المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415452
يتصفح الموقع حاليا : 262

البحث

البحث

عرض المادة

الراذانيـــة

الراذانيـــة
Radhanites
«الراذانية» جماعة من التجار اليهود، وورد اسمهم في صيغتين: الراذانية عن ابن خرداذبه و الرادانية عند ابن فقيه. ويُقال إن الاسم مُشتق من كلمة «ردن» الفارسية بمعنى «عرف الطريق». وهناك من يذهب إلى أنه من الكلمة «رادنوس» اللاتينية (نهر الرون). ويختلف الباحثون في أصلهم فيقول البعض إنهم من جنوب فرنسا، بينما يذهب البعض الآخر إلى أنهم أصلاً من العراق. وقد وصف ابن خردازبه في كتابه المسالك والممالك نشاطهم في المجال التجاري، قائلاً إنهم يتكلمون « العربية والفارسية والرومية [اليونانية] والإفرنجية [لغة الفرنجة أي الفرنسية القديمة] والأندلسية [الإسبانية] والصقلية [اللغات السلافية] ». وهم يسافرون من الغرب إلى الشرق براً أو بحراً، من فرنسا إلى السند والهند والصين ثم يعودون حاملين من الصين المسك والعود والكافور. وهم في رحلتهم هذه يسلكون عدة طرق. يجلبون من الغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف. وقد استمر نشاط التجار الراذانية حتى القرن التاسع الميلادي حين سيطرت المدن/الدول الإيطالية على التجارة الدولية.


جماعـة يهودية وظيفية مالية (الربا والإقراض)
Jewish Financial Functional Group (Usury and Money Lending)
«الجماعة الوظيفية المالية» هي الجماعة التي يضطلع أعضاؤها بوظائف مالية مختلفة مثل الربا وجمع الضرائب. ويُفرِّق علم الاقتصاد الحديث والمؤرخون الاقتصاديون في الغرب بين الربا والإقراض بفائدة. ففي الإطار الربوي يتم الإقراض لسد حاجة أو لدفع ضريبة أو جزية أو لبناء قصر أو كنيسة أو لتجريد حملة عسكرية. والقرض الربوي لا يصبُّ في أية عملية إنتاجيـة، كما أن سـعر الفائـدة يكـون عالياً جداً وغير محدَّد، وغالباً ما يُحدَّد في ضوء مدى حاجة المدين إلى القرض. أما الإقراض بفائدة، فقد عُرِّف بأنه إقراض مبلغ من المال بهدف استثماره في شراء البضائع أو في مشروع صناعي لتحقيق ربح، والقرض هنا يصبُّ في العملية الإنتاجية وعادة ما يتم تحديد نسبة فائدة معقولة. لكن هذه التفرقة لم تكن معروفة أو معمولاً بها في العصور القديمة حتى الثورة الصناعية في الغرب. ولذلك، فسوف نستخدم مصطلح «الربا» للإشارة إلى عملية الإقراض بفائدة أياً كان الهدف وأياً كان سعر الفائدة، خصوصاً وأن الإقراض اليهودي كان في معظمه ربوياً بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. وقد ارتبطت صورة اليهودي بشخصية المرابي في العقل الغربي وعَبْر التاريخ الغربي، وهي الصورة التي خلدها شكسبير بشخصية شيلوك في مسرحية تاجر البندقية. وقد فسر المعادون لليهودية اشتغال اليهود بالربا، مثلما فسروا اشتغالهم بالتجارة، على أنه جزء من طبيعتهم الأزلية ونزوعهم الأبدي نحو امتصاص دم الآخرين، في حين فسره المؤرخون الصهاينة بأنه وظيفة فُرضت على اليهود فرضاً باعتبارهم ضحايا أزليين لذئاب الأغيار. وليس لهذين التفسيرين أية علاقة بالواقع المتعيِّن للجماعات اليهودية.


فقد كان العبرانيون، حين ظهروا لأول مرة في التاريخ، بدواً رُحَّلاً لا يتعاملون بالنقود، ولذا لم يكن هناك مجال للإقراض أو الاقتراض. ولم يكن اقتصاد المملكة العبرانية المتحدة متقدماً بما فيه الكفاية ليتطلب السيولة النقدية اللازمة لعمليات الاستثمار أو حتى لشراء السلع التَرفَيِّة، حيث كان الاقتصاد الداخلي بدائياً مبنياً على المقايضة والتبادل. أما الإنشاءات المعمارية التي قامت بها الدولة، فتم تمويلها من خلال التجارة الدولية التي احتكرتها.

