المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415407
يتصفح الموقع حاليا : 302

البحث

البحث

عرض المادة

الجماعات الوظيفية اليهودية: أنواعها المختلفة

الجماعات الوظيفية اليهودية: أنواعها المختلفة
Jewish Functional Groups: Different Kinds
اضطلع أعضاء الجماعات اليهودية بأدوار وظيفية عديدة من بينها ما يلي:


1 ـ الجماعات اليهودية الوظيفية الاستيطانية القتالية.

2 ـ الجماعات اليهودية الوظيفية المالية الوسيطة (التجارة ـ الربا ـ جمع الضرائب ـ المتعهدون العسكريون ـ تجارة الرقيق ـ تجارة الخمور(.

3 - جماعات وظيفية متنوعة (الطب ـ الجاسوسية ـ قطاع اللذة ـ البغاء وتجارة الرقيق الأبيض(.

وإذا كانت الجماعات اليهودية الوظيفية الاستيطانية القتالية هي أوَّل ما ظهر من الجماعات اليهودية، فإن أهمها هي الجماعات اليهودية الوظيفية الوسيطة أو المالية.

 

 

 

الباب الثانى: الجماعات الوظيفية اليهودية القتالية والاستيطانية والمالية


جماعة يهـودية وظيفيـة قتاليــة اســتيطانية (المرتزقـة(
Jewish Military Settler Functional Group (Mercenaries)
«الجماعة الوظيفية الاستيطانية» هي الجماعة البشرية التي تُستجلَب من خارج المجتمع أو تُجنَّد من داخله ثم تُنقَل من مكان إلى مكان آخر لتُوطَّن فيه بغرض أن تؤدي وظيفة محدَّدة ذات طابع قتالي عادةً، ولكن ليس ضرورياً أن تكون كذلك دائماً، فقد تكون ذات طابع زراعي أو تجاري، أو ذات طابع مُختلَط؛ زراعي قتالي، أو تجاري قتالي، أو زراعي تجاري، وهكذا.


أما «الجماعة الوظيفية القتالية» فهي الجماعة التي يضطلع أعضاؤها بدور قتالي وحسب، فالجندي المرتزق هو الجندي الذي يُستجلَب من خارج المجتمع، أو يُجنَّد من داخله (عادةً من صفوف أقلية إثنية أو دينية معينة لها علاقة خاصة بالمجتمع). وهو يقوم بالقتال من أجل المال بالدرجة الأولى، فالدوافع هنا يجب ألا تكون دوافع داخلية مركبة (الانتماء ـ حب الوطن ـ الانتقام)، بل لابد أن يكون الدافع خارجياً بسيطاً وهو الربح المادي الذي يأخذ صورة أجر مادي عاجل ومباشر (راتب شهري) أو آجل (إقطاعية أو غيرها من العوائد المالية). وكل من العنصر الاستيطاني والقتالي يشكل جماعة وظيفية، فهو عنصر متحرك غير منتم لا يدين بالولاء لأحد إلا لراعيه الذي يقوم بتمويله، وهو عنصر لا يُعرَّف من خلال سماته الإنسانية وإنما من خلال وظيفته، فهو وسيلة لا غاية، وأداة لا هدف، والمجتمع ينظر إليه من ناحية مدى نفعه ومدى احتياجه إليه، ويدخل معه في علاقة تعاقدية محايدة. والجندي المرتزق والمستوطن هما وسيلة من وسائل الإنتاج، أو بتعبير أدق إحدى أدوات الفتك التي تنظم علاقات الإنتاج وعملية توزيع الثروة لصالح من يسيطر على هذه الآلة أو الوسيلة. وعادةً ما يعيش الجنود المرتزقة، وكذلك أعضاء الجماعات الاستيطانية، على مقربة من أعضاء الأغلبية، ولكنهم مع هذا يظلون في عزلة عنهم فهم منبتو الصلة بالجماهير مرتبطون بالنخبة الحاكمة التي تسخرهم لمصلحتها، دون أن تخشى بأسهم أو تخاف من أن يقوموا بمحاولة المشاركة في السلطة أو القرار السياسي، فهم بلا قاعدة ولا شرعية ولا سلطات إلا ما يستمدونه من الراعي، وذلك على عكس المقاتلين من أعضاء الأغلبية، فهؤلاء عادةً ما يطالبون بنصيبهم في السلطة إن قويت شوكتهم، كما أنهم يستندون إلى قاعدة جماهيرية يستمدون منها الشرعية.

وفي تقديرنا أن الجندي الذي يدافع عن وطنه ويتقاضى أجراً عن ذلك ليس بمرتزق، لأن دوافعه للقتال والاستيطان أكثر تركيباً من الجندي المرتزق، كما أنه أقل حركية لارتباطه بوطنه. والشيء نفسه ينطبق على المواطن الذي يرابط في مناطق حدودية دفاعاً عن الوطن، فهو مرتبط بوطنه ولا يتسم بأية حركية إلا في إطار رؤيته.

وهنا يمكن أن تثار قضية الغارات التي يشنها البدو أو القراصنة على المدن والسفن من أجل الغنائم، أي من أجل الربح المادي، وهل يمكن اعتبارهم مرتزقة. ونحن نميل إلى عدم تصنيفهم كمرتزقة، فرغم وجود عنصر مشترك أساسي بين المرتزقة من جهة والبدو والقراصنة من جهة أخرى (الحركية والقتال من أجل المال) إلا أن هناك عنصراً أساسياً آخر غائباً في حالة الفريق الثاني وهو الراعي أو الحامي الذي يصدر الأوامر للعنصر المرتزق ويوجهه ويوظفه. ومن هنا تظهر مشكلة تصنيف المماليك، فقد تم استجلابهم كرقيق ليقاتلوا نظير أجر أو نظير التمتع بمستوى معيشي مرتفع. ولكنهم، بالتدريج، أصبحوا يقاتلون لصالح أنفسهم كجماعة إثنية مُستجلَبة مستقلة. ولتحديد الأمور، يمكننا أن نتخيل مُتصَلاً أحد أطرافه المجاهد الذي لا يقاتل إلا ابتغاء مرضاة الله والمقاتل الذي يموت من أجل الوطن أو العقيدة ولا يستهلك إلا ما يضمن له الاستمرار في الجهاد والقتال دون الحصول على أية مكاسب مادية، والطرف الآخر للمُتصَل هو المرتزق الذي لا يقاتل إلا ابتغاء الأجر، ويمكننا أن نضع بينهما الجندي الذي يدافع عن قضية ويأخذ أجراً ويحقق مكاسب مادية وطبقية تزيد عن حاجته ، ثم نضع بعد ذلك المماليك بعد أن تحولوا إلى طبقة مقاتلة تقاتل من أجل زيادة مكاسبها وتدافع في الوقت نفسه عن الوطن (مصدر المكسب). ويجيء بعد ذلك جماعات البدو والقراصنة الذين يشنون الغارات من أجل الربح، ثم يجيء أخيراً الجندي المرتزق.

