المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415292
يتصفح الموقع حاليا : 222

البحث

البحث

عرض المادة

متاحـف الإبــادة في الولايـات المتـحدة

Holocaust Museums in the U. S. A
موضوع الإبادة من الموضوعات الأساسية التي تختص بها متاحف أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة. وقد بدأت تظهرمتاحف مكرَّسة لهذا الموضوع أهمها:


أولاً: متحف إحياء ذكرى الإبادة النازية ليهود أوربا:

اسمه الرسمي بالإنجليزية هو: هولوكوست ميموريال ميوزيام Holocaust Memorial Museum، وقد افتتحه الرئيس كلنتون في الأسبوع الأخير من أبريل 1993. وبُني المتحف في ميدان (أو أرض) المعارض الشهير في واشنطن (يُشار إليه بالإنجليزية على أنه «ذي مول The Mall»). ويمكن رؤية تمثال واشنطن الشهير من البقعة التي أُقيم فيها المتحف. وقد تكلَّف نحو 90 مليون دولار، وصمَّمه المهندس الأمريكي اليهودي جيمس فريد Freed الذي يبلغ من العمر 56 عاماً والذي هرب مع أسرته من ألمانيا عام 1939 . وينطلق المتحف من فكر فلسفي واضح يترجم نفسه إلى معمار، إذ يذهب فريد إلى أن ثمة شيئاً لا يمكن تصديقه، شيئاً مستحيلاً في هذا المشروع، أي مشروع إنشاء المتحف، وهو بهذا يؤكد الرؤية الصهيونية للإبادة، إذ تم تحويلها من مجرد جريمة شنعاء ارتكبها أحد المجتمعات الغربية (ألمانيا النازية)، ضد مجموعات بشرية مختلفة في أوربا من بينها اليهود، إلى شيء ميتافيزيقي لا يمكن فهمه، يقف خارج التاريخ والزمان وهو موجَّه ضد اليهود وحدهم. ولذا، قرر فريد أن يبني متحفاً لا يتسم بالتناسق أو التحضر على حد قوله، ثم أضاف: « لا أعتقد أن هذا المبنى سيكون حسن السير والسلوك، فأنا لا أُطيق التجميل، فهذا هو ما فعله النازيون في معسكرات الاعتقال، فالواجهات كانت على الطراز التيرولي Tyrolean وكانت النوافذ تزينها «أصص الورد». ولذا، لابد أن يبعث هذا المبنى الإحساس بالسر والخوف وعدم التصديق ». والمشكلة التي واجهها المهندس المصمم فريد ـ على حد قول أحد النقاد ـ هي: هل يمكن أن يعبِّر المعمار المتحضر عن شيء غير متحضر؟

ولحل كل هذه المشاكل، قرر المهندس ألا يكون المتحف جميلاً أكثر من اللازم، وإلا تصوَّر المشاهد أن الإبادة هي مجرد حدث كبير آخر في مسار التاريخ. ولو أخذ المتحف شكلاً عكسياً وتحاشى المصمم معمار الضخامة النيو كلاسيكي السائد في واشنطن وتبنَّى طرازاً صناعياً (حتى يوحي بجو آلية المصنع الذي كان سائداً في معسكرات الاعتقال) فإنها قد تؤدي إلى تتفيه الحدث. وإن تبنَّى المتحف أسلوباً حرفياً في تقـديم الإبادة، فإنه قد يبـعث الاشـمئزاز في نفـس الزوار فينصرفون عنه، ولذا، فإن هذا المبنى يجب ألا يكون جميلاً أكثر من اللازم، ولا قبيحاً أكثر من اللازم، وهو ما يعني أن أي مبنى تقليدي لن يَصلُح له.

وكان من الممكن (هكذا كان يفكر المصمم على حد قول أحد النقاد) أن يكون المبنى محايداً تماماً، مجرد حائط يضم المعروضات باعتبارها قيمة مطلقة لا يستطيع أي معماري مهما بلغ ذكاؤه أن يبرزها، فهي تقف بذاتها وكأنها السر الإلهي. ولكن هذا الحل يعني فشل المعمار الحديث في أن يواجه التحدي. وأخيراً كان من الممكن أن يتخلى المصمم تماماً عن الفكـرة ويعـلن أنها لا يمكن التعبير عنهـا. ولكن هذا الحل حل يتسـم بالجبن، فهو يعني أن الفنان ليست له رسالة اجتماعية.