واشتغل العبرانيون المُهجَّرون إلى بابل بالزراعة، ولكن أعداداً منهم بدأت تقطن المدينة حيث اشتغلوا بالتجارة الدولية والمحلية، وظهرت بيوتات مالية تجارية ـ مثل بيت موراشو ـ كانت تُقدِّم القروض نظير فوائد. ويبدو أن بعض يهود الإسكندرية اشتغلوا بأعمال الربا، فيَذكُر يوسيفوس أن كبير الموظفين (ألبارخ) الإسكندري أقرض الملك أجريبا مبلغاً من المال. ولكن حالة يهود الإسكندرية كانت الاستثناء وليست القاعدة، ولذا لا نجد حتى القرن الرابع الميلادي أي هجوم على اليهود باعتبارهم مرابين.

ومع القرن السادس الميلادي، بدأ اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا في الإمبراطورية الفرنجية. كما ظهر مرابون يهود في العالم الإسلامي، ولكنهم لم يحتكروا هذه المهنة إذ اشتغل بها أعضاء الأقليات العرْقية والدينية الأخرى كما اشتغل بها بعض أعضاء الأغلبية. ولم تتركز أغلبية اليهود في هذه المهنة بل كانوا يعملون في معظم الحرف والمهن الأخرى. وبدأ تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي في مهنة الربا ابتداءً من القرن العاشر الميلادي. وفي محاولة تفسير هذه الظاهرة، تُساق عدة أسباب ربما كان أهمها اضطرار اليهود إلى اعتزال التجارة الدولية والمحلية، وظهور المدن/الدول الإيطالية، وحروب الفرنجة، وتشكيل نقابات الحرَفيين. ومن ثم اضطر اليهود إلى تحويل ممتلكاتهم إلى رأسمال سائل يَسهُل حمله، وإلى الاشتغال بأعمال الصيرفة واستبدال العملة ثم الربا. وقد شجعت على هذه العملية عدة أسباب أخرى أهمها:

1 ـ كان أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في التشكيل الحضاري الغربي. والجماعة الوسيطة هي التي تضطلع بوظائف (مثل الاتجار والإقراض بالربا) لا يقبل أعضاء المجتمع القيام بها بسبب ارتباطهم بأواصر قرابة أو صداقة أو جيرة تجعل دخولهم في علاقات موضوعية باردة محايدة أمراً عسيراً. ومن هنا كان من المنطقي أن يعمل أعضاء الجماعة اليهودية الوسيطة، الذين يقومون بمهنة التجارة، بالربا حينما تضطرهم الظروف إلى تغيير وظيفتهم.

2 ـ ولعل التنظيم الجامد للمجتمع الإقطاعي الغربي لعب دوراً أساسياً في هذا المضمار، فلم يكن أمام التاجر اليهودي الذي كانت تُغلَق أمامه فرص التجارة بدائل كثيرة مطروحة، إذ لم يكن بمقدوره أن يعمل في الزراعة أو القتال أو في كثير من الحرف الأخرى، خصوصاً بعد تشكيل نقابات الحرفيين التي كانت تُعَد أكثر القطاعات عداء لليهود.

