المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415979
يتصفح الموقع حاليا : 326

البحث

البحث

عرض المادة

رؤية فرنر سومبارت (1863-1941) للعلاقة بين الرأسمالية والجماعات اليهودية

Werner Sombart on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities
يرى العالم الألماني فرنر سومبارت (1863 ـ 1941) أن ثمة علاقة قوية بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (وبخاصة يهود المارانو) من جهة وظهور الرأسمالية وتطوُّرها من جهة أخرى. ويبدو أن هذا السؤال مطروح على سومبارت منذ بداية رحلته الفكرية، وأنه حاول أن يعثر على إجابة إلى أن وجد ضالته. ويميِّز سومبارت بين نشاطين رأسماليين أحدهما «النشاط التجاري» (بالإنجليزية: كوميرشيال commercial) والآخر هو «النشاط الاستثماري» (بالإنجليزية: أنتربرينريال entrepreneurial). والترجمة الحرفية لهذه العبارة هي «رأسمالية المقاولات أو الوسطاء» ولكنها لا تؤدي المعنى المطلوب تماماً، على عكس الترجمة التي نقترحها. وهكذا، فإن النشاط الرأسمالي الاستثماري حسب تصوُّر سومبارت نشاط نيتشوي يتسم بالحيوية والتوقد الذهني والإدراك السريع وروح المغامرة والتجديد والإحساس بالقوة والرغبة في تجاوز الأخلاق والحسابات العادية (أو أخلاق العبيد في فلسفة نيتشه). ويرى سومبارت أن المستثمر الرأسمالي يشبه أبطال ملحمة بيولف الأنجلو ساكسوني، فيما يُسمَّى «العصر البطولي»، وهي فترة قبل العصور الوسطى في الغرب وقبل دخول المسيحية. فهؤلاء الأبطال يجدون لذة غير عادية في الكفاح والصراع باعتبارهما هدفين في ذاتيهما، ويدخلون الحروب التي ليس وراءها عائد مادي، وهم يدخلون في علاقة مباشرة متعينة مع الأشياء، وهي هنا العملية الإنتاجية. كل هذا يقف على الطرف النقيض من الرأسمالية التجارية التي تنظر إلى العالم بمنظار موضوعي.


وهذا التقسيم هو، في واقع الأمر، تعبير عن التقسيم الثنائي الأساسي في علم الاجتماع الألماني بين المجتمع التقليدي العضوي المترابط (الجماينشافت)، والجماعة التعاقدية الذرية المفتتة (الجيسيلشافت). والرأسمالية الاستثمارية تعبير عن الجماعة الأولى، والرأسمالية التجارية تعبير عن الثانية.

ومن الواضح أن التمييز بين هذين النوعين من الرأسمالية هو تعبير عن الصـراع بين رؤية الاسـتنارة الآلية والرؤية العضـوية المعادية للاستنارة. وتبنِّي سومبارت للفكر العضوي هو في جوهره احتجاج على تزايد معدلات الترشيد والعلمنة في المجتمع الغربي.

كما أننا سنلاحظ أن الرأسمالية التجارية هي رأسمالية المجتمعات الإقطاعية التي تضطلع بها الجماعات الوظيفية الوسيطة على عكس النشاط الرأسمالي الاستثماري، وهو ما يعادل الرأسمالية الرشيدة عند فيبر.

ويرى سومبارت أن أعضاء الجماعات اليهودية ساهموا في تطوُّر الرأسمالية بشكل عام، وإن كانت هناك عدة عناصر جعلت ارتباطهم بالرأسمالية التجارية أكثر قوة من ارتباطهم بالرأسمالية الاستثمارية. ويورد سومبارت عدة أسباب لهذه الظاهرة بعضها يعود إلى النسق الديني اليهودي والبعض الآخر يعود إلى وضعهم في المجتمعات الغربية:

1 ـ لم تُحرِّم اليهودية التجارة، ولم تنظر إليها نظرة سلبية، وإنما قامت بتنظيمها بل تشجيعها. وأبدت اهتماماً خاصاً بالأعمال المالية من أجل تحقيق الربح.

2 ـ حرَّمت اليهودية الإقراض بالربا بين اليهود ولكنها أحلته بين اليهودي وغير اليهودي، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام اليهودي للاشتغال بالأعمال المالية ومراكمة رأس المال.

3 ـ تشجِّع اليهودية الاعتدال والتحكم في الذات وعدم التعبير عن العواطف والدوافع بشكل تلقائي إلا من خلال قنوات شرعية مُعتَرف بها دينياً. ويعني هذا، في واقع الأمر، تحويل طاقات حيوية هائلة للنشاطات الاقتصادية. ويرى سومبارت أن هذا هو الترشيد الاقتصادي بعينه.

