المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412556
يتصفح الموقع حاليا : 311

البحث

البحث

عرض المادة

ثالثة الأثافي

ثم ننتقل إلى قضية معنونة في الكتاب الذي وصلنا بعنوان «ثالثة الأثافي» جمع أثفية، والأثفية الأولى جاءت في الإلحاد، والثانية في المرأة وقضاياها المتعددة، وهذه هي الثالثة، هي الداهية الدهياء. 

وكلمة ثالثة الأثافي «شـائعة على ألسـنة الناس» يعبرون بها عن الشـيء الفظيع الذي لا يحتمل، فكأن ما قبله محتمل، وما بعده محتمل، أما هو فغير محتمل. 

والأثفيـة هي: الحجرالـذي يوضع تحت القدر ليسـندها، والقـدر حيـن توضع تحتاج إلـى ثلاثة «أثافـي» أي أحجار: حجر على اليمين، وحجر على اليسار، وحجر في الخلف، ولا يضعون حجرا من الأمام؛ لأنهم يضعون الوقود من الأمام. فكان الناس قديما حيـن يضعون القدور يكتفون باثنتين فقط: أثفية على اليمين، وأثفية على اليسـار، ثم يكفى الجبل عن الأثفية الثالثة؛ لأنهم كانوا يسـندون القدر من الخلف على الجبل، فالجبل هو ثالثة الأثافي، فهو بالنسـبة إلى الحجرين داهية عظمى. 

ما هي ثالثة الأثافي في كلام أعداء الإسلام؟ 

ثالثـة الأثافي في أنهم قالوا: يجب أن تسـتغلوا ظاهرة في واقع المسـلمين، هذه الظاهرة تنقض الدين من أساسـه، لأن الاسلام لم يعد مجمّعا، بل آل إلى أن يكون مفرقا ً، فاسـتغلوا هذه الظاهرة في هدم الإسلام.

الإسـلام أول ما جاء جاء ليجمع، أما الإسـلام الآن في بلاد المسـلمين فقـد وجد ليفـرق، وآثـار الفرقة ظاهـرة في كل بلاد الإسـلام، فالمذاهب الرعناء، والطوائف الحمقى، والفرق المتباينة، وكل طائفة اتخذت لونا ً تعصبت له ولم تر الاسلام الا فيه، بل انه ربما تسامى بها الامر، او تسفل بها الامر الى ان درجة ان تكفر المذاهب الاخرى، وتلك قضية جعلت الاسلام الان وسيلة تفريق، لا وسيلة تجميع.

انظـروا كيف فطنوا إلى واقع المسـلمين كمـا قلنا، وأنهم أعـدوا لذلك الأمر الأسـاطين من أسـاتذة التبشـير، وفطاحل رجال الكهنوت، والمتمرسـين بأمر الدعوة والتبشير، وعلماء الجامعات في علوم الأنساب والسلالات والاجتماع والمتمرسين بشئون العالم النامي كله، الدارسين له، الواقفين على حقيقة تكوينه. 

ولا شـك أنهم رأوا الإسـلام طوائف وفرقـا ومذاهب، وكل مذهب يرى نفسـه وأهله هم الأحق بأن ينسـب إليهم الإسلام، ويكفرون الطوائـف الأخرى، فعلى هذا يصبح الإسـلام مبدأ تفريق للناس، وليس مبدأ تجميع. 

فاسـتغلوا هذه المسـألة وقالوا: أي اسلام هؤلاء صحيح ؟ فإن كان الإسلام صحيحا في مذهب، فالمذاهب الأخرى باطلة، وإن كان صحيحا في طائفة، فالطوائف الأخرى باطلة.

إذن فيجـب أن تدخلوا مـن باب ضيق الإسـلام بالمذهبية والطائفيـة، إلى أن الإسـلام ليس هو الإسـلام، وأنه إن وافقه واحد فقد خالفه كثيرون غيره. 

انظروا كيف درسـوا قضايا الإسلام، وكيف مهّد المسلمون لهم بجعل دينهم فرقا ً، ليدخل الأعداء من هذا الباب؟ وصدق الله العظيم إذ يقول: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ " الانعام: 159.

هذه الظاهرة كيف نشأت؟ إنما نشأت لخطأ المسلمين في فهم كثير من قضايا الدين الأساسية، وقضايا الدين الأساسية جاءت من عنـد الله، والله حق، والله حكيم، لا يمكن أن يغفل عن شـيء فيه مصلحة للخلق، ولا يمكن أن يجعل لمبدأ يفرق المؤمنيـن سـبيلا إلى أن يتسـلل إلـى منهجه؛ لأنه سـبحانه وتعالى صبور، وحكيم. 