ويبدو أن كثيراً من المجتمعات (عبر التاريخ) نظرت إلى العبرانيين وإلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم مادة بشرية استيطانية وقتالية. وهذا لا يعني أن سائر المجتمعات كانت تنظر إلى سائر العبرانيين وإلى الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان من هذا المنظور، كما لا يعني أنها كانت تنظر إلى اليهود فقط من هذا المنظور (إذ تُوجَد عناصر بشرية استيطانية وقتالية أخرى كاليونانيين على سبيل المثال). ولا يعني هذا أيضاً أن اليهود بطبيعتهم مادة بشرية استيطانية وقتالية أو أن عندهم قابلية طبيعية ليصبحوا كذلك. فمن المعروف أن الغالبية الساحقة من العبرانيين ومن أعضاء الجماعات اليهودية لم تضطلع بأيٍّ من هاتين الوظيفتين. فالقضية، إذن، هي قضية مجموعة أو مجموعات من البشر عاشت تحت ظروف تاريخية اقتصادية وثقافية معيَّنة أدَّت إلى اضطلاع قطاعات منها بهذه الوظيفة. وما سنتناوله في هذا المدخل هو نمط تكرَّر بشكل لافت للنظر في عدد من المجتمعات في العالم القديم، ثم تكرَّر في بلاد الغرب بشكل أكثر وضوحاً في العصر الوسيط وبداية العصر الحديث، وترجم نفسه في نهاية الأمر إلى وعد بلفور ثم إلى الدولة الصهيونية في العصر الحديث. ولكن الطبيعة الاستيطانية والقتالية للدولة الصهيونية (التي نسميها «الدولة الوظيفية»)، وهيمنة هذه الدولة على أذهان الغالبية الساحقة ليهود العالم في الوقت الحالي، يُكسب هذا النمط أو النموذج أهمية غير عادية ويضفي علىه مركزية لم يكن يتمتع بها من قبل. ومن ثم يصبح من اللازم لنا اكتشاف جذوره وسُبُل تَشكُّله في ماضي العبرانيين والجماعات اليهودية.

لقد تَعمَّق هذا الاتجاه بسبب مانسميه «المسألة العبرانية»، أي قلة عدد العبرانيين وتَخلُّف المجتمع العبراني الحضاري والتكنولوجي والعسكري مع وجوده في واحد من أهم المواقع الإستراتيجية في العالم. فلم يتمكن المجتمع العبراني من استيعاب الطاقات البشرية داخله، ومن ثم كان لابد من تصديرها. وإلى جانب هذا، كان هذا المجتمع عُرضة لغزوات جيوش الإمبراطوريات الكبرى التي كانت تقوم بأسر أعداد كبيرة من العبرانيين ثم تُهجِّرهم إلى أماكن أخرى أو تُجنِّدهم في صفوفها.

ويبدو أن العبرانيين القدامى كانوا من المرتزقة منذ بداية ظهورهم في التاريخ، فكلمة «عبراني» ذاتها تشير إلى العبد الذي أصبح كذلك برضاه وحوَّل نفسه إلى أداة في يد الآخر. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن كلمة «خابيرو» (التي يذهب البعض إلى أنها تعني العبرانيين) تعني «الجندي المرتزق»، وأن الكلمة كانت تُطلَق على أية جماعات من الرحل أو الغرباء أو الأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم. ولكن يبدو أن الخابيرو، كانوا بدواً مرتزقة يغيرون لاستلاب الغنائم أو ربما جماعة كانت تنضم بشكل مؤقت لقوة محاربة نظامية أو غير نظامية من أجل تحقيق الربح. ولعل اشتراكهم مع الهكسوس في غزو مصر كان شيئاً من هذا القبيل. وعلى كل، ومهما كانت اشتقاقات الكلمة، فإن هناك مؤشرات عديدة على أن العبرانيين القدامى، مع استقرارهم في كنعان، كانوا يعملون كمرتزقة، كما أنهم حاربوا في صفوف الفلستيين كمرتزقة ضد بني جلدتهم.

وقد قام الملك العبراني أمصيا )769ـ 798 ق.م)، تاسع ملوك المملكة العبرانية، بجمع جيش من المرتزقة من المملكة الشمالية وحاول إخضاع أدوم للهيمنة العبرانية. كما تم تجنيد العبرانيين كمرتزقة في جيوش مصر الفرعونية حينما بدأ ملوك المملكة الجنوبية مبادلة الأحصنة بالجنود. وفي الأسرة السادسة والعشرين استعان بهم بسماتيك الأول (663 ـ 605 ق.م) الذي كوَّن جيشاً من المرتزقة كان يضم في صفوفه يهوداً، وقام بسماتيك الثاني (594 ـ 589 ق.م) من بعده بتوطين جماعة استيطانية في جزيرة إلفنتاين. وحينما سقطت المملكة الجنوبية، فرت جماعات من العبرانيين إلى مصر واستقرت في أماكن معروفة بأن فيها حاميات عسكرية. ويُلاحَظ أن الدياسبورا هنا (أي انتشار اليهود في بقـاع الأرض) مرتبطة بنشـاطين متلازمين همـا في واقع الأمر نشـاط واحد: الاستيطان والقتال كمرتزقة. والانتشار لا علاقة له بتحطيم الهيكل كما يدَّعي الصهاينة. ومما يجدر ذكره أن التهجيرين، الآشوري والبابلي، لم يكن الهدف منهما تأديب العبرانيين وحسب وإنما نقلهم ليصبحوا جماعة وظيفية استيطانية، إذ تحوَّل المُهجَّرون إلى العمل بالزراعة والشئون المالية، وليس هناك ما يدل على تَحوُّلهم إلى جماعة وظيفية قتالية. وقد اسـتخدم الفُـرس العبرانيين كجماعة اسـتيطانية قتالية، فأقاموا جماعات يهودية موالية للدولة الفارسية على هيئة مستعمرات في أرجاء الإمبراطورية، كما عمل اليهود جواسيس وجنوداً مرتزقة. وقد حوَّلت حامية إلفنتاين ولاءها من السلطة المصرية إلى السلطة الفارسية الفاتحة، فالمرتزقة كما أسلفنا يتبعون من يدفع لهم. وأسس دارا الأول جيشاً قوياً يضم جنوداً يونانيين ويهوداً مرتزقة.

