المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415577
يتصفح الموقع حاليا : 343

البحث

البحث

عرض المادة

التنويري اليهودي: فكر

Haskalah Thought
انطلق دعاة حركة التنوير اليهودية من المنطلقات نفسها التي انطلقت منها حركة الاستنارة الغربية بكل محاسنها ومساوئها وبكل تعميماتها وتناقضاتها (وأهم هذه التناقضات التناقض الحاد بين الاتجاه نحو العام والمجرد من جهة والاتجاه نحو الخاص والمحسوس من جهة أخرى ثم تصفية الثاني لحساب الأول). ولكن، حركة التنوير اليهودية كان لها طابعها الخاص وموضوعاتها المتميِّزة، نظراً للخصوصية النسبية للجماعات اليهودية في المجتمع الغربي.

ومن الموضوعات الأساسية التي طرحها الفكر التنويري اليهودي مسألة الشخصية اليهودية وخصوصيتها المفرطة وطفيليتها. فقد رأى دعاة التنوير أنها شخصية جيتوية متمسكة بتراثها وهويتها بشكل يفرض عليها العزلة. وقد تبنَّى دعاة التنوير الصورة النمطية الاختزالية التي ترسمها أدبيات معاداة اليهود لليهودي (وهي الصورة التي تبناها الصهاينة فيما بعد).

كما بيَّن دعاة التنوير ما تصوروه طفيلية اليهود وهامشيتهم، وهي سمات مرتبطة بالوظائف التقليدية لليهود ومسألة التجارة والربا (أي دور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية)، فطالب دعاة التنوير بضرورة تغيير ذلك حتى يمكن تحويل اليهود من عناصر هامشية منعزلة إلى عناصر منتجة مندمجة، أي تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج بحيث يمكنهم التكيف مع الوضع الاقتصادي الجديد. كما طالبوا بضرورة تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة والحرف اليدوية. ولم يكن للدعوة إلى تحديث وظائف اليهود وحرفهم ومهنهم مضمون اقتصادي وحسب وإنما كان لها مضمون ثقافي ونفسي عميق، إذ كانت دعوة إلى أن يتحرك أعضاء الجماعة من مسام المجتمع كجماعة وظيفية وسيطة منعزلة لها ثقافتها الخاصة إلى نخاعه أو صلبه. فيصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع، يتحدثون بلغته ويرتدون أزياءه وينتمون إليه ويدينون له وحده بالولاء. ولذا، كان من القضايا الأساسية التي طرحتها حركة التنوير إشكالية اللغة إذ كانت الجماعات اليهودية في شرق أوربا تتحدث اليديشية. ولذا، شجع دعاة التنوير الاندماج اللغوي، فنادوا بما سموه «النقاء اللغوي». ذلك أن تنقية اللغة التي كان يتحدث بها اليهود كفيلة، حسب تصوُّرهم، برفع مستواهم الحضاري. ولذلك، طالبوا بألا يستعمل اليهود اليديشية، وأن يتعلموا بدلاً من ذلك اللغة الأم سواء كانت الروسية أو الألمانية أو البولندية. كما دعوا إلى إحياء اللغة العبرية باعتبارها لغة التراث اليهودي الأصلي. ومع هذا، كان هناك من دعاة التنوير في روسيا وبولندا من كتب أدبياته باليديشية وطالب بأن تصبح اليديشية اللغة القومية ليهود شرق أوربا.

وكانت قضية التربية القضية الأساسية بالنسبة إلى دعاة التنوير بسبب ما تصوروه من استغراق الجماعات اليهودية في التخلف والخصوصية. فقد كان ما تصوروه من الاعتقاد السائد بين أعضاء الجماعات اليهودية أن التلمود هو الكتاب الوحيد الجدير بالدراسة، وأن الدراسة العلمية غير الدينية لابد أن تبقى ثانوية وتوظَّف في خدمة الدراسة الدينية. ونادى دعاة التنوير اليهودي بأن تكون المدارس التلمودية العليا (يشيفا) مدارس لإعداد الحاخامات وحدهم، وطالبوا اليهود بأن تتم العملية التعليمية خارج الإطار الديني وأن تشمل الجماهير كلها وليس الأرستقراطية الفكرية وحدها من الحاخامات وغيرهم. كما طالبوا إخوانهم في الدين بأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس غير اليهودية حتى يتقنوا كل الفنون العلمانية، مثل الهندسة والزراعة، وشجعوا ممارسة الأعمال اليدوية، كما دافعوا عن تعليم المرأة. وبالفعل، بدأت المدارس اليهودية العلمانية تظهر، لأول مرة في تاريخ الجماعات اليهودية الأوربية، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وافتُتحت أول مدرسة يهودية لتعليم المرأة في روسيا عام 1836. وكان دعاة التنوير يرون أن التعليم العلماني هو السـبيل إلى تحـديث اليهود ودمجهم وعلمنتهم.

