المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415426
يتصفح الموقع حاليا : 282

البحث

البحث

عرض المادة

الحدودية

الحدودية كتعبير عن وظيفيـة الجماعات اليهوديـة
Peripherality as Manifestation of the Functionality of the Jewish Communities
«الحدودية» مصطلح يُعبِّر عن نموذج ذي مقدرة تفسيرية وتصنيفية عالية، إذ يرصد ويُفسِّر إحدى السمات الأساسية للجماعات اليهودية، ويُقصَد به وجود أعداد ملحوظة منها « على الحدود »، إما بالمعنى الجغرافي (المكان) أو بالمعنى التاريخي (الزمان)، وهو ما يُعبِّر عن وضعها كجماعة وظيفية. فمن الناحية الجغرافية، يُلاحَظ وجود أعضاء الجماعات اليهودية على أطراف أو حدود الدول أو في مناطق تقع بينها أو في الموانئ البحرية أو في الموانئ التجارية التي تكون محطات ومراكز برية أو في جيتو خاص. أما من الناحية التاريخية، فيُلاحَظ ازدهار أعضاء الجماعات اليهودية في مرحلة تاريخية مؤقتة تقع بين مرحلتين. ويمكن أن تكون الحدودية وضعية بمعنى ألا يكون المثقف أو الرأسمالي من أعضاء الجماعات اليهودية منتمياً إلى مركز التجمع وإنما يكون على حدوده أو هامشه. والحدودية تُعبِّر عن وضع الجماعات اليهودية كجماعات وظيفية تضطلع بوظائف خاصة (مشينة أو متميِّزة)، وهو ما يتطلب عزلها عن المجتـمـع، أو بوظائـف ريادية في الأماكـن النائـية والمجهولة. والحدودية الجغرافية يمكن أن توجد بدون الحدودية الوظيفية، والعكس صحيح أيضاً. لكن من الواضح أن الواحدة تقود إلى الأخرى، كما أن انفصالهما هو أمر مؤقت وتعبير عن الفجوة الزمنية التي تسم الظواهر الإنسانية.


وينبغي التنبه ابتداءً إلى أن هذه الصفة ليست صفة كامنة في بنية الطبيعة البشرية اليهودية أو لصيقة بها كما قد يتخيل البعض،فهي صفة مُكتسَبة يمكن تفسير كثير من جوانبها في إطار تاريخي واجتماعي.ويجب أيضاً أن نشير إلى أن ثمة جماعات يهودية عديدة لم تتصـف بصفـة الحدودية هـذه.فيهود بابل كانوا دائماً جزءاً من مجتمعهم،كما أن الأمريكيين اليهود أصبحوا جزءاً عضوياً من مجتمعهم لا يقفون على حدوده وإنما يتحركون داخله ويوجدون في صميمه.

ويمكن القول بأن صفة الحدودية هذه تنطبق بشكل عميق وأساسي على أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي، خصوصاً في شرق أوربا قبل الثورة الصناعية. ولأن وضع هذه الجماعات، كجماعات وظيفية، هو ما أفرز الصهيونية التي هيمنت إلى حدٍّ كبير على كل يهود العالم، وهذه الظاهرة تكتسب أهمية خاصة في الوقت الحاضر.

ويُلاحَظ أن أول ذكر للعبرانيين جاء فيه أنهم جماعات بدوية تنتقل من بلد إلى آخر، فتبقى إما على حدوده الفعلية، أو تدخل إليه للســقيا أو الاستقرار المؤقت. وهم بوصفهم بدواً رُحَّلاً يشكلون فئة اجتماعية تعيش على هامش المجتمع وفي ثغراته. وتدل الإشارات التي وردت في العهد القديم على أن العبرانيين كانوا يرابطون على حدود المدن، شأنهم شأن كثير من البدو الذين يحضرون للاتجار وتبادل السلع، أو يسيرون على طرق التجارة التي تمتد من مكان إلى آخر. وحينما نزل العبرانيون مصر، استوطنوا في جوش (محافظة الشرقية الآن)، وهي منطقة متاخمة لكل من شبه جزيرة سيناء وحدود مصر. ومن الواضح أنهم ظلوا اجتماعياً على حدود المجتمع، يعملون عبيداً أو بنائين، ولذا كان من الممكن طردهم. وبعد التغلغل العبراني في أرض كنعان، استقروا فيها، وهـي بلدة على الحـدود بين القوتين العظمـيين آنذاك: مصر وبلاد الرافدين. وتاريخ مملكة داود وسليمان هو تاريخ الانكماش المؤقت لهاتين القوتين، تماماً كما أن تاريخ الدويلتين العبرانيتين (المملكة الجنوبية والمملكة الشمالية) هو تعبير عن الصراع بين هاتين القوتين حينما عادت إليهما الحياة والقوة مرة أخرى. ومعنى ذلك أن وجود الدولة العبرانية والدويلتين العبرانيتين كان في مراحل زمنية مفصلية، أي في مرحلة حدودية بين مرحلتين إن صحَّ التعبير.

ويمـكن القـول بأن موقع فلسطين الجغرافي يجعل منها دولة حدودية. ولكن حدودية فلسطين ليست صفة جغرافية ثابتة وإنما صفة تاريخية عارضة. فحدودية فلسطين لا تظهر إلا مع تجزؤ المنطقة، وفي غياب قوة محلية تقوم بتوحيدها. فهي قريبة من حدود آسيا مع أفريقيا وتطل على حوض البحر الأبيض المتوسط، وتُعَدُّ مدخلاً لبلدان وادي الرافدين ومفتاحاً للشام ومصر، وهي الطريق الذي يصل آسيا بأفريقيا ويربط مصر بإمبراطوريات الشرق. ولذا، نجد أن معظم الفاتحين منذ عهد الإسكندر (أول غاز غربي للشرق) كانوا يسعون للاستيلاء على فلسطين لتكون ركيزة مشروعهم الاستعماري. وقد كانت هدفاً عَبْر تاريخها للهجرات والغزوات ابتداءً من التسلل العبراني إلى كنعان الذي تزامن مع غزوة شعوب البحر (الفلستيين). كما كانت هدفاً للغزو الآشوري فالبابلي فالفارسي فاليوناني والروماني، ثم موضع صراع بين البطالمة والسلوقيين، ثم هدفاً لحروب الفرنجة. وقد قام بسماتيك الثاني (594 ـ 588 ق.م) بتوطين بعض الجنود العبرانيين المرتزقة في جزيرة إلفنتاين باعتبارهم جماعة وظيفية استيطانية قتالية. وكانت إلفنتاين تقع على حدود مصر الجنوبية وكانت ذات أهمية إستراتيجية خاصة، كما كانت مركزاً للمحاجر المصرية.

