المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412665
يتصفح الموقع حاليا : 317

البحث

البحث

عرض المادة

كراماتُ الأوْلِياءِ، وتلبيساتُ الأدْعِياء.

كراماتُ الأوْلِياءِ، وتلبيساتُ الأدْعِياء.

 

بسم اللّهِ الرحمن الرحيم.

 

المقدمة.

 

الحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على محمّدٍ خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلين، وبعدُ:

 

إنّ وُقوعَ الكراماتِ لِبعضِ عباد اللّهِ الصّالحين، مِن المسائلِ التي تنازعَ فيها النّاسُ، واشتدّ فيها الخلافُ وتبادلُ الاتّهامات!

 

وموضوعُ هذا البحثِ هو بيانُ الصحيحِ من أقوال العلماء في هذه المسألةِ مع ذكر أدلّتهم، وبيان تلبيسات الذين يخدعون الناس ويدّعون الكرامات!

 

الفصلُ الأوّل: تعريف الكرامة وأنواعها.

 

  -1تعريف الكرامة.

 

عَرَّفَ السفارينى الكرامةَ بقوله: "الكرامةُ وهي أمرٌ خارقٌ للعادة، غيرُ مَقرونٍ بدعوى النُّبُوَّةِ، ولا هو مُقَدِّمَةٌ [أي: ليس إرهاصاً، وهو الخارق الذي يظهر للنَّبِيِّ قبْل بِعْثَتِه]، يَظْهرُ [أي: الأمرُ الخارقُ] على يدِ عبدٍ ظاهرِ الصّلاح؛ عَلِمَ بها ذلك العبْدُ الصالحُ أمْ لمْ يعلم." [لوامع الأنوار البهية 2/392].

 

ولقد اتّفق العلماءُ على أنّ الكرامةَ يُظهِرُها اللّهُ تعالى على يدِ بعض أوليائِه، الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى.

 

وصاحبُ الكرامةِ لا يدّعي النُّبوَّةَ، ولكنْ كراماتُ الأولياء تدخل ضمن معجزاتِ الأنبياء -كما قرّر ذلك العلماءُ- وهي تَدُلُّ على صدق النّّبِيِّ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم-، وعلى صِحَّة الطريق الذي سلَكه الوَلِيّ.

 

  -2 أنواعُ الكرامات.

 

يرى جمهور العلماء أنّ الكرامةَ قد تكون باستغناء الإنسان عن الحاجات البشرية كالطعام والشراب، بأن تحصل له بسبب غير معتاد، أو تكون بأن يعلم شيئاً فيراه أو يسمعه، وليس في إمكان البشر سماعه أو رؤيته عادةً، وقد تكون بالمَشْيِ على الماء -كما حصل للتّابعي أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ ومَنْ كان معه، عندما كَانوا يغزون أَرْضَ الرُّومِ، فإنّهم مشوا فوق ماء النّهْر للوصول إلى الضفة الأخرى-، وقد تكون بعلاج بعضِ الأمراض بدون أدوية، وقد تكون بحصول أمور أخرى. ومنَ الكراماتِ الْفِرَاسَةُ الْإِيمَانِيَّةُ، وَسَبَبُهَا نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ.

 

  -3هل كلُّ ما جاز أنْ يكونَ معجزةً لنَبِيٍّ، جاز أن يكون كرامةً لوليٍّ؟

 

لقد أجرى اللّهُ تعالى على أيدي بعضِ أوليائه من أُمّةِ محمّدٍ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- بعضَ الكرامات التي تشبه معجزاتِ بعضِ الرُّسل؛ تكريما لِنَبِيِّه -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- ولمن اتّبعه من المؤمنين؛ ومن هذه الكرامات:

 

أ- عدمُ الإحراق بالنّار: وحصَلَتْ للتّابعي أبي مسلم الخولاني، الذي كان يُكذِّبُ الأسودَ العنسي -الذي ادّعَى النُّبُوَّةَ في اليمن- فألقاه هذا العنْسيّ في النّار، فلمْ تُحْرِقْه!

