ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا
إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا
إشكالية انفصال القيمة الأخلاقية والغائية الإنسانية عن العلم والتكنولوجيا
The Problematic of Value-free Science and Technology Divorced From Human Teleology
رغم هيمنة الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة على الإنسان الغربي (بجانبيها النفعي المادي الحيادي الأداتي والدارويني الصراعي الإمبريالي)، ورغم حوسلتها للعالم وتحويلها المنفعة المادية والقوة إلى قيمة مطلقة متجاوزة للخير والشر، إلا أن هناك من لا يتقبل هذه الرؤية ولا يذعن لها ويثير قضايا مهمة ذات طابع أخلاقي وإنساني من أهمها قضية تطبيق المعايير العلمية المنفصلة عن القيمة وعن الغائية الإنسانية وتطبيق المنظومة الأخلاقية الداروينية النفعية المادية على الإنسان والمجتمع الإنساني. فقد أسس النازيون منظومتهم ـ كما أسلفنا ـ استناداً إلى مفاهيم علمية أو شبه علمية مثل النظرية الداروينية (وما يترتب عليها من مفاهيم مثل التفاوت بين الأعراق والمجال الحيوي والشعب العضوي)، كما تبنوا الرؤية العلمية المتجردة تماماً من القيمة ومن الغائيات الإنسانية باعتبار أن العلم وما يتولَّد عنه من قوانين وقيم مادية هو القيمة الحاكمة الكبرى والمرجعية النهائية للإنسان. وقد حقق النازيون نجاحاً منقطع النظير في هذا المضمار فركزوا على محاولة التحكم الكامل في كل العناصر البشرية الخاضعة لهم وتطبيق الحسابات الرشيدة المحايدة التي تهدف إلى تعظيم الإنتاج والأرباح وتقليل الاستهلاك والخسائر. ومن ثم يمكن القول بأن الإبادة النازية لليهود وغيرهم هي التحقق الكامل للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة التي تم من خلالها حوسلة كل شيء بطريقة علمية محايدة رشيدة حديثة. ويتبدَّى هذا في عدة أوجه سنوجزها فيما يلي:
1 ـ كان النظام النازي بمنزلة يوتوبيا تكنولوجية تكنوقراطية حقة تم تنظيمها تنظيماً هرمياً، ففي قاعدته تقف جماهير الشعب العضوي المتماسك تعلوه نخبة من العلماء والساسة، يدورون جميعاً في إطار واحد هو الدولة القومية التي تَجُّب مصالحها كل المصالح. وعلى قمة الهرم يقف الفوهرر: التجسد المادي والمحسوس للمطلق العلماني (الشعب العضـوي والدولة) الذي تركزت فيه جمـيع القوى الحيوية الكامنة في النسق، وهو القادر على تحريكها، وهو القادر على حسم كل الاختيارات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، تساعده النخبة العلمية والسياسية الحاكمة.
هذا الهرم الدارويني المنظم تنظيماً دقيقاً تحرك بشكل محايد ليدافع عن مصلحته، كما يراها هو، وعن منفعته، كما حددها هو، أو كما حددتها النخبة الحاكمة من علماء وساسة! وكانت حركة الهرم النازي تتسم بالحياد الصارم، والتجرد المذهل من القيم والعواطف والغائيات الإنسانية. وكانت واحدة من أهم مؤسسات الإبادة تُدعَى «مؤسسة تدعيم القومية الألمانية»، وقد أُسِّست عام 1939 لتوظيف العناصر الألمانية غير المرغوب فيها. وكان هملر (الذي أُسندت له مهمة إدارة هـذه المؤسـسة القومية) يرى أنها تجسد قيمة قومية عضوية مطلقة، فهي تخدم المصالح العليا المطلقة لألمانيا، وكان رجاله يؤدون واجبهم بأمانة وإخلاص شديدين لوطنهم.
2 ـ أدار هملر مؤسسته بطريقة حديثة للغاية تبدت في كيفية استخدامه لليهود من خلال واحد من أهم أسس الإدارة الحديثة فيما يُسمَّى «الإدارة الذاتية»، إذ كوَّن، انطلاقاً من الرؤية الداروينية النفعية، نخبة من اليهود نواتها الأساسية أعضاء المجالس اليهودية والموظفون الملحقون بها، تدور حولها قطاعات أخرى مثل العمال اليهود في مصانع الذخيرة، وبعض الشخصيات اليهودية العامة، وتم وصفهم جميعاً بأنهم «يهود يتمتعون بالحماية من الترحيل» نظراً لنفعهم. (وهو امتداد للتقسيم الغربي القديم لليهود والذي ظل سائداً منذ العصور الوسطى حتى أوائل القرن التاسع عشر وإن كان قد اكتسب عمقاً خاصاً في القرن الثامن عشر وعصر الاستنارة وظهور مبدأ المنفعة). وقد أصبح هؤلاء أداة ذات كفاءة عالية في يد الإدارة النازية وتعاونوا معها تماماً.
3 ـ وكانت عمليات السخرة والإبادة حديثة رشيدة بمعنى الكلمة يتم إنجازها من خلال إجراءات محايدة. فعلى سبيل المثال، استُخدم خط التجميع (بالإنجليزية: أسمبلي لاين assembley line) في عملية فرز المساجين (والمعروف أن خط التجميع استُخدم في الأصل في المذبح [السلخانة] في شيكاغو، حيث رأى أحد مؤسسي علم الإدارة الحديثة أنه يمكن توفير الوقت والجهد بأن تُعلَّق جثث الحيوانات الواحدة تلو الأخرى على سير متحرك أمام الجزارين، لكي يقومون بتنظيفها وإعدادها). وقد طُبِّق نفس الأسلوب على المساجين، فكانوا يقفون صفاً واحداً ويُعطَى كل واحد منهم رقم، ثم يتم فرزهم، وهي طريقة أكثر كفاءة من التصنيف على أساس الأسماء. والملاحَظ أن عملية التوحيد والتنميط، مثلها مثل المركزية، تُعدُّ خطوة أساسية في عملية الترشيد ويتطلبها النموذج الآلي المادي، إذ لا تمكن التعامل مع كل المعطيات بكفـاءة عاليـة إن كانت غير متجانسـة. فإن اختلفت العنـاصر أو الوحدات، الواحدة عن الأخرى، أدَّى هذا إلى بطء دولاب العمل. والنموذج الآلي المادي الهندسي يفترض تَشابُه جميع العناصر حتى يمكن معالجتها مادياً وآلياً وهندسياً. وقد طبَّق أيخمان هذه الآلية على نطاق واسع، خصوصاً في حالة ترحيل يهود المجر. ويُقال إنه لم يكن من الممكن إنجاز مهمة الترحيل هذه إلا من خلال خط التجميع.