وتحوَّلت فلسطين، بعد أن ضمتها الإمبراطورية اليونانية، إلى مسرح للصراع بين السلوقيين والبطالمة. ومع بداية ظهور الرومان، تحالف معهم الحشمونيون، وتمكنوا من تأسيس دولتهم المستقلة في مرحلـة مفصلـية أو حدوديـة ثانيـة. وبعد أن ضمتها الإمبراطورية الرومانية، صارت فلسطين أحد مسارح الصراع بين الرومان والفرثيين الذين هيمنوا على بلاد الرافدين آنذاك. وقد ظهرت في تلك الفترة إمارة حدياب التي كانت إمارة حدودية تقع بين الدولة الفرثية والإمبراطورية الرومانية. لكن الصراع حُسم لصالح الرومان وقُضيَ على الإمارة اليهودية. وبهذا، أصبحت فلسـطين مقاطعة تابعة يحكمها الحاكم الروماني مباشـرةً.

وفي القرن الأول قبل الميلاد، بدأ اليهود يغادرون فلسطين في أعداد كبيرة وينتشرون في بقاع الأرض، ولكن هذا الانتشار تركَّز في مدن حوض البحر الأبيض المتوسط. ولم تَعُد فلسطين المركز الديني أو السكاني لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم، لأنها أخذت تفقد الخاصية الحدودية.

وقد فقدت فلسطين حدوديتها تماماً بعد فترة الصراع بين البيزنطيين والفرس، حيث أصبحت جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري العربي الإسلامي. واستمر هذا الوضع حتى القرن الحادي عشر حيث جاءت حملات الفرنجة وتأسست ممالك الفرنجة في فلسطين. ولكن هذه الحملات فشلت في تحقيق هدفها وهو تحويلها إلى جزء من حدود أوربا في الشرق.

وبالمثل، تتسم بعض الجماعات اليهودية الأخرى في العالم بهذه «الحدودية». وإذا صدقنا دعاوى بعض المؤرخين القائلة بأن ملوك حمير قد اعتنقوا اليهودية في القرن السادس، أثناء صراعهم مع أباطرة إثيوبيا من الأقباط، فيمكننا اعتبار اليمن آنذاك منطقة حدودية تقع بين التشكيل الحضاري السامي الوثني في الجزيرة العربية وإثيوبيا المسـيحية المتحالفة مـع بيزنطة. وقد استوطن أعضاء الجماعات اليهـودية في الهند: في بومباي وجوا وكوشين، وكلها موانئ ومناطق للتجارة.

ومن أهم الأمثلة على هذه الصفة الحدودية، إمبراطورية الخزر اليهودية الصغيرة التي كانت تقع على الحدود بين الإمبراطوريتين البيزنطية والإسلامية من جهة والسهوب الروسية التي كانت تسكنها قبائل سلافية وثنية من جهة أخرى. وقد اكتسبت هذه الإمبراطورية أهميتها بسبب موقعها الحدودي ودورها بين هذه القوى. ولكن، حينما تنصَّر الروس في القرن العاشر وتحولوا إلى قوة روسية أرثوذكسية متحالفة مع بيزنطة، وازداد ضعف المسلمين العرب، تم القضاء على إمبراطورية الخزر التي لم يعد لها دور تلعبه.

وقد استوطن أعضاء الجماعات اليهودية، بعد الفتح العربي، في شبه جزيرة أيبريا، وهي المقاطعة المتاخمة للحدود مع العالم المسيحي. ومع هذا، كان أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمع العربي الإسلامي يفتقدون خاصية الحدودية هذه، حيث كانوا من صميم المجتمع العربي في الأندلس.

وعلى أية حال، فإن صفة الحدودية لم تتبلور إلا بتحول الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية داخل التشكيل الحضاري الغربي. ومما قد يكون له دلالته وطرافته أن أول وجود لأعضاء الجماعات اليهودية داخل القارة الأوربية كان في روما (العاصمة الإمبريالية) ثم في كولونيا (وهي معسـكر روماني أُسِّـس في تلك المنطقة التي تتحـكم في وادي الراين، ويعود اسمها إلى كلمة «كولون Colon» اللاتينية ومعناها «مستعمرة»، وقد أُخذت كلمة «كولونيالية» بمعنى «استعمار» من الأصل نفسه). وقد أصبحت كولونيا، بسبب موقعها المتميِّز، مقراً لأحد أهم الأسواق في أوربا. ويمكن القول بأن خاصية الحدودية كانت خاصية جنينية تظهر وتختفي داخل القارة الأوربية وخارجها، ولم تصبح خاصية عامة وأساسية وثابتة للجماعات اليهودية في أوربا إلا بحلول العصور الوسطى في الغرب. ولعل هذا يعود إلى التركيب الإقطاعي المسيحي للمجتمع والذي لم يحدد وضع الأقليات غير المسيحية، وهو ما جعل اليهود وأمثالهم غرباء. لكن هذا المجتمع كان، مع ذلك، مجتمعاً يضم النبلاء والفرسان من جهة والفلاحين من جهة أخرى، بحيث كانت تفصل بين الجانبين هوة لم يكن بوسع التجار المحليين ملؤها. وقد قام اليهود بملء هذه الشقوق والفراغات وتوسيعها حتى أصبحوا الجماعة الوظيفية الوسيطة الأساسية في أوربا في العصور الوسطى. والجماعات الوظيفية الوسيطة تتكون عادةً من أقلية إثنية تقوم بمهام التجارة والربا وغيرها من المهام التي لا تقوم بها الطبقات الأساسية في المجتمع.