3 ـ تُحرِّم الكنيسة الربا على المسيحيين حيث صدرت عدة قرارات في هذا الشأن. وكان أولها قرار اتُخذ في مجمع نيقيا في عام 325 ثم في مجمع أورليان في عام 538، ولكن هذه القرارات كانت تُحرِّم الربا على رجال الدين لا على جميع المسيحيين، إلى أن صدر قرار شارلمان عام 789. ووصل التحريم قمته في المجمع اللاتراني الثالث عام 1179 حيث شمل التحريم كل المسيحيين ( « إن الذين يجهرون بالربا لا يُقبَلون في العشاء الرباني وإذا ماتوا وهم على إثمهم لا يُدفَنون دفن المسيحيين، وليس لقسيس أن يقبل صلواتهم»). أما اليهودية فلم تُحرِّمه، ولكنها حرَّمت إقراض اليهودي لأخيه اليهودي بالربا، فقد جاء في سفر التثنية (23/19 - 20) « لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يُقرَض بربا للأجنبي. تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها » ومن المعروف أن الجماعات الوظيفية تتبنى مقاييس أخلاقية مزدوجة، مقاييس تنطبق على عضو الجماعة وأخرى تنطبق على أعضاء المجتمع المضيف. ومع هذا، يجب الإشارة إلى أن الفقه الديني اليهودي لم يتقبل بسهولة مسألة الإقراض بربا وقد قال راشي في القرن الحادي عشر الميلادي «إن كل من يقرض أجنبياً بفائدة سيهلك »
وقد أصبح التحريم أقل حدة في القرن الحادى عشر الميلادي عندما أصدر أحد الحاخامات فتوى مفادها أن اليهودي ينبغي عليه ألا يقرض الأغيار بربا، حين يكون بوسعه أن يكسب رزقه بطريقة أخرى. كما أصـدر الحاخـام أليعـازر بن ناثان (من ألمانيـا) فتوى مماثلة جاء فيها: « حينما لا يملك اليهود حقولاً أو كروماً يمكنهم العيش من ريعها، يصبح إقراض المال بربا ضرورياً لكسب رزقهم ومسموحاً به ». وقد جاء في المشناه « بإمكان الإنسان أن يُقرض ويقترض بربا من الكفار ». ولكن وردت إلى جانب ذلك تحفظات بحيث لا تصبح المسألة مطلقة، فأورد التلمود اقتباساً من المزمور 15 الذي جاء فيه « فضته لا يعطيها بالربا »، كما جاء في سفر الأمثال (28/8) ما يبيِّن أن الإقراض بالربا ليس مُحرَّماً ولكنه مع هذا مكروه، ثم ذُكر أن الإقراض بالربا مباح إذا كانت الفائدة ضرورية لحياة الإنسان وليس الهدف منها الحصول على الثروة والترف.

4 ـ تزامنت عملية تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية عن التجارة مع ظهور حاجة ماسة إلى المال السائل اللازم لتجريد حملات حروب الفرنجة ولبناء الكاتدرائيات والكنائس. بل وبدأت تظهر في أوربا، بسبب التحولات الاقتصادية العميقة التي كانت تخوضها آنذاك، حاجة ماسة إلى اقتراض النقود، لا لسـد الحاجة الشـخصية وإنما للاسـتثمار التجاري، أي أن عملية الاقتراض بدأت تصبح مسألة أساسية للنظام الاقتصادي.

وفي القرن الحادي عشر الميلادي، تصاعدت وتيرة تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية عن التجارة واشتغالهم بالربا. وبعد عدة عقود، كان معظم السكان في أوربا المسيحية، في غربها ووسطها، مدينين لليهود الذين أصبحوا مالكين لقرى ومدن بل بعض الأماكن المسيحية المقدَّسة مثل الأضرحة والمزارات. وقد احتكر اليهود عملية الإقراض نظير فائدة عالية بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين، وأصبح الربا هو مصدر حياة معظم يهود أوربا. وأصبحت كلمتا «مرابي» و«يهودي» مترادفتين مع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.
وقد مارس المرابون اليهود نشاطهم في إنجلترا مع بداية القرن الحادي عشر الميلادي حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. أما في فرنسا، فقد مارسوا نشاطهم في فترات مختلفة من نهاية القرن الثاني عشر الميلادي حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. واكتسب أعضاء الجماعات اليهودية أهميتهم في ألمانيا، بوصفهم مرابين، من القرن الثالث عشر الميلادي حتى القرن الخامس عشر الميلادي. ثم امتد نشاطهم بعد ذلك إلى بولندا واستمر حتى القرن التاسع عشر الميلادي. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن كل أعضاء الجماعات اليهودية تحولوا عن التجارة، إذ ظل هناك يهود يعملون بها حتى القرن الخامس عشر الميلادي بل وحتى بعد ذلك التاريخ، خصوصاً في الدول السلافية. كما أن من المعروف أن التجارة اليهودية وصلت قمة ازدهارها في القرن السابع عشر الميلادي أيام يهود البلاط.

وقد كُسر احتكار أعضاء الجماعات اليهودية للربا مع ظهور جماعات من المرابين المسيحيين مثل جماعات فرسان المعبد الألمانية، واللومبارد في إيطاليا، والكوهارسين في فرنسا. ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها كانت متورطة في عمليات الإقراض بالربا وكانت تلتف حول التحريم الذي أصدرته بأن تقوم بإقراض المال المطلوب للمدين الذي يقدم كضمان قطعة أرض تقوم الكنيسة باستثمارها لحسابها وتستولى على ريعها الذي يشكل الفائدة إلى حين استرداد القرض الأصلي. كما ساندت الكنيسة كثيراً من جماعات المرابين. وقد منح البابا إنوسنت الرابع في عام 1248 لقب «أبناء الكنيسة الرومانية المميَّزين» للمرابين المسيحيين. ومع هذا، كان ارتباط كلمة «المرابي» بكلمة «اليهودي» من القوة حتى أن إحدى القصائد الألمانية تشير إلى «اليهود المسيحيين» أي «المرابين المسـيحيين». وكانت كلمـة «لومبـارد» أيضـاً مرادفة لكلمة «مرابي»، ولذا يُوجَد نص فرنسي (1315) يشير إلى «اللومبارد واليهود والمرابين الآخرين ».