وحينما فتح الإسكندر الشرق الأدنى القديم، تصاعدت ظاهرة تحويل اليهود إلى جماعات استيطانية قتالية بالدرجة الأولى خصوصاً أن الحكم البطلمي والسلوقي كان مبنياً أساساً على المرتزقة. وقد أبقى الإسكندر على المزايا التي منحها الفرس لليهود، فانضموا إلى الجيوش اليونانية كمرتزقة. ولم تكن هناك فرقة قومية خاصة باليهود، ولذا انضم المرتزقة اليهود إلى فرق الآسيويين الذين تَكاثَر عدهم بين عامي 200 و150 ق.م. وكان يُشار إلى اليهود أحياناً بوصفهم «فُرساً»، ويذكر يوسيفوس أن المرتزقة من يهود الإسكندرية كان يُشار إلىهم بوصفهم «مقدونيين».

وكان البطالمة ينظرون إلى اليهود كجماعة استيطانية قتالية وتجارية يتوقف أمن أعضائها على رضا النخبة الحاكمة الأمر الذي يجعل منهم عنصراً مأمون الجانب، ولذا شجعهم البطالمة على الهجرة إلى مصر للعمل فيها مرتزقة وتجاراً ومزارعين وأفراد شرطة وموظفين وملتزمي ضرائب. وحينما أسر سوتر الأول عدداً كبيراً من اليهود في إحدى حملاته على فلسـطين، وطنهم في مصـر ليسـتخدمهم أداة لقمع المصريين. وقد قام بطليموس الثاني (فيلادلوفوس) (283 ـ 244 ق.م) بإعتاق العبيد العبرانيين الذين أسرهم ثم وَطَّنهم في معسكرات باعتبارهم وحدات قتالية استيطانية (باليونانية: كليروخوا). وحينما فتح البطالمة برقة في عام 145 ق.م، وَطَّنوا اليهود فيها ليشددوا قبضتهم علىها (على حد قول يوسيفوس). وفي العام نفسه، شيَّد أونياس الرابع معبداً يهودياً في لينتوبوليس كانت تُرابط حوله فرقة من المرتزقة اليهود.

وقد خدم اليهود في فرق المشاة والفرسان على حدٍّ سواء، خصوصاً إبان حكم بطليموس السادس (180 ـ 145 ق.م) الذي سلَّم مملكته تقريباً إلى المرتزقة اليهود الذين وصلوا إلى أعلى المراتب العسكرية بما في ذلك القيادات. ويُقال إن الملكة كليوباترا الثالثة اعتلت العرش بفضل مساعدة قواد الجيش من اليهود. و كان من بينهم خلكياس وأنانياس ولدا أونياس اللذان قادا جيشها في فلسطين. وكان المرتزقة اليهود من أرباب الإقطاعات، وكان في وسعهم تأجير أرضهم وتوريثها لأبنائهم دون عناء كبير. وانخرط اليهود أيضاً في سلك الشـرطة وحراسـة الممتلكات وتحصيل المـكوس الجمركية على ضفتي النيل، وهو عمل ذو طابع عسكري، ولذا كان يُطلَق على المحصلين اسم «حراس النهر» لكن هناك من يذهب إلى أنهم كانوا موظفين من قبل الإدارة المالية ولا شأن لهم بأعمال الحراسة.

ولم يختلف موقف السلوقيين كثيراً عن موقف البطالمة، فقد نقل أنطيوخوس الثالث ألف أسرة يهودية من بابل (التي كانت تابعة للإمبرطورية السلوقية)، مع أجهزتها الحربية، إلى ليديا وفريجيا في آسيا الصغرى في عام 210 ق.م.، وذلك لتأسيس حامية منهم موالية للسلوقيين، ولقمع حركات السكان ضد الحكم السلوقي. ويبدو أن مثراديتيس قد وَطَّن بعض هؤلاء أو غيرهم في شبه جزيرة القرم.

ومع وصول الرومان إلى المنطقة، تم تسريح الجيش البطلمي، فانهـار الوضع الاقتصـادي المتميِّز لليهود والذي ارتبـط بوظيفتهم كمرتزقة، لا سيما أن الرومان كانوا لا يُجنِّدون سوى اليهود الذين تخلوا عن دينهم. ومع هذا، انخرط اليهود في سلك الجندية كمرتزقة واستمروا يعملون في الجيوش الرومانية حتى القرن الرابع الميلادي. وهذا يعني أن الرومان كانوا أيضاً يوطنونهم كعنصر استيطاني قتالي. ونحن نعرف أن أول توطين لليهود في أوربا كان مع الحامية الرومانية التي وُطِّنت في مدينة (كولونيا) والتي اشتُق اسمها من كلمة لاتينية تعني «مستعمرة» (وكلمة «كولونيالية» مشتقة من الجذر نفسه). ولكن يبدو أنهم لم يُوطَّنوا كعنصر قتالي وإنما كعنصر مالي. ومع هذا، يمكن القول بأن الاستيطان والقتال كانا متلازمين في معظم الأحوال في العالم القديم.