4 ـ كانت آليات السخرة والإبادة كلها تتسم بتعظيم الإنتاج والمنفعة. ومن أطرف الآليات وأجداها اقتصادياً وأقلها إيلاماً وأكثرها شيوعاً إرسال اليهود إلى معسكرات العمل بالسخرة لتزويد الشركات الألمانية بالعمالة الرخيصة، وهو ما أفاد الاقتصاد الوطني الألماني فحقق تقدماً هائلاً لا يمكن للمراقب الموضوعي المحايد المتجرد من كل التحيزات الغائية والأخلاقية إلا أن يقر به. فكان يتم فرز المساجين بعناية شديدة، حيث يُوجَّه القادرون على العـمل إلى أعمال السخرة، ومن ثم لا يُبدَّد شيء. وكان المعتقلون يعملون لساعات طويلة، ويعيشون دون حد الكفـاف الأمر الذي جعل من الممكن تحقـيق أرباح هـائلة وإنتاجية منقطعـة النظير.
5 ـ يبدو أن النازيين استفادوا بواحدة من أهم التجارب الحضارية الغربية، وهي التجربة الإمبريالية، إذ أُرسل اليهود أحياناً إلى جيتوات، أسسها النازيون خصيصاً، وكـانت تأخـذ شكـل مناطـق "قومية" مستقلة لها مجالسها التي تحكمها ونظامها المصرفي المستقل وعملتها الخاصة ونظامها التعليمي الخاص، أي أن كلاً منها كانت جيتو/دولة أو دولة/جيتو تدخل في علاقة تبادل كولونيالية مع الدولة النازية. فكانت الجيتوات تزود الدولة النازية بالعمالة والخـدمات وبعض السلع نظير أن تزودها الدولة النازية بالغذاء والملابس. ولكن علاقة التبادل كانت غير متكافئة لصالح الدولة النازية بحيث تكون الخدمات والعمالة الخارجة من الجيتو أكبر من قيمة ما يحصل عليه سكان الجيتو من المواد الغذائية التي كانت دائماً أقل من أن تفي باحتياجات العاملين اليهود، أي أن العلاقة كانت تؤدي إلى انتقال فائض القيمة إلى النازيين وإلى إبادة العاملين واستهلاكهم كأداة إنتاج سريعة. ولذا يمكن القول بأن العلاقة بين الجيتو والدولة النازية كانت علاقة كولونيالية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمستعمراتها أو علاقة الولايات المتحدة ببعض الدول العربية وغير العربية التي تسيطر عليها.
6 ـ لم يتخل النازيون قط عن حداثتهم وحيادهم، فكان يتم تقرير من يجب إبادته، ومن يجب الإبقاء عليه وتسخيره بعد دراسة عملية موضوعية، متمعنة ودقيقة، تتفق مع القواعد الصارمة للترشيد المادي. فقد قُسِّم أعضاء الجماعات اليهودية إلى يهود نافعين ومن ثم لا يمكن نقلهم، ويهود غير نافعين ومن ثم يمكن نقلهم والتخلص منهم. ولم تكن ظروف الحرب تعوق الألمان عن التحلي بالموضوعية الكاملة. فعلى سبيل المثال، حينما وصلت القوات الألمانية إلى شبه جزيرة القرم ووجدت فيها بعض اليهود القرّائين، بيَّن لهم هؤلاء أنهم ليسوا يهوداً بالمعنى العام والسائد، وأنهم لا علاقة لهم باليهود من أتباع اليهودية الحاخامية ولا يتسمون بما يتسم به اليهود عموماً من طفيلية (كما تزعم أدبيات العداء لليهود في العالم الغربي). وأرجأ النازيون تنفيذ عملية الإبادة والتهجير، وأرسلوا بأحد الضباط إلى برلين ليدرس القضية بشكل موضوعي رغم ظروف الحرب. وبالفعل توصَّل هذا الضابط/الباحث إلى أن القرّائين لا يتسمون بالسيكولوجية أو الطبيعة اليهودية، وأخذ النازيون بتقريره، ولذا لم يُطبَّق على اليهود القرّائين قرار الإبادة. بل قرر النازيون، انطلاقاً من الرؤية النفعية البرجماتية المرنة، تجنيـد بعض العناصر القادرة من بين اليهـود القرّائين في القوات النازية.
وانطلاقاً من الرؤية النفعية المرنة نفسها طوَّر النازيون مقياساً محدداً لتعريف من هو الآري، ولكنه كان مقياساً مرناً منفتحاً، ولذا كان الشخص السلافي، الذي يتسم بقدر كاف من الصفات العرْقية البيولوجية الألمانية (من بينها الطول ولون العيون)، يُعاد تصنيفه "آرياً" ثم يُلحق ببرنامج خاص للأرينة (أي التحويل للآرية) ليتعلم الألمانية والسلوك الألماني الأصيل. وكانت هناك مؤسسة خاصة تُسمَّى Ru SHA المكتب الرئيسي للعرْق والتوطين، كانت مهمتها هي تحديد الصفات الآرية وإمكانية الألمنة. (وانطلاقـاً من الرؤية البرجماتية نفسـها صُنِّف اليابانيون، حلفاء الألمان، «آريون شرفيون» رغم انتمائهم للجنس الأصفر!).
وفي مؤتمر فانسي (الذي عُقد في 20 يناير 1942) أبدى المجتمعون اهتماماً شديداً بتصنيف الضحايا تصنيفاً دقيقاً إذ قُسِّموا إلى أربعة أقسام: فكان القسم الأول يضم من ستتم إبادته على الفور، أما القسم الثاني فكان يضم من ستتم إبادته (إنهاكه) من خلال الجوع والعمل بالسخرة. ويضم القسمان الثالث والرابع من يُعقم ومن يمكن أن يؤلمن (على التوالي). وقد قام النازيون بالتمييز بين الإبادة من خلال الجوع والإبادة من خلال العمل، ففي عام 1942 وجد الجيش الألماني أن المنهج الثاني من الإبادة أكثر رشداً من الأول فقام بتبنيه.