 

ب- إحياء الميِّت: وحصلتْ للتّابعي صلة بن أشيم؛ وقصتُه أنّه مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علَيَّ منة، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه إلى أنْ وصل إلى بيته؛ ثمّ مات فرسُه مرةً أخرى. [ذكرها ابن تيمية في كتابه «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»].

 

وإجراءُ بعضِ هذه الكرامات على بعضِ الأولياء، جعل بعضَ العلماءِ يقولون: "كلُّ ما جاز أنْ يكونَ معجزةً لنَبِيٍّ، جاز أن يكون كرامةً لوليٍّ "؛ ولكنْ مجموعةٌ مِن العلماءِ أنكروا عليهم هذا القولَ، منهم: الإمامُ القشيري، وابن السُّبْكي، وابنُ حجر العسقلاني؛ واتفقوا على استثناءِ ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء.

 

فلقد قرَّرَ الإمامُ ابنُ السُّبْكِيّ -مثلاً- في «طبقات الشافعية» (2ـ322) أنّه: "لا بُدّ أنْ يأتيَ النَّبِيُّ بما لا يوقعه الله على يد الولي وإنْ جاز وقوعُه؛ فليس كلُّ جائز في قضايا العقول واقعاً. ولمّا كانت مرتبةُ النَّبيِّ أعلى وأرفعَ من مرتبة الولي؛ كان الوليُّ ممنوعاً مِمّا يأتي به النبيّ على الإعجاز والتحدي أدباً مع النبيِّ".

 

وقال الشيخُ ابنُ تَيْمِيَّةَ: "ولا يقدر أحَدٌ من مُكَذِّبِي الأنبياءِ أنْ يأتيَ بمثل آياتِ الأنبياءِ، وأمّا مُصَدِّقوهم فهم مُعْتَرِفون بأنّ ما يأتون به [أي: مِن الكراماتِ] هو من آيات الأنبياءِ، مع أنّه لا تَصِلُ آياتُ الأتباعِ إلى مثل آيات المَتبوع مُطلقا، وإن كانوا قد يشاركونه في بعضها كإحياء الموتى وتكثير الطعام والشراب؛ فلا يشركونه في القرآن وفلق البحر وانشقاق القمر؛ لأنّ اللّهَ فَضَّل الأنبياءَ على غيرهم".  [ابن تيمية، النبوات، ص 232].

 

وجاء في الفتوى رقم (49724)، بموقع إسلام ويب: "فإن القول بأن (ما صحّ لنبي جاز لولي) لا نَعْلمُه حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مقولة لبعض أهل العلم، إذ يقولون: "إن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي". وهذا القول لا يصح بهذا الإطلاق، وإنما يتعَيّن تقييده، فيستثنى ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء، فإن الأولياء لا يصلون إلى مثله، وهذا ما اختاره الحافظ في «فتح الباري» وَعَدَّه أعْدَل المذاهب". [انظر https://www.islamweb.net/ar/fatwa/49724/ :].

 

ولقد سُئِلَ الشيخُ محمد الحسن الددو: "هل ما جاز أن يكون معجزةً لِنَبِيٍّ، جاز أن يكون كرامة لولي؟"

 

فأجاب: "لا ولا يمكن أن يقع ذلك بحال من الأحوال، لو كان كذلك لجاز أن ينزل الوحي على الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، فمعجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحيُ المنزل إليه، فلو كان كلما جاز أن يكون معجزة لنبي يجوز أن يكون كرامة لولي؛ لادّعى كثيرٌ من الناس أنهم أُنزِل إليهم قرءانٌ يتلى! وهذا لا يمكن أن يقع أصلا، و لا يمكن أن يتصوره مؤمن". https://dedewnet.com/index.php/dawa-akida/akida-w/568.html ]].