ومن القضايا الأساسية التي طرحها دعاة حركة التنوير كذلك، قضية ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، فظهر مؤرخون يهود عديدون مثل هاينريش جرايتز ونحمان كروكمال، كما ظهر علم اليهودية الذي يُعَدُّ موريتز ستاينشنايدر وسولومون ستاينهايم من أهم أعلامه.

وقد حاول دعاة التنوير إعادة تنظيم الجماعة اليهودية من الداخل، فطالبوا بإلغاء القهال وأشكال الإدارة الذاتية التقليدية، وكانوا في هذا يسـتجيبون لدعوة الدولة المركزية إلى أن يدين المواطـنون لها وحدها بالولاء. ولكن، مع تغيير حياة اليهود الاجتماعية والاقتصادية، أي بعد تحديثهم، كان ضرورياً أن يتم تحديث الديانة نفسها حتى لا ينصرف عنها الشباب اليهودي الذي كان قد بدأ يتساءل عن مدى جدوى وجدية مصطلحات مثل «المنفى» أو «صهيون» أو «العودة». وقد وجه دعاة التنوير سهام نقدهم إلى التراث القومي الديني اليهودي، فهاجموا فكرة الماشيَّح وأسطورة العودة، وحولوا فكرة جبل صهيون إلى مفهوم روحي أو إلى اسم المدينة الفاضلة التي لا وجود لها إلا بوصفها فكرة مثالية في قلب الإنسان. وأصبح الخلاص هو انتشار العقل والعدالة بين الشعوب غير اليهودية، ولم يَعُد مرهوناً بالعودة إلى أرض الميعاد. وهاجم دعاة التنوير التراث اليهودي الشفوي أو الشريعة الشفوية وكُتبها الدينية مثل التلمود والشولحان عاروخ، وأبقوا على التراث اليهودي المكتوب وحده. وذهبوا إلى أن من حقهم العودة إلى التراث الأصلي نفسه بدون التقيد باليهودية الحاخامية، كما هاجموا الحركات والكتب الصوفية العديدة التي أفرزها التراث اليهودي، مثل الحسيدية وكتب القبَّالاه. وحاولوا أن يُدخلوا نزعة عقلانية على اليهودية، فأحيوا كتابات المفكر العربي (الإسلامي) المؤمن باليهودية موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بإدخال التعليم غير الديني على الدراسات الدينية اليهودية. ويُعَدُّ المفكر الألماني موسى مندلسون، الذي تأثر بأعمال موسى بن ميمون، أباً للتنوير اليهودي. ولكن من الأهمية بمكان تبيان أن حركة الإصلاح الديني التي حققت نجاحاً فائقاً في ألمانيا وانتقلت منها إلى الولايات المتحدة، حيث يشكل اليهود الإصلاحيون والمحافظون الأغلبية الساحقة، فشلت تماماً في شرق أوربا. ولذا، وبدلاً من حركة الإصلاح الديني، نجد أن ما انتشر بين شباب اليهود هو النزعتان الإلحادية والثورية.

وقد زعزع هذا كيان السلطة الدينية التي كانت تتحكم في اليهـود، الأمر الذي جـعل هـذه السـلطة تقاوم التيارات التنويرية وتحاول إفشالها. وهو ما كان يضطر دعاة التنوير إلى اللجوء أحياناً إلى السلطات الحكومية لتساعدهم في فرض القيم العصرية على اليهود. وقد نجح الحسيديون، ثم الصهاينة في نهاية الأمر، في السيطرة على الجماهير اليهودية.