وقد احتدمت المنافسة في بداية الأمر بين أعضاء الجماعات اليهودية من جهة، واللومبارد والكوهارسين من جهة أخرى. فهؤلاء المرابون كانوا يشغلون المكانة نفسها ويضطلعون بالوظيفة نفسها ويتمتعون بالمزايا نفسها وتنزل بهم الكوارث نفسها، فقامت صراعات بينهم لهذا السبب. وحينما اضطهد هنري الثالث ملك إنجلترا الكوهارسين في عام 1251 وزج ببعضهم في السجن (وفرَّ البعض الآخر)، عم الفرح أعضاء الجماعة اليهودية. ولكن بعد عامين، حينما قام لويس التاسع بطرد اليهود، استولى الكوهارسين على بيوتهم وممتلكاتهم بحماس غير عادي.

وكانت المواثيق تعامل أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم من المرابين على قدم المساواة، وكانوا أحياناً يُطرَدون جميعاً كما حدث عام 1427 في برن (سويسرا).

ومع ذلك لم يقوَ المرابون اليهود على الاستمرار في المنافسة، إذ تمتَّع المرابون المسيحيون بمساندة حكوماتهم التي كانوا يوفرون لها قدراً كبيراً من الأمن اللازم للعمليات المالية. ولكن الأهم من هذا أن جـماعات اللومـبارد أو الكوهارسين كانت لديهم شبكة اتصال ضخمة، وكان بوسعهم تدبير قروض ضخمة لم يكن بمقدور اليهود تدبيرها. ومع تراجع الكنيسة باعتبارها أحد المنافسين، وتأييدها اللومبارد وغيرهم، ومع تزايد ابتزاز الأمراء لأقنان البلاط، أي المرابين اليهود، سقط الربا اليهودي مع نهاية العصور الوسطى ولم تعد لرأس المال اليهودي أهمية كبرى، كما لم يعـد هناك رأسـمال يهودي ضـخم عند وقوع الثورة التجارية.

وبينما كان المرابي اليهودي في البداية يُقرض الملوك والأباطرة ثم كبار النبلاء الإقطاعيين، فإنه راح يُقرض صغار النبلاء والفرسان ثم بعد ذلك الحرفيين والفلاحين والفقراء. وبدلاً من وجوده بجوار الطبقة الحاكمة، انسحب إلى الهامش حيث لم يَعُد اليهود يشكلون الجماعة الوظيفية الوسيطة الوحيدة. وهبط اليهودي من مرتبة الصيرفي إلى المرابي الذي يُقرض مبالغ صغيرة لمدة قصيرة بفائدة عالية وبضمان رهونات بسيطة مثل درع أو قطعة حلي أو بعض الملابس. ولعل ماحدث في مدينة ريجنزبرج في ألمانيا مثل جيد على هذا التدهور التدريجي التاريخي، فحتى عام 1250 كانت بلدية المدينة هي أهم مدين لليهود، وحتى عام 1400 كان أهم المدينين هم النبلاء ورجال الدين. أما بعد ذلك التاريخ، فقد احتل الفرسان ومواطنو المدن والحرفيون هذا المكان. وفي القرن الثالث عشر الميلادي، كان القرويون في جنوب فرنسا يُشكلون 65% من المقترضين حيث اقترضوا 43% من المبالغ، وكان سكان المدينة يشكلون 30% من عملاء المرابين اليهود حيث اقترضوا 41%، وكان الفرسان والنبلاء يمثلون 2% واقترضوا 9%، ورجال الدين 1% واقترضوا 5%. ولم يكن النمط مختلفاً في إنجلترا، حيث تخصص المرابي اليهودي في إقراض الطبقات الفقيرة التي يقترض أعضاؤها أموالاً ثم يجدون بعد ذلك في الغالب صعوبة بالغة في تسديد الديون.

