المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415263
يتصفح الموقع حاليا : 223

البحث

البحث

عرض المادة

هنري كورييل (1914-1978)

Henri Curiel
سياسي يهودي مُتمصِّر، ومؤسس أحد أهم التنظيمات الشيوعية في مصر خلال الأربعينيات. وهو من أبرز قادة الحركة الشيوعية المصرية في تلك الفترة. وُلد في القاهرة لعائلة يهودية سفاردية قَدمت إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر من إيطاليا، وذلك في الفترة التي شهدت تدفُّق المستثمرين الأجانب على مصر للاستفادة من الأوضاع الاقتصادية والظروف السياسية والقانونية المواتية للاستثمار الأجنبي في مصر. ويبدو أن العائلة ادعت نسبها إلى مدينة ليغورن الإيطالية، وهي خطوة أقدمت عليها على ما يبدو كثير من العائلات اليهودية التي جاءت إلى مصر بعد أن احترق أرشيف المواليد والوفيات في ليغورن، وذلك ليكتسبوا الجنسية الإيطالية ويستفيدوا من الامتيازات الأجنبية. وقد كان والد هنري، دانييل نسيم كورييل، يمتلك مصرفاً صغيراً متخصصاً في الرهونات وإقراض الأموال للفلاحين. أما والدته، زفير بيهار، فجاءت من أسرة يهودية ثرية تعيش في إستنبول وتشتغل بتجارة السجاد. وقد اعتنقت زفير المسيحية الكاثوليكية وعمَّدت هنري وشقيقه راؤول سراً.


تلقَّى هنري تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس الجزويت الفرنسية في مصر، ثم درس الحقوق الفرنسية بالقاهرة حيث كان والده يُعدُّه لإدارة مصرف العائلة. ومما يُذكَر أن البورجوازية الأجنبية في مصر، ومن بينها العائلات اليهودية، كانت تعيش في عزلة اجتماعية وثقافية عن أغلب أفراد الشعب المصري، وكان أبناؤها يتلقون تعليمهم في المدارس الأجنبية والجامعات الأوربية، وكانت الفرنسية هي لغة التخاطب فيما بينهم. وقد عبَّر كورييل عن هذا الانتماء الثقافي الأجنبي بقوله: « كان من الصعب على يهودي إيطالي تخرَّج من مدرسة فرنسية أن يجد نقطة ارتباط حقيقية في بلد مسلم، وكانت فرنسا هي الوطن الوحيد الذي أشعر بالارتباط به بعد أن فقدت إيماني [الديني] مبكراً ». ومع ذلك، نجد أن كورييل اختار، عند بلوغه سن الحادية والعشرين (عام 1935) اتخاذ الجنسية المصرية، متنازلاً بذلك عن جنسيته الإيطالية بما كانت توفر له من امتيازات. وبرَّر كورييل هذه الخطوة بأنها تمت بدافع حبه لمصر ونفوره من هذه الامتيازات، وكذلك تأثره بمظاهرات الطلبة في مصر عام 1935 المطالبة بالاستقلال الوطني وعودة دستور 1923.

وتأثر كورييل في هذه الفترة أيضاً بالفكر الاشتراكي والماركسي الذي تعرَّف إليه من خلال شقيقه راؤول الذي كان يدرس في فرنسا، كما صدمه بؤس أحوال الفلاحين والعمال في مصر، فحسم اختياره لصالح الشيوعية وقرَّر الانخراط في العمل السياسي في مصر لصالح الطبقات الكادحة. كما أن صعود الفاشية والنازية في أوربا كان من الأسباب التي دفعت أبناء الجاليات الأجنبية، وخصوصاً أبناء البورجوازية اليهودية، إلى الاهتمام بدراسة الماركسية. وقد شارك كورييل في الأنشطة المعادية للفاشية، وساهم في إصدار مجلة باللغة الفرنسية تدعو إلى مقاومة الفاشية. ثم انضم عام 1939 إلى الاتحاد الديموقراطي الذي أسسه شقيقه راؤول كورييل بالتعاون مع جورج بوانتي ومارسيل إسرائيل والإيطاليين ساندروكا وباجيلي واليوناني كيبريو والمصري أحمد الأهواني الذي نشط أيضاً في مجال مكافحة الفاشية. وقد كان ذلك الاتحاد يعقد اجتماعاته الأولى في مركز محفل ماسوني إيطالي. وكما يقول كورييل، كان الماسونيون أعداء منطقيين للفاشية التي تضطهدهم وأصبح بعضهم مناضلين شيوعيين.