وكان اليهود، بوصفهم جماعة وظيفية مالية وسيطة، يقومون بما يُسمَّى التجارة البدائية. لكن هذه التجارة البدائية نشاط اقتصادي ليس من صميم العملية الإنتاجية، ولذا فهي تمثل نشاطاً حدودياً بين الأنشطة المختلفة. إذ كان التاجر البدائي ينقل السلع من مجتمع إلى آخر، فيحضر السلع التَرفيِّة مثلاً من الشرق إلى المجتمع الإقطاعي الغربي ويأخـذ منـه العبـيد والـفراء. لكن هذا التاجر البدائي لم يكن منتمياً لا إلى هـذا العــالم ولا إلى ذاك، لا إلى الشــرق ولا إلى الغــرب. وقـد وضــع ماركـس يده على هذه الخاصية حينما قال إن اليهود يعيشون في مسـام المجتمع الإقطاعي، أي على حدوده.

ولم يكن النشاط الربوي اليهودي مختلفاً، فقد كان المرابون اليهود يقفون في واقع الأمر على الحدود بين الأمير الإقطاعي الذي كان يُدعَى شيخ المرابين والفلاحين وأشباههم ومن هم في مكانتهم الاجتماعية. وكان المرابون يمتصون ثروات الفلاحين ثم يقوم الأمير بدوره بامتصاصهم، ومن هنا كان يُطلَق عليهم «الإسفنجة». وكانت وظيفة التاجر والمرابي اليهودي تسقط بسد الفجوة الزمنية وظهور طبقة محلية تضطلع بوظيفة الاتجار وأعمال الصيرفة.

وكان من أهم وظائف الجماعة الوظيفية اكتشاف مجالات الاستثمار الخفية، والقيام بدور ريادي في الأراضي غير المأهولة وفي المشـاريع الخـطرة إذ تكون الأشكال التقليدية للاستثمار موصدة دونهم. كما أن العناصر الوسيطة عناصر أكثر حركية ولأنها لا تقع تحت طائلة القوانين الإقطاعية الصارمة. وقد اضطلع كثير من الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية، ومن ثم كانوا يقعون خارج المجتمع وخارج هيكله القانوني، يرتادون المناطق غير المأهولة والمجالات الاستثمارية غير المألوفة.

وقد عمَّق حدودية اليهود بعض الأفكار الدينية اليهودية والمسيحية الغربية: أولها فكرة الشعب الشاهد (الكاثوليكية) التي ترى ضرورة الحفاظ على اليهود في حالة ضعَة ومذلة ليقفوا شاهداً على عظمة الكنيسة، والشعب الشاهد ليس جزءاً من المجتمع إذ يجب عليه أن يقف على الحدود كي يشهد على كل شيء ويشاهده. والفكرة الثانية هي فكرة الماشيَّح اليهودية، أي الملك الذي سيأتي من نسل داود ليخلِّص اليهود من نير الأغيار ويعود بهم إلى وطنهم القومي، ويقف بذلك شاهداً على عظمة اليهود وعلى ضعَة الآخرين. ولقد ساهمت الفكرتان معاً في تعميق غربة اليهود وانعزالهم وتفكيك أواصر الصلة بينهم وبين البلاد والشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. ثم جاء الفكر البروتستانتي الاسترجاعي فمزج الفكرتين، وأصبح الشعب الشاهد هو نفسه الشعب المقدَّس الذي يجب استرجاعه إلى فلسطين لتنصيره حتى يتم التخلص منه والخلاص للجميع. وتنطوي كل هذه الرؤى الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، على افتراض مفاده أن اليهود شعب غريب لا جذور له.

ولقد أصبحت حدودية اليهود في المجتمع الغربي وضعاً طبقياً ووظيفياً محدَّداً يسانده بناء فكري وديني، وهو ما يعني أن هذا الوضع كان قائماً على مستوى الواقع وعلى مستوى الوعي. وبذا تحددت صورتهم وتبلورت، وتحدَّد دورهم كعنصر وظيفي وسيط. وقد تعاملت معهم أوربا في هذا الإطار حتى عام 1950 تقريباً؛ أي بعد الإبادة النازية وقيام الدولة الصهيونية واندماج يهود الولايات المتحدة.

وكانت حدودية أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية هي العنصر الأساسي الذي حدد مواطن استقرارهم. ففي العصور الوسطى، استقر اليهود في إنجلترا (مع الغزو النورماندي) في الموانئ والمراكز التجارية مثل لندن. وظل اليهود مرتبطين بالعنصر الفرنسي الغازي إلى أن طُردوا من إنجلترا في القرن الثالث عشر. وفي بقية القارة الأوربية، اتخذ استقرارهم الشكل نفسه؛ وقد أشرنا من قبل إلى استيطانهم كولونيا. كما أنهم استوطنوا أيضاً مدناً تقع على نهر الراين مثل فرانكفورت وورمز وسبير ومتز، أو على أنهار أخرى مثل مدينة أوجسبرج وماجدبرج وبراغ. والأنهار كما هو معروف من أهم طرق النقل والتجارة، وبخاصة قبل الثورة الصناعية.