وقد امتد نشاط المرابي اليهودي إلى بني جلدته على عكس تصورات المعادين لليهود. ولكن الإقراض في هذه الحالة كان يأخذ شكلاً خاصاً حتى يتم التحايل على أشكال التحريمات الدينية الخاصة بعدم إقراض اليهودي بالربا. فكان المرابي يصبح شريكاً موصياً أو شريكاً يشترك بالمال لا بالعمل وينال نصيباً من الربح إذا كسبت التجارة، ولا يخسر شيئاً من ماله إذا لم يربح، وهذا هو ما تفعله بعض البنوك الإسرائيلية الآن لتتمكن من إقراض الإسرائيليين دون الإخلال بالقواعد الدينية.

وكان المرابي يلعب دوراً اقتصادياً أساسياً في المجتمع الغربي، فإن أراد الأمير الإقطاعي تزويج ابنته أو تجريد حملة في حروب الفرنجة أو تعمير أرض جديدة، أو أزمعت دار البلدية بناء كنيسة أوكاتدرائية، أو واجه أعضاء الطبقات الفقيرة مصاعب شخصية فجائية، في كل هذه الحالات كان المرابي هو الذي يزود المجتمع بالأموال السائلة التي يحتاج إليها والتي تضمن استمراره. وعلى سبيل المثال، ساعد هارون (من لنكولن في إنجلترا) في القرن الثاني عشر الميلادي في بناء ما لا يقل عن تسع كاتدرائيات. كما موَّل المرابون اليهود بعض حملات حروب الفرنجة.

والربا اليهودي، شأنه شأن التجارة اليهودية، كان عملية هامشية غير منتجة. فالمرابي برغم أهميته لا يلعب دوراً متعيِّناً واضحاً في العملية الإنتاجية، إذ إن أساس فائض القيمة في النظام الإقطاعي هو نمط الإنتاج الإقطاعي ذاته الذي ينتج قيمة استهلاكية وحسب دون الاهتمام بالقيمة التبادلية. وكان الأمير الإقطاعي والفلاح يشتركان في الإنتاج، أما المرابي فيظل خارج العملية أو على هامشها. ومن هنا، فإن الإقراض الربوي، شأنه شأن التجارة البدائية، لا يلعب دوراً في العملية الإنتاجية لأنه إقراض من أجل الاستهلاك أو نشاطات أخرى تقع خارج نطاق العملية الإنتاجية، على عكس الإقراض الرأسمالي الذي يُوظَّف في العملية الإنتاجية ذاتها. بل إن الإقراض هو أحد أسس عملية الإنتاج الرأسمالي. ولا شك في أن هذه الهامشية جعلت عناصر المجتمع تنظر إلى اليهودي على أنه شخصية طفيلية لا تبدع ولا تنتج، ولكنها تستولي على عائد الإنتاج. بل كان البعض يرون أن الربا، مثله مثل التجارة البدائية، يُعَدُّ شكلاً من أشكال السحر، إذ ينتج المرابي الثروة عن طريق تحريك أمواله لا عن طريق أي جهد إبداعي متعيِّن.

لكن المرابي اليهودي لم يكن سوى أداة في عملية اقتصادية ضخمة إذ كان يَعُدُّ من أقنان البلاط، أي ملكية خاصة للملك يبيعهم متى شاء. وكانت أموال المرابي تئول إلى الملك من الناحية القانونية، ولكنه كان من الناحيـة الفعـليـة يتركهـا لأولاد المرابي حـتى يســتمروا في وظيفتهم. وكان الأمير أو الملك يبيع لليهود المواثيق التي تحميهم، وتحدد حقوقهم وتؤكدها، وتضمن لهم الأمن اللازم للاستمرار في العمليات المالية. وهذه حقوق لم يكن يتمتع بمثلها سكان المدن أو عامة الشعب. وكانت عملية بيع المواثيق هذه تضمن أن تصب ثمرة العملية الربوية بأسرها في خزانة الملك الذي كان يُسمَّى «شيخ المرابين». أما اليهود فلم يكونوا سوى الوسيط الذي يلعب دور الإسفنجة، فهم يمتصون ثروة الشعب التي يعتصرها الحاكم فيما بعد عن طريق منح المواثيق لأعضاء الجماعة اليهودية وفرض الضرائب علىهم. وقد كان اليهود أكبر مصدر دخل للملك في إنجلترا، حيث كانوا يشكلون حوالي 12% من كل مصادر دخله. وفي بعض الإمارات المسيحية، في إسبانيا مثلاً، كانوا يشكلون نسبة أكبر من ذلك.

