماج، بل حققوا حراكاً اجتماعياً وأصبحوا جزءاً من الطبقة الوسطى التي يسعى كثير من أبنائها لدخول عالم السينما، الذي أصبح بحق مصنع الخيال والأحلام الضخم والعامل الأول في تشكيل وجدان وتفكير الأمة.

ظهرت مجموعة من الكوميديانات اليهود المتفردين والمتميزين في أسلوبهم مثل: وودي آلين ومل بروكس وجين وايلدر ومارتن فيلدمان. وعاد هؤلاء للسخرية من اليهود ولكن بشكل آخر، فلقد تعمدوا السخرية من الصورة الأخرى التي خلعها عليهم أيضاً المجتمع المضيف، والتي لم يمسها الأوائل وتجنبوها، وهي صورة اليهودي كقاتل للمسيح حليف للشيطان، فيقول وودي آلين في فيلمه «الحب والموت» عن الفرق بين اليهودي الألماني واليهودي الروسي أن الأول له قرنان والأخير له ذيل، أي أنهما كليهما حليف للشيطان ولا يوجد اختلاف بينهما إلا في التفاصيل. ويقول مل بروكس في فيلمه «نكون أو لا نكون»: « كيف نقدم مسرحاً ساخراً دون يهود أو غجر أو شواذ ». فلم تَعُد تلك مناطق محرمة بل صارت مجالات للبحث عن الذات وعن الهوية الفردية في مواجهة مجتمع مادي يقهر خصوصية وإنسانية الفرد. فهؤلاء اليهود الجدد يستخدمون الكوميديا استخداماً معاكساً لاستخدام الأوائل، فهم يرفضون القبول الاجتماعي الذي حققه آباؤهم ودفعوا ثمنه من هويتهم الفردية بل وإنسانيتهم ذاتها، ويبحثون عن ذات خاصة بهم. ولذا، فإننا نجد وودي آلين في أفلامه الأخيرة لا يتحرج إطلاقاً من إعلان يهوديته بل لا يتحرج من البحث عن عناصر مهمة وأساسية في هذه الهوية، كما هو الحال في فيلمه «برودواي داني روز» الذي يُعيد للأذهان صورة وكيل الفنانين اليهودي ولكن المحب للبشر الباحث عن العفو والحب والقبول.

ظهرت أيضاً الكوميديا الداعرة أو الفاحشة وأبرز ممثليها هو ليني بروس الذي اتخذ من النوادي الليلية مجالاً أساسياً. وهي تعبِّر أساساً عن رفض عدمي لكل المؤسسات مع عدم وجود بديل لها، فهي تدمير عنيف لكل شيء ورفض لأخلاقيات المداهنة والرياء التي تميِّز المجتمع الدنيوي، وتنتهي إلى عبثية كل شيء وعدمية الوجود الإنساني في ذاته. وانتهج هذا النهج وسار عليه وودي آلان في أفلامه الأولى، وها هو يقول في فيلم «النائم» الحقيقة الوحيدة في هذا العالم هي الجنس والموت. ويرى مل بروكس أن « الضحك هو الحقيقة الأساسية في هذا الوجود ولا معنى لأي شيء آخر ».

  • الاثنين AM 11:45
    2021-04-05
  • 842
Powered by: GateGold