واستمر النمط نفسه وتعمَّق في شبه جزيرة أيبريا، حيث بقي بعض أعضاء الجماعة، بعد الفتح الإسلامي، في الجيوب المسيحية في الشمال. وقد أسس شارلمان جيباً يُسمَّى «ماركا هيسبانيكا» في جبال البرانس ووطَّن فيه الرواد اليهود، ليكون حاجزاً ضد الزحف الإسلامي. وتدل الوثائق على أن أعضاء الجماعة اليهودية في هذا الجيب كان لهم حق امتلاك الأراضي الزراعية والعمل فيها وشرائها وبيعها واستئجارها وتأجيرها. ونظراً لعدم وجود كثافة بشرية مسيحية، كان العنصر اليهودي، أثناء الغزو المسـيحي التـدريجي لشـبه جزيرة أيبريا، من العناصر الأساسية التي اعتمدت عليها الجيوش الغازية. وقد انخرط اليهود في تلك الجيوش التي كانت تستخدمهم كجماعة وظيفية استيطانية في الأراضي المفتوحة، حيث كان يتم منحهم مرة أخرى حق امتلاك الأراضي وزراعتها في وقت كانت الأرض فيه مصدر رزقهم الأساسي. وقد تكرر النمط نفسه في مورسيا وبالنسيا ولامنشا ومقاطعة الأندلس وغيرها. كما مُنح اليهود حق فتح محالٍّ تجارية شريطة أن يستوطنوا مع أسرهم. وبعد استقرار الحكم المسيحي في شبه جزيرة أيبريا، ومع انحسار المد العربي الإسلامي، فقد شبه الجزيرة صفته الحدودية، وطُرد أعضاء الجماعة اليهودية بعد زواج فرديناند وإيزابيلا ونجاحهما في استكمال غزو شبه الجزيرة ببضعة أشهر.

وقد انتشر يهود السفارد ويهود المارانو (المتخفون) الذين طُردوا من إسبانيا والبرتغال في أنحاء المعمورة. وكانوا يتسمون بدرجة عالية وحادة من الحدودية، أي أنهم كانوا على معرفة تامة بالحضارتين السائدتين آنذاك: حضارة المسلمين في الشرق، وحضارة المسيحيين في الغرب. كما كان يهود المارانو يقفون على الحدود بين العالمين اليهودي والمسيحي، فهم يهود في الخفاء مسيحيون كاثوليك في الظاهر، الأمر الذي سهل لهم التحرك بين الجماعتين. هذا إلى جانب أن كثيراً منهم احتفظ برأسماله واتصالاته داخل شبه الجزيرة الأيبيرية، حتى بعد أن طُردوا منها، حيث كانوا يعودون إليها ليصرِّفوا أمورهم، ثم ينتقلون إلى أوطانهم الجديدة. وكانت السلطات الفرنسية والألمانية تعرف أنهم يهود متخفون، ومع ذلك سمحت لهم هذه السلطات بالاستيطان باعتبارهم كاثوليكيين من البرتغال أو إسبانيا حتى تستفيد من اتصالاتهم الدولية ورأسمالهم. وقد أدَّى طردهم من أيبريا إلى اتساع نطاق نشاطهم الدولي وازدياد نطاق حدوديتهم، إذ وُجدت أعداد كبيرة منهم في شتى مناطق التجارة العالمية، وفي المدن والموانئ الأوربية والعثمانية.

كما استقرت أعداد كبيرة منهم في موانئ مثل بايون وبوردو في فرنسا أو في مدن ذات أهمية تجارية خاصة مثل برودي في جاليشيا أو في مدن مثل فرانكفورت وغيرها من المدن الألمانية التي كانوا قد طُردوا منهـا. ومـن أهم المدن التي استقروا فيها مدينة أمستردام عاصمة هولندا، وهي من أهم الموانئ التي تطل على المحيط الأطلنطي، أي أنها تقع على حدود العالم القديم المواجهة للعالم الجديد. كما استقروا في لندن، وهي أحد أهم مراكز التجارة الأطلنطية التي كانت قد بدأت تحل من حيث الأهمية محل التجارة مع الشرق. وكانت كل من أمستردام ولندن عاصمة لامبراطورية صغيرة ناشئة، وعاصمة الإمبراطورية هي دائماً مفترق الطـرق والنقطـة التي يتم فيهـا عقد الصفقـات وتوزيع الغنائم، وهي أيضاً النقطة التي تستأثر بنسبة عالية من الثروات التي تصب من المستعمرات. وحينما استوطن اليهود في العالم الجديد في الفترة نفسها، استقروا في نيو أمستردام (نيويورك فيما بعد) وجزر الهند الغربية، أي في مناطق تجارية على حدود العالم الجديد المواجه للعالم القديم. وقد لعب يهود المارانو والسفارد دوراً مهماً في نشأة الرأسمالية بسبب خاصيتهم الحدودية.

وقد وُجدت أعداد كبيرة أيضاً من اليهود في مقاطعتي الألزاس واللورين، على الحدود بين ألمانيا وفرنسا، وهما المقاطعتان اللتان تنازعتهما الدولتان حيث ضمتهما فرنسا في القرن الثامن عشر ثم ضمتهما ألمانيا في عام 1870، واستعادتهما فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى ثم ضمتهما ألمانيا فترة قصيرة أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى أن استرجعتهما فرنسا بعد ذلك.

لكن أكبر تَجمُّـع يهودي في أوربـا وفي العـالم الحديث كان في بولندا، وهو ما نسميه «يهود اليديشية». وقد هاجر إليها اليهود للاشتغال بالتجارة، واستقروا في وارسو وكراكوف وغيرهما من المدن. وبولندا، من ناحية ما، بلد حدودي يقع بين روسيا وبحر البلطيق ويربط بين غربي أوربا وشرقيها. وقد ظلت قوة عظمى مادامت الكتلة الروسية منكمشة والقوة الألمانية مقسمة إلى وحدات صغيرة متنازعة.ولكنها فقدت نفوذها ومكانتها بظهور حكومات مركزية قوية في روسيا وألمانيا اللتين أخذتا تتنازعانها فيما بينهما، وهي في هذا تشبه فلسطين التي تتنازعها الإمبراطوريات العظمى. وتظهر حدودية بولندا بشكل حاد في عملية تقسيمها بين روسيا وألمانيا والنمسا إذ قُسِّمت ثلاثة أقسام حتى أنها اختفت ككتلة سياسية مستقلة طوال القرن التاسع عشر بعد أن كانت أكبر دولة أوربية لها حدود مع الإمبراطورية العثمانية.وقد تم تقسيم أعضاء الجماعة اليهودية بتقسيم بولندا، فضُم قطاع منها إلى ألمانيا (بوزن أو بوزنان) وضُم قطاع آخر إلى النمسا (جاليشيا) وضُم الجزء الأكبر إلى روسيا.