وفي عام 1941، افتتح كورييل مكتبة بميدان مصطفى كامل، ولعبت هذه المكتبة دوراً مهماً في توفير الأدبيات الماركسية باللغات الأجنبية والعربية، بعد أن كانت هذه الأعمال ممنوعة منذ عام 1924. وكانت هذه المكتبة كذلك حلقة اتصال بالعناصر الماركسية بين جنود قوات الحلفاء المتمركزين في مصر، ومن بينهم جنود الفرقة اليهودية التي عمل الصهاينة على تأسيسها للخدمة في صفوف الجيش البريطاني، وقام عناصرها بتوصيل الكـتب المعادية للفاشية إلى الأسـرى الألمان والإيطاليين. وكانت علاقة كورييل بعناصر هذه الفرقة، بل ثناؤه عليهم واستعداده لمساعدتهم، أحد الأسباب التي أثارت التساؤلات والجدل حول علاقته بالصهيونية فيما بعد. كما أن أنشطته هذه مع جنود الحلفاء أثارت الشكوك حول علاقته بالمخابرات البريطانية. وقد اتهمه الحزب الشيوعي الفرنسي بذلك بالفعل، خصوصاً أنه كان على علاقة صداقة بضابط إنجليزي بالمخابرات البريطانية كان يعمل في مصر خلال الحرب (روبرت براوننج). وقد أكد كورييل أن براوننج كان ماركسياً وانضم بعد الحرب إلى الحزب الشيوعي البريطاني، ونفى أن تكون لعلاقته به أية أبعاد مريبة.

كما اهتم كورييل بتوزيع المنشورات المعادية للفاشية، والتي كانت تدعو المصريين إلى مقاومة التقدم الألماني، خصوصاً أن عناصر عديدة داخل الحركة الوطنية المصرية كانت على استعداد للترحيب والتعاون مع الألمان باعتبارهم أعداء الإنجليز.

ونتيجةً لنشاطه السياسي، اعتُقل كورييل عام 1942. ونظراً لأنه كان قد اكتسب الجنسية المصرية، أُودع معتقل الزيتون مع غيره من المصريين، ودامت مدة اعتقاله بين 6 و7 أسابيع. ولكنها كانت فرصة حقيقية ـ على حد قول كورييل ـ لكي يتلَّمس عن قرب، ولأول مرة، واقع السياسة المصرية، ويدرك مدى رفض المصريين للوجود البريطاني ومن ثم صعوبة استجابتهم لدعوى مقاومة المحور ومساعدة عدوتهم إنجلترا. ومن هنا، أدرك كورييل أن أفضل سبيل للوصول إلى الجماهير المصرية هو الانطلاق من موقف ثابت في عدائه للإمبريالية وتنمية أقوى حركة شيوعية يمكن إقامتها على هذه القاعدة. وراودته في تلك الفترة أيضاً فكرة اعتناق الإسلام كوسيلة لتأكيد مصريته، وهو ما كان بعض أصدقائه من اليهود قد أقدموا عليه بالفعل، إلى جانب تعمُّقهم في دراسة اللغة العربية، ولكنه عدل عن ذلك حتى لا تؤخذ هذه الخطوة على أنها محاولة للهروب من خطر النازية التي كانت تقف على أبواب مصر.

وقد خرج كورييل من المعتقل وهو أكثر اقتناعاً بضرورة بناء تنظيم شيوعي. وبالفعل، أسس عام 1943 «الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو)». وتأسست في الوقت نفسه منظمتان شيوعيتان أخريان بقيادة عناصر يهودية أيضاً، وهما إيسكرا التي أسسها هيلل شوارتز والتي ركزت على تجنيد عناصر من المثقفين الأجانب والمصريين من أبناء البورجوازية المصرية ذوي الثقافة الفرنسية، ثم منظمة تحرير الشعب التي أسسها مارسيل إسرائيل وركزت على التوجه للعمال.