وكثير من المذاهب الوضعية لها ظاهر يروق، وواقع يجذب، مهما كان أمر هذه المذاهب، فمثلا الشـيوعية لها لون يعجب، وبالتطبيـق يأتي اللـون الذي يتعب ولا يعجب، والرأسـمالية لهـا لون معجـب، وتطبيق متعـب، إذن كل ناحية من نواحي التفكير البشـرى لا يمكن أن تدخل علـى العالم لتغزوه بقبح اجتماعـي، ولكن لا بد أن تدخل عليـه بلون جمالي مزخرف، وإن سترت في طيها أشياء. 

إذن فكل شيء يتجه إليه الفكر لابد أن يكون له ناحية جمال تغري، ويستطيع الإنسان أن يقدمها بين يدي مطلوبه، فمثلا في النظام السياسي يوجد شيء اسمه «الدكتاتورية»، ويوجد مقابل لها على النقيض اسـمه «الديمقراطية»، واعذروني في اسـتعمال هذه الألفاظ الغريبة على اللغة وعلى الإسـلام؛ لأننا أخذنا كل حضارتنا مستوردة من الخارج. 

النظـام الدكتاتوري حين يجـيء، لا بد أن تكون فيه فكرة تروق للناس، ثم تجيء في طيه الأشياء التي تكون في صالح الدكتاتـور، فيقولون: إن كل أمـر أردنا أن نصلح به المجتمع إن تركناه حتى نأخـذ رأي جمهور الناس فيه لما اتفقنا على شيء، ولتعطلت حركة الاصلاح ولكنا معوقين، إلى أن نصل الى امر اتفاقي لان الناس اهواؤهم مختلفة ولذلك جاءت القضية المشهورة " لا يصلح الشرق الا مستبد عادل " ومعنى مستبد عادل: اي لا يستطيع احد ان يقول له: لم صنعت كذا ؟ بشرط ان يكون عادلا ً لا يفرض إلا ما هو حـق، وهذا لكي يخرج من غوغائية النقاش، وجماهيرية الاستفتاء. 

إذن فالدكتاتوريـة لها لون يفيد في أن كثيرا من الأمور قد يراد البت فيها بسرعة وحزم، دون أن تتدخل فيها الغوغائية، طالمـا أن الذي يتولى ذلك سـيحتاط لكل الأمـر، ولا يأتي إلا بقضايا عدل، وقضايا حق، أما زاوية الشـرف تأتى من الناحية الثانية. 

والديمقراطيـة فيهـا ملمح جمالي، هو أن كل شـيء لا بد أن يتـم برأي الجمهور، ولكن الجانـب المقابل يقول لنا: إننا نؤجـل كثيرا من الأعمال حتى ينتهي الجمهور إلى رأي، ويرد الديمقراطيـون قائليـن: ولكنها تكون نابعـة من الكل، لا من واحد يفرض هذا الملمح الجمالي، فهذه فيها حسن، وتلك فيها حسن، وبالتالي في هذه مساوئ، وفى تلك مساوئ، بدليل أنه يوجـد في العصرالواحد القريب الإمكانيات، والقريب الأجواء مبدآن متناقضان، وكان المفروض مادام العصر عصر ارتقاء يجب أن نرتقي في المسائل. 

ولو نظرت إلى دين الله لوجدته قد أخذ ملامح الجمال في الدكتاتورية، وتـرك ملامح القبح فيها، وأخـذ ملامح الجمال فـي الديمقراطية، وترك ملامح القبح فيهـا، فأعطانا الأمرين بتسوية وبعدالة، وأخذ من كل اتجاه خيره. 

فالامور التـي يجب أن يبت فيها بحزم، ولا تترك لأهواء البشر فيها مجال، شرع الحق فيها تشريعا ً لا يجعل لأحد مستدركا ً عليه ابدا ً، وتلك هي سمة الدكتاتورية، وهناك امور يمكن ان تؤدي جوانب الخير على اي وجهة  تجيء، وهذه لا تتطلب السرعة ولا الحزم.