وقد اختلف الأمر بشكل جوهري مع انتشار المسيحية والإسلام. فالقتال لم يَعُد يُمارَس من أجل الكسب المالي وتحقيق المغانم الاقتصادية وحسب وإنما أصبح يتم أيضاً من منطلق عقائدي ديني، الأمر الذي نجم عنه استبعاد غير المؤمنين. ولذا لم يَعُد بإمكان المرتزقة اليهود الاستمرار في ممارسة مهنتهم، فانخرطوا في وظائف أخرى وأصبح أعضاء الجماعات اليهودية من الجماعات الوظيفية المالية الوسيطة التي تعمل بالتجارة والربا. ولابد هنا من ملاحظة أن حامل رأس المال الربوي لا يختلف كثيراً عن حامل السلاح نظير أجر، فكلاهما عنصر متعاقد غريب لا ينتمي للجماهير التي يضربها أو يستغلها، تم حوسلته تماماً، أي تحويله إلى وسيلة، تستخدمها الطبقة الحاكمة. وكلاهما عنصر حركي لا ولاء له (إلا إلى أرض بعيدة أو وطن وهمي أصلي يحلم بالعودة اليه ولا يعود له أبداً) ومن هنا تسميتنا للجماعة الوظيفية المالية «المماليك المالية» حتى يتبيَّن التواصل بين وظائف أعضاء الجماعات اليهودية الاستيطانية والقتالية ووظائفهم المالية (التجارية الربوية).

وقد صُنِّف اليهود في الحضارة الغربية على أنهم غرباء، والغريب في العرف الألماني (الذي حل محل القانون الروماني في كثير من المجالات) كان تابعاً للملك تبعية مباشرة، ومن ثم أصبح اليهود أقنان بلاط. ولكن من الصعب الحديث عن أقنان البلاط باعتبارهم جماعة استيطانية.

ومع هذا، فهناك حالات محددة من الاستيطان اليهودي في العصور الوسطى. فقد قام شارلمان بتوطين اليهود في جنوب فرنسا في ماركا هسبانيكا لتكون حاجزاً على حدود العالم المسيحي لوقف التوسع الإسلامي.ويمكن أن نستخدم عبارة «جماعة استيطانية» بشيء من التجاوز للإشارة إلى أعضاء الجماعة اليهودية الذين دعاهم شارلمان للاستيطان في فرنسا ذاتها بهدف تشجيع التجارة، وإلى أولئك الذين صاحبوا الغزو النورماندي لإنجلترا في القرن الحادي عشر،وإلى أولئك الذين استقروا فيها باعتبارهم مادة استيطانية تجارية.

وقد عرفت شبه جزيرة أيبريا الاستيطان اليهودي سواء في إسبانيا الإسلامية (الأندلس) أو المسيحية. فأثناء الفتح الإسلامي، كان المسلمون يُوطِّنون اليهود في المدن التي يفتحونها، مثل قرطبة وغرناطة وطليطلة وإشبيلية حتى يتفرغ المسلمون للعمليات القتالية. وقد ثار المسيحيون في إشبيلية، وفتكوا بأعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم عنصراً استيطانياً قتالياً. كما لجأت القوات المسيحية إلى النهج نفسه أثناء حرب الاستعادة، فكانت تسمح، من الناحية الاسمية، لكل من اليهود والمسلمين بالاحتفاظ بمنازلهم والبقاء فيها، ولكنها من الناحية الفعلىة كانت تسمح لأعضاء الجماعة اليهودية وحسب بالاستيطان والبقاء في المناطق المفتوحة (مثل بالينسيا ولامنشا والأندلس وغيرها).

ولا ندري هل كانت الفرق المسماة «تشاليزيان» في المجر في القرن العاشـر جمـاعة استـيطانية قتالية أم كانت جمـاعة قتالية وحسب. فكلمة «تشاليزيان» مشتقة من الجذر نفسه الذي اشتُقت منه كلمة «حالوتسيم» العبرية (بمعنى رواد)، وهي الكلمة التي استخدمها الصهاينة فيما بعد لوصف طلائع المستوطنين الصهاينة. والرائد هو الجندي الذي يُوضَع في مقدمة الصفوف. ويبدو أن جنود التشاليزيان كانوا من بقايا يهود الخزر، إذ أن مملكة المجر اجتذبت أعـداداً كبيرة منهـم عند تأسيـسها، فعـملوا بالقتال نظـير المال، أي أنهم كانوا جماعة قتالية وربما استيطانية ولكنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية مالية.

ومن المعروف لنا أن الدولة العثمانية قامت، حينما ضمت أجزاء من المجر في عام 1526، بتهجير 2000 يهودي إليها ليكونوا عنصراً استيطانياً موالياً للسلطان العثماني. ولعل هذا كان ضمن نظام السورجون العثماني، و«سورجون» كلمة معناها «نفي أو ترحيل أو تهجير عنصر بشري ما، إما كشكل من أشكال العقاب أو لتحقيق خدمة للدولة العثمانية». وقد وطَّن العثمانيون اليهود في قبرص لموازنة العنصر المسيحي فيها، كما وطنهم ملوك بولندا في المدن البولندية لتشجيع التجارة.

ولكن أهم التجارب الاستيطانية شبه القتالية للجماعات اليهودية على الإطلاق (قبل التجربة الصهيونية) هي تجربتهم كجماعة استيطانية تجارية شـبه قتاليـة في إطار الإقطاع الاســتيطاني البولندي في أوكرانيا، حيث اضطلع بعض أعضاء الجماعة اليهودية بوظيفة الأرندا (دفع مقابل عائد الأراضي الزراعية) منذ أواخر القرن السادس عشر، فقاموا باستئجار ضياع النبلاء البولنديين (شلاختا) في أوكرانيا وإدارتها لحسابهم. وكان الأرنداتور (المديرون أو الوكلاء) اليهود يستأجرون مناطق ومدناً بأكملها فيعتصرون الأقنان الأوكرانيين لحساب النبلاء البولنديين. ولحماية هؤلاء الوكلاء وأسرهم، شيَّد النبلاء مدناً صغيرة تُسمَّى «شتتل» كانوا يعيشون فيها تحت حماية القوة العسكرية البولندية، كما كان عليهم هم أنفسهم أن يتدربوا على حمل السلاح.