وقد اضطر أعضاء الجماعات اليهودية إلى الاعتماد الكامل على الملك أو الأمير الإقطاعي لحمايتهم من غضب الجماهير وفتكها، وكان هو بدوره يفضلهم في مرحلة من المراحل على غيرهم من المرابين نظراً لعجزهم وانفصالهم عن المجتمع ولعدم وجود قاعدة بشرية تدعمهم وتساندهم، وهو ما جعل منهم جماعة وظيفية وسيطة مثالية. وهنا لابد من الإشارة إلى أننا نميِّز بين الجماعة الوظيفية الوسيطة والجماعة الوظيفية الوسيطة العميلة. فالجماعة الوسيطة، رغم قربها من الطبقة الحاكمة، تؤدي خدمة لكل طبقات المجتمع. أما الجماعة العميلة، فهي أداة في يد الحاكم يستخدمها لصالحه ضد بقية طبقات المجتمع. وعلى هذا، كان التاجر اليهودي وسيطاً، أما المرابي اليهودي فكان عميلاً.

ولكل هذا، كان الملك يبذل قصارى جهده ليمنع المرابين من اعتناق المسيحية إذ أن هذا يشكل إضعافاً وتبديداً للأداة التي يستخدمها. وكان المرابي الذي يَتنصَّر يفقد كل ثروته التي كانت تئول إلى العرش، لأنه لا يحق له أن يتمتع بثمرة الرذيلة (أو هكذا كان التبرير والادعاء). كما كان الملك يمنع اليهود من العمل في أي وظيفة أخرى، وكانت المواثيق التي تُمنَح لهم تمنع المسيحيين من الاشتغال بالربا. وقد طُرد طبيب ألماني مسيحي من مدينته لأنه تعدى على الحقوق والاختصاصات التجارية والمالية لليهود بأن اسثمر أمواله في الربا من خلال صديق يهودي له. وكان الملك يلجأ عند عجزه عن تسديد ديونه، إلى منح المرابي اليهودي حق جَمْع الضرائب من الفلاحين. ولكنه كان يلقي بالمرابي اليهودي إلى الجماهير الغاضبة، كبشاً للفداء، إذا ما ثبت أنه يكلف أكثر مما يفيد. ولعل هذا هو السبب في أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يراكموا قط رأسمالاً كافياً ولم يتحولوا قط إلى طبقة حاكمة، بل كانوا يعملون دائماً من خلال السلطة الحاكمة وفي خدمتها.

ورغم أن المرابي اليهودي كان مجرد أداة، إلا أنه أصبح محط كراهية معظم أعضاء المجتمع وطبقاته، بما في ذلك المستفيدون منه. فقد كانوا يرون الربا شراً لابد منه، ولكنه شر أكيد، حيث تُعَدُّ كراهية المرابي أمراً متأصلاً في المجتمعات البشرية. وكان لفظ «سكتور sector» يُطلَق على كل من المرابي والقاتل في الإمبراطورية الرومانية. وربما يُعزَى توجيه تهمة الدم لليهود والقول بأنهم يطبخون عجين عيد الفصح بدم طفل مسيحي إلى اشتغالهم بمهنة الربا، فهم يمتصون دم ضحاياهم مجازاً. وليس من الصعب على الوجدان الشعبي أن يضع ما هو مجازي مقام الحقيقة الواقعة.

وثمة أسباب متباينة جعلت المرابي اليهودي محط كراهية شديدة من كثير من الطبقات. فبالنسبة للطبقات الفقيرة، كان المرابي هو أداة الاستغلال المباشرة حيث كان يحتك بهم بشكل دائم، فضلاً عن أنهم كثيراً ما كانوا يخفقون في تسديد ديونهم فيفقدون مصدر رزقهم ذاته سواء كان هذا المصدر قطعة الأرض أو الآلات التي يعملون بها أو ملابسهم ذاتها. أما كبار النبلاء، فكانوا يرون في اليهودي قوة مالية ضخمة تساند الملك في صراعه معهم، كما أن المرابي اليهودي كان يعوق محاولتهم الاستيلاء على أراضي صغار البارونات الذين كان المرابي اليهودي يقرضهم فيحققون البقاء والاستمرار. وكان سكان المدن يرون في المرابي اليهودي غريماً لهم، وأداة في يد الحاكم الإقطاعي يستخدمها لقمعهم ولإعاقة تطورهم، خصوصاً أنه كان يتمتع بمزايا لا يتمتعون بها. ثم كان هناك عداء الكنيسة لهم، وهو عداء له بطبيعة الحال جذوره الدينية العقائدية وإن كان قد اكتسب بعداً اقتصادياً أيضاً لأن الكنيسة كما أسلفنا كانت تقوم هي ذاتها بالإقراض وتساند جماعات من المرابين.