 

ومِمّا يؤيد هذا الرأيَ أنّ عددَ الأنبياءِ كان كبيراً، وكانوا مُنتشِرين في الأرضِ عبرَ الزمان والمكان، ولا شكّ أنّه قد وُجِدَ في أتْباعِهم مَنْ كانوا أولياءَ أصحابَ كراماتٍ، وهذا لم يكن غائباً عن الأقوام الذين أُرسِلَتْ إليهم الرُّسل، ولا شكّ أنّ النّاس لمّا كانوا يُطالبون رُسُلَهُم بالإتيان بالمعجزاتِ الدّالة على صدقهم، كانوا ينتظرون منهم الإتيانَ بخوارقَ لا يستطيعُ غيرُهم الإتيانَ بها، ولو كانوا من الأولياء. وهذا قد يُؤيِّدُ اختيار الحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي يرى أنّ قولَ القائل:"ما صحّ لنبي جاز لولي"، لا يصح بهذا الإطلاق.

 

الفصلُ الثاني: إضاءاتٌ حول الكرامات.

 

أ- قال أبو علي الجوزجاني: "كنْ طالباً للاستقامة، لا طالبا للكرامة؛ فإن نفسَك مُنْجَبِلَةٌ على طلب الكرامة، وربُّك يطلب منك الاستقامة".

 

قال الشيخ السهروردي في عوارفه مُعَلِّقاً على كلمة الجوزجاني: "سبيلُ الصّادِق مطالبةُ النّفسِ بالاستقامة، فهي كلُّ الكرامة؛ ثم إذا وقع في طريقه شيءٌ خارقٌ، كان كأنْ لم يقع فما يُبالي؛ ولا يَنْقُصُ بذلك، وإنّما يَنْقُصُ بالإخلال بواجبِ حقِّ الاستقامة"! [انظر المعجزة وكرامات الأولياء لابن تيمية 40-41 بتصرف].

 

ومِن عادة الأولياءِ الصادقين وأدبهم، إخفاءُ الكرامات، وعدمُ إظهارها؛ و لذلك قال الإمامُ النووي -عند شرحه للحديث رقم 2542 مِن صحيح مسلم-: "قَوْلُهُ: (وَفِيهِمْ رَجُلٌ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ) أَيْ يَحْتَقِرُهُ، وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُخْفِي حَالَهُ، وَيَكْتُمُ السِّرَّ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ شَيْءٌ يَدُلُّ لِذَلِكَ، وَهَذِهِ طَرِيقُ الْعَارِفِينَ وَخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ." [شرح صحيح مسلم، بَاب مِنْ فَضَائِلِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ج17 ص73].

 

ب- قال الشيخُ ابنُ تيميةَ: "ومِمّا ينبغي أن يعرف: أنّ الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضّعيفُ الإيمان أو المحتاجُ، أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكملُ ولايةً لِلّه منه مُستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك؛ لِعُلو درجته وغِناه عنها، لا لنقصِ ولايته؛ ولهذا كانت هذه الأمورُ في التابعين أكثرَ منها في الصحابة." [الفرقان 69].

 

ج- قال ابن تيمية: "وليس من شرط وليّ الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يُخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعضُ علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان، لبَّسَها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان، وإن لمْ يخرجْ بذلك عن ولاية الله تعالى." [الفرقان 27].

 

وقال ابنُ الجوزي: "قَدَّمْنا فيما تَقَدَّم أنَّ إبليس إنما يتمكّن من الإنسان على قَدْر قِلَّة العِلْم؛ فكلما قَلَّ علمُ الإنسانِ كثُرَ تمكُّنُ إبليسَ منه، وكلما كثر العلمُ قَلَّ تمَكُّنُه منه.

 

ومن العُبَّاد من يرى ضوءا أو نورا في السماء، فإن كان رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في غيره قال: قد فُتِحت لي أبواب السماء.

 

وقد يتفق له الشيءُ الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة، وربما كان اتفاقا وربما كان اختيارا، وربما كان من خدع إبليس؛ والعاقل لا يُساكِن شيئا من هذا ولو كان كرامة ... ولمّا علم العقلاءُ شدة تلبيس إبليس حذَروا من أشياءَ ظاهرُها الكرامة وخافوا أن تكون من تلبيسه." [انظر: ابن الجوزي، «تلبيس إبليس» ص 517].