ومن التجارب الاستيطانية الأخرى للجماعات اليهودية تجربة يهود رومانيا الذين كان يُطلَق عليهم اسم «هرسوفلتسي» (وهو مُشتق من كلمة «هرسوف» الرومانية وتعني «ميثاق»)،والذين وَطَّنهم النبلاء الإقطاعيون (البويار) في رومانيا بعد منحهم ميثاقاً حصلوا بمقتضاه على ميزات معيَّنة،من بينها الإعفاء من الضرائب لعدة سنين والحصول على أرض فضاء دون مقابل لإقامة معابدهم ومدارسهم وحمَّاماتهم ومقابرهم.وكانت علاقة الهرسوفلتسي بالبويار تشبه إلى حدٍّ كبير علاقة يهود الأرندا بالنبلاء الشلاختا،فقد أسس البويار لليهود مدناً صغيرة تشبه الشتتل من أوجه كثيرة.ويُلاحَظ أن اليهود هنا كانوا عنصراً استيطانياً تجارياً غير قتالي.ورغم أن التجربة الاستيطانية لليهود في رومانيا استمرت أساساً في الفترة من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أننا ذكرناها مع تجارب الجماعة اليهودية الاستيطانية في العصر الوسيط في الغرب لأنها من ناحية البنية تقع داخل إطار الاستيطان الوسيط. وعلى كلٍّ، فقد كانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الروماني تشبه إلى حدٍّ كبير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في أوربا الوسيطة.

ويمكننا الآن الدخول إلى العصر الحديث، لنقول إن كثيراً من أساطير وديباجات الاستيطان الغربي وُلدت مع الإصلاح الديني البروتستانتي. وقد ظهرت الأسطورة الاسترجاعية التي تذهب إلى أن الخلاص لن يتحقق إلا بعودة اليهود إلى صهيون كجماعة وظيفية اسـتيطانية دينية يسـهم توطينها في صهيون في الإسراع بعملية الخلاص. وبالتدريج، مع تَطوُّر مراحل الإمبريالية الغربية من الأطوار المركنتالية الأولى إلى المراحل التالية (المرحلة الصناعية وغيرها)، أخذت معالم الأسطورة تتكشف وتتحدد بحيث تحولت صهيون إلى فلسطين البلد الواقع في وسط بلاد الشرق ويطل على بوابات مصر والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وقناة السويس (بعد افتتاحها). وبدأ اليهود يتحولون من شعب مقدَّس أو شعب شاهد أو شعب منبوذ إلى جماعة وظيفية تجارية وقتالية نشطة. وبعد سنوات طويلة من المقاومة والرفض من جانب أعضاء الجماعات اليهودية، تلقفت الحركة الصهيونية الأسطورة وتحولت من أسطورة بروتستانتية إلى أسطورة يهودية. وهكذا أصبحت صهيون المكان الذي تَخرُج منه جيوش المستوطنين اليهود «حالوتسيم» الذين يسيرون في المقدمة مسلحين أمام الرب.

وإذا كانت الأسطورة الاسترجاعية تجعل من اليهود جماعة استيطانية، فإن الأساطير الأخرى كانت تجعل من سائر المستوطنين الغربيين البيض يهوداً. فالبيوريتان، أي المُتطهِّرون، وهم المستوطنون الأوائل في الولايات المتحدة، كانوا يتوحدون تماماً بالعبرانيين القدامى. فهم، في خروجهم من أوربا ودخولهم الأرض العذراء، كانوا يتصورون أنهم يشبهون تماماً العبرانيين القدامى حينما خرجوا من مصر ودخلوا كنعان، وأن استيلاءهم على أرض أمريكا العذراء وإبادة سكانها يشبه استيلاء العبرانيين على المدن الكنعانية وإبادة سكانها (حسب الرواية التوراتية). ومن ثم، نجد أن أرض أمريكا كان يُشار إليها بوصفها صهيون الجديدة، وكان المستوطنون يشيرون إلى أنفسهم بأنهم أبناء العهد (بل لقد اقترح أحدهم، لدى التفكير في اختيار لغة للولايات المتحدة بعد استقلالها، أن تكون العبرية لغة الدولة الجديدة). ونجد أن الأسطورة نفسها تسيطر وبشكل درامي على المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا (الأفريكانر).

هذا من ناحية الإطار الفكري أو التصوري. أما من ناحية الممارسة التاريخية الفعلىة، فيمكننا القول بأن الاستيطان أصبح البُعد الأساسي في تجارب أعضاء الجماعات اليهودية. بل ويمكننا الذهاب إلى أنه لايمكن فهم تفاعلات هذه التواريخ وحركياتها إلا بإدراك مدى استيعاب أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي (أي غالبية يهود العالم) في تجربته الاستيطانية. فقد اشترك أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من النشاطات الاستيطانية خصوصاً في البلاد البروتستانتية إما كممولين أو كجماعة وظيفية استيطانية. ومع بداية العصر الحديث، كانت أهم جماعة يهودية في العالم تُوجَد في هولندا التي كانت من أنشط الدول الاستيطانية. وقد ساهم اليهود في كثير من النشاطات المرتبطة بالاستيطان الغربي، مثل شركتي الهند الشرقية والغربية الهولنديتين وغيرهما من الشركات وفي تجارة العبيد كما اشترك عدد من أعضاء الجماعات اليهودية في عملية الاستيطان ذاتها في بداية الأمر كان أعضاء الجماعة جزءاً من النشاط الاستيطاني الهولندي، فاستوطنوا ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر في الهند الغربية في ترينيداد والمارتينيك وجامايكا وجزر الباهاما وكوراساو وسورينام.
وكوراساو هي إحدى جزر الهند الغربية الهولندية على مقربة من سـاحل فنزويلا، مسـاحتها 212 ميلاً مربعـاً، احتلها الأسـبان عام 1527، ثم استولى عليها الهولنديون عام 1634. وتعود أهميتها إلى أنها من التجارب الأولى للجماعات اليهودية الاستيطانية، وإلى أنها تندرج في إطار الاستعمار الاستيطاني الغربي الذي بدأ نشاطه في العالم الجديد واستمر في التوسع إلى أن وصل إلى آخر حلقاته في فلسطين في العصر الحديث. وقد جرى أول استيطان يهودي في كوراساو عام 1650 حين وصلت 12 عائلة يهودية يحمل أفرادها خطاباً من مجلس هولندا يطلب من حاكم الجزيرة أن يمد لهم يد المساعدة، بأي صورة من الصور؛ بالعبيد أو بالأرض أو بالأحصنة أو القطعان أو الأجهزة. ويبدو أن اليهود كانوا جماعة استيطانية زراعية، على حين أن المستوطنين الهولنديين كانوا يهملون الزراعة لأن تجارة البضائع المهربة كانت أكثر ربحاً. ومع هذا، يبدو أن التجربة لم تنجح تماماً بسبب بعض القيود التي فُرضت على حركتهم (ربما بسبب جو محاكم التفتيش الذي ساد العالم الجديد والذي وجد طريقه إلى كوراساو رغم أنها كانت تابعة لهولندا). ولذا، حينما طلب مجلس هولندا إلى أحد أعضاء الجماعة اليهودية أن ينقل مزيداً من الأسر اليهودية إلى كوراساو وعرض منحهم حقوقاً وامتيازات اسـتثنائية (مثل الإعفاء من الضرائب لمدة عشـرة أعـوام، وحق حيازة الأراضي التي يجدونها ملائمة، وحق الامتناع عن العمل يوم السبت)، لم يجد هذا الطلب أذناً صاغية. وحينما استولت البرتغال على البرازيل من هولندا، عام 1654، فرت مجموعة من اليهود إلى كوراساو وأخذت رأس مالها معها. وقد كان ضمن نشاطاتهم الأساسية تجارة العبيد. وفي تلك الآونة، أُزيلت كل القيود عن الجماعة اليهودية. وفي عام 1693، رحلت مجموعة من اليهود إلى الولايات المتحدة، فكانت أول جماعة يهودية تستوطن فيها.