إذن فالحركـة الحياتيـة محكومـة بأمريـن: أمر ضروري ان يوجد سريعا ً ومبتوتا ً فيه بحزم، وأمـور تأتى هينة ومن الممكن أن تخضـع لاختيار الناس، لتحقق لهـم مبدأ الذاتية في الاختيار، حتى لا تكبت فيها أدوات الاختيار، وحتى يشعر الإنسان أن له رأي  فيما يقنن له.

والدكتاتورية تستغل هذا الأمر فتقول: لو أخذنا آراء الناس في كل قضية لتأجلت كثير من القضايا، ودخل العجاج، ودخل التناظـر، ودخل الاسـتعلاء، ودخلت الجماهيريـة، فلا بد من اشياء نبت فيها ذلك ناحية الجمال فيها، وبعد ذلك تستر في داخلها ناحية من نواحي الشر، وتدس فيها نواحي أخرى من النواحي التي لم تكن حيثية وجود الدكتاتورية، والديمقراطية كذلك تدخل علينا من ناحية الجمال فيها .

ومن العجـب أننا نجد المبدأين موجوديـن في زمان تكاد تكون الفـرص فيـه متكافئـة، والإمكانيات واحـدة، والروح السـائدة واحـدة، والارتقاءات واحدة، إذن ففـي كل المذاهب ناحية من نواحي الجمال، ولكنها لا تكتفى بما فيها من ملامح الجمال، بل تدس في أثنائها كثيرا من ملامح القبح.

والإسـلام يمثل النظرتين، ففي الأمور التي يراد فيها البت والحزم يبتها بتا ً ويحزمها حزما ً ما يشبه حزم الدكتاتورية.

" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ " الاحزاب: 36.

حكـم مبتوت فيه؛ لأنـه إذا قضى وحكم فـي أمر فقد منع الـرأي فيه، وأبقى التعصـب الإيماني له، فوفـر طاقة الجدل واللجاجة إلـى أن تكون طاقة نزوع، وطاقـة تطبيق، وطاقة مراقبة. 

وهناك أمور تركها هو سـبحانه وتعالى للنفس الإنسـانية التـي تتميـز بالعقـل، والعقـل الذي مظهـره الاختيـار بين البديلات، تـرك له مجالا لينمي فيه هذه الملكة، وليكون الأمر بما تنتهي إليه هذه العقول المفكرة، فيكون الإسـلام قد جمع بيـن الميزتين: ميزة الحزم والبت في الأمـور التي لا يريد أن يؤرجحها أو يجعلها متراخيـة، حتى لا تفوت الفائدة، وأمور تركها إذا جاءت على أي وجه من الوجوه لم يحصل فيها شيء من الضرر. 

في القضية الأولى يقول الحق سبحانه: " وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ " المؤمنون: 71.

وفي القضية الثانية يقول: " وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ " النساء: 83.

" وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " آل عمران: 159.

ولذلك كان يقال للمشـرع الثاني محمد صلى الله عليه وسلم: أهذا أمر نزل به حكم من السماء؟ يعني إن كان قد نزل به حكم في السماء، فلا رأى لنا فيه؛ لأن السماء لها علم ليس لنا، وإن لم يكن أمر من السماء وكانت الحرب والمكيدة نشير عليك.

هذا يمثل الرأي الحازم، وهذا يمثل الرأي المسـتنبط، فمن أراد دينا ً او مذهبا ً يحقـق الأمريـن ًمعا يجده في الإسـلام. ويمتاز الإسلام بأن الدكتاتورية فيه ليست لمساو، يعنى ليس الدكتاتور مساويا ً لك، لأنني أنـا وأنت جميعا محكومون لإله واحد فوقنا، آمنا به جميعا، وليس له هوى يخشى منه كما هو حال البشر.

إذن هـو يعطينـي نزعـة الدكتاتوريـة بـلا هـوى، وبـلا جبـروت الدكتاتورية، وبدون اسـتعلاء الدكتاتور، وبلا إذلال الدكتاتورية. 

فهكـذا يجب أن ينظر علماء الإسـلام إلى قضايا الإسـلام، فـلا يجعلوا الأمور التي زحزحها اللـه عن مجال الحكم البات الحازم الذي لا اختيار فيه، لا يجعلوا هذه الأمور ضمن الأمور التي ترك الله لنا فيها الحرية والاختيار. 

وآفـة وجود المذاهـب أن الأمر الـذي تركه الله للمشـورة والاجتهـاد والاختيار جعلته كل طائفـة أمرا واجب الحزم والبت، وأن الذي يخالف رأيهم فيه يكون مخالفا للإسلام.