7 ـ كان النازيون حريصين كل الحرص على استخدام مصطلح علمي محايد لا يحمل أية دلالات عاطفية غير علمية، فإحدى مؤسسات الإبادة كانت تحمل اسم تي فور T4، وهو اسم يصلح لأية شركة تجارية أو سياحية أو حتى أي دواء مقوٍ، وهو منسوب إلى الشارع الذي تقع فيه المؤسسة وإلى رقم المبنى (تيرجارتن شتراسه رقم 4 Tiergarten Strasse، أي 4 شارع حديقة الحيوان). ومن أسماء المؤسسات الأخرى «جمعية نقل المرضى» أو «المؤسسة الخيرية للعناية المؤسسية».
وكان يُشار إلى عملية الإبادة بنفس المصطلح، فيتم أولاً «الإخلاء»، يليه «النقل» (الترانسفير) ثم «إعادة التوطين»، وأخيراً «الحل النهائي». (ويستخدم الصهاينة نفس الخطاب، فهم يستخدمون كلمة مثل «ترانسفير» للإبعاد. وحينما فر الفلسطينيون من قراهم عام 1948 خوفاً من الإرهاب الصهيوني، وصف وايزمان هذا الفرار بأنه عملية «تنظيف»). وتحييد المصطلح مسألة أساسية في التفكير النازي، فعملية تسييس العمال وترشيد حياتهم، أي السيطرة عليهم وعلى حياتهم الخاصة أُطلق عليها اسم «القوة من خلال المرح»، وكان مكتوباً على معسكر أوشفيتس «العمل سيحقق لك الحرية». وكما أسلفنا، فقد جرى الحديث عن إبادة المعوقين وغيرهم باعتبارها نوعاً من «الصحة العرْقية» ومن «علاج الأمراض الوراثية الخطيرة»، وكانت إبادة المجرمين والمتخلفين تُوصَف بأنها «تجنب العدوى والقضاء على الجراثيم»، وأفران الغاز هي "أدشاش"، والعملية كلها هي عملية "تطهير" لا أكثر ولا أقل. ويُلاحَظ أن كل المصطلحات لا تذكر أية إبادة (بالمعنى العام أو الخاص الذي نطرحه)، ولـذا فهـي تجعل عملية إبادة البشر تبدو وكأنها مسألة مجردة وبعيدة، ومن ثم مقبولة تماماً.
8 - كانت عملية تحييد المصطلح بداية عملية تحييد كامل للإدراك، فالمصطلح المحايد للغاية يقترب من المصطلح العلمي الدقيق المنفصل عن القيمة، إذ لا توجد فيه عواطف حُب أو كُره، وهو يحاول أن يصف الظاهرة من الخارج باعتبارها مجرد موضوع، دون أن يعطيها أي معنى إنساني داخلي أو أية قيمة خاصة، بحيث ينظر الموظف النازي أو الألماني إلى الضحية وكأنه ينظر إلى موضوع وحسب؛ حركة مادية خارجية ومادة استعمالية خام خاضعة للإجراءات. وقد كان المشرفين على عمليات الإبادة المختلفة يتم تدريبهم على التحلي بالبرود والتجرد للحفاظ على الحياد وكفاءة الأداء. وقد حذَّرت القيادة النازية من استخدام العنف بلا مبرر، فقد كانت تدافع عما سماه أحد المؤرخين «الإرهاب الرشيد» (أدان بن جوريون "تعذيب العرب بلا مبرر"أ ثناء حرب 1948، وهو ما يعني أن التعذيب الرشيد مسموح به). وفي إحدى خطبه بيَّن هتلر أن " الإبادة الشاملة لابد أن تُنفَّذ ببرود وبطريقة نظيفة… وأن تصفية العناصر المطلوب تصفيتها لابد أن يتم بطريقة محايدة دون أي نزعات سادية (فمثل هذه النزعات تدل في واقع الأمر على العنف الإنساني الذي يتنافى مع المثل الأعلى النازي). ولذا كان على رؤساء معسكرات الاعتقال أن يوقِّعوا إقراراً كل ثلاثة شهور بأنهم لم يسيئوا معاملة المساجين". وفي خريف عام 1942 أعلن هملر أن إطلاق النار على اليهود لأسباب شخصية (أو صادية أو جنسية) يعاقب عليها القانون بالإعدام. وكان الجنود الألمان ممنوعين من إساءة معاملة الضحايا حتى وهم في طريقهم إلى أفران الغاز، لأن هذا يعني شكلاً من أشـكال الانفعـال والانغـماس العـاطفي الذي يتنافى مع الحــياد العلمي، والتجرد من العواطف والتحيزات والقيم أمر أساسي ومطلوب.
وعند اكتشاف أي انحراف عن الخط المحايد، كانت القيادة النازية تعاقب المنحرفين. وقد أصدر هملر توجيهاً لمن يعملون معه بالتدخل الفوري إذا ما تجاوز أحد قادة معسكرات الاعتقال حدوده. وقد وُجِّه اللوم إلى أحد الضباط لأنه كان يحيط أسر الضحايا علماً بإعدام أقاربهم على كارت بوستال مفتوح بدلاً من ظرف مغلق! ويبدو أن الدكتور راشر، العالم النازي، تجاوز هو الآخر الخطوط المحايدة (!) حتى أنه أغضـب همـلر الذي أمر بإعدامـه هو وزوجته قبل نهاية الحرب بقليل. كما أُعدم قائد معسكر بوخنوالد وزوجته (عاهرة بوخنوالد) التي كانت مغرمة بصنع الشمعدانات ومنافض السجائر من أشلاء البشر، الأمر الذي يتجاوز حدود المعقولية والحياد والحوسلة. وقد أوضح المواطن النازي جوزيف كرامر أنه سمَّم ثمانين امرأة بالغاز أثناء خدمته في أوشفيتس. وحينما سُئل عن مشاعره، صـرح ببرود أنه لم تكن لديه أيـة مشـاعر على الإطلاق، وقال للقضـاة: " لقد تلقيت أمراً بقتل ثمانين من النزلاء بالطريقة التي قلتها لكم. وبالمناسبة هذا هو الأسلوب الذي تدربت عليه "، فهو يرى نفسه باعتباره «موظفاً فنياً» وحسب، ملتزماً بالترشيد الإجرائي ولا يصدع مخه بالقيم الأخلاقية أو بالمطلقات (فهذه مجرد ميتافيزيقا!).