ورغم فشل حركة التنوير اليهودي في إنجاز كل أهدافها، فإنها تركت أثاراً عميقة في اليهودية. ولعل أهم هذه الآثار هو ظهور اليهودية الإصلاحية ودعاة الاندماج من الليبراليين والثوريين اليهود الذين طالبوا بحل مشاكل اليهود، أي المسألة اليهودية، عن طريق الثورة الديموقراطية البورجوازية أو الثورة الاجتماعية الاشتراكية. غير أن حركة التنوير مسئولة أيضاً بشكل ما عن ظهور الصهيونية. وقد هاجم دعاة التنوير فكرة انتظار الماشيَّح الذي سيأتي بالخلاص، ونادوا بأن على اليهود الحصول على الخلاص بأنفسهم. وقد أزالت هذه الدعوة الحاجز الوجداني الذي كان يقف بين اليهود (المتدينين وغير المتدينين) والصهيونية، إذ أصبحت العودة إلى فلسطين ممكنة دون انتظار مقدم الماشيَّح. كما هاجم دعاة التنوير مفاهيم أخرى، مثل العودة والشعب المقدَّس، بحيث أسقطوا البعد الديني المجازي، وكان هذا تمهيداً لتحويلها إلى مفاهيم ذات طابع دنيوي وضعي حرفي فتحوَّلت صهيون إلى موقع للاستيطان وتحوَّل الشعب المقدَّس إلى شعب بالمعنى العرْقي أو الإثني. كما أن فكر حركة التنوير كان يهدف إلى تطبيع اليهود، أي أن تكون الشخصية اليهودية شخصية طبيعية، ويصبح اليهود أمة مثل كل الأمم، وتطوَّر هذا المفهوم ليصبح الدعوة إلى تأسيس الدولة الصهيونية حتى يكون للشعب اليهودي دولته المستقلة شأنه في هذا شأن كل الشعوب.

وخلقت حركة التنوير في شرق أوربا طبقة وسطى يهودية متشربة ببعض الأشكال الثقافية اليهودية الخاصة ولها ولاء كامل لتراثها الديني الغربي، ولكنها كانت في الوقت نفسه مُشبَّعة بالأفكار السياسية والاجتماعية الغربية من قومية إلى إشتراكية. وهذا الازدواج الفكري، أو التعايش بين نقيضين، هو الذي أفرز القيادات والزعامات الصهيونية القادرة على التحرك في إطار معتقداتها التقليدية المتكلسة، والتي تجيد في الوقت نفسه استخدام المصطلحات والوسائل العلمانية. وقد عمَّق التناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربية (الاتجاه نحو العام والمجرد والآلي مقـابل الاتجـاه نحـو الخاـص والحــسي والعضوي) هذا التناقض. فعلى حين أن النزعة الأولى نحو العام تطالب بدمج اليهود وبتخليهم عن خصوصيتهم، تتجه النزعة الحسية (والرومانسية) نحو تأكيدها والمطالبة بتقوية الوعي القومي. وهذا التناقض يظهر حتى عند مندلسون نفسه، أهم دعاة التنوير. فاليهودية هي دين العقل (العام)، ولكن شعائرها مُرسَلة ومُوحى بها (الخاص). ولذا، فإن العقائد الأساسية عامة ومُرسَلة لكل البشر، أما الشعائر فهي مقصورة على اليهودية وهي مصدر هويتهم وعلى اليهود الحفاظ عليها. وقد اتبع صموئيل لوتساتو الإستراتيجية نفسها في فلسفته. وأخذت رقعة العام في الانكماش في كتابات المفكرين اليهود (كما حدث في الحضارة الغربية نفسها) حتى نصل إلى علم اليهودية، وهو علم كان من ناحية يتكون من دراسات علمية نقدية عقلانية تهدف إلى الكشف العلمي عن الحقيقة التاريخية أو الاجتماعية أو الأنثروبولوجية الكامنة وراء القصص الديني، ولكنه كان، من ناحية أخرى، علماً يهدف إلى اكتشاف ماضي اليهود وإنجازاتهم الحضارية المتميِّزة والمنفردة حتى يكتشفوا خصوصيتهم ويقووا وعيهم القومي بها.