بقيت مشكلة أخيرة، وهي أن هذا المبنى رغم تفرُّده لابد أن يكون جزءاً من مباني المتاحف في واشنطن. وقد تقدَّم المهندس المصمم برسومات المعرض للجنة الفنون الجميلة التي تراقب المعمار في واشنطن، ولكنها رفضته؛ إذ وجدته يؤكد رسالته بشكل جازم أكثر من اللائق. بل إن بعض أعضاء اللجنة ألمحوا إلى أن مثل هذا المتحف لا ينتمي إلى عاصمة الولايات المتحدة لأن الإبادة النازية ليست جزءاً من تاريخ أمريكا، وذلك إلى جانب أنها تجربة مؤلمة. ولكن، تم التغلب على هذا الاعتراض الأخير بالإشارة إلى الحائط التجريدي الذي صممه مايا يانج لين لضحايا حرب فيتنام، فهو نصب تذكاري سيُذكِّر المشاهدين بلحظة تاريخية محزنة. وتمت في نهاية الأمر، الموافقة على تصميم المبنى بعد تعديله، وهو يمتد من شارع 14 إلى شارع 15 شرقي طريق الاستقلال ليكون بين مبنيين، أحدهما على الطراز الكلاسيكي والآخر على الطراز الفكتوري.

وهنا أثيرت قضية واجهة المعرض، ودار الحوار لا في إطار جمالي محض، وإنما في إطار معرفي عميق. فواجهة المعارض الموجودة في المول Mall تتبع في معظم الأحيان الطراز النيوكلاسيكي، وهو طراز يحاكي بشكل واع المعمار اليوناني الروماني الوثني، أي أنه يشكِّل عودة إلى الحضارة الوثنية التي سبقت عصور الظلام المسيحية، وهي حضارة سادت فيها قيم العقل والتوازن دون غيب أو أساطير، ولذا فإن المعمار يتسم بالبساطة والجلال.وقد كان مؤسسو الجمهورية الأمريكية مغرمين بهذا الطراز،ولذا نجد أن جيفرسون أسس منزله في مونتشيلو على نفس الطراز،وكانت معظم مباني واشنطن حتى عهد قريب تتبع هذا النمط.

قرر المهندس فريد أن واجهة متحف الإبادة لا يمكن أن تعبِّر عن عصر التنوير والعقل (بالإنجليزية: إنلايتينمنت Enlightenment)، بل لابدوأن تعبِّر عن الإظلام واللاعقل (بالإنجليزية: إنداركنمنت Endarkenment). ولذا، تقرر أن تكون واجهة المتحف ومدخله على الطراز التيرولي (مثل معسكرات الاعتقال والإبادة). وهو يتشابه تشابهاً لا يستهان به مع اتجاه الحداثة الفيينِّي (نسبة إلى فيينا) الذي ظهر مع نهاية القرن، وذلك من حيث دقة القوس والتفاصيل الكلاسيكية البارزة. وتم تصميم هذا المدخل بناءً على طلب لجنة الفنون الجميلة (ففي التصميم الأصلي كان هناك إفريز بارز يتصف بأنه مصطنع وينذر بالشؤم ويوحي بالخوف). ويؤدي المدخل إلى صالة الشهادة وهي مصنوعة من الطوب الخشن ولها سقف زجاجي مُعلَّق على عروق حديدية مكشوفة،تسمح بدخول الضوء (الأمر الطبيعي الوحيد الذي لم ينجح النازيون في القضاء عليه).وهي بذلك تذكِّر المشاهد بمعسكرات الاعتقال وأفران الغاز.ويخيِّم على هذا المعمار الصناعي فراغ معتم ثقيل يوحي بجو من القلق المتعمد، فخطوطه غير مستقيمة.ويوجد في المتحف سلم متسع عند قاعدته يضيق بالتدريج حتى يُشْعر الزوار بالزحام وكأنهم في أحد معسكرات الاعتقال.ويبدو السلم في نهايته منحرفاً داخل منظور زائف.