وحينما صدر قانون التعقيم والذي شمل الحالات المتطرفة لإدمان الكحول، حاول البعض استصدار استثناء للمحاربين القدامى ممن أدمنوا الكحول نتيجة إصابات في المخ لحقت بهم أثناء الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى. ولكن الحياد العلمي لا يعرف أي استثناءات ولذا رُفض الطلب، « لأنه لو أُعفي هؤلاء لتم إعفاء المحاربين القدامي الذين أصيبوا في شجار في الشارع، ثم المصابين نتيجة العمل في المصانع »، الأمر الذي يتناقض مع النموذج العقلاني المادي والنمطية التي يتطلبها الموقف العلمي الصارم.
9 ـ تبدَّى الموقف الحيادي الدارويني في موقف النازيين من العلم، وزعمهم انفصاله عن القيمة وعن الغائية الإنسانية، في واحد من أهم المفاهيم الطبية (العلمية المحايدة) في القرن التاسع عشر، وهو مفهوم «الصحة العرْقية»، الذي ينطلق من ضرورة الحفاظ على وحدة الشعب العضوي وعلى بقائه (فهما سر تفوقه ورقيه) عن طريق التخلص من العناصر الضارة أو غير النافعة (التي تُعدُّ تعبيراً عن انهيار العرْق وانحطاطه)؛ وثمة كتابات عديدة بجميع اللغات الأوربية في هذا الموضوع. ومن أهم المفاهيم المرتبطة بالصحة العرْقية مفهوم اليوثينيجيا euthenesia أو ما يُسمَّى «القتل الرحيم» (وإن كان من الأفضل تسميته «القتل العلمي» أو «القتل المحايد» أو «القتل الأداتي» أو «القتل الموضوعي»)، أي التخلص من المعوقين وغيرهم (مثل المرضى بأمراض مزمنة) عن طريق التصفية الجسدية. وقد يبدو هذا المفهوم لنا مخيفاً، ولكن في إطار الرؤية المادية الشاملة المحضة، وفي داخل إطار دارويني نيتشوي، يصبح الأمر منطقياً ومتسـقاً مع نفسـه (ولذا، نجد كاتباً مثل برنارد شو أو هـ. جـ. ويلز يدافع عن مثل هذا المفهوم).
وقد أصدرت النخبة النازية عدة قوانين لضمان الصحة العرْقية، فوضعوا البشر تحت تصنيفات مختلفة:
أ ) المستهلكون الذين لا نفع اقتصادي لهم: مثل المعتوهين والمتخلفين عقلياً والمصابين بالشيزوفرنيا (انفصام الشخصية) والأطفال المعوقين والأفراد المتقدمين في السن والمصابين بالسل، والمرضى الميئوس من شفائهم. بل كان يُضَم لهؤلاء الجنود الألمان الذين أصيبوا أثناء العمليات العسكرية، فعلاجهم كان يُشكِّل عبئاً على ميزانية الدولة.
ب) المنحلون: وهم الشيوعيون والشواذ جنسياً وعدد كبير من أعداء المجتمع الذين يتسمون بالسلوك غير الاجتماعي (مدمنو الكحول والعاهرات والمجرمون ومدمنو المخدرات ومن لا مأوى لهم).
جـ) أعضاء الأجناس الدنيا:مثل السلاف والغجر واليهود والأقزام،فهم غرباء داخل الفولك الألماني ولا يوجد مبرر قوي لوجودهم إلا باعتبارهـم مادة خاماً تُوظَّف لصالح الجنس الآري الأرقى،خاصةً أن بعضهم،مثل البولنديين،يشغلون المجال الحيوي لألمانيا.
وفي 14 يوليه 1933 (في اليوم التالي لتوقيع المعاهدة مع الفاتيكان)، أصدر النازيون قانوناً يُسمَّى «قانون التعقيم» لمنع بعض القطاعات البشرية (المعوقين ـ المرضى النفسيين ـ المرضى بالصرع ـ العمى الوراثي ـ الصمم الوراثي ـ التشوه الخلقي ـ الإدمان المتطرف للكحول) من التكاثر. وبالفعل، تم تعقيم أربعمائة ألف مواطن ألماني. وفي عام 1935، صدر قانون بمنع العلاقات الجنسية بين اليهود وأعضاء الأعراق غير الراقية من جهة والألمان من جهة أخرى، وذلك للحفاظ على النقاء العرْقي. وأُعلن عام 1939 عاماً يراعي فيه المواطن واجب التمتع بصحة جيدة وطُلب من كل طبيب أو داية أن تُبلغ عن أي مولود جديد معوق. وبدأت عملية القتل الموضوعي (أو العلمي أو المحايد) لهؤلاء الذين لا يمكن شـفاؤهم مثل المعـوقين وغيرهـم (مشروع تي فور T4). وظهرت وثائق تبين أنه قُتل سبعون ألف معوق وعاجز يأكلون ولا ينتجون (حرفياً: «آكلون غير نافعين» أي «أفراد يأكلون ولا ينتجون» [بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters]) يُشكِّلون عبئاً على الاقتصاد الوطني ويعوقون التقدم. وقد تمت إبادتهم بمقتضى برنامج « تجنب العدوى والقضاء على الجراثيم » (أي برنامج إبادة المجرمين والمتخلفين وربما المسنين). وأدَّى ذلك إلى توفير 239.067.020 كيلو جراماً من المربى في العام (كما جاء في إحدى الدراسات العلمية الألمانية الرصينة). وأُنشئت لجنة للعلاج العلمي للأمراض الوراثية الخطيرة أوصت بقتل الأطفال المشوهين. وكان هؤلاء وغيرهم يُرسلون إلى مستشفيات. فكانوا يوضعون في عنابر خاصة ثم يتم الإجهاز عليهم عن طريق أفران غاز مخبأة على هيئة أدشاش، ومحارق لحرق الجثث. وقد طُبِّق المعيار نفسه، بعض الوقت، على الجنود الألمان الجرحى في الحرب، إذ أن عملية علاجهم كانت ستُكلف الدولة الكثير. ثم طُبِّقت عمليات الإبادة هذه بصورة أوسع على أسرى الحرب.