ولكن سورينام كانت أهم التجارب الاستيطانية الأولى، وقد بدأ وصـول اليهود إليـها عام 1639 من هـولندا ثم من إنجلترا عام 1652، فكُفلت لهم كل الحريات والمزايا، ومُنح اليهود الجنسية الإنجليزية. وبعد أن ضم الهولنديون سورينام مرة أخرى، عام 1667، حاول بعض اليهود عام 1674 الرحيل مع الرعايا البريطانيين، ولكن الهولنديين أرغموهم على البقاء فيها باعتبارهم جماعة استيطانية نافعة. وقد تَركَّز اليهود فيما يُسمَّى «يودين سافان»، أي «سافاناه اليهود»، وأسسوا مستوطنة يهودية في برزدينتس أيلاند عام 1670 كانت تتمتع بما يشبه الاستقلال الكامل (ومن ثم فهي أول دولة أو شبه دولة يهودية استيطانية قتالية في العصر الحديث). وكان اقتصاد المستعمرة يعتمد على العبيد الذين راحوا يشقون الطرق ويزيلون الغابات والأعشاب، حتى أقاموا مدينة جديدة محاطة بالطرق. وقد بلغ عدد سكان المستعمرة عشرة آلاف نسمة عام 1719، غالبيتهم الساحقة من العبيد بطبيعة الحال. وكان العبيد المُستجلَبون من أفريقيا يهربون ويلجأون إلى الأحراش ويختلطون بسكان الجزيرة الأصليين، فيضطر سكان المستوطنة إلى استجلاب المزيد من العبيد من أفريقيا، ولكنهم كانوا يهربون بدورهم وينضمون إلى السكان الأصليين. ثم بدأ تحالف من جماعات العبيد الأفارقة والسكان الأصليين في شن هجمات على المستوطنة في الفترة من 1692 ـ 1774، وكوَّن المستوطنون البيض ميليشيات عسكرية وجردوا الحملات ضد الثوار (تماما كما تفعل الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين)، ولكن الإرهاق من الحرب وانتشار الأمراض أدَّى إلى انتصار تَحالُف السود السكان الأصليين وإلى سقوط أول دولة يهودية في العصر الحديث.

كما استوطن اليهود معظم بلاد أمريكا اللاتينية، خصوصاً الأرجنتين التي وطَّن فيها المليونير هيرش آلاف اليهود، فيما يُعدُّ أهم تجربة اسـتيطانية زراعية في العصر الحديث بخلاف تجربة إسـرائيل.

ويُلاحَظ أن هذه النشاطات الاستيطانية تدور إما في إطار الاستعمار الهولندي (البروتستانتي) أو الاستعمار الإسباني والبرتغالي (الكاثوليكي). والمادة البشـرية الأسـاسية هنا هي يهود السـفارد (المارانو). ولكن المادة الاستيطانية الحقيقية كان مصدرها يهود اليديشية (الإشكناز في روسيا وبولندا في شرق أوربا) الذين كانوا يشكلون الغالبية الساحقة ليهود العالم مع نهاية القرن التاسع عشر، وهي أيضاً الفترة التي شهدت الهجرات الاستيطانية الغربية. ويمكننا أن نترك التسلسل التاريخي قليلاً، لنركز على حركة يهود اليديشية داخل إطار التشكيل الاستعماري الروسي (الأرثوذكسي) في عصر القياصرة ثم في عصر البلاشفة. وقد تحكمت في السياسة الاستيطانية عند الروس والبلاشفة عدة عوامل متداخلة:

1 ـ المسألة اليهودية، ومحاولة دمج اليهود ثقافياً واقتصادياً.

2 ـ المشكلة السكانية في روسيا باعتبارها دولة مترامية الأطراف.

3 ـ محاولة الدولة الروسية ترويس المناطق التي ضمتها من الدولة العثمانية وغيرها من المناطق، وخَلْق كثافة سكانية روسية فيها (وهنا كان اليهود يُعَدّون جماعة وظيفية استيطانية روسية).

وفي محاولة دمج الجماعة اليهودية، كان التصور السائد أن المسألة اليهودية يمكن حلها، أو التخفيف من حدتها، بتحويل اليهود إلى جماعة وظيفية استيطانية تُنقل إلى أماكن مختلفة فتستفيد الدولة الروسية بتعمير الأراضي وتتخلص في الوقت نفسه من الفائض اليهودي (وهذا هو المنهج الغربي الصهيوني نفسه، أي حل المسألة اليهودية لدول أوربا عن طريق نقل اليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها، وبذا تصبح فلسطين قاعدة للغرب).