ويحـاول المهنـدس أن يعبِّر عن إحسـاسـه بعدم الراحة بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال، يوجد في الحائط الحجري في آخر هذه الصالة شقوق. وبوابات الأجنحة معدنية ثقيلة. وتوجد مكاتب موظفي المتحف داخل أربعة أبراج، لتذكِّر الزائر بأبراج المراقبة في معسكر الإبادة، بل إن المصعد الذي يُستخدَم للوصول إلى هذه المكاتب يجعل الزائر يشعر بعدم الراحة، فهو ضيِّق والإضاءة فيه بيضاء متوهجة وأبوابه مصنوعة من المعدن الرمادي، تُغلَق وتُفتَح بصعوبة كأبواب أفران الغاز. وتضم صالات العرض صوراً وأعمالاً فنية عن الإبادة، وكل مقتنيات المتحف هي أشياء أصلية كانت تستخدم بالفعل في معسكرات السخرة والإبادة، وتوجد شاشات تليفزيون تُعرَض فيها أفلام تروي أحداث الهولوكوست وأخرى تروي تاريخ معاداة اليهود، ولهذا السبب وضعت الشاشات على ارتفاع متر ونصف حتى لا تسبِّب إزعاجاً للأطفال.

ويُعْطَى كل زائر بطاقة كومبيوتر عليها صورة أحد الضحايا، بحيث يمكنه أن يتابع قصته من خلال شاشات عرض موجودة في أماكن مختلفة ويسمع مُشاهد العرض تسجيلات لأصوات الجنود الأمريكيين الذين حرروا معسكرات الاعتقال وهم يعبِّرون عن إحساسهم بالصدمة العميقة لما يشاهدونه. ويُوجَد في الدور الثالث شارع من الحجر وكوبري خشبي تؤدي بالزائر الى جناح عن جيتو وارسو الذي شهد أعمال المقاومة اليهودية ضد النازيين.

ويُقال إن المتحف لم ينس ضحايا الإبادة الآخرين مثل الغجر وغيرهم. ولم ينس كذلك بعض الأغيار الذين ساعدوا اليهود على الفرار من النازيين، ولذا يضم هذا المتحف قارباً من ذلك النوع الذي كان يستعمله الدنماركيون في إنقاذ اليهود.

وهناك خارج المتحف، صالة أخرى تُسمَّى «صالة الذكرى» بنيت على شكل سداسي وارتفاعها 75 قدماً، وسقفها على هيئة قبة. وكان ارتفاع الصالة في الأصل 80 قدماً، كما أن المتحف كله كان من المفروض أن يكون بارزاً في ميدان المتاحف بنحو 40 قدماً. ولكن اللجنة أصرت على أن يكون بمحاذاة المباني الأخرى، كما تم إنقاص حجم المتحف كله 10% (يبلغ حجم المتحف 36 ألف قدم مربع، وتستغرق مشاهدته ثلاث ساعات)، ولكن هذا المبنى السـداسي يظل بمفـرده بارزاً فـي أرض المتـاحف، لا نوافـذ له ولا زخــارف على حوائطـه سـوى اقتباسـات من العهد القديم تأخذ شكل نقوش بارزة. كما أن هناك على الحائط كوَّات تشبه المحراب الصغير يمكن أن تُوضَع فيها مئات الشموع المشتعلة لإحياء ذكرى ضحـايا الإبادة النازية. وتُضَاء هذه الصالة بالنور الطبيعي من ناحية السقف، حيث تكون الحوائط فارغة تماماً. وهيئة الصالة من الخارج لا تختـلف عن داخلهـا، فهي عاريــة من الزخـارف أيضاً إلا من بعض التفاصيل ذات الطابع الكلاسيكي الصارم. وتعطي الصـالة الإحسـاس بأنهـا شيء ضخم ومجرد يقف في أرض المتاحف.

وتُذكِّر صالة الذكرى المرء بقدس الأقداس في هيكل سليمان وهيرود. بل يمكن القول بأن المتحف ككل يشبه هيكل سليمان. وإذا كان اليهود يعبدون في هيكل سليمان إلههم، فإنهم في متحف الإبادة النازية يعبدون أنفسهم (اليهود أو الشعب اليهودي الذي يتحوَّل هو نفسه إلى الشيم هامفوراش، الاسم المقدَّس والأعظم الذي لا يستطيع أحد أن يتفوَّه به إلا كبير الكهنة في قدس الأقداس يوم الغفران) باعتبار أن تجربة الإبادة التي حدثت لليهود تجربة تتحدى قدرة الإنسان على الإفصاح عما في داخله.