وقد صُنِّف اليهود باعتبارهم مرضى، وذلك نظراً لعدم نقائهم العرْقي. ومن ثم أصبح من الضروري إبادتهم، شأنهم شأن العناصر الألمانية غير النافعة. ومن جهة أخرى، تم توسيع نطاق برنامج القتل المحايد أو العلمي ليضم المجرمين كافة، يهوداً وغير يهود. وكان اليهود يُعتبرون أيضـاً ذوي اسـتعداد إجرامي طبيعي بسـبب اختـلاط خصائصهم الوراثية. ولذا، طُبق البرنامج على اليهود الموجودين في المستشفيات جميعاً.
10 ـ ومن أهم تجليات الحياد العلمي ذات العائد المرتفع التي اتسمت بها الإبادة، تلك التجارب العلمية التي كان النازيون يجرونها على خنازير التجارب البشرية وهي تجارب منفصلة تماماً عن أية منظومات قيمية. فكان النازيون يختارون بعض العناصر التي لها أهمية تجريبية خاصة لإجراء التجارب عليها. وكان هذا يتم بسهولة ويسر وسلاسة؛ لأن البشر تحولوا إلى موضوع أو مادة محايدة في عقول القائمين على هذه التجارب. فعلى سبيل المثال، كان طبيب بوخنوالد (الدكتور هانس إيسيل) يقوم بعمليات استئصال دون تخدير ليدرس أثرها. وأُجريت تجارب أخرى على نزلاء معسكرات الاعتقال لا تقل رهبة عن تجارب إيسيل. وكان بعضهم يُطلَق عليه الرصاص لاختبار فعاليته في الحرب، وعُرّض آخرون لغازات سامة في عمليات اختبارية. وكان البعض يوضعون في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان خلالها أن يظل حياً وهو على ارتفاعات عالية أو بدون أوكسجين. وكان الأوكسجين يُقلل تدريجياً ويخفض الضغط، فتزداد آلام خنازير التجارب البشرية شيئاً فشيئاً حتى تصبح آلاماً لا يمكن احتمالها حتى تنفجر رئاتهم. كما كان الضغط الداخلي على أغشية طبلات الآذان يسبب لهم عذاباً يوصلهم إلى حد الجنون.
وكان الدكتور راشر، وهو عالم نازي آخر، شمولياً في أبحاثه إلى درجة عالية، فقام بتزويد غرف الضغط في النهاية بمبردات تجبر عيناته على مواجهة شروط أقرب ما تكون إلى الارتفاعات العالية. وكان راشر مسئولاً أيضاً عن الكثير من تجارب التجميد التي يتعرض فيها الأشخاص إلى البرد الشديد المستمر حتى الموت. وكان الهدف معرفة مدة مقاومتهم، وبقائهم أحياء، وما الذي يمكن صنعه لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في مياه متجمدة. وكان بعض نزلاء داخاو ضمن ضحايا راشر أو ضمن خنازير تجارية (إن أردنا التزام الدقة والحياد العلميين). فكان يتم غمر الضحايا/الخنازير في وعاء ضخم أو كانوا يُتركون عُراة في الخارج طوال الليالي الثلجية. وفي أواخر شتاء عام 1943، حدثت موجة برد شديدة، فتُرك بعض السجناء عراة في الخلاء أربع عشرة ساعة، تجمدت خلالها أطرافهم وسطوح أجسامهم الخارجية وانخفضت درجة حرارتهم الداخلية. وكان أسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجياً مع متابعة النبض والتنفس ودرجة الحرارة وضغط الدم وغير ذلك.
وكانت هناك تجارب أخرى من بينها تدفئة أشخاص مثلجين. وبناءً على تقرير راشر، أُجريت أكثر من أربعمائة تجربة على ثلاثمائة ضحية. وقد مات من هـؤلاء زهاء تسعين شخصاً نتيجةً لمعالجتهم، وجُنَّ عددٌ ممن بقى. أما الآخرون، فقد قُتلوا لكيلا يتحولوا إلى شهود مزعجين فيما بعد. وقد توصل راشر إلى حقائق علمية جديدة تتحدى كثيراً من المقولات العلمية السائدة في عصره. وأُجريت بالطبع تجارب لا حصر لها على نزلاء أحياء في معسكرات الاعتقال، من بينها الحقن بالسم أو بالهواء أو البكتريا، معظمها مؤلم وكلها قاتلة، كما أُجريت تجارب زرع الغرغرينا في الجروح وترقيع العظام وتجارب التعقيم.
وفي الإطار التجريبي نفسه كان يتم اختيار التوائم وإرسالهم إلى الطبـيب النازي الشـهير الدكتـور منجـل لإجراء تجارب علمية فريدة عليهم، لا يمكن للعلماء الآخرين القيام بها نظراً لعدم توفر العينات اللازمة. فكان يفصل التوأمين ويضعهما في غرفتين منفصلتين، ثم يعذب أحدهما أحياناً ليدرس أثر عملية التعذيب على الآخر، بل كان يقتل أحدهما لدراسة أثر هذه العملية على الآخر. وكما قال بريمو ليفي: إن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتى توأمين قُتلا في نفس اللحظة. ويُقال إن دراسات منجل على التوائم لا تزال أهم الدراسات في هذا المجال، ولا تزال الجامعات الألمانية والأمريكية تستفيد من النتائج التي توصل إليها الباحثون العلميـون الألمـان في ظروف فريدة لم تُتح لعلماء غيرهم من قبل من بعد. وقد أُثيرت مؤخراً قضية مدى أخلاقية الاستفادة من معلومات تم الحصول عليها في مثل هذه الظروف التجريبية الجهنمية، وبهذه الطريقة الموضوعية الشيطانية.
وقد أجرى بعض العلماء تجارب على أمخـاخ الضحـايا وقد اختار د. برجر، التابع لإدارة الإس. إس. عدداً من العينات البشرية (79 يهودياً ـ بولنديان ـ 4 آسيويين ـ 30 يهودية) تم إرسالهم لمعسكر أوشفيتس ثم قتلهم بناء على طلب عالم التشريح الأستاذ الدكتور هيرت الذي أبدى رغبة علمية حقيقية في تكوين مجموعة كاملة وممثلة من الهياكل العظمية اليهودية (كما كان مهتماً بدراسة أثر الغازات الخانقة على الإنسان). أما الدكتور برجر نفسه فكان مهتماً بالآسـيويين وجماجمهـم، وكان يحـاول أن يكوِّن مجموعــته الخاصة.