4 ـ يشير سومبارت إلى النسق الديني اليهودي، فيُلاحظ أن اليهودية مجردة من الأسرار والطقوس ذات الطابع الرمزي، وهو ما يعني أنها تنمي عقلية رشيدة عقلانية تميل نحو الحساب وتبتعد عن المغامرة.

5 ـ العلاقة بين اليهودي والخالق علاقة تعاقدية، فالخالق ليس عنصراً محاطاً بالأسرار وإنما عنصر مجرد غير شخصي لا يمكن للمؤمن الدخول معه في علاقة شخصية، وبالتالي تظل العلاقة معه مجردة غير شخصية.

6 ـ ربطت اليهودية بين القداسة والثواب والعقاب في العالم الآخر من جهة وفكرة التعاقد من جهة أخرى. فمن يؤدي وصايا الخالق لابد أن يُكافأ على أفعاله بحسب العلاقة التعاقدية. وشجع هذا ظهور اتجاه إنمائي بحيث يمكن للمؤمن أن يرجئ تحقيق رغباته في سبيل المكافأة النهائية، وهذا ضرب من التقشف ذي التوجه الدنيوي على نقيض التقشف الديني ذي التوجه الأخروي.

7 ـ يُلاحظ سومبارت أن اليهودية ديانة معادية للطبيعة تهدف إلى غزوها والهيمنة عليها، وهذا هو أحد أهداف الرأسمالية.

كل هذه العناصر في النسق الديني اليهودي تتفق تماماً مع روح الرأسمالية، الأمر الذي جعل اليهود مرشحين لأن يضطلعوا بالوظائف التجارية أكثر من أي قطاع بشري آخر. ومما ساعد على تحقيق هذا الاتجاه عناصر خاصة بالتجربة التاريخية لليهود قوَّت هذا الاتجاه وساعدته على التحقق، منها:

1 ـ تشتُّت اليهود، أي انتشارهم خارج فلسطين في ربوع الأرض، وهذا ما جعلهم يكوِّنون شبكة مالية تجارية ضخمة ويعطون العلاقات التجارية طابعها الدولي اللازم لنشوء الرأسمالية.

2 ـ وحين تشتَّت اليهود، خرجوا من بيئة صحراوية يحملون معهم الروح السامية التجارية إلى الشمال الذي تسود فيه الروح الآرية وروح المغامرة. ويبدو أن الصحراء في ذهن سومبارت هي رمز الحسابات الرشيدة الباردة وهي البيئة التي يتحول فيها الإنسان إلى مخلوق أناني ذري يرغب في البقاء، ونقيضها الطبيعة الثرية في الشمال التي تشجع على اتساع الأفق وارتياد المجهول. وهنا نرى صورة أخرى من الجماينشافت (الجماعة المترابطة) والجيسيلشافت (المجتمع التعاقدي). ويرى سومبارت أن المدينة الحديثة ليست إلا صحراء كبيرة تضم أشخاصاً أنانيين لا يكترثون إلا بمصالحهم.

3 ـ يبدو أن الحياة في الصحراء أو العقلية الصحراوية التي تشجع على الحساب تجعل الإنسان شخصية مرتبة ترفض التلقائية، على عكس حياة الريف في أحضان الطبيعة، أي أن الحياة في الصحراء تشجع على ما يمكن أن نسميه «الشخصية التعاقدية».

4 ـ ظل اليهود، بعد انتشارهم خارج فلسطين، غرباء عن المجتمعات التي حلوا بها، ومن المعروف أن الغريب يقوم بتثوير المجتمعات التي يحـل بها، كما أنه يضطلـع بوظـائف يأنف أعضاء المجتمع من ممارستها.

5 ـ يرى سومبارت أن أعضاء الجماعة اليهودية ساعدوا الدولة الحديثة على أن تصبح ما هي عليه ربما لكونهم يهود بلاط. وهذه الدولة هي الإطار الذي تطوَّرت من خلاله الرأسمالية الحديثة.

6 ـ طوَّر اليهود أيضاً كثيراً من الآليات اللازمة لظهور النظام التجاري والحسابات المعقدة.

7 ـ كان لدى اليهود رؤوس الأموال الكافية للاستثمار، ولتمويل المشاريع المختلفة، ومن الواضح أن سومبارت يفكر هنا في يهود المارانو الذين لم يُشر إليهم أيٌّ من فيبر وماركس.

ولعل المشكلة الأساسية في أطروحة سومبارت هي أنه يجعل من اليهود سبباً في نشوء الرأسمالية ويستبعد العناصر الأخرى مثل حركة الإصلاح الديني. ولو أن اليهود هم السبب الأساسي لكانت الرأسمالية قد ظهرت في شرق أوربا حيث كانوا مُركَّزين (أو حتى في وسطها)، ولكنها ظهرت أساساً في غرب أوربا، في إنجلترا التي لم يكن يوجد فيها يهود على الإطلاق، وفي فرنسا وهولندا اللتين ضمتا أقليات يهودية صغيرة.