وإذا كانت بولندا دولة حدودية، فإن أكثر أقاليمها حدوديةً هو أوكرانيا التي يعني اسمها « البلد الذي على الحدود ». وقد انتقلت أعداد كبيرة من اليهود إليها بعد ضمها إلى بولندا في القرن السادس عشر، ليقوموا بدور جماعة وظيفية استيطانية مالية تمثل مصالح النبلاء الإقطاعيين هناك. وتزايد استيطانهم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد قاموا بدور جمع الضرائب والصيرفة، فيما يُعرَف باسم نظام الأرندا. وكان أعضاء الجماعة اليهودية على الحدود جغرافياً في أوكرانيا، وعلى الحدود مجازياً (بين النبلاء الكاثوليك والفلاحين الأرثوذكس). ولذا، حينما قامت ثورة شميلنكي الأوكرانية، اكتسحتهم في طريقها. وضمت روسيا منطقة أوكرانيا فيما ضمت من أراض بولندية.

وعندما قامت الإمبراطورية الروسية بضم الإمارات التركية الموجودة حول البحر الأسود، وطنت اليهود في المناطق الجديدة المفتوحة التي عُرفت باسـم «روسـيا الجـديدة» وبخاصة في ميناء أوديسـا، وذلك لصبغها بالصبغة الروسية ولنزع الصبغة التركية عنها. وفي عام 1928، طرحت الحكومة السوفيتية مشروعاً لتوطين اليهود في القرم، وهي من أكثر المناطق حدوديةً في العالم حيث حكمها اليونان والرومان والقوط والهن ويهود الخزر والبيزنطيون والمغول وجمهورية جنوة والعثمانيون ثم الروس، كما غزاها الألمان لفترة قصيرة أثناء الحرب العالمية الثانية. ولكن الحكومة السوفيتية تخلت عن المشروع ونفذت مشروع إقليم بيروبيجان. ويبدو أن المشّرع السوفيتي كان واعياً بخاصية الحدودية في الجماعات اليهودية حينما وطنهم في منطقة على الحدود مع الصين غير بعيدة عن اليابان. ولكن السوفييت، برفضهم توطين اليهود في منطقتي أوكرانيا والقرم، لقربهما من ألمانيا والدول الغربية التي قد تجندهم لصالحها، كانوا يتبعون سياسة القياصرة الذين أصدروا قراراً في القرن التاسع عشر بعدم السماح لليهود بالسكنى إلا على مسافة خمسين فرسخاً من الحدود الأوربية، وذلك خشية تعاونهم مع الدول المعادية، خصوصاً أن اليهود كانوا يتحدثون اليديشية وهي رطانة ألمانية. كما أن التوجه الثقافي ليهود روسيا في القرن التاسع عشر كان ألمانياً في الأساس.

ويُلاحَظ أن أكبر تجمُّع يهودي في العالم يوجد اليوم في الولايات المتحدة، كما أن أكبر نقاط تركُّز أعضاء الجماعة هي نيويورك: المنطقة الحدودية بين الولايات المتحدة وأوربا. ولكن يجب التنبه إلى أن الحدودية الوظيفية لليهود في المجتمع الأمريكي قد تضاءلت وربما اختفت تماماً. ولعل هذا يفسر بداية تضاؤل حدوديتهم على الصعيد الجغرافي، إذ بدأوا يبتعدون عن مراكزهم الحدودية التقليدية وينتشرون في أنحاء أمريكا.

ومع هذا، يمكن اعتبار اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالبغاء تعبيراً عن الظاهرة نفسها. فمع علمنة الرغبة في المجتمع الغربي، دون علمنة السلوك، ظهرت فجوة بين الرغبة الجنسية وإشباعها كان لابد من ملئها عن طريق جماعة وظيفية. وكان اليهود قد فقدوا وظيفتهم كتجار صغار، فتحولت أعداد كبيرة منهم إلى العمل بهذه التجارة المشينة. وقد قُضي على هذه الظاهرة مع تزايد معدلات علمنة السلوك في المجتمع الغربي، بحيث أصبح من الممكن تحقيق الإشباع الجنسي من خلال الإناث المحليات ممن يردن تعظيم ربحهن وزيادة دخلهن دون حاجة إلى وساطة عنصر وظيفي.

ويبدو أن اللغات التي تحدَّث بها العبرانيون وأعضاء الجماعات اليهودية تتسم بالحدودية نفسها. فالعبرانيون في مصر كانوا يتحدثون في الغالب لغة المصريين القدامى بعد أن أدخلوا عليها مصطلحات سامية بحيث أصبحت رطانة خاصة بهم، أو لعلهم كانوا يتحدثون بإحدى اللهجات السامية بعد أن أدخلوا عليها كلمات وتعبيرات مصرية ( قديمة). وقد ظل هذا هو النمط اللغوي بين أعضاء الجماعات: أن يتحدثوا لغة الأقوام التي يعيشون بينها بعد أن يُدخلوا عليها ألفاظاً عبرية بحيث تصبح رطانة خاصة بهم، وكانوا عادةً يكتبونها بالحروف العبرية. والرطانة هي طريقة في الحديث مختلفة عن النمط اللغوي السائد، ولكنها لا ترقى إلى مستوى النسق اللغوي المستقل، أي أنها تقف على «حدود» اللغة الأم: لا تنتمي إليها كليةً وفي الوقت نفسه لا تنفصل عنها، تماماً كمـا هو حال الجماعـة الوظيفيـة التي توجـد في المجتمع دون أن تكون منه. وقد كان هذا هو حال اللغة اليديشية التي يصنفها علماء اللغة باعتبارهـا رطانة ألمانية إذ أن بنيتها في الأساس بنية ألمانية العصور الوسـطى. وقد دخلت عليها كلمات من السلافية والعبرية وغيرهما بعد أن نقلها اليهود معهم إلى بولندا، وكانوا يكتبونها بالحروف العبرية. لكن هذه اللغة ظلت مقصورة على الأمور التجارية، وعلى الاستخدامات اللغوية عند العوام، إذ كانت المؤلفات الدينية تُكتَب بالعبرية أو الآرامية. ومع بداية تحديث اليهود، أي مع دمجهم وتحريكهم من أطراف المجتمع ليصبحوا جزءاً عضوياً منه، طالب دعاة التنوير بالتخلي عن اليديشية لأنها أصبحت لغة الغش التجاري والتهريب بسبب حدوديتها كما كان سكان البلد الأصليون لا يعرفونها. وقد جَرَّمت جميع الحكومات التي أعتقت اليهود سياسياً استخدام اليديشية في الأعمال التجارية.