واتسمت علاقة التنظيمات الثلاثة بالصراع والتنافس والخلاف حول قضايا فكرية وتنظيمية. وظلت هذه الانقسامات والخلافات التي وُلدت بها الحركة الشـيوعة المصرية واحدة من السـمات الملازمة لها بعد ذلك، وهو ما دفع بعض المؤرخين المصريين مثل سعد زهران للتساؤل عن أسباب هذه الانقسامات التي وُلدت بها الحركة الشيوعية والتي لم يكن لها مبرر واضح. وبسبب هذه الخلافات والصراعات، لم تعترف الحركة الشيوعية الدولية بأي من التنظيمات، بل كانت تشتبه وترتاب في نشاطاتهم وترى أنهم ليسوا أكثر من حفنة من البورجوازيين الصغار المنخرطين في معارك ديوك لا تنتهي ولا علاقة لهم بالنضال الثوري. وقد حاول كورييل مدَّ جسور التعاون مع السفارة السوفيتية في القاهرة وأجرى اتصالاً بمستشار السفارة عام 1943. ورغم عدم إقبال الاتحاد السوفيتي على الاعتراف به أو بوجود شيوعيين في مصر، إلا أن هذا الاتصال أثار ضده تهمة العمالة للاتحاد السوفيتي.


وبين قضايا الخلاف، كانت هناك مسألة التمصير والعمالية فقد أصر كورييل على تمصير حمتو، فضمت الحركة غالبية مصرية على جميع المستويات بما في ذلك اللجنة المركزية، على عكس منظمة إيسكرا مثلاً التي أصرت على بقاء قيادة التنظيم أجنبية خالصة. كما اهتمت حمتو بتوسيع القاعدة العمالية في صفوفها وركزت على تجنيد القيادات العمالية النشيطة، وتحركت في الجيش وفي صفوف الطلبة وكان لها كوادر بين طلبة الأزهر الذين كانوا حلقة الوصل بين الحركة والريف المصري. واهتم كورييل أيضاً بالتحرك بين صفوف النوبيين وتجنيدهم للعمل النضالي وإحباط محاولة الاستعمار فصل النوبة عن مصر، وكان لهم قسم خاص في الحركة، وكذلك كان الأمر مع السودانيين (ثم فُصل هذا القسم فيما بعد ليكوِّن الحركة السودانية للتحرر الوطني التي كانت نواة الحزب الشيوعي السوداني). وكان موقف كورييل من السودان هو المطالبة بحقه في تقرير المصير، إما بالوحدة مع مصر أو الاستقلال التام عنه، وهذه هي أول سباحة ضد التيار العام للحركة السياسية المصرية على حد تعبير د. رؤوف عباس التي كانت تطالب بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري.

وقد تبنَّى كورييل أيضاً موقفاً مؤيداً للوحدة العربية حيث اعتبرها حقيقة لابد منها. ومن ثم، فقد أيَّد تأسيس الجامعة العربية وجعل وحدة الشعوب العربية هدفاً من الأهداف السياسية لحمتو. واختلفت معه التنظيمات الشيوعية الأخرى واتهمته بالعمالة للإمبريالية.

أقام كورييل مدرسة لتعليم وتدريب كوادر الحركة في سراي عزبة والده بالمنصورية. ومن السلبيات التي تؤخذ على كورييل (وقد اعترف بها فيما بعد) التركيز على الإعداد الحركي للكوادر وعلى تدريبهم على العمل الجماهيري على حساب الإعداد النظري الكافي، وعلى تأصيل الثقافة الماركسية بينهم.

وقد اهتم كورييل أيضاً بالعمل الجبهوي، حيث كان يرى أن من أهم أسباب فاعلية الحركة الجماهيرية وحدة القوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها السياسية، ولذلك انضم مع يسار الوفد والإخوان المسلمين لتشكيل جبهة وطنية عام 1946 عُرفت باسم اللجنة الوطنية للطلبة والعمال (انشق عنها الإخوان فيما بعد). ولعبت هذه اللجنة دوراً رئيسياً في قيادة النضال الوطني عام 1946، وهو ما دفع السلطات لبدء حملة اعتقالات واسعة شملت مائتي شخص فيما عُرف بقضية المؤامرة الشيوعية الكبرى وكان كورييل المتهم الأول فيها. وقد أُفرج عنه بعد عشرين شهراً بعد أن قضت محكمة الجنايات ببراءته.