ويظهر هذا التناقض في التأرجح بشأن قضية اللغة، فقد بدأت حركة التنوير بمهاجمة اليديشية باعتبارها لغة غير طبيعية شاذة، وألمانية منحطة وغير عقلانية، وطالبوا بالعودة إلى العبرية باعتبارها لغة طبيعية وربما عقلانية. ولكن العبرية هي عودة للماضي، وهي بعث رومانسي للغة لم يَعُد يتحدث بها أحد، فأُسقطت العبرية، وتم تبنِّي الألمانية أو اللغة القومية سواء الروسية أو البولندية. ثم ظهرت الدعوة إلى اليديشية نفسها باعتبارها اللغة العضوية والمحلية والجماهيرية. وتظهر الازدواجية في الآداب المكتوبة بالعبرية فهو دعوة إلى الانفتاح على الآداب الغربية وتبنِّي أشكالها الحديثة، ولكن لغة هذه الآداب العبرية لغة ميتة تم بعثها. كما يظهر التناقض في حركة الإصلاح الديني اليهودي، إذ كان من ثمراته اليهودية الإصلاحية التي تدعو للاندماج وإسقاط العزلة، والتمسك بالعقلانية. ولكن من ثمراته أيضاً اليهودية المحافظة التي رفضت الشريعة اليهودية التقليدية وكثيراً من الأشكال التقليدية، ولكنها حوَّلت هذه الأشكال نفسها إلى تراث شعبي عضوي يشبه المطلق. ومن ثم، فهي تهاجم اليهودية الحاخامية التقليدية، والعقيدة اليهودية بكل مطلقاتها، ولكنها تتمسك بالتراث العضوي اليهودي بوصفه مطلقاً لا يمكن التساؤل عنه. ومن هنا، كان الهجوم العقلاني على أنبياء اليهود وعلى التراث الديني اليهودي باعتباره تراثاً غيبياً معادياً للإنسان. ثم يتبع ذلك البعث الرومانسي للبطولات العبرية لفترة ما قبل اليهودية، مثل شمشون وشاؤول، وهي بطولات تجسِّد عناصر لا عقلانية خارقة. ويظهر التناقض كذلك في الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة والاندماج بها، فهي تعني أن يترك اليهودي الجيتو المظلم ويترك مغارته اليهودية ليختلط بعالم الأغيار ويقوم بالعمل اليدوي والأعمال الزراعية والإنتاجية المختلفة التي حُرم منها. ولكن هذه الدعوة تصبح، كذلك، دعوة إلى العودة إلى الطابع المحلي وإلى التراث القومي العضوي الطبيعي.

ويتضح التناقض نفسه، في موقف الحركة الصهيونية من الغيبيات الدينية. فقد نظرت الحركة الصهيونية للمفاهيم الدينية باعتبارها مفاهيم لا عقلانية متجاوزة للمادة، ولذا دعت اليهود لأن يكونوا طبيعيين لا يختلفون عن البشر ولا يتحدثون إلا عن القانون الطبيعي (المادي) العام ولا يدورون إلا في إطاره. وانطلاقاً من هذا تم رفض الدين والماشيَّح وكل الغيبيات. ولكن تم تبنِّي بعض هذه الأفكار والغيبيات المرفوضة (مثل الشعب اليهودي والأرض) بعد أن أُفرغت من مضمونها الديني وتم إضفاء المطلقية عليها، أي أنه تمت استعادة القداسة من داخل المادة ومن ثم تم تشجيع الخصوصية والتفرُّد. فالشعب اليهودي شعب مثل كل الشعوب، ولكنه شعب ذو رسالة خاصة وحقوق مطلقة. وهو يؤسس دولة ديموقراطية مثل كل الدول الأخرى، ولكن هذه الدولة تتمتع بقداسة لا نظير لها حتى أنها تحل محل الرب في وجدان اليهود. والمستوطن الصهيوني سيعود إلى الطبيعة يلتصق بها، ويعمل بيديه في الأرض، ويتحرر من الاستغلال والملكية الخاصة ومن كل ما يميِّز الإنسان عن أخيه الإنسان. ولكننا نكتشف أن الأرض ليست الأرض بشكل عام بل الأرض المقدَّسة الخاصة المقصورة عليه. ومن ثم نجد أن هذا الداعي إلى الإخاء الإنساني والعالمي يقتل العرب ويرفض السماح لهم بأن يزرعوا الأرض معه. ولعل هذا الجانب في الصهيونية هو سر جاذبيتها للعالم الغربي، فهي محاولة ماهرة لحسم التناقض الكامن في الفكر العلماني. وهذا التناقض هو الذي جعل بوسع الصهيونية التوصل للخطاب الصهيوني المراوغ، بمقدرته التعبوية الهائلة والذي جعل من الممكن استيعاب يهود الغرب من دعاة الاندماج ويهود الشرق من دعاة الانعزال والهجرة الاستيطانية.

  • الجمعة PM 09:29
    2021-04-02
  • 968
Powered by: GateGold