 

د- قال بعضُ الباحثين: "المطلوبُ في الكرامة التصديق بجنسها، فنُصَدِّق بوجود الكرامات في الجملة، أما كرامة الشخص المُعَيَّن -أو دعواه الكرامة- بالإخبار ببعض ما سيحدث في المستقبل، فلا يجب على أحد التصديق بذلك، لأننا لا نقطع أنها كرامة وإلهام من الله، فيحتمل أنها مجرد ظن ظنه، يصيب ويخطئ، ويحتمل أنها من الشيطان وقد لُبِّس على صاحبها فظنها من الله".

 

ھ- يخلط كثيرٌ من النّاس بين الكرامةِ والمعونةِ؛ والمعونةُ هي أمرٌ خارقٌ للعادة كذلك، يُجْريه اللّهُ تعالى على يد عبدٍ من عبادِه إعانةً له، أو تخليصاً له من شِدّةٍ أو ضيق؛ وذلك كأن تقع له حادثة مروعة فينجو بأعجوبة، أو يُصابُ بمرض فتّاك ميئوس من شفائه من الناحية التشخيصية الطبية ثمّ يبرأ بإذن اللّهِ بدون سبب واضح!

 

و- قال العلماءُ: "كثيرٌ من وجوه الحق جُعِلَ لها باطلٌ يشبهها؛ لأن الدارَ دارُ مِحْنَةٍ وابتلاءٍ." [أساسيات الثقافة الإسلامية، الصادق الغرياني، دار ابن حزم بيروت، ط1 سنة 2006، ص441].

 

وقال ابن حجر العسقلاني: "خرقُ العادةِ قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع لِلصِّدِّيق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة". [فتح الباري، 12/385].

 

وقال البسطامي : "لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا وُقُوفَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ". [مجموع فتاوى ابن تيمية (1/83)].

 

وقال الشيخُ ابن تيمية: "وكثير من هؤلاء يَطير في الهواء، وتكون الشياطين قد حملته، وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زِنْديقا يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله، ويستحلّ المحارم التي حرمها الله ورسوله، وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان".

 

وقال الدكتور محمّد الأشقر في كتابه «أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية» في مبحث (الأفعال الخارقة للعادة): "إلاّ أننا مع ذلك نرى أن أكثر ما يُنْقَلُ عن كثير ممن يدَّعون الولاية، أو تُدَّعَى لهم، من خرقهم للعادات والسنن الكونية، كذب مفترى لا أصل له، أو له أصل من الحق وقد عظّمه الأتباع المغلوبون على عقولهم وأفهامهم، أو هو من الباطل من الألاعيب والمخرقات، أو من تصرفات الجن والشياطين، بمعاونتهم أولياءهم وإيحائِهم إليهم... وزاد بعض الصوفية المسألة عنفاً، بدعواهم أن الخارق يقع بقوة ذاتية في نفس الولي، وادّعوا أنها قوة إلهية https://www.islamweb.net/ar/fatawa/132/ ] ."].

 

 

ز- قال الْمَازِرِيُّ: "وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَالِ مَنْ يَقَعُ الْخَارِقُ مِنْهُ: فَإِنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالشَّرِيعَةِ، مُتَجَنِّبًا لِلْمُوبِقَاتِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ كَرَامَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ سِحْرٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ أَحَدِ أَنْوَاعِهِ؛ كَإِعَانَةِ الشَّيَاطِينِ." [فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، 10/223].

 

وأنواعُ السِّحْرِ التي ذكرها الإمامُ الرازي والرَّاغِبُ وَغَيْرُهُ كثيرة، أهمّها:

 

 - مَا يَقَعُ بِخِدَاعٍ وَتَخْيِيلَاتٍ لَا حَقِيقَة لَهَا، نَحْو مَا يَفْعَلُهُ الْمُشَعْوِذُ مِنْ صَرْفِ الْأَبْصَارِ عَمَّا يَتَعَاطَاهُ بِخِفَّةِ يَدِهِ.

 

 -ومَا يَحْصُلُ بِمُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ، بِضَرْبٍ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ".