ويبدو أن سومبارت لم يكن ملماً بقدر كاف بعدم تجانس التراث الديني اليهودي وبخاصيته الجيولوجية، فبينما كان يتحدث عن اليهودية كديانة تعاقدية، كانت الحسيدية (الصوفية) قد اكتسحت معظم يهود العالم منذ قرنين أو ثلاثة قرون. ومع هذا، تَجدُر الإشارة إلى عدم وجود تَعارُض بين الحلولية والتجارة، بل إن الفكر الحلولي يشجع على الاهتمام بالعالم المادي ويخلع عليه القداسة. ولكن هذا يختلف عن طرح سومبارت للقضية، فهو يتحرك في إطار التلمود واليهودية الحاخامية أو ربما العهد القديم وحسب.

ولم يأخذ سومبارت في الاعتبار أن خصوصية وضع اليهود داخل التشكيل الحضاري الغربي، كجماعة وظيفية وسيطة، والتي جعلتهم يساهمون بشكل واضح في نشوء الرأسمالية، هي ذاتها التي وضعت حـدوداً على حركتهم بحـيث ظل إسـهامهم هو إسهام الجزء في حركة الكل.

ولتوثيق هذا التعميم قد يكون من المفيد دراسة مدى إسهام يهود أمستردام (وكان معظم أثريائهم من المارانو) في نمو الرأسمالية الهولندية بشيء من التفصيل.

بلغ دخل عضو الجماعة اليهودية في القرن السابع عشر 1448 جلدراً مقابل 828 لغير اليهودي، وكان اليهود السفارد من أكبر مالكي الأسهم، فكانوا من كبار المساهمين في شركتي الهند الشرقية والهند الغربية الهولنديتين، وشاركوا في مختلف نشاطاتها الاقتصادية الاستيطانية، وكان 25% من أسهم شركة الهند الشرقية في أيد يهودية. ولكن الوضع كان مختلفاً في شركة الهند الغربية إذ كانت نسبة المساهمين اليهود ضئيلة للغاية (دفع 18 يهودياً نحو 36 ألف جلدر من رأسمال يبلغ ثلاثة ملايين). ولعب اليهود السفارد دوراً في تأسيس الجماعات اليهودية في نيويورك ولندن وفي أنحاء العالم الجديد، كما استوطنوا في البرازيل وكوراساو وكايان وسورينام التي كان يُوجَد فيها أربعمائة مزرعة عام 1733 منها 115 في يد اليهود.

وحسب سجلات أمستردام لعام 1609، وهي أقدم السجلات، لم يكن يوجد سوى 24 يهودياً سفاردياً برتغالياً بين 731 مودعاً، ومن 708 مودعين عام 1611 لم يكن يوجد سوى 28 يهودياً. وبين أكبر 320 مودعاً، لم يكن يوجد سوى عشرة يهود. وفي عام 1620، كان عدد المودعين 1202، بينهم 106 فقط من اليهود. وظلت النسبة ثابتة، ففي عام 1674 بلغ عدد المودعين 1302 من بينهم 265 يهودياً، ومن بين 685 يدفعون أعلى ضرائب كان يوجد يهودي واحد فقط. وفي عام 1631، لم يكن يوجد سوى ستة يهود. ومن المجموعة الثانية من دافعي الضرائب لم يكن يوجد سوى 15 يهودياً، أي أنه لم يكن يوجد سوى 21 يهودياً ثرياً في أمستردام عام 1631.

وتغيَّرت الصورة قليلاً في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، فكان يوجد 13 يهودياً يحتفظون بحسابات ضخمة في بنك أمستردام (عام 1646). وكان هناك 245 يهودياً ثرياً، من بينهم ستة كان كل منهم يمتلك 100,000 جلدر. ومع هذا، كانت ثروة اليهود صغيرة بالنسبـة إلى الثروة الكليـة، فكـان أثرياء اليهـود هـؤلاء (245) يمتلكون 3,621,800 جلدر من مجموع 185,582,000 جلدر يملكها الأثرياء في أمستردام، أي أن اليهود كانوا يمتلكون نحو 2% من الثروة. وهذا هو النمط العام الذي ساد غرب أوربا والبلاد التي ظهرت فيها رأسماليات قوية في مرحلة مبكرة، وبالتالي كانت لها تجارب استعمارية. وهو نمط وجود ثروة في يد بعض المموِّلين اليهود بنسبة تفوق كثيراً نسبة اليهود إلى عدد السكان. ولكن تظل هذه الثروة جزءاً من كل، ولا يمكن أن يُطلَق عليها «رأسمال يهودي» حيث إن ما يُحدِّد حركة رأس المال هو الحركة الاقتصادية للمجتمع ككل، وليس كون رأس المال مملوكاً من قبَل بعض الممولين من أعضاء الجماعات اليهودية.

  • الجمعة PM 10:40
    2021-04-02
  • 1584
Powered by: GateGold