ويبدو أن عملية جمع الجماجم هذه وتصنيفها لم تكن نتيجة تخطيط محكم، وإنما نتيجة عفوية للرؤية النفعية المادية المتجردة من القيمة. إذ ورد إلى علم البروفسور هاليروفوردن أنباء عن إبادة بعض العناصر البشرية « التي لا تستحق الحياة »، فقال للموظف المسئول بشكل تلقائي: « إن كنتم ستقتلون كل هؤلاء، فلماذا لا تعطوننا أمخاخهم حتى يمكن استخدامها؟، فسأله: كم تريد؟ فأجاب: عدد لا يحصى، كلما زاد العدد كان أفضل. ويقول البروفسور المذكور إنه أعطاهم بعد ذلك الأحماض اللازمة والقوارير الخاصة بحفظ الأمخاخ. وكم كانت فرحة البروفسور حينما وجد أمخاخ معوقين عقليين (في غاية الجمال، على حد قوله) و« أمخاخ أطفال مصابة بأمراض الطفولة أو تشوهات خلقية ». وقد لاحظ أحد العاملين في مركز من مراكز البحوث أن عدد أمخاخ الأطفال المتوفرة لإجراء التجارب أخذت تتزايد بشكل ملحوظ، ونتيجةً لهذا تم الحصول على مواد مهمة تلقي الضوء على أمراض المخ.
ومن أطرف الأمثلة الموضوعية قضية البروفسير النازي كلاوس الذي اكتشف البعض أنه يعيش مع سكرتيرته اليهودية، وفي «دفاعه» عن نفسه قال إنه يواجه مشكلة في دراسته لليهود وهي أنه لا يمكنه أن يعيش بينهم ولذا كان عليه أن يحصل على « مُخْبر » أو «دليل » (بالإنجليزية: إنفورمانت informant) أو عينة مُمثِّلة يمكنه دراستها عن قرب، فهي بالنسـبة له لم تكن سـوى موضـوع للدراسـة فكـان يراقبهـا « كيف تأكل وكيف تستجيب للناس وكيف تقوم بتركيب الجُمل بطريقة شرقية عربية » [كذا].
ويتضح حياد النازيين وحسهم العملي الفائق، بشكل آخر تماماً. فقد كانوا على استعداد لأن يطوِّعوا النظرية العرْقية ذاتها لمتطلبات الواقع. فاليابانيون (أعضاء الجنس الأصفر، حسب الرؤية النازية) أُعيد تصنيفهم «آريين شرقيين»، بسبب عمق التحالف بين ألمانيا النازية واليابان ذات النزعة الإمبريالية، ولم يكن اليابانيون هم وحدهم الذين حظوا بهذا الشرف، فهناك « برامج الأرينة » للسلاف ممن كانوا يتسمون بنسبة 80% من السمات الآرية. بل قد بدأت تظهر قرائن على أن آلاف الجنود الألمان كانوا يهوداً أو نصف يهود، رغم أن القانون الألماني في ظل الحكم النازي كان يمنع، اعتباراً من عام 1935، أي شخص ينحدر عن أجداد يهود أن يشغل وظيفة ضابط في الجيش الألماني (الديلي تلجراف ديسمبر 1996). وكان مكتب الأفراد في الجيش الألماني (عام 1944، أي قرب نهاية الحرب) على علم بوجود سبع وسبعين ضابطاً من ذوي الرُتب العالية من أصول مُختلَطة يهودية أو متزوجين من يهوديات. ومع هذا وقَّع هتلر شهادات تبيِّن أنهم من « ذوي الدم الألماني »، أي ينتمون للعرْق الألماني. ومن بين هؤلاء الفيلد مارشال أبرهارد ميلخ، الذي كان نصف يهودي (حسب التعريف النازي) ومع هذا كان يشغل منصب نائب هرمان جورنج، قائد السلاح الجوي الألماني، والخلف المختار لهتلر. وقد غض جورنج الطرف عن هذه الحقيقة، بل زوَّر المعلومات المتعلقة بوالد نائبه. وتبيِّن الوثائق التي تم كشف النقاب عنها مؤخراً أن القيادة النازية منحت وسام الصليب الفارس، أعلى وسام عسكري ألماني، إلى عسكريين سبق أن طُردوا من الخدمة بسبب انحدارهم من أصل يهودي ثم أُعيدوا إليها.
وتتضح المفارقة في تلك الزيارة التي قام بها أحد كبار الضباط الألمان لوالده الذي كان قد نُقل إلى أحد معسكرات الاعتقال والسخرة. وقد حرص الضابط على أن يرتدي النياشين والأوسمة التي مُنحت له بسبب مشاركته في الحملات العسكرية التي شنها النظام النازي، هذا النظام الذي كان يقوم بإبادة أعضاء كثير من الأقليات الإثنية والدينية، ومن بينهم أعضاء الجماعات اليهودية.
إن المفارقة هنا تدل على حس عملي عميق مستعد لتجاوز كل الأفكار المسبقة للتعامل بكفاءة مادية بالغة مع الواقع العملي وتجاوز الميتافيزيقا والمطلقات والكليات. وحينما وجد النازيون فرصة للاستفادة من أعضاء الجماعات اليهودية، هذه المادة البشرية الاستعمالية النافعة، لم يترددوا في تعديل عقائدهم الدينية العرْقية نفسها.
11 ـ ولكن إلى جوار المادة البشرية الاستعمالية النافعة التي تُجرى عليها التجارب وتُدرس بعناية وموضوعية وحياد، كانت هناك المادة التي لا يُرجى منها نفع أو الضارة من منظور النازيين، وكان أمثال هؤلاء يُبادون ببساطة شديدة من خـلال عمليات التصفية الجسدية السريعة، التي تقوم بها جماعات خاصة أو فرق متنقلة تقف وراء خطوط الجيوش الألمانية (بالألمانية: آينساتس جروبين Einsatzgruppen). وكانت طريقة الإبادة هذه سريعة وغير مكلفة إذ كانت تُقام مقابر جماعية يُلقى فيها بالضحايا بعد أن يحفروها بأنفسهم. كما كانت الإبادة تتم أحياناً بواسطة سيارات مجهزة بحجرة غاز يتم التخلص فيها من الضحايا دون حاجة إلى نقلهم إلى معسـكرات الإبادة. وقـد تم التخلـص بهذه الطريقة من جرحى الحرب الألمان ممن لا يُرجى لهم شفاء أو ستتكلف عملية تمريضهم الكثير، كما تمت إبادة أعـداد كـبيرة من أعضاء النخبة الثقافية البولندية، والفائض السكاني الروسي.