وفي الفترة بين عامي 1807 و1808، خصَّص القيصر بعض أراضيه لتوطين بعض أعضاء الجماعة اليهودية فيها لتحويلهم إلى عنصر نافع، ولدمجهم في المجتمع. وبعد ضم الخانات التركية حول البحر الأسود، سُميَّت المنطقة المحتلة باسم «روسيا الجديدة»، وتم تشجيع اليهود على الاستيطان فيها بهدف تعميرها وتأكيد الوجود السكاني الروسي فيها. وقد استمر البلاشفة في الاتجاه الاستعماري الاستيطاني نفسه والذي يرمي إلى حل المسألة اليهودية وتعمير المناطق التي تم ضمها في آن واحد. وفي إطار هذا، تم توطين اليهود في بيروبيجان، وجري التفكير في توطينهم في القرم. ويجب أن نشير هنا إلى أن كثيراً من اليهود الموجودين في الجمهوريات السوفيتية (غير الروسية) السابقة، مثل جورجيا وأوزبكستان وبخارى وليتوانيا ولاتفيا، يوجدون فيها في إطار الاستعمار الاستيطاني الروسي السوفيتي الذي كان يرمي إلى خَلْق كثافة سكانية روسية.

ولكن النشاط الاستيطاني الأكبر ليهود اليديشية كان داخل التشكيل الاستيطاني الأنجلو ساكسوني (البروتستانتي)، فاتجه ملايين اليهود إلى جنوب أفريقيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا وهونج كونج، واتجهت غالبيتهم (85%) إلى الولايات المتحدة أهم التجارب الاستيطانية الغربية. وقد يُثار هنا سؤال: بأي معنى يمكن استخدام اصطلاح «جماعة وظيفية استيطانية» في حالة المهاجرين اليهود، مع أنهم كانوا ضمن جماعات أخرى من المهاجرين الغربيين الذين هاجروا بكامل حريتهم، علماً بأن الولايات المتحدة لم تعد دولة استيطانية بعد إعلان استقلالها؟ وسنقر ابتداءً بأن استخدام المصطلح في هذا السياق فيه شيء من التجاوز وقَدْر من المجاز، ومع هذا يمكن أن نشير إلى مايلي:

1 ـ لم تفقد الولايات المتحدة طابعها الاستيطاني إلا مع بداية القرن العشرين، بل إن عملية طرد السكان الأصليين وإبادتهم لم تبدأ إلا عام 1830. وقد ضمت الولايات المتحدة أراضي شاسعة من المكسيك وغيرها بعد ذلك التاريخ، وهي أراض احتاجت إلى مستوطنين. كما أن رعاة البقر (أو الكاوبوي) في الغرب الأمريكي ظلوا ملمحاً أساسياً في الحضارة الأمريكية، ورعاة البقر هم الرواد (حالوتسيم) الأمريكيون البيض.

2 ـ لم يكن اليهود أحراراً تماماً في عملية الهجرة، فقد صنفتهم أوروبا باعتبارهم فائضاً بشرياً منبوذاً.

3 ـ كانت الولايات المتحـدة تسـمح ليهــود اليــدشية بالهــجرة إلـيها والاستيطان فيها بقدر حاجتها إليهم، وبما يتفق مع أمنها القومي.

ويجب ملاحظة أن الدول الاستيطانية التي استقرت فيها غالبية اليهود، بدأت تفقد طابعها الاستيطاني وتتحول إلى دول مستقرة ذات بنية سكانية ثابتة واضحة. ومع اختفاء السكان الأصليين، تلجأ هذه المجتمعات إلى الحصول على المادة البشرية بطرق قانونية (عن طريق الهجرة)، وتقوم بدمج وصهر العناصر الوافدة. كما أنها دول ذات مستوى اقتصادي متقدم استوعب أعضاء الجماعات اليهودية فيه دون تمييز أو قيود، وهي مجتمعات ذات أصول بروتستانتية وصلت إلى درجة عالية من العلمنة والتعاقدية. لكل هذا، فهي مجتمعات لا تحتاج إلى أي متعاقدين غرباء أو جماعة وظيفية تجارية أو زراعية أو استيطانية أو قتالية، إذ يتم تجنيد العاملين (والخبراء والمقاتلين) من داخل المجتمع ذاته. ولعل هذا يُفسِّر سر اختفاء اليهود باختفاء الوظيفة التي كانت سبباً من أسباب استمرارهم.

من كل ما تَقدَّم يتبين مدى ارتباط الجماعات اليهودية في العالم (الغربي بالذات) بالاستيطان وبالقتال. ويمكن أن نشير هنا إلى ظاهرة أخرى وهي أن العالم العربي بدأ، منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر، في تحويل اليهود المستعربة، أي يهود العالم العربي المحليين، إلى جماعة وظيفية استيطانية تدين له بالولاء بغض النظر عن أصولهم العرْقية والحضارية. وقد تم هذا من خلال عدة قنوات:

1 ـ منح الجنسيات الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها لأعضاء الجماعة اليهودية.

2 ـ فرنسة يهود العالم الغربي من خلال مدارس الأليانس.

3 ـ هجرة عناصر يهودية غربية إلى العالم العربي تولت قيادة الجماعات اليهودية في العالم العربي.

ومع انتصاف القرن العشرين، وظهور الدولة الصهيونية، تم تحويل الغالبية العظمي من يهود العالم العربي إلى مادة استيطانية لاجذور لها في المنطقة وعلى استعداد لأن تُنقل إلى أي مكان وأن تُوظَّف لصالح من يقوم بعمليات النقل والتوظيف والتمويل .

ومن الأمور الجديرة بالذكر أن أعداداً كبيرة من المستوطنين الفرنسيين في الجزائر كانوا يهوداً أتوا من فرنسا أو تم تجنيدهم من بين صفوف اليهود المحليين الذين كان يتم فرنستهم، كما كانت الفرقة الأجنبية (الفرنسية) تضم أعداداً كبيرة من اليهود.