 

وأمّا السحرُ الذي يكون بمخاطبة الكواكب-كما يقول السّحرةُ-، فليس من تأثير الكواكب كما يزعمون، ولكنّه في الحقيقة من عمل الشياطين؛ لإضلالهم وفتنتهم -كما قال الشيخُ عبد السلام وحيد بالي.

https://www.alukah.net/sharia/0/68941/ ] ].

 

والسحرُ الذي يَحْصُلُ بِمُعَاوَنَةِ الشَّيَاطِينِ، له قواعدُ وأسرارُ لا يُمكن للعِلم تفسيرُها، والعقلُ -كما قَالَ الْمَازِرِيُّ-: "لَا يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ عِنْدَ نُطْقِ السَّاحر بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ، أَوْ تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ، أَوْ مَزْجٍ بَيْنَ قُوًى عَلَى تَرْتِيبٍ مَخْصُوصٍ." [فتح الباري لابن حجر العسقلاني، كتاب الطب ج11]؛ ولذلك فهو يُعدُّ مِن الخوارق عند مجموعة من العلماء، ولكنه لا يصل إلى مرتبة المعجزاتِ؛ لأنه يمكن لأي شخص تعلُّمُه، والإتيانُ بما يَعْمَلُه السحرة؛ والسِّحْرُ يمكن تعلُّمُه بِنَصِّ القرآن، لقوله تعالى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: جزء من الآية 102].

 

ولذلك فإنّ سَحَرةَ فرعون لمّا رأوا عصا موسى تحوّلت إلى حيّّةٍ تسعى وابتلعت ما ألقوا، علموا أنّ ما جاء به موسى ليس سحراً؛ لأنهّ ليس من الأمور التي يمكن تعلُّمُها. وسَحَرةُ فرعونَ جاءوا من أماكن شتّى، واتفاقُهم على ذلك دليلٌ على أن ما جاء به موسى عليه السلام كان معجزة لا يمكن لأحد أن يأتيَ بمثلها؛ وهو دليلٌ قاطعٌ على أنّ السحرَ له قُدُراتٌ لا يمكن له أنْ يتحدّاها.

 

وذكر الْمَازِرِيُّ الفرقَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ، فقال: "وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ: أَنَّ السِّحْرَ يَكُونُ بِمُعَانَاةِ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لِلسَّاحِرِ مَا يُرِيدُ، وَالْكَرَامَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا تَقَعُ غَالِبًا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَتَمْتَازُ عَنِ الْكَرَامَةِ بِالتَّحَدِّي." [فتح الباري 233/10].

 

ونبّه الشيخ وحيد عبد السلام بالي إلى أمر هام، وهو أنّه: "قد لا يكون الرجل ساحرًا، ولا يَعْرِف عن السحر شيئًا، ثم إنه غير متمسِّك بالشريعة، بل وربما يكون مرتكبًا لبعض الموبقات، ومع ذلك تظهر على يده بعض الخوارق، وقد يكون من أهل البدع أو من عُبَّاد القبور، فالقول في هذا: إنه إعانة من الشياطين؛ حتى تُزَيِّنَ للناس طريقته المبتدَعة، فيتبعها الناس، ويتركوا السنة، وهذا كثير معروف، خاصة إذا كان رئيسًا لطريقة من الطرق الصوفية المبتدَعة."

 

ح- قال بعضُ الباحثين: "أكثر ما ينتشر على وسائل الإعلام اليوم، إن لم يكن جميعها، وما يشاهده الناس عيانا مما يظنونه خارقا للعادة، إنما هي حيل وخدع بصرية، أو مشاهد تمثيلية، لا أكثر ولا أقل؛ حتى غدا تصديقُ أحدٍ بدعواه خرق العادة، في مثل ذلك، من السذاجة بمكان، فثمة العشرات من البرامج الوثائقية البحثية، التي توضح هذه الحيل، وتسمي الأشياء بمسمياتها، وتشرح للناس طرائق التمثيل التي يتبعها هؤلاء المشتغلون بالخوارق."