12 ـ وحتى بعد قرار الإبادة )بمعنى التصفية الجسدية)، كان ديدن النازيين دائماً هو الحوسلة الكاملة وتعظيم الفائدة والحرص الكامل على ممتلكات الدولة وخدمة مصالحها، ولذا كان يتم تجريد الضحايا من أية مواد نافعة (حتى من الحشوات الذهبية التي في أسنانهم)، ولا شك في أن هذا ساهم في تحسين ميزان المدفوعات الألماني. وقد أشرنا من قبل إلى استخدام الأمخاخ البشرية ولكن يبدو أن عملية التوظيف كانت أعمق من ذلك بكثير فقد كانت البقايا البشرية (مثل الشعر) تُستخدَم في حشو المراتب، ويُقال إنها كانت مريحة للغاية وزهيدة الأسعار. ولم يكن الرماد البشري يُستخدَم كشكل من أشكال السـماد وحسـب، وإنما كمــادة عازلـة أيضاً. وكانت العظام البشرية تُطحن وتُستخدَم في أغراض صناعية مفيدة مختلفة. بل يُقال إن بعض الأنواع الفاخرة من الصابون صُنعت من الشحومات البشرية. (ومع هذا، صدرت مؤخراً دراسات تشكك في هذا).
كانت الجدوى الاقتصادية لمعسكرات الإبادة إذن عالية للغاية، كما كان التحكم كاملاً، أي أنها عملية رشيدة بالمعنى الفيبري، إذ يرى ماكس فيبر أن رشد الحضارة الغربية الحديثة ينصرف إلى الإجراءات وحسب، ولا ينطبق على الأهداف فهو ترشيد مادي إجرائي أداتي، منفصل عن القيم والعاطفة، وأنه لهذا السبب سينتهي بالإنسان إلى « القفص الحديدي » حيث يوجد فنيون بلا قلب؛ حسّيون غير قادرين على الرؤية، وهذا لا يختلف كثيراً عن معسكرات الاعتقال والإبادة. وقد أشار أحد العلماء الذين درسوا الظاهرة النازية إلى أن العلماء النازيين تبنوا ما سموه موقفاً موضوعياً متجرداً من الأحكام القيمية، ولكن هذا الموقف العلمي ذاته جعل كل شيء ممكناً. فقتل المصابين بالأمراض العقلية، إن كان لازماً للبحث العلمي الموضوعي، يصبح أمراً مقبولاً وربما مرغوباً فيه.
وتتبلور هـذه النقطـة في قضـية المسـئولية الخُلقية للتنفيذيين النازيين، فهناك من ينطلق من المنظور الترشيدي المادي الإجرائي المنفصل عن القيمة ويذهب إلى أن المواطن النازي الذي اشترك في عمليات الإبادة لم يكن سوى بيروقراطي، موظف تنفيذي ("عبد المأمور"، كما نقول بالعامية المصرية)، يؤدي عمله بكفاءة عالية، ويُنفذ ما يصدر إليه من أوامر تأتيه من علٍ، ولا يتساءل عن مضمونها الأخلاقي ويُنفذها حتى لو تنافت مع القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة. فهذا الموظف لا يدين بالولاء الكامل إلا للدولة والوطن ولا يعيش في ازدواجية الدين والدولة أو الأخلاق والدولة، فالمطلق الوحيد الذي يؤمن به، شأنه في هذا شأن أي إنسان علماني شامل، هو الدولة والوطن، ولذا فعليه أن يذعن لما يصدر له من أوامر تأتيه من هذه الدولة التي تخـدم صـالح الوطـن. وهذا ينطبق على الأوامر النازية الخاصة بالإبادة!
ولكن هناك آخرون، ممن يؤمنون بالمطلقات الأخلاقية والإنسانية، يذهبون إلى أن الإنسان الفرد كائن حر مسئول، ولذا فعليه أن يتحمل المسئولية الأخلاقية الكاملة لما يأتيه من أفعال، ومن ثم عليه أن يقف ضد عمليات إبادة الضعفاء (من المسنين والمعوقين وأعضاء الأقليات)، حتى لو كانت عملية الإبادة تخدم « الصالح العام » أي صالح الدولة والوطن! أي أن الإنسان الفرد يدين بالولاء لمجموعة من القيم الأخلاقية والإنسانية المطلقة تتجاوز ولاءه للدولة والوطن وكفاءة الأداء في الوظيفة.
وهذه إشكالية فلسفية وأخلاقية وإنسانية عميقة تواجهها المنظومة العلمانية الشاملة، فهي منظومة فلسفية تنكر الميتافيزيقا والثنائيات والمطلقات وتؤكد نسبية المعرفة وكل القيم الأخلاقية، وهو ما يعني، بطبيعة الحال، غياب المرجعية المتجاوزة (التي تتجاوز الأفراد) وظهور المرجعية المادية الكامنة، حين يحدد كل إنسان قيمه بنفسه دون العودة إلى أية مطلـقات أو ثوابت إنسـانية (كما يدعـو فكر ما بعد الحداثة). وإذا كان الألمان، انطلاقاً من المرجعية المادية الكامنة فيهم، قد حدَّدوا قيمهم الأخلاقية على أسس نفعية مادية داروينية، وسلكوا على هذا الأساس، فكيف يمكن لنا أن نتجاوز ذاتيتهم الكامنة فيهم؟ وكيف يمكن لنا أن نهيب بقيم أخلاقية وإنسانية، عامة مطلقة، تقع خارج نطاق مُثُلهم الذاتية؟ كيف يمكن أن نفعل ذلك إن كنا نحن أنفسنا نؤمن بالنسبية المطلقة؟ كيف يمكن اختراق المطلق الذاتي؟ كيف يمكن أن نبيِّن للشعب المختار، صاحب الحقوق المطلقة، المسلح بالمدافع الرشاشة والقنابل النووية، أن ثمة إنسانية عامة وثمة قيم أخلاقية عامة، إن كنا نحن أنفسنا نسبيين، علمانيين شاملين حركيين نرفض الثبات ولا نرى إلا حركة المادة وقوانينها الصماء؟ يقول البعـض ممن يحاول اتخاذ موقـف أخلاقي دون الإهـابة بأيـة مرجعية متجاوزة، إن الإنسان بوسعه أن يأخذ موقفاً ذاتياً وجودياً، ويرفض إبادة الآخر بإصرار وعناد، أي أن الإنسان بوسعه أن يتبنى موقفاً أخلاقياً دون السـقوط في الميتافيزيـقا ودون الإهـابة بأية مرجعيـة متجاوزة أو كليات مجردة. ولكن هل يمكن محاكمة الآخر من هذا المنظور إن كان لا يؤمن به؟ ألا يعني هـذا أنني أفرض ذاتيتي الأخـلاقيـة الوجـودية على ذاتيته الداروينية النفعية المادية؟
هذه هي الإشكالية التي نبهنا لها ماكس فيبر وغيره من علماء الاجتماع والمفكرين الغربيين حينما بدأوا في إطلاق التحذيرات، منذ أواخر القرن التاسع عشر، من العلم المنفصل عن القيمة، وهي إشكالية تثيرها، وبحدة، الإبادة النازية لليهود والأطفال والمعوقين والعجزة والغجر، وكل من لا فائدة له، من المنظور النازي. والحوار الدائر في الغرب بشأن الإبادة يُركِّز على تفاصيل مثل عدد الضحايا وهل هم يهود فقط أو غيرهم (مما أسميه «لعبة الأرقام») ويهمل قضية إنسانية جوهرية مثل هذه تتجاوز حدود الإبادة النازية لتصل إلى مستوى المجتمع الحديث بأسره، ومستقبل الإنسان على هذه الأرض.