وقد وُصف معمار المتحف بأنه تفكيكي ينتمي إلى عالم ما بعد الحداثة، ونحن نرى أن هذا وصف دقيق للنموذج الكامن وراء هذا المتحف ولكل تفاصيله التي يتجلى من خلالها النموذج. ففكر ما بعد الحداثة (التفكيكي) يصدر عن الإيمان بأن العلاقة بين الدال والمدلول (الكلمة ومعناها أو الاسم والمُسمَّى) علاقة عشوائية مترهلة، ولذا فاللغة ليست أداة جيدة لتوصيل المعنى أو التواصل بين الناس، وكأن الكلام حبر على ورق: حادثة إمبريقية مادية قد لا تحمل مدلولاً يتجاوز وجودها المادي، بل هو كسائل أسود تناثر بطريقة ما على صفحة بيضاء.

ويواكب هذا إدراك الإنسان الغربي أن كل أشكال اليقين داخل منظومته الحضارية قد تهاوت بتهاوي المنظومات والمرجعيات المعرفية الأخلاقية والإنسانية، الإيمانية وغير الإيمانية، ولذا فالواقع الخارجي لا يمكن الوصول إليه ولا يمكن تصنيفه أو ترتيبه، فهو لا مركز له ولا يمكن الحكم عليه ولا يمكن محاكمته. ولذا لا يبقى إلا الشيء في ذاته، فيصبح هو نفسه دالاً ومدلولاً وهو مرجعية ذاته. والإبادة هي حدث مرئي يستطيع الإنسان أن يجرِّبه، ولكنه لا يمكنه الإفصاح عنه، فالإبادة صورة تكاد تكون دالاً بلا مدلول أو مدلولاً لا يمكن لأي دال أن يدل عليه. إن الإبادة هي الأبوريا aporia: الهوة التي تفغر فاها والتي لا قرار لها؛ الهوة التي تنفتح بعد تساقُط كل المرجعيات فلا يرى الإنسان سوى العدم، أو الإبادة النازية لليهود. وكيف تم توصيل ذلك؟ عن طريق إعادة خلق جو المعسكرات ومن خلال وضع الأشياء التي استُخدمت فيها أمام المتفرج حتى يجربها دون وساطة أو دوال، والأشياء هنا (مثل الإبادة) هي أيضاً دال دون مدلول أو مدلول دون دال، أو دال هو ذاته مدلول، فالشيء هو الاسم والمسمَّى.

ورغم ذكر بعض الضحايا غير اليهود، إلا أن المتحف بطبيعة الحال يحاول أن يؤكد أن اليهود هم الضحية، وأن الأغيار تركوا اليهود لمصيرهم (ولعل ذكر الغجر وغيرهم من ضحايا النازي كان ذراً للرماد في العيون وتحسباً لما قد يثار من ضجة بسبب الرؤية الصهيونية التقليدية التي تجعل اليهود الضحية الوحيدة). ويُذَكِّر المتحف الشعب الأمريكي بعدم اكتراثه بالإبادة النازية، وبأن الحكومة الأمريكية رفضت السماح للباخرة سانت لويس عام 1939 بالرسو في الشواطئ الأمريكية رغم أنها كانت تحمل 1128 لاجئاً يهودياً فارين من هتلر، ورغم أنها وصلت حتى هـافانا. إلا أنهـا أُعيـدت إلى ألمانيا ليلاقي الفارون مصيرهم. ورفض الحلفاء أن يقوموا بغارات على معسكرات الاعتقال ورفضوا كذلك ضرب خطوط السكك الحديدية التي تؤدي إليها. ويشير المتحف كذلك إلى مؤتمر إيفيان الذي دعا إليه الرئيس روزفلت عام 1938، حيث رفض ممثلو بعض الدول الأوربية أن يسمحوا لليهود الهاربين من الرايخ الثالث بالهجرة إليها.

وإذا كان المتحف يُجسِّد أطروحة فكرية أساسية في تجربة أعضاء الجماعات اليهودية (الإبادة باعتبارها دالاً متجاوزاً يعجز العقل عن الإحاطة به) وفي الحضارة الغربية الحديثة (فكرة ما بعد الحداثة والتفكيكية)، فإن من حقنا أن نثير من جانبنا بعض الإشكاليات، فالإبادة ظاهرة تاريخية، يمكن تفسير كثير من جوانبها وفهمها واستيعابها:

1 ـ الإبادة النازية ليست فعلاً فريداً في الحضارة الغربية الحديثة التي قامت بإبادة سكان الأمريكتين وملايين السود من أفريقيا.