ومن أكبر مصادر الكراهية، ارتفاع سعر الفائدة عن معدلها المفترض وهو 12.5%. لكن المرابي لم يكن يتمتع في العصور الوسطى بضمانات كافية، بل كان معرضاً باستمرار لخسارة أمواله وفقدان حياته. كما لم يكن في مقدور المرابين على الدوام أن يلزموا مدينيهم بالوفاء بالتزاماتهم عن طريق الالتجاء إلى القانون، فكانوا دائماً مهدَّدين بالطرد. ويضاف إلى ذلك أن القانون المسيحي في العصور الوسطى، بتحريمه الربا، قد اضطر المرابين إلى ابتداع حيل قانونية عديدة من بينها وجود وسيط بين الدائن والمدين، الأمر الذي كان يؤدي إلى زيادة سعر الفائدة. فوصلت الفائدة في إنجلترا إلى ما بين 43 و86% وفي النمسا (في عام 1244) إلى 173% وفي بروفانس (فرنسا) إلى 300%. ومن الصعب على من يقترض بمثل هذه الفائدة أن يسدد ديونه. ولذا، كانت عملية الإقراض والتسديد تنتهي بتوجيه تهمة السرقة إلى المرابي، وهي كذلك بشكل من الأشكال. ومما كان يدعم شكوك الناس في المرابي أن المواثيق التي كانت تُمنَح للمرابين اليهود تجعل من حقهم الاستيلاء على الأشياء المرهونة حين يعجز أصحابها عن تسديد القرض والتصرف فيها حتى لو اكتُشف أنها مسروقة، وكان هذا يتناقض مع القانون والأعراف الألمانية. ومن هنا، تصورت الجماهير أن المواثيق التي تُمنح لليهود تحابيهم وأنها بمنزلة ستار لتغطية عمليات السرقة الفعلية.

وكان اليهودي يسقط ضحية الثورات الشعبية لأنه قريب ومتاح ومباح باعتباره عضواً في جماعة وظيفية، على خلاف الملك الموجود في قصره خلف حراسه، والذي يشكل الهجوم عليه لا مجرد مظاهرة شعبية وإنما ثورة هائلة. ويُلاحَظ في الهجمات الشعبية على المرابين أنها لم تستهدفهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم مرابين. ومن هنا كانت الجماهير لا تميِّز بين اليهود أو اللومبارد والكوهارسين أو غيرهم من المرابين مثل أعضاء العصبة الهانسية في إنجلترا (حوالي عام 1381). وحينما كانت الجماهير تطلب طرد المرابين، فإنها لم تكن تخص المرابين اليهود وحدهم بهذا الطلب بل كان يتم طرد وملاحقة كل المرابين. وحينما كان المرابون اليهود يُطردون « إلى الأبد » من مدينة أو مقاطعة ويحل محلهم مرابون لومبارد أو كوهارسين، كانت الجماهير تكتشف أن المرابين الجدد ليسوا أفضل من اليهود الأشرار. بل تذكر المصادر أن متوسط معدل الفائدة الذي كان يتقاضاه اليهود كان أقل في العادة من المعدل الذي كان يتقاضاه اللومبارد والكوهارسين، ربما بسبب ضعف مركزهم. ولكن هناك حالات، كما حدث في بوهيميا في نهاية القرن الخامس عشر، تقاضى فيها اليهود ضعف معدل الفائدة الذي كان يتقاضاه المرابي غير اليهودي، وذلك حتى يمكنهم تسديد الضرائب المفروضة عليهم. وكثيراً ما كانت المدن التي تطرد اليهود تطلب عودتهم من جديد، وترحب بهم، وتعتبرهم منقذين، لتقوم بطردهم مرة أخرى بعد فترة. وفي الفترة من 1300 إلى 1500 طُرد اليهود مائة وخمسين مرة من أماكن في جنوب ووسط أوربا، ولكن ورغم ذلك، لم تخل هذه المنطقة منهم في أية لحظة تاريخية.