ونحن نرى أن من الأفضل تفسيرياً أن ننظر إلى الدولة الصهيونية لا باعتبارها دولة عادية لها نمط إنتاجي مما هو معروف (إقطاعي ـ رأسمالي... إلخ) وإنما باعتبارها دولة وظيفية، فهي إعادة إنتاج لنمط الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية على هيئة دولة. وقد تم توقيع عقد بلفور بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية والذي جرى بمقتضاه نقل من يرغب من اليهود إلى فلسطين ليصبح عنصراً اسـتيطانياً قتالياً يدافع عن المصـالح الغربية نظير مستوى معيـشي مرتفع، وهذا هو نمط القتال نظير المال. ولذا، فإن إسرائيل، بالنسبة للراعي الإمبريالي الجديد (الذي حل محل البطالمة والسلوقيين والرومان والنبلاء البولنديين [شلاختا])، هي أساساً، وظيفة تُؤدَّى ودور يُلعَب.

ولم يُطلَق مصطلح «مرتزقة» على الصهاينة لأن هذا المصطلح لا يترك انطباعاً طيباً في النفس البشرية، ولذا يُطلق الصهاينة على أنفسهم اسم «حالوتسيم»، أي «المنخرطون في السلك العسكري في مقدمة الصفوف»، ومن هنا تأتي ترجمتها بكلمة «الرواد». ويُشار إلى إسرائيل بأنها قلعة على حدود أوربا في الشرق وحصن ضد الهمجية الشرقية. ومن المعروف أن المرتزقة، في العصور الحديثة، كانوا يوضعون دائماً في مقدمة الصفوف، أي على الحدود الأمامية، كما حدث على سبيل المثال عام 1956 عند إنزال القوات البريطانية أثناء العدوان على مصر، حيث أُنزل الأفارقة والهنود في بداية الأمر باعتبارهم مادة بشرية رخيصة، ثم أُنزلت المادة البشرية البريطانية الثمينة فيما بعد. وهذا هو وضع الدولة الصهيونية، والرواد الصهاينة، حيث يوضعون في المقدمة، فهم الشعب المختار للاستيطان والقتال.

ولا يُنظَر إلى الدولة الصهيونية إلا من منظور مدى نفعها: فهي تارة ثروة إستراتيجية، وهي تارة أخرى حاملة طائرات وحارس للمصالح الغربية. ولكنها، في جميع الأحوال، أداة ووسيلة وحسب لا غاية أو هدف. وتتسم الدولة الصهيونية الوظيفية أيضاً بالعزلة عما حولها حتى يتسنى لها الاضطلاع بوظيفتها بكفاءة.

وبعد أن ضمت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، تبلورت الأمور تماماً. وأدرك المستوطنون الصهاينة هويتهم كجماعة وظيفية استيطانية قتالية. وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته في فكر جماعة جوش إيمونيم التي ترى أن الاستيطان والقتال عبء مقدَّس ملقى على عاتق الشعب المختار، وأن على اليهودي أن يقبل مصيره الإلهي إذ لاخيار له.

ويمكننا أن نقول إن الدور الذي تلعبه الدولة الصهيونية، والوظيفة التي تضطلع بها، هما السلعة الأساسية التي تنتجها، وهما مصدر دخلها الثابت. ولذا، يمكننا الحديث عن هذا الدور باعتباره إحدى علاقات الإنتاج مع الإمبريالية (وعلاقات الفتك مع الشعب الفلسطيني المُستَهْدَف). وقد سمينا المستوطنين الصهاينة «المماليك الاستيطانية القتالية» تمييزاً لهم عن «المماليك المالية» وهم الجماعات اليهودية الوظيفية المالية. ونحن نرى أن هذا النموذج التحليلي أكثر تفسيرية لأنه يفسر كثـيراً من جوانب الاقتصاد الإسرائيلي والسياسية الخارجية الإسرائيلية. ومع هذا، فإننا نذهب إلى أن دور الدولة الوظيفية الصهيونية سيتغير، مع ظهور النظام العالمي الجديد، حيث سيتراجع دورها القتالي (المرتبط بوضعها الاستيطاني) وسيتحول «المماليك الاستيطانية القتالية» إلى «المماليك المالية» مرة أخرى، وسيحل رأس المال العالمي محل السيف والمدفع ورأس المال الربوي، وسيحمل الجنرال الإسرائيلي السابق السامسونايت بدلاً من المدفع الرشاش، وسيحضر بالطيران المدني المكيف بدلاً من الطيران العسكري وبالليموزين بدلاً من الدبابة، ولن يمطرنا بالصواريخ والنابالم، كما كان يفعل حتى عهد قريب، وإنما بعقود الصفقات التجارية المريبة والرشاوى الخفية التي تفسد العباد وتفلس البلاد.

وكما قال شمعون بيريز: « الشعب اليهودي لا يهدف إلى السيطرة وإنما يهدف إلى البيع والشراء »، أي أن الجنرال أصبح إنساناً اقتصادياً يمثل شعباً مختاراً لعمليات البيع والشراء والأعمال المالية. ومثل هذا الإنسان لا يحب ولا يكره فهو يبحث عن الربح، كما أنه لا يصدع رأسه بالحديث عن القيم أو المطلقات أو الهويات، ولا يكنُّ احتراماً للآخر لأنه لا يكنُّ احتراماً لذاته، وهو في النهاية عنصر حركي طرح عن نفســه تراثه وقيمه ونزع نفسه من وطنه ليستوطن أرض الآخرين. وعلى هذا، فإن هدف العمليات القتالية والاستيطانية والمالية واحد في كل هذه الحالات، ضمان تدفق خيرات هذه الأرض لقوى خارجها.

وقد لُوحظ أن أعداداً كبيرة من الإسرائيليين تعمل مرتزقة في بعض دول العالم الثالث. وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 2000 فرد من الجيش الإسرائيلي عملوا كمرتزقة ومدربين في أفريقيا على مدى الأعوام الثلاثين الماضية بدءاً بالطيارين في أوغندا وانتهاءً بالمظليين في زائير. وتُوجَد شركات خاصة (مثل شركة ليفدان) يديرها جنرالات سابقون ويشغل صفوفها أفراد سُرِّحوا حديثاً من الجيش الإسرائيلي. ويتلقى المرتزق الإسرائيلي مبلغ 2500 دولار علاوة على بدلات أخرى. وقد صرح مسئول من الشركة بأن ما تفعله هذه الشركة لا يختلف عما كانت تفعله الحكومة الإسرائيلية لسنوات طويلة.


 

  • السبت PM 02:52
    2016-02-27
  • 2844
Powered by: GateGold