ولم تزدهر اليديشية كلغة أدبية إلا في مرحلة مفصلية من تاريخ شرق أوربا، وهي مرحلة التحديث المتعثر في أواخر القرن التاسع عشر، إذ توقفت عمليات الدمج وانصرف أعضاء الجماعة اليهودية في روسيا وبولندا وغيرهما عن تحديث أنفسهم لغوياً. كما انصرفوا عن دراسة اللغة الأم واهتموا بدلاً من ذلك بدراسة العبرية واليديشية، فأنتجوا أدباً باليديشـية يرى بعـض النقـاد أنه يرقى إلى مستوى الأعمال الأدبية الجادة. ولكن، لم يُقدَّر لهذه المرحلة أن تستمر طويلاً، فبقيام الثورة البلشفية استؤنف التحديث مرة أخرى وأُتيحت فرص الدمج والحراك الاجتماعي أمام أعضاء الجماعة اليهودية، فانصرفوا عن إرسال أطفالهم إلى المدارس التي تُعلِّم اليديشية. وانخفض عدد المتحدثين بها في الاتحاد السوفيتي من نحو 97% مع نهاية القرن التاسع عشر إلى 19% من أعضاء الجماعات اليهودية في الوقت الحاضر ومعظمهم من المسنين. وقد اختفت اليديشية تقريباً في الولايات المتحدة أيضاً بسبب المعدلات المتزايدة للاندماج بين أعضاء الجماعات اليهودية.

ويُعدُّ الجيتو التجسيد المعماري المتعين لهذه الحدودية الوظيفية، فهو يقف داخل المدينة ولكنه ليس منها إذ تفصله أسوار عالية عن بقية أجزائها، وكان الجيتو يقع أحياناً على أطراف المدينة حتى يمكن عزل اليهود داخل حدوده.

وقد كان لحدودية أعضاء الجماعات اليهودية أعمق الأثر فيهم. فنتيجةً لوضعهم هذا، تزايد التصاقهم بالحاكم إلى أقصى حد، إذ أنهم باعتبارهم أداته في الاستغلال كانوا عناصر مرفوضة مهددة بالثورات الشعبية، وهذا ما جعلهم في حاجة دائمة إلى الدعم العسكري من السلطة. ويتجلى مدى التصاقهم بالحاكم في وضعهم القانوني في العصور الوسطى في الغرب، إذ كانوا يُعدّون ملكية خاصة للملك (أقنان بلاط) يؤدون له الضريبة ويقوم هو بحمايتهم. وكانت دية اليهودي الذي يُقتَل تُدفَع للحاكم وليس لأهل اليهودي، كما كانت عقوبة قتل اليهودي أو أحد أبنائه في بعض بلاد أوربا مثل عقوبة قتل أو إيذاء الفرسان بل أشد في بعض الأحيان. وقد حاول البعض تخفيض العقوبة بحيث تصبح مساوية لعقوبة قتل أو إيذاء فلاح! كان هذا هو وضع يهود ألمانيـا ويهود بولندا بشـكل عام، ويهود أوكرانيا بشكل خاص إذ كان تميزهم أكثر حدة وإثارة. لقد كانوا ممثلين للقوة الحاكمة بين المحكومين، ويعيشون داخل مدن صغيرة مقصورة عليهم (الشتتل، أي الكيان الغريب المشتول)، ويتعبدون داخل معابد يهودية تشبه القلاع، تعسكر بالقرب منهم القوات البولندية لحمايتهم!

وبسبب حدودية اليهود، ونتيجة لها في آن واحد، كان العالم الغربي يحوسلهم، أي يحولهم إلى وسـيلة، والوسـيلة لا قيمة لها في ذاتها، بل تكون المحافظة عليها بقدر نفعها وبمقدار تأديتها الوظيفة المنوطة بها. ومن هنا، كان الحوار الذي بدأ في أواخر القرن الثامن عشـر حول حقوق اليهود، يدور في إطار مدى نفع اليهود وجدواهم.

وقد ساهمت حدودية اليهود داخل الحضارة الغربية في تعميق المسألة اليهودية فيها وفي تحديد شكل الحلول المطروحة لها. فحدوديتهم الوظيفية والمعنوية عزلتهم عن التطورات العميقة التي حدثت داخل المجتمع الغربي ابتداء من القرن السادس عشر. وجاء عصر النهضة ثم عصر الإصلاح الديني وعصر العقل وعصر الرومانسية، وهي كلها تعبير عن الانقلاب الصناعي الرأسمالي، بينما كان اليهود معزولين عن مجتمع الغرب معنوياً رغم وجودهم فيه.

كما عمَّقت الحدودية الجغرافية، وبشكل حاد، أبعاد المسألة اليهودية. ولنأخذ، على سبيل المثال، الألزاس واللورين: كان يهود هذه المنطقة من الإشكناز الذين يتحدثون اليديشية ويشتغلون بالتجارة والربا ولا يندمجون بمحيطهم الثقافي. وكانت الألزاس واللورين تنتميان إلى التشكيل السياسي الألماني ثم انتقلتا إلى التشكيل السياسي الفرنسي ثم عادتا إلى التشكيل السياسي الألماني مرة أخرى، وانتهى بهما المطاف بعد الحرب العالمية الأولى إلى أن أصبحتا جزءاً من فرنسا. وليس بإمكان أقلية أن تحدِّد ولاءها وهويتها بما يتفق مع متطلبات الدولة القومية في مثل هذا المناخ الذي تتغير فيه هذه المتطلبات.