 

ومِن أواخرِ ما وقع من حِيَل، (الشجرةُ التي خرجَتْ فجأة مِن الأرض، واخترقتْ سيارةً مركونة في فرنسا)! [انظر:

 https://www.google.com/amp/s/www.albayan.ae/five-senses/east-and-west/2019-11-20-1.3706492%3fot=ot.AMPPageLayout ].

 

والغريبُ أنّ كثيراً من المسلمين ظنوا أنها من الخوارق الإلهية، حتى إنّ بعضهم دمعت عيناه من الخشوع!

 

ط- ما يُعطِي اللهُ تعالى بعضَ عباده الفجرة أو الكفرة مِن بعض أنواع الخوارق، كعلاج بعضِ الأمراض بدون أدوية، قد يحسبها بعضُ النّاس كراماتٍ، وهي في ميزان الشرع، استدراجٌ لهم وفتنة وامتحان لغيرهم، فقد جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [رواه أحمد، وحسَّن إسناده العراقي في تخريجه لكتاب «الإحياء »، وصححه الألباني في «صحيح الجامع»].

 

قال المناوي عند شرحه لهذا الحديث، تحت رقم 629: "وَ(الِاسْتِدْرَاجُ) الْأَخْذُ بِالتَّدْرِيجِ لَا مُبَاغَتَةً، وَالْمُرَادُ هُنَا: تَقْرِيبُ اللَّهِ الْعَبْدَ إِلَى الْعُقُوبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ وَاسْتِدْرَاجُهُ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ أَنَّهُ كُلَّمَا جَدَّدَ ذَنْبًا جَدَّدَ لَهُ نِعْمَةً وَأَنْسَاهُ الِاسْتِغْفَارَ؛ فَيَزْدَادَ أَشَرًا وَبَطَرًا؛ فَيَنْدَرِجَ فِي الْمَعَاصِي بِسَبَبِ تَوَاتُرِ النِّعَمِ عَلَيْهِ، ظَانًّا أَنَّ تَوَاتُرَهَا تَقْرِيبٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ خِذْلَانٌ وَتَبْعِيدٌ". [فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي- ج 1 ص 354].

 

وقال الشيخ ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "وَهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا لِلَّهِ، فَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَكُونُ مِنْ الشَّيَاطِينِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ، وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ." [«مجموع فتاوى ابن تيمية» ج 1 ص 363].

 

وجاء في موقع «إسلام ويب»: "فما مِن أهل مِلَّة إلّا ويعتقدون أن معبودهم يشفي المرضى ويقضي الحوائج ويجيب السائلين، حتى أهل الأوثان من عبدة الأصنام قديما وحديثا يعتقدون ذلك في أصنامهم، والذي نريد أن ننبه عليه أن شيئا من ذلك يقع بالفعل، لِحِكَم يعلمها الله تعالى، ومن أظهرها: ابتلاءُ الناسِ وامتحانُ إيمانِهم وتوحيدِهم، ليميز الله الخبيث من الطيب؛ ومن أقرب الأمثلة وأشهرها على ذلك ما يُمَكِّن اللهُ تعالى منه المسيحَ الدجّالِ؛ فتنةً للناس وإظْهاراً لما وقر في قلوبهم من قوة الإيمان أو ضعفه."  . [ https://www.islamweb.net/ar/fatwa/134259/ ]

 

ي- مِن أنواعِ الخوارق التي ذكرها ابن القيم: الفِرَاسَةُ الرياضية، وتحصُل بالرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ، وَالسَّهَرِ والتَّخلي والتّأمُّل؛ والنَّفْسُ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْعَوَائِقِ صَارَ لَهَا مِنَ الْفِرَاسَةِ وَالْكَشْفِ بِحَسَبِ تَجَرُّدِهَا. وَهي لَا تَدُلُّ عَلَى إيمانِ صاحِبها وَلَا عَلَى استقامته أو ولايته. وتحصل للمؤمنين والكافرين. [مدارج السالكين 2/ 478].

 

تمّ البحثُ بفضلِ اللّهِ ونعمته، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمين.

 

وكتبه: أ. عبد المجيد فاضل.

 

  • الاربعاء PM 11:12
    2020-09-16
  • 3559
Powered by: GateGold