وقد أثيرت مؤخراً قضية وثيقة الصلة تماماً بقضية انفصال العلم عن القيمة ألا وهي قضية انفصال الإجراءات الديموقراطية عن القيمة. فالديموقراطية هي في واقع الأمر اتفاق على مجموعة من الإجراءات تمكن من خلالها معرفة رأي الأغلبية، وجوهر هذه الإجراءات كمي، أي حساب عدد الأصوات المؤيدة والمعارضة، فإن زادت الأصوات المؤيدة عن الأصوات المعارضة ولو صوتاً واحداً تم تمرير مشروع القانون، وإن نقصت ولو صوتاً واحداً رُفض المشروع. فالاتفاق هنا اتفاق بشأن الإجراءات وحسب (وقوانين اللعبة، كما تُسمَّى)، وليس متصلاً بمضمونها أو اتجاهـها، فهـذه أمور تحددها العملية الديموقراطية نفسها، دون الالتزام بأية قيم أو مرجعيات مسبقة، أي أن الديموقراطية تدور في إطار النسبية الكاملة ولا تتقيد بأية قيم أخلاقية مطلقة. ومن ثم سُمِّيت الأخلاق الحاكمة للديموقراطية بأنها «أخلاقيات الإجراءات والصيرورة» (بالإنجليزية: إثيكس أوف بروسيس ethics of process). فالديموقراطية، شأنها شأن الترشيد الإجرائي، معقمة من الميتافيزيقا والكليات والمطلقات والثوابت. فكما أن العلم انفصل عن الغائيات والقيم الإنسانية وأصبح مرجعية نفسه، انفصلت الإجراءات الديموقراطية عن الغائيات والقيم الإنسانية وأصبحت مرجعية ذاتها، ولا يمكن محاكمتها من خلال مرجعية متجاوزة لها.
والقضية التي تثيرها النازية هي أن هتلر وصل إلى الحكم من خلال إجراءات ديموقراطية سليمة، تماماً كما أن المشروع الإمبريالي الغربي قامت به حكومات تم انتخابها بطرق ديموقراطية سليمة. ومن المعروف أن عمليات السخرة والإبادة التي قام بها النظام النازي كانت تحظى بموافقة الأغلبية الساحقة للشعب الألماني. وهذا لا يختلف كثيراً عما حدث في الولايات المتحدة حينما قامت الحكومة الأمريكية بوضع ألوف المواطنين الأمريكيين من أصل ياباني في معسـكرات اعـتقال إبَّان الحرب العالميـة الثانيـة كإجراء أمني، وقد حظى القرار العنصري الإرهابي بموافقة الأغلبية. وتصبح القضية أكثر خطورة حينما تظهر بين جماهير الشعب نزعات عسكرية وإمبريالية تتجاوز طموحات النخبة الحاكمة، الأمر الذي يضطرها إلى القيام بعمليات عسكرية عدوانية لتحظى برضى الجماهير. ويُلاحَظ أثناء حملات الرئاسة الأمريكية أن حكومة الولايات المتحدة تأخذ مواقف عسكرية متشددة قد لا تضطر لاتخاذها بعد الانتخاب. وتظهر المشكلة بشكل أكثر حدة حينما يرى أحد الشعوب أن قطاع الاتجار في المخدرات هو عصب اقتصادها الوطني، وتُنتخب حكومة تدافع عن مثل هذه السياسة. ومؤخراً رشحت إحدى نجمات أفلام الإباحية نفسها في انتخابات البرلمان الإيطالي، وكانت حملتها الانتخابية تتلخـص في خلعـها لملابسـها لإقناع وإغواء الناخبين (وقد نجحت في حملتها وتم انتخابها بالفعل بتفوق). وفي الجيوب الاستيطانية، مثل إسرائيل وجنوب أفريقيا، عادةً ما تحكمها حكومات تم انتخابها بطريقة ديموقراطية لا شبهة فيها، وهذه الجيوب تستند إلى فعل سرقة تاريخي تقبل به أغلبية المستوطنين الساحقة، وتصوت (بل تقاتل) من أجل استمراره. ففعل الاغتصاب الإرهابي يحظى بدعم سياسي وقبول ديموقراطي.
والسؤال الآن هو: هل علينا أن نقبل بمثل هذه القرارات (ابتداءً من الإبادة النازية وانتهاءً بقبول المخدرات والإباحية واغتصاب الأوطان) باعتبار أنها تعبير عن إرادة الشعب وصوت الجماهير طالما أنها اتبعت الإجراءات الديموقراطية السليمة، أم ينبغي علينا أن نرفض مثل هذه القرارات الديموقراطية، استناداً إلى مرجعية أخلاقية متجاوزة للإجراءات الديموقراطية؟ ولكن هل يحق لنا أن نسأل أي سؤال يقع خارج نطاق أخلاقيات الإجراءات والصيرورة؟ ألا يُشكِّل هذا سقوطاً في الميتافيزيقا والماهوية والمطلقية؟
-
الخميس PM 02:20
2016-03-24 - 3067