وكان الوضع أكثر سوءاً في الجيب البولندي الذي ضم معظم يهود العالم، أي يهود اليديشية. فقد جرى تقسيم بولندا بين ثلاث دول مختلفة: واحدة منها سلافية (روسيا) والاثنتان الأخريان جرمانيتان (ألمانيا والنمسا). وقد ضمت ألمانيا مقاطعة بوزن (بوزنان) وألمنت يهودها، ولكنهم ظلوا مع هذا شرق أوربيين. وحينما هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى ألمانيا، أدَّت هجرتهم إلى تغيير طابع يهود ألمانيا من طابع غرب أوربي إلى طابع شرق أوربي. أما يهود جاليشيا التي ضمتها النمسا، فقد ظهر بينهم من ينادي بالثقافة الألمانية، وظهر فريق آخر ينادي بالثقافة البولندية، وفريق ثالث ينادي بالثقافة العبرية. وكان يهود أوكرانيا متعددي الولاءات ومتعددي الثقافات، فبعضهم أوكراني وبعضهم الآخر روسي والثالث ألماني والرابع بولندي. ولو وُجد اليهود في بقعة جغرافية غير حدودية لكان من السهل تحديثهم ودمجهم كما حدث ليهود ألمانيا قبل الهجرة من شرق أوربا، وكما حدث ليهود إنجلترا والولايات المتحدة بعد هذه الهجرة.

ويَصدُر الحل الصهيوني بين الصهاينة المسيحيين واليهود عن هذه الخاصية الحدودية ويتقبلها. ولكن، قبل أن نتناول البنية الحدودية للحل الصهيوني، قد يكون مما له دلالته وطرافته أن نذكر أن أول مؤتمر عقده أعضاء أحبّاء صهيون هو مؤتمر كاتوفيتش الذي عُقد على الحدود بين ألمانيا وروسيا. كما عُقد أول مؤتمر للمنظمة الصهيونية العالمية في بال السويسرية، وهي بلد حدودي محايد، ذلك لأن يهود ميونيخ، التي كانت تضم واحدة من أكبر الجماعات اليهودية آنذاك، قد آثروا الاندماج ورفضوا الهامشية التي كانت الصهيونية تطرحها. كما أن هرتزل نفسه، الذي اكتشف الصيغة الصهيونية بين اليهود، كان شخصية حدودية بالدرجة الأولى، فهو من وسط أوربا التي تقع بين شرقها وغربها، وينتمي إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية متعددة الولاءات. وهو مجري المولد نمساوي النشأة يهودي المنزع، كما كانت له ثلاثة أسماء: زئيف (مجري) وتيودور (ألماني) وبنيامين (عبري). وهو، رغم تعدُّد ولاءاته، كان هامشياً بالنسبة إلى هذه المجتمعات جميعاً. وربما كان هذا ما رشحه لأن يكتشف الصيغة الصهيونية الحدودية التي ترى اليهود جماعة حدودية. ورغم ادعاء بعض الصهاينة، على مستوى التصريحات، أنهم سيطبِّعون اليهود ويخلِّصونهم من هامشيتهم، فإن البنية الحقيقية للفكرة الصهيونية بنية حدودية إن صح التعبير. فاليهود، حسب الرؤية الصهيونية المسيحية والرؤية اليهودية، شعب يقف على هامش التاريخ غير اليهودي ولا يساهم فيه كثيراً. وقد تحوَّلت هذه الرؤية إلى فكرة الشعب العضوي المنبوذ، أي اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً جذوره ليست في أوربا وإنما في فلسطين، ومن ثم فليس بالإمكان تحقيق القومية اليهودية إلا خارج أوربا (في فلسطين). أما إن بقي اليهود داخل تشكيلات حضارية وقومية لا ينتمون إليها، فإنهم يتحولون إلى شخصيات هامشية طفيلية يجب التخلص منها. وقد كان يُشار إلى اليهود باعتبارهم مادة بشرية يمكنها أن تضطلع بدور ريادي حدودي مفيد للحضارة الغربية. ويُعتبَر ظهور محمد علي والقضاء عليه عام 1840 النقطة الحاسمة في تاريخ الصهيونية، إذ بدأت القوى الاستعمارية تكتشف خطورة وقوع المنطقة في أيدي قيادة محلية، الأمر الذي سيفقد فلسطين حدوديتها، فسعت إلى توطين اليهود فيها باعتبارهم عنصراً حدودياً وجماعة وظيفية استيطانية حتى تظل فلسطين منطقة نفوذ غربية. وكان شافتسبري ينوِّه بفائدة العنصر اليهودي في هذا المضمار، أما لورنس أوليفانت فقد طرح مشروعاً حدودياً مثيراً لمدّ خط سكة حديدية من استنبول إلى بغداد على أن تُخصَّص منطقة بعرض كيلو مترين على جانبي الطريق يُوطَّن فيها اليهود.