وقد ترك اشتغال الجماعات اليهودية بالربا أعمق الأثر عليهم، فقد جعلهم جماعة هامشية مكروهة من المجتمع، بغيضة لدى معظم طبقاته. وكرد فعل لمشاعر الكراهية ضدهم ولهامشيِّتهم، نمت في صفوفهم أفكار مثل الشعب المختار الذي لا علاقة له بالتاريخ أو الجغرافيا، فضلاً عن النزوع إلى تقسيم العالم إلى «يهود أبرار» و«أغيـار أشــرار»، وهذه هي التربة التي نمت فيها الصهيونية فيما بعد.

وكان بعض أعضاء الجماعات اليهودية يرون أن الاشتغال بالربا وسيلة من وسائل الانتقام من الأغيار، وطريقة لتوسيع الهوة بين اليهود وغيرهم. وبالتالي لم يَعُد الربا مجرد مهنة أو مصدر للدخل وإنما أمراً مرغوباً فيه في حد ذاته، وتَحوَّل من مجرد وظيفة إلى فعل رمزي ذي مضمون نفسي مُحدَّد. وهذه طريقة إنسانية مألوفة يبرر بها الإنسان ما يقوم به من أعمال بغيضة تتنافى مع إنسانيته، بل إن بعض المفكرين الدينيين وصف الاشتغال بالربا بأنه طريقة مثالية لتحقيق أرباح سريعة دون إنفاق وقت طويل بما يتيح لليهودي التفرغ لأسمى أهداف حياته، أي دراسة التوراة. وقد فسر بعض الحاخامات ازدهار الدراسات التلمودية في ألمانيا، والدينية على وجه العموم، بأن اليهود كانوا يعملون فيها بالربا أكثر من أي بلد آخر.

ومن جهة أخرى، ترك اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا أو الإقراض الربوي أثراً عميقاً في هيكلهم الوظيفي، فلم تظهر بينهم طبقة رأسمالية، ولم يحصلوا على قوة سياسية حقيقية بل تزايد ارتباطهم بالمجتمع الإقطاعي واعتمادهم الكامل على القوة السياسية الحاكمة. كما اشتغلوا بحرَف مرتبطة بأعمال الرهونات، مثل إصلاح الملابس المُستعمَلة وتسويقها وإصلاح الدروع والمجوهرات. وكان من شأن هذا كله أن يؤثر في التطور الاقتصادي اللاحق للجماعات اليهودية في أوربا.

ويرتبط نظام الأرندا بالإقراض الربوي داخل إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا، فقد كان المرابي اليهودي يقوم بإقراض النبيل الإقطاعي البولندي بضمان ريع ضيعته ثم يتعاقـد النبيل مع اليهـودي لإدارة الضـيعة، فـكان هـذاالأخير يلجأ إلى قمع واستغلال الفلاحين الأوكرانيين حتى يسترد قرضه. والواقع أن نظام الأرندا هو أهم مؤسسة في التاريخ الاقتصادي للجماعات اليهودية في الغرب، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار التطورات اللاحقة وظهور الدولة الصهيونية التي تدخل في علاقة مع الولايات المتحدة من ناحية والعرب من ناحية أخرى، تشبه في كثير من الوجوه علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بالنبلاء البولنديين والفلاحين الأوكرانيين.

غير أن وضع أعضاء الجماعات اليهودية تدهور، كما أسلفنا، في معظم أنحاء أوربا، فاشتغلوا بأعمال الرهونات. ولكن، مع القرن السابع عشر الميلادي وظهور يهود المارانو السفارد الذين اشتغلوا أيضاً بإقراض الدولة والملكيات المطلقة وتوفير المال اللازم للوفاء باحتياجاتهم، بدأت طبيعة الربا اليهودي في التغير. فالأمراء الذين يقترضون من يهود البلاط كانوا ينفقون جزءاً من تلك الأموال في الترف والحروب، ولكنهم كانوا ينفقون الجزء الآخر في تطوير الصناعات في إماراتهـم وفي تحـديثها. وبذلك نكـون قـد بدأنا في دخول العصر الحديث. وقد وجد رأس المال اليهودي طريقه إلى النظام المصرفي الحديث، ولكنه أصبح في أوربا الغربية جزءاً صغيراً من كلٍّ أكبر، بحيث لا يمكن الحديث عن رأسمال يهودي مستقل. وكان الوضع في ألمانيا مختلفاً حيث تَركَّز اليهود في أهم ثلاثة مصارف بعد الحرب العالمية الأولى. ولكن النازية قضت على هذا الهيكل الاقتصادي.

  • السبت PM 03:05
    2016-02-27
  • 3381
Powered by: GateGold