وفي عام 1947، بدأ التفكير في توحيد صفوف الحركة الشيوعية المصرية. وبالفعل، اتحدت حمتو مع إيسكرا لتكوين الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو). ولكن هذا التنظيم الجديد لم يخل من الخلافات الفكرية والتنظيمية التي أسفرت عن انشقاقات وانقسامات جديدة نتجت عنها تنظيمات عديدة أخرى. وكان من أهم نقاط الخلاف مسألة التمصير ودور الأجانب أو المتمصرين في القيادة ومن بينهم هنري كورييل الذي اعتبر، برغم تأييده لمسألة التمصير، أن المطالبة بتخليه عن القيادة نوع من الشوفينية. ومن ناحية أخرى، يذهب بعض مؤرخي هذه الحقبة، مثل مصطفى طيبة، إلى أن السبب الرئيسي وراء انقسام وتَشرْذُم حدتو هو الجانب الانتهازي للوحدة، حيث كانت قيادة كل تنظيم تسعى إلى استقطاب كوادر الطرف الآخر نحوها وإقناعها بسلامة خطها الثوري وأنها تشكل التيار الثوري الوحيد. ويرى طيبة أن هذا الاتجاه ظل مسيطراً على سلوك جميع التنظيمات الشيوعية حتى بعد أن تم استبعاد جميع الأجانب عن الحركة الشيوعية، فكان وراء فشل التحالفات اللاحقة.

ومن أهـم أسـباب الخلاف والانشـقاق في تلك الفترة قضـية فلسطين، وقد كان كورييل وراء الموقف المؤيد الذي اتخذته حدتو بالنسبة لقرار التقسيم عام 1947 ومعارضتها بشدة دخول مصر الحرب. وأسَّس كورييل موقفه هذا من منطلق أممي وطبقي، وأيضاً تمشياً مع موقف الاتحاد السـوفيتي والموقف الشـيوعي العـالمي إزاء قضـية التقسيم. وأدان كورييل كلاًّ من الصهيونية والرجعية العربية والاستعمارين البريطاني والأمريكي، ونادى بالنضال المشترك لليهود والعرب في فلسطين ضد الاستعمار. ورغم رفض كورييل الصهيونية واعتباره إياها حركة بورجوازية متحالفة مع الاستعمار، إلا أنه لم ينكر حق اليهود في فلسطين في الوجود القومي، ودعا إلى التفرقة بين الصهيونية واليهود في فلسطين معتبراً أنهم أصبحوا ذوي سمات مميِّزة تختلف عن يهود الدول الأخرى وأصبحت لهم ثقافتهم ولغتهم ومؤسساتهم الخاصة. وبيَّن كورييل أن رُبع يهود فلسطين من الفلاحين والعمال وأن لهم حقوقاً قومية وسياسية يجب الاعتراف بها ومنحهم إياها، بما في ذلك حق الانفصال وذلك استناداً إلى شروط الأمة التي حدَّدها ستالين. واعتَبرَت حدتو أن الحرب ضد الصهاينة إثارة لحرب دينية لا يُفيد منها سوى المستعمر، ودعت إلى ضرورة تعبئة الجماهير الكادحة لمكافحة الاستعمار أولاً. وانتقد كورييل الدعاوى العنصرية التي حاولت حرف مسيرة الكفاح من كفاح سياسي ضد الاستعمار وضد الصهيونية كحركة استعمارية إلى كفاح عنصري ضد اليهود. وكان لموقف حدتو من قضية فلسطين انعكاس سلبي على شعبية الحركة الماركسية بأكملها رغم أن التنظيمات الشيوعية الأخرى اتخذت موقفاً معارضاً للتقسيم ورغم إدانة الحركة بشكل عام للصهيونية. كما كان موقفه هذا من أهم أسباب اتهامه بالصهيونية، سواء من قبَل معارضيه داخل الحركة الشيوعية أو من قبل القوى السياسية الأخرى في مصر.