نقـول لهذا: أنت لم تفهم الإسـلام، أمور الإسـلام يجب أن تؤخذ من زاويتيـن: أمور محكوم فيها، محزوم فيها، مبتوتة، وأمور متروكة لنا لنسـتنبط ونجتهد، وإلا فلو أراد الله الدين قالب حديد لا نتحرك فيه لسهل ذلك عليه، ولكن في ذلك إهدارا لمـا خلق الله من الاختيار بين البديلات للعقل، إذا قهرنا قهرا على شـيء، كما قهر الحيوان والجماد على أشـياء فسميناها مسخة لا رأي لها، وتلك سمة تنافي تكريم الله للانسان حين جعل له اختيارات ً وخلقه مختارا ً.

إذن فآفـة المسـلمين الذيـن يمثلـون المذاهـب ويمثلون الطائفيـة أنهم جعلوا الأمور التـي أباح الله فيها الرأي، وأباح فيها الاجتهاد، وأباح فيها الترجيح أمورا ً مجزوما مبتوتا ً فيه من الله الذي فوقنا، والذي نؤمن به جميعا ً ولكنه مجزوم مبتوت فيه من جنس البشر .

ولو أراد الله هكذا ما استطعنا أن نختلف فيه إذن فتلـك هي الآفة التي جرأت علينـا الخصوم فقالوا: إن الإسلام لم يعد دين تجميع وإنما أصبح دين تفريق.

كان في الماضي دين تجميع كما قال الله تعالى: " وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ " آل عمران: 103.

إذن فالمسـلمون الآن هم الذين فتحوا هـذا الباب، وفتحوا نوافذ جعلتهم يدخلون علينا منها، ليهدموا لنا قضية إيماننا.

كلامنـا الآن ليس مع أولئك الذين يتهموننا بذلك، وإنما هو مع القوم الذين فتحوا هذا المجال لهؤلاء ليدخلوا.

نقول لهم: راجعوا فهم دينكم من جديد، واعلموا أن القضايا التـي بـت الله فيهـا وحزمها، قضايـا لو ترك فيهـا الاختيار والحرية والاجتهاد لفسـدت السـماوات والأرض. وهناك أمور ترك الله لنا فيها الاختيار؛ لأننا على أي حال لن نجتمع إلا على خير. وقد ضربنا كثيرا من الأمثال لهذه المسائل.

انظـروا إلى قول الحق جـل وعلا في قضيـة الدخول إلى الصـلاة، والدخول إلى الصلاة يكـون بالوضوء، فآية الوضوء فيها المنهج كله. 

" إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ " المائدة: 6.

آه لو فطنوا إلى التعميم في الوجوه وعدم التقيد فيها، كما قيد في الأيدي بقوله " إِلَى الْمَرَافِقِ "

إذن لأراحوا واستراحوا، وعلموا منهج الله كما يريده الله.

الوجوه لم يحددها الله: " فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ "

وكفى. لـم يحددها لأن الوجوه لا اختـلاف عند العرب في مفهومها، ولكن الأيدي يقـع فيها الاختلاف، مرة تطلق ويراد بهـا الكـف، ومرة تطلق ويـراد بها من الأنامل إلـى المرافق، ومرة تطلـق ويراد بها إلى الكتف. وهذا إطـلاق يقال له: يد، وهذا إطلاق يقال له: يد، وهذا إطلاق يقال له: يد.

فلوأن الله -سبحانه وتعالى جلت قدرته- ترك التقييد في اليد بقوله: " إِلَى الْمَرَافِقِ "

لكان لمجتهدٍ أن يقول: إلى هنا، والآخر أن يقول: إلى هنا ومـاذا يكون لو تـرك الأمر فيهـا اجتهاديا ً لكل مجتهد ؟

نقـول: لا؛ لأن الله يريدها على وجه محدود، فجزم فيها جزما ً أنهى الإشكال، ولا يستطيع أحد أن يقول شيئا ً فيها بعد. فحين يريد الله حكما باتا ً فإنه يخرجه من الإبهام ويأتي بالنص بحيث لا يختلف فيه احد بعد.

ثم قال: " وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ "

لم يقل: امسحوا رءوسكم، كما قال: " فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ "

هذا غسـل صحيح، وذاك مسـح، غسـل نص عليه بالماء، ومسح نص عليه بالماء، والأمران فيهما اختلاف.