2 ـ رغم أن المتحف قد ذكر الضحايا غير اليهود، إلا أن التركيز ظل أساساً على اليهود. والسؤال الذي طرحه الكثيرون هو سؤال ذو مغزى عميق: لماذا لم يُقَم متحف عن الإبادة الأمريكية للسكان الأصليين ولتاريخ أمريكا المظلم في استغلال العبيد السود إلى درجة تكاد تكون مترادفة مع الإبادة؟ ولماذا لم يذكر المتحف عشرات القساوسة الكاثوليك والرعاة البروتستانت الذين ضحوا بحياتهم من أجل اليهود؟

3 ـ هناك الكثير من الحقائق التي قام المتحف بإخفائها، فالمتحف لم يذكر شيئاً عن تعاون كثير من قيادات الجماعات اليهودية (خصوصاً الصهاينة) مع النازيين، وتجاهل سؤالاً مهماً هو: هل كانت المقاومة اليهودية للإبادة النازية بالقوة المطلوبة؟ وهل كان بإمكان آلة الفتك الألمانية أن تستمر في الدوران لو رفض ملايين الضحايا أن يتعاونوا مع قاتليهم؟ بل ولنأخذ قضية مثل إنقاذ اليهود. فمن المعروف أن القيادات الصهيونية لم تكترث بذلك كثيراً، بل من المعروف أن القيادات الصهيونية كانت تعارض إنقاذ اليهود عن طريق فتح أبواب الهجرة أمامهم في بلاد أخرى غير فلسطين. وقد جلست مندوبة المُستوطَن الصهيوني في مؤتمر إيفيان، وكان اسمها جولدا مائير، دون أن تبدي أي اهتمام بعمليات الإنقاذ التي عُقد المؤتمر من أجلها. وبعد الحرب، حينما سُئلت عن سبب عدم اكتراثها هذا، عللته بأنها لم تكن تعرف حجم الكارثة.

4 ـ احتج الألمان على الصورة المُبتسَرة التي قُدِّمت عن ألمانيا. فتاريخ ألمانيا يمتد عدة مئات من السنين قبل الإبادة، وما يزيد على أربعين سنة بعدها، فلماذا التركيز على هذه الحقبة دون غيرها؟. ولذا، اقترحت الحكومة الألمانية أن يُلحَق جناح عن ازدهار الديموقراطية الألمانية بعد الحرب. وغني عن القول أن الطلب قد رُفض.

ثانياً: متحف الإبادة فى لوس أنجلوس:

يبدو أن بعض قطاعات الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بدأت تدرك خطورة احتكار دور الضحية، ولذا نجد أن متحف الإبادة الذي شُيِّد في لوس أنجلوس (الذي افتُتح في فبراير 1979) يُدعَى «بيت شواح (أي بيت الإبادة) ومتحف التسامح». ولهذا الاسم المزدوج أعمق دلالة، فهو يضع الدائرة اليهودية داخل دوائر أخرى مشابهة. تتسم واجهة المتحف بأنها حديثة محايدة، فهي مصنوعة من الجرانيت والزجاج، ويمكن القول بأن معمار المتحف ككل يتسم بالحداثة (ولا يتحيَّز إلى ما بعد الحداثة). فهو بواجهته وأدواره الأربعة لا يختلف عن كثير من المباني المحيطة به.

وكما أسلفنا ينقسم المتحف إلى قسمين، ولنبدأ بالقسم المُخصَّص للتسامح، وهو يغطي تاريخ التعصب في الولايات المتحدة منذ إبادة السكان الأصليين (الهنود الحمر) حتى حادثة ضرب رودني كينج وتبرئة ضباط الشرطة الذين قاموا بضربه. وتتضح حداثة المتحف في استخدامه التكنولوجيا المتقدمة بشكل مكثف. فحينما تدخل المبنى يقابلك إنسان مكوَّن من 10 أجهزة فيديو، يخبرك أنك إنسان فوق المتوسط، لا تشعر بأي تعصُّب ضد الآخرين، ولكنه يستمر في الحديث ليُبيِّن بعض أشكال التعصب الكامنة في النفس البشرية. وحينما تتركه، ستجد أمامك بابين: واحد للمتعصبين وواحد لغير المتعصبين.وبطبيعة الحال،سيتجه الجميع وبشكل تلقائي للباب الثاني،ولكنهم سيكتشفون أنه مغلق (فهل هذا يعني أن كل البشر متعصبون؟).ثم يدلـف المتفـرجـون إلى صــالة يسمعون فيهــا همســات المتعصــبين،ويشــاهدون فيها أفلاماً عن إبادة الأرمن والكمبوديين وسكان أمريكا الأصليين في أمريكا اللاتينية.