وقد اعتُقل كورييل مع غيره من الشيوعيين في مايو 1948 بعد إعلان الأحكام العرفية بسبب حرب فلسطين. لكنه رفض أن يتم الإفراج عنه مقابل قبوله الهجرة من مصر وترحيله إلى إسرائيل، كما فعل بعض الشيوعيين اليهود، فظل في المعتقل مع سائر الشيوعيين المصريين حتى أُفرج عنه عام 1950. وحاول أن يعيد تنظيم صفوف حدتو بعد ظروف الاعتقالات والانقسامات، ولكن أجهزة الأمن المصرية قامت بإبعاده من البلاد في العام نفسه بحجة بطلان إجراءات اكتسابه للجنسية المصرية عام 1935. وقد رفض كورييل الذهاب إلى إسرائيل، وظل لفترة في إيطاليا، ثم نجح في دخول فرنسا حيث استقر في باريس، وهناك كوَّن مجموعة روما للحركة الديموقراطية للتحرر الوطني التي تشكلت من العناصر اليهودية التي خرجت من المعتقل في مصر عام 1949 وتوجهت إلى إسرائيل ثم فضَّلت التوجه والاستقرار في فرنسا. وظلت المجموعة على اتصال وثيق بكوادر حدتو في مصر وقدمت العون المادي والمعنوي لمعتقليها في سجون مصر. وفي عام 1958، قرَّر الحزب الشيوعي المصري المتحد حل مجموعة روما وفصل أعضائها لأنهم مجموعة أجنبية ومنعزلة عن الواقع المصري وبعيدة عن رقابة الحزب.

ولم يكن ذلك نهاية نشاط كورييل السياسي، إذ نقل اهتمامه السياسي من مصر إلى الجزائر. فأيَّد حركة التحرير الجزائرية واعتُقل مع قادتها، وبعد نجاح الثورة كان من بين مستشاري بن بللا. كما يبدو أنه كان على علاقة بمنظمات إرهابية وبحركات ثورية ويسارية في العالم الثالث على حد زعم أحد المصادر الفرنسية التي اتهمته بالعمالة للمخابرات السوفيتية.

أما على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كان كورييل حريصاً على إقرار السلام بين الطرفين. ورغم اعترافه بحق الفلسطينيين في الوجود القومي، إلا أنه ظل يؤمن بوجود قومية إسرائيلية ويدين المغامرات التوسعية الصهيونية، لكنه لم يُغيِّر موقفه المتمثل في ضرورة الوجود الآمن لإسرائيل. وكان كورييل قد أدان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولكننا بعد حرب عام 1967 نجده (كما جاء في خطاب له أورده جيل بيرو في كتاب رجل من طراز خاص) يقول: « الجماهير الإسرائيلية ترى أن الحرب لم تكن عدواناً من إسرائيل ولكن نضالاً من أجل بقاء بلدهم. فهل يُعقَل أن نطلب منهم العودة إلى وضع يصبحون فيه مهددين بالإبادة والفناء؟ وضع يتعيَّن عليهم أن يتنازلوا فيه عن الثمار التي حصلوا عليها مقابل تضحياتهم الجسيمة وبدون أي مقابل؟ ».

وسعى كورييل في قضية السلام بين العرب وإسرائيل، وكان على صلة بالحزب الشيوعي الإسرائيلي وكذلك ببعض عناصر منظمة التحرير الفلسطينية، وعمل على تدبير اللقاءات بين كلا الطرفين وعلى تشجيع الحوار بينهما.

وقد جاء اغتيال كورييل، والذي يُرجَّح أنه تم بيد أحد أجهزة المخابرات، ليزيد الاتهامات ويعمِّق الشكوك والتساؤلات التي طالما أحاطت به. ومن أهم التساؤلات التي طُرحت حوله بشكل خاص، والحركة الشيوعية المصرية بشكل عام، لماذا عاد هذا التيار إلى الحياة السياسية في مصر، بعد أن غاب وجوده منذ عام 1926، على أيدي عناصر أجنبية أغلبها من اليهود الأجانب أو المتمصرين ومن أبرزهم كورييل؟ فيتساءل محمد سيد أحمد: هل كان الدافع الحقيقي هو إنشاء حركة مستقلة للطبقة العاملة المصرية كما كانوا يدَّعون، أم كان إطلاق حركة رأي عام للمصريين والمثقفين الوطنيين والشباب المتحمس؟ حركة كفيلة بحمايتهم كجالية في وجه توجُّـه العديد من الشباب إلى النازية؟ ويشير سعد زهران إلى أن بريطانيا كانت تشجع في مصر (بعد عام 1936) الأنشطة المعادية للفاشية بين الجاليات الأجنبية، وأن أغلب الذين قاموا بهذه المهمة كانوا من اليهود الماركسيين الذين اجتمع لديهم حافز الخوف من هتلر مع القدرة على استخدام الماركسية. ويتساءل د. رؤوف عباس أيضاً عن السبب الذي دفع شباب البورجوازية اليهودية في مصر بالذات إلى اعتناق الماركسية وتأسيس الحركة الشيوعية دون غيرهم من الشرائح الأخرى من البورجوازية، ولماذا حدث ذلك في ظروف الحرب العالمية الثانية بالذات؟ ويؤكد د. رؤوف عباس على أن هذه الأسئلة تصبح مهمة إذا عرفنا أن الطلائع الماركسية اليهودية جلبت للحركة الشيوعية المصرية داء التكتلية والانقسام، كما جلبت إليها داء الإغراق في المناقشات النظرية والدخول في خلافات أيديولوجية مُصطنعة دون الاهتمام بالنضال السياسي، حتى يبدو الأمر كله وكأنه مُخطَّط مُعَد مُسبقاً.