وقد تقبَّل اليهود الصهاينة هذا الحل الصهيوني غير اليهودي. فهرتزل يتحدث عن الدولة الصهيونية باعتبارها حائطاً غربياً يقف في الشرق ليصد الهمجية ويتمتع بالحماية الغربية بالمقابل (مثلما تمتع يهود أوربا بحماية الملك والحاكم)، كما يتحدث عن اليهود باعتبارهم مادة نافعة يمكن الاستفادة منها في خدمة إنجلترا وغيرها من الدول الغربية. أما ماكس نوردو، فكان يرى أن المشروع الصهيوني يرمي إلى مدّ حدود أوربا إلى الشرق وإلى تخليصها من العنصر اليهودي الحدودي. وقد وصف وايزمان الدولة الصهيونية المزمع إنشاؤها بأنها بلجيكا آسيوية. وهو محق في قوله، فبلجيكا في علاقتها بإنجلترا تشبه علاقة فلسطين بمصر في كثير من الوجوه. وقد أكد جابوتنسكي أن كون اليهود عنصراً حدودياً سيجعلهم يدينون دائماً بالولاء للغرب وسيحول فلسطين إلى دولة حدودية وظيفية. وهذا على عكس فلسطين العربية التي ستدخل الفلك العربي الإسلامي، وبذا تفقد حدوديتها. وقد نجحت الصهيونية بمساعدة الإمبريالية الغربية في تأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية التي تقع بين آسيا وأفريقيا، وتطل على قناة السويس وتخلق ثغرة بين شرق العالم العربي وغربه، وهي قاعدة استيطانية قتالية ومالية للإمبريالية الغربية في المنطقة، ووجودها منوط بحدوديتها الجغرافية والوظيفية، أي بوجودها في هذه المنطقة الإستراتيجية وبنجاحها في أداء وظيفتها القتالية والاستيطانية.

وقد لاقت فلسفـة نيتشـه صدى لدى الشباب اليهودي في شرق أوربا، ثم بين العديد من الصهاينة، لأنها فلسفة حدودية تنصح الإنسان بأن يعيش في خطر دائم وأن يبني بيته بجوار البركان. وقد وصل هذا التيار النيتشوي الصهيوني الحدودي إلى الذروة في عقيدة جوش إيمونيم الاستيطانية حيث يذهب المستوطن الصهيوني إلى وسط المدينة العربية ويؤسس بيته. ويحلو لأتباع هذا التيار أن يقتبسوا كلمات «بلعم»، ذلك العراف الوثني الذي دعاه ملك مؤاب ليلعن العبرانيين القدامى عند اقترابهم من مملكته « هو ذا شعب يسكن وحده وبين الشعوب لا يُحسَب » (عدد 23/9). وهذا الاقتباس هو جوهر الصهيونية، فهو يتضمن التقبل غير المشروط للصفة الحدودية على المستويين الوظيفي و الجغرافي.

والقانون العام الذي يمكننا استخلاصه هو أن العنصر اليهودي داخل الحضارة الغربية يُنظَر إليه باعتباره عنصراً وظيفياً حدودياً. ولهذا، فلابد أن تتحول فلسطين هي الأخرى، من منظور المصالح الغربية، إلى بلد وظيفي حدودي. وهذا يمكن تحقيقه من خلال خَلْق وضع تجزئة دائم في العالم العربي الإسلامي. وحينما تصبح فلسطين بلد حدودياً تسيطر عليها دولة وظيفية، يمكن توطين العنصر اليهودي الوظيفي الحدودي فيها. ومن هنا كان رفض الدول الغربية جميع المحاولات الرامية إلى توحيد المنطقة، ابتداءً من محاولة صلاح الدين الأيوبي، مروراً بمحمد علي، وانتهاءً بمحاولة جمال عبد الناصر. وربما كان الفارق الأساسي بين هجمة الفرنجة والهجمة الاستعمارية الصهيونية أن الأولى لجأت إلى ديباجات مسيحية لا علاقة لها بالهدف الإستراتيجي النهائي وأنها صدَّرت عناصر بشرية مسيحية. أما الثانية فقد اكتشفت أن العنصر اليهودي عنصر حدودي وظيفي داخل الحضارة الغربية، ولذا لجأت هي الأخرى إلى ديباجات يهودية لا علاقة لها بالهدف الإستراتيجي النهائي. ويعني وعد بلفور، في نهاية الأمر، فرض الصفة الحدودية على فلسطين عن طريق الاستعمار البريطاني، كما يرمي إلى توطين العنصر اليهودي الحدودي فيها لخدمة مصالح الحضارة الغربية. ولم يكن بلفور في هذا إلا تعبيراً عن نمط كامن في الحضارة الغربية يستند إلى رؤية كاملة لفلسطين باعتبارها حيزاً جغرافياً يجب أن يوظَّف لصالح الحضارة الغربية، وإلى اليهود باعتبارهم عنصراً استيطانياً يمكن توظيفه في هذه العملية.

ويُلاحَظ أن الجماعات اليهودية في العالم لم تتخلص من حدوديتها تماماً. وقد أدَّى ظهور الدولة الصهيونية إلى تعميق هذه الخاصِّية، إذ بدأت تتسع الثغرة التي تفصل بين أعضاء الجماعات اليهودية والأوطان التي يعيشون في كنفها، وذلك من حيث هم أفراد يدينون بالولاء لوطنهم الأصـلي. كما تحاول الحركة الصهيـونية تعميق الهويـة الإثنـية لدى اليهود، وهي هوية وهمية (حيث لا توجد هوية واحدة) ولكنها مع هذا تنجح في فصلهم عن محيطهم الحضاري. وتلعب مدارس أعضاء الجماعات اليهودية دوراً أساسياً في هذا المضمار. وقد قامت مدارس الأليانس بتحويل يهود الشرق إلى مادة استيطانية.

ورغم اندماج كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في مجتمعاتهم الجديدة، إلا أنهم استقروا في قطاعات اقتصادية يمكن أن نســميها حـدودية (الســينما ـ صناعات خـفيفة قـريبة مـن المستهلك...) وابتعدوا عن الصناعات الثقيلة والزراعة، وهذا يحدث للمهاجر الذي يأتي إلى بلد قد تم تأسيس بنيته التحتية ويمتلكها أبناء البلدة أنفسهم. ويُلاحَظ وجود أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ملحوظ في الحركات اليسارية (خصوصاً التروتسكية) والعدمية، ويُقال إن 30% من أعضاء الجماعات السرية من أعضاء الجماعات اليهودية. كما ينجذب أعضاء الجماعات اليهودية إلى العبادات الجديدة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه حدودية دينية وفكرية.

  • الاحد PM 02:43
    2016-02-28
  • 2597
Powered by: GateGold