أما القسم الثاني الخاص بالإبادة، فتوجد به صالة الشهادة التي يمكنك فيها أن تسمع التواريخ الشفهية التي يرويها الضحايا، وشهادات من لا يزال على قيد الحياة. وهناك إحياء لذكرى الأغيار الأتقياء «رايتيوس جنتايلز righteous gentiles» ممن ساعدوا أعضاء الجماعات اليهودية في محاولة الفرار من النازيين، كما توجد غرفة يمكنك أن تجد فيها تقارير متجددة عن جرائم الكره والتعصب. وفي الوقت الحالي، على سبيل المثال، يمكن أن يتابع الزوار أولاً بأول جرائم التطهير العنصري في البوسنة. وكما هو الحال في متحف إحياء ذكرى الإبادة في واشنطن، فإن كل زائر في المتحف يُعطَى بطاقة تحمل صورة أحد الضحايا يمكنه أن يتابع قصة حياته من خلال شاشات العرض المختلفة في المتحف.

وتوجد في الولايات المتحدة بضعة مراكز تذكارية ومتاحف أخرى صغيرة مُخصَّصة للإبادة النازية (مركز دالاس التذكاري لدراسات الإبادة ـ مركز الإبادة النازية التذكاري في ميشحان). ويبدو أن من المقرر إقامة متحف في نيويورك باسم «ذكرى الإبادة النازية ـ متحف التراث اليهودي».

ويذهب بعض المعلقين إلى أن هذه المتاحف لن تؤدي إلى إحياء ذكرى الإبادة، وإنما سيتم من خلالها أمركة الهولوكوست، وأن الإبادة النازية ليهود أوربا ستصبح مثل ميكي ماوس وكوكاكولا وماكدونالد وألعاب الأتاري الإلكترونية المسلية. وبعد عدة سنين ستصبح الإبادة ماركة تجارية مسجلة (De Shoah Business على حد قول المجلة الألمانية دير شبيجل) لا علاقة لها بأوشفيتس، وإنما بمتحف في لوس أنجلوس أو واشنطن.

ويعتقد الكثيرون، بناء على المنطق والملاحظة المباشرة، أن إنشاء متاحف الإبادة في الولايات المتحدة هو مؤشر آخر على الهيمنة الصهيونية واليهودية. ولكن من المفارقات أننا لو تعمقنا بعض الشيء لاكتشفنا شيئاً مدهشاً ومغايراً تماماً لما نتصور، فمما لا شك فيه أن هذا المتحف تعبير عن قوة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. ولكن هل هذا يعني بالضرورة تعاظُم قوة إسرائيل؟ إن الربط الذي يقوم به العقل العربي بين النفوذ اليهودي والنفوذ الإسرائيلي هي عملية منطقية لا علاقة لها بالواقع المتعيِّن. فقد اعترضت الصحف الإسرائيلية على إقامة هذا المتحف وبقوة. وفي إسرائيل يوجد ضريح ياد فاشيم (النصب والاسم) الذي أُقيم لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة. وقد أصبح هذا النصب المزار الأساسي الذي يتعيَّن على كبار الزوار زيارته حينما يذهبون إلى إسرائيل. ويرى المستوطنون الصهاينة أن إسرائيل هي المركز القومي والحضاري والمعنوي ليهود العالم الذين يُشكِّلون بالنسبة لها مجرد الهامش أو الأطراف، ومن ثم لابد أن يظل المزار الأساسي للشعب اليهودي في الوطن القومي. ولذا، فإن إقامة متحف لإحياء ذكرى الإبادة النازية على هذا المستوى في عاصمة الولايات المتحـدة، وآخر في لـوس أنجلوس، يُشكِّل تحـدياً لوجهة النظر الصهيونية، ويُشكِّل محاولة من جانب يهود الولايات المتحدة لخلق مسافة بينهم وبين المستوطَن الصهيوني ليزيدوا قوة استقلالهم. ومن ثم، فإن متاحف الإبادة قد تكون تعبيراً عن مدى قوة الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، ولكنها لا تُشكِّل تعاظماً للنفوذ الصهيوني وإنما تحدياً له.

  • الاثنين AM 11:36
    2021-04-05
  • 930
Powered by: GateGold