أما طارق البشري، فيذهب صراحةً إلى أن هذا الوجود اليهودي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية لم يكن بعيداً عن التحرك الصهيوني في منطقة المشرق العربي المتاخمة لفلسطين، وهو التحرك الذي أسفر عن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948. كما يشير إلى أن إلغاء الامتيازات الأجنبية في منتصف الثلاثينيات أثار مخاوف الجاليات الأجنبية من ضياع امتيازاتهم الاقتصادية والاجتماعية فبدأوا يسعون لأن يكون لهم دور ما في الحركة السياسية المصرية ويشجعون عدداً من أفراس الرهان، منها الحركة الشيوعية، وحسبهم منها أن تكون ركيزة لمقاومة التيارين الإسلامي والقومي وهما تياران شعبيان. كما يرى طارق البشري أن الترويج للشيوعية اتفق مع التوجه الأجنبي اليهودي في السعي لتكوين منطقة أيديولوجية في السياسة المصرية وبين الشباب، منطقة تصلح مكاناً وموئلاً للوجود الأجنبي في السياسات المصرية. أما بالنسبة لكورييل ذاته، فيرى طارق البشري أن تكوينه الوجداني يتلاءم بشدة مع أنشطة المخابرات، فهو إنسان منقطع الجذور بارد الفكر والأعصاب، قراراته تتشكل دون دخل لأية عواطف أو غرائز. كما يؤكد أنه رغم رفض كورييل للصهيونية وإنكاره لها، إلا أن تحليله للوضع في فلسطين وموقفه إزاء هذه القضية كان في النهاية لصالح الصهيونية ومشروعها. كما يشير المؤرخون إلى مدى سيطرة العناصر اليهودية الأجنبية والمتمصرة على التنظيمات الشيوعية وحرصها على الاحتفاظ بمواقع القيادة، وأنهم ظلوا يمارسون نفوذاً قوياً على هذه التنظيمات حتى بعد إبعادهم عن مصر.

وأغلب التساؤلات السـابقة تجـد أن من الغـريب وجود اليهود الأجـانب والمتمصرين على رأس التنظيمات الشيوعية في مصر خـلال الأربعينيـات. وتلقـى بعض التفــسرات المطـروحة قـدراً مـن الضـوء على العـوامل التي قد تكـون وراء ذلك. ولا يمكن تفسـير هذه الظاهرة بشكل موضوعي دون أن يُؤخَذ في الاعتبار وضع الجاليات الأجنبية في مصر بشكل عام وأعضاء الجماعة اليهودية بشكل خاص، وذلك داخل إطار التحولات الخارجية الجارية على الساحة الدولية والتحولات والتفاعلات الداخلية الجارية في النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع المصري في هذه الحقبة التاريخية.

وبدايةً، نجد أن أغلب الجاليات الأجنبية، خصوصاً الطبقة البورجوازية منها، بحكم وجودها على هامش المجتمع المصري وابتعادها عن الحركة السياسية المصرية وعدم اهتمامها بها، كانت أكثر ارتباطاً بما يجري في أوربا. ولذلك، فإننا نجد أن كل الجاليات الأجنبية في ذلك الحين، كما يشير مصطفى طيبة، كانت تزخر باتجاهات وتيارات فكرية متعددة تُعتبَر انعكاسات لما كان يجري في أوطانها الأصلية (بما في ذلك الاتجاهات الاشتراكية بمدارسها المختلفة، والليبرالية، بل الفاشية والنازية أيضاً). ومع أن نشاط هذه الاتجاهات كان منحصراً داخل أفراد كل جالية، فإن ذلك لم يَحُل دون ظهور تنظيمات تضم أجانب من جنسيات مختلفة، ولذلك نجد أن أكثر العناصر اليهودية التي اعتنقت الفكر الماركسي كانوا أبناء البورجوازية والجامعات الفرنسية ممن تلقوا تعليمهم في المدارس الثانوية الفرنسية والجامعات الفرنسية، ومن ثم ارتبطوا ثقافياً ووجدانياً بفرنسا وتأثروا، كما يقول لنا كورييل نفسه، بالنضال الأوربي (وخصوصاً بانتصار الحزب الشيوعي الفرنسي والجبهة الشعبية في انتخابات 1936)، كما تأثروا بالحركة الشيوعية الدولية أكثر من العناصر المصرية، وبتجربة الاتحاد السوفيتي وبأدائه خلال الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في معركة ستالينجراد.

وكانت هذه الجاليات تتابع عن كثب التطورات الجارية في أوربا ومن بينها صعود الفاشية والنازية والتي عملت، على حد قول رفعت السعيد، على تزايد الاهتمام بالعمل السياسي والاجتماعي بين أعضاء الجاليات (خصوصاً بين اليهود) الذين أثار ذعرهم اشتداد هجمات جيوش المحور على حدود مصر. بالإضافة إلى أن أغلب أعضاء البورجوازية اليهودية في مصر كانوا يحملون الجنسية الإيطالية ويحتلون مواقع بارزة داخل الجالية الإيطالية، ومن ثم فقد كانوا أقرب لتلمُّس أثر امتداد الفاشية إلى أبناء الجالية الإيطالية وتأثيرها عليهم، وساهموا في تشكيل جماعات مناهضة للفاشية لمواجهة هذا الاتجاه داخل الجالية. ومما لا جدال فيه أن أغلب العناصر اليهودية التي ساهمت في تأسيس التنظيمات الشيوعية خرجت من بين صفوف الجماعات التي تأسست أصلاً لمكافحة الفاشية في تلك الفترة، مثل اتحاد أنصار السلام الذي أسسه بول جاكو دي كومب عام 1934، ثم الاتحاد الديموقراطي الذي سبق ذكره. كما كان للتحركات الاجتماعية والسياسية في مصر انعكاسها على وضع الأقليات الأجنبية، ومن أهمها صعود حركة وطنية مصرية قوية معادية للوجود الأجنبي وللبورجوازية المهيمنة على اقتصاد البلاد والمرتبطة بالمصالح الاستعمارية وبالرأسمالية الأوربية. وقد ظهر في الثلاثينيات أيضاً تياران سياسيان، أحدهما ذو اتجاه قومي مصري (مصر الفتاة) والآخر ديني إسلامي (الإخوان المسلمون)، وكلاهما كان معادياً بشدة للوجود الأجنبي. وكان وضع الجماعة اليهودية أكثر حساسية، وخصوصاً مع تصاعُد الصراع حول فلسطين. وقد وجَّه التيار الديني الاتهام لليهود باعتبار أنهم طابور خامس للصهيونية، كما قامت عناصره مع عناصر من مصر الفتاة بالهجوم على بعض الممتلكات والمعابد اليهودية عام 1945 أثناء المظاهرات التي قامت بمناسبة ذكرى وعد بلفور. وقد اتهم كورييل هذين التيارين بالفاشية ومعاداة اليهود.

ولا شك أيضاً في أن إلغاء الامتيازات عام 1937 كان له أعظم الأثر في إثارة مخاوف الجاليات الأجنبية، ومن بينهم اليهود من أعضاء البورجوازية، على مستقبل أوضاعهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم اهتمامهم بالاشتراك في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. ولكن يجب التذكير بأن كورييل اختار التنازل عن هذه الامتيازات بمحض إرادته وذلك عندما اختار الجنسية المصرية عام 1935.

وتبنَّى أعضاء الجماعة اليهودية في مصر ردود أفعال متباينة إزاء هذه التحولات. فاليهود في مصر لم يُشكِّلوا جماعة متجانسة ثقافياً أو اجتماعياً أو طبقياً، بل تنوعت أصولهم الإثنية وجنسياتهم وثقافتهم ولغاتهم ومواقفهم الطبقية ومصالحهم الاقتصادية، ومن ثم اختلفت خياراتهم وتنوع نشاطهم السياسي.

واختار أغلب أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً أعضاء البورجوازية اليهودية السفاردية التي كانت تخشى على مصالحها المالية والتجارية في مصر، عدم الانخراط في السياسة وتأكيد ولائهم للدولة والملك ورفض الصهيونية والشيوعية على حدٍّ سواء. في حين اتجه قطاع آخر على رأسهم يوسف أصلان قطاوي وابنه رينيه قطاوي وحاييم ناحوم أفندي كبير حاخامات مصر إلى تأييد الحركة الوطنية المصرية والدعوة إلى ضرورة تمصير أعضاء الجماعة اليهودية ودمجهم في المجتمع المصري. كما أبدى نادي الشباب اليهودي المصري خلال الثلاثينيات والأربعينيات تضامنه مع المطالب الوطنية المصرية بشكل عام ومع حزب الوفد بشكل خاص، ولكن هذا التيار ظل هامشياً للغاية وانحصر في عدد من المحامين والكُتاب والصحفيين اليهود ولم ينجح في تعريب أو تمصير أعضاء الجماعة. واختار قطاع ثالث الصهيونية، وتركزت أغلب هذه العناصر بين اليهود الإشكناز وعناصر الطبقات الدنيا والوسطى من أعضاء الجماعة، وخصوصاً بعد عام 1947، حيث كانت هذه العناصر أكثر القطاعات تضرراً من قوانين التمصير. واختار قطاع رابع الشيوعية، وذلك باعتبارها السبيل الوحيد نحو الاندماج في المجتمع المصري على أسس أممية وعن طريق إجراء تحويل جذري في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد. وقد تركزت أكثر هذه العناصر كما أسلفنا بين أبناء البورجوازية الكبيرة والمتوسطة من خريجي المدارس الفرنسية.

ومما سبق، تتضح بعض العوامل التي تُفسِّر نشأة التنظيمات الشيوعية في مصر على أيدي عناصر أجنبية يهودية بشكل خاص. وكان لهذه النشأة ولا شك آثار على طبيعة هذه التنظيمات وسياستها من أهمها تأكيد وتضخيم مفهوم الأممية على حساب المفهوم القومي والخضوع لتقديرات الوطن الاشتراكي الأول (الاتحاد السوفيتي). وقد يُفسِّر ذلك موقف كورييل وحدتو من قضية فلسطين (وإن كان يجب الأخذ في الاعتبار أن التنظيمات الشيوعية الأخرى، تحت قيادة عناصر يهودية أيضاً، قد رفضت قرار التقسيم)، بالإضافة إلى أن كورييل ظل حتى آخر حياته متمسكاً بوجود قومية إسرائيلية وبحق إسرائيل في الوجود الآمن. ولا شك أيضاً في أن ثقافة كورييل الأجنبية، وكذلك ثقافة غيره من الماركسيين الأجانب ونشأتهم على هامش المجتمع المصري وفي عزلة عنه، حال دون صياغة نظرية مصرية لتفسير وتغيير المجتمع المصري العربي، نظرية تستند إلى إدراك حقيقي ودقيق لواقع هذا المجتمع بتفاصيله وتناقضاته وخصوصيته، الأمر الذي نتجت عنه سلسلة من الأخطاء السياسية وما صاحبها من انقسامات وتشرذم.

ورغم علامات الاستفهام التي ظلت تطارد هنري كورييل طوال حياته، فقد ساهم بشكل فعال (كما يذكر د. رؤوف عباس) في أن أصبح الفكر الاشتراكي والماركسي مطروحاً بشكل أكثر إلحاحاً على الساحة السياسية المصرية، وفي إعداد الكوادر المصرية من العمال والمثفقين الذين كانت لهم إسهامات مهمة في الحركة الشيوعية المصرية، وفي تأسيس أكثر التنظيمات الشيوعية المصرية استمراراً وأوسعها قاعدة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحركة الشيوعية المصرية كانت لها إسهاماتها الثرية في المجال الفكري والثقافي والسياسي المصري، ولعبت دوراً بارزاً في حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار. وكما يذكر طارق البشري، فإن الحركة الشيوعية قد أغنت السياسات الوطنية بمفاهيم جديدة تتعلق بالمضمون الاجتماعي لحركة التحرر الوطني وبالتصنيف الطبقي للمجتمع وتأكيد أولوية التحرر الاقتصادي والسياسي من الاستعمار.

 

  • الاثنين AM 11:06
    2021-04-05
  • 922
Powered by: GateGold