غسـل، يعنـي لابد أن يتقاطـر الماء، مسـح، يكفي إمرار اليـد فلا يتقاطر الماء. المهم: ما هوالممسـوح؟ لو كان يريد التحديد لقال: ربع رءوسـكم، نصف رءوسكم، كان يحددها، ومع ذلك لم يجعلها من باب (اغسـلوا وجوهكم)، ولم يجعلها من بـاب (أيديكم إلى المرافق)، ولكنه جـاء بالباء، والباء لها في اللغة إطلاقات متعددة، وتحتمل وجوها كثيرة.

وما دام الله قد عدل عن الأسلوب الذي قاله في: " فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ "

ولـم يقل: امسـحوا رءوسـكم، ولـم يحدد كمـا حدد في المرافق، فقد جاء بالباء ليكون اذنا ً من الله فـي أن كل ما تؤديـه الباء من المعاني يمكن أن يؤخذ في إطلاقات الاجتهاد في هذا الموضوع.

ومـن هنا قال قوم: الباء للاسـتعانة، ويكون المسـح لكل الـرأس، وقال قوم: المسـح لا يكون إلا باليد، فالممسـوح هو قدر اليد، وهو الربع. وقال قوم: المراد بعض الرأس. فكل أخذ من معاني الباء ما يريد، والله يريدها للإباحة والاجتهاد، فإذا مـا ذهب مجتهد إلى أنها الكل، ومجتهـد آخر إلى أنها الربع، ومجتهد ثالث إلى أنها بعض ولو شعرة، فالكل صحيح.

والآفة أننا لم نحترم تعليل الله بوجود الباء لكل أمر مجتهد فيه ، ولو احترمناه لاحترم من قال الكل من قال البعض، واحترم من قال الربع لأن الباء احتملت ما قال، واحتملت ما قاله الآخر، وهي في نطاق الباء شائعة. 

ولكـن الآفة أن الذي يقول بهذا يحـاول أن يجعل قوله هو الأصل، يا أخي، لو كان الله يريد من المسألة أصلا لا نتزحزح عنه لكان - وهو صاحب التشريع - أولى بأن يحددها، ولكنه حين لم يحددها فقد احترم وجهة النظر، فإذا جاءت على أي وجه فهي مقبولـة عنده. ومادامت مقبولة عنده فليس لنا ان نلزم بفعلنا نحن.

وبعض الناس يظـن أن ما وصل إليه هو الحق، وما وصل إليه غيره هو الباطل، وهذا لا يمثل وجهة نظر الإسـلام. ومن هنا جاء الخلط. 

ورسـول الله صلى الله عليه وسلم لم يدع المسألة في فهم نص، ولكنه جاء لنا بواقع تطبيقي ليدلنا على أن أمر المشـرع إن كان محكما فلا مجـال لاجتهاد أحد، وإن كان محتملا فالمشـرع نفسـه شـرع الاحتمال، وما دام قد شـرع الاحتمال فقد نشأ عن هذا قضيـة أصولية: هل الحق واحد أصابـه واحد من المجتهدين وأخطأه الباقون؟ 

ونقـول: إن المحكم يكون الحق فيه واحدا. أما المتشـابه فالحـق فيه متعدد، والحق هو مـا وصل إليه المجتهد، ما دام المشرع قد جاء بنص يحتمل الاجتهاد. 

الرسـول صلى الله عليه وسلم جاء في مسألة غزوة الأحزاب، أو الخندق، لم يكد القوم يستريحون من غزوة الأحزاب حتى أمرهم الرسول بما أوحى الله بواسـطة جبريل عليه السلام من أن الملائكة لم تخلع لباس الحرب، ولا بد أن نذهب إلى بني قريظة لتأديبهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يصليّن العصر الا في بني قريظة "[1].

يجـب أن يتنبـه المجتهـدون في الإسـلام، والمشـتغلون بالإسلام بوجه عام إلى مثل هذه القضايا، حتى لا تكفر طائفة بفهمها طائفة اخرى بفهمها، ما دام الفهمان متواردين على نص واحد يحتمل الفهم. 

الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في الطريق.

ففريق قال: المغرب يوشـك أن يأتي، والشـمس توشك أن تغيـب، ولمنصل العصرإلى الآن، ونحن في طريقنا إلى بني قريظة كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نصلي العصر الآن.

وفريق قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فلا يصلين العصرإلا في بني قريظة» ولم نصل بعد إلى بني قريظة. قوم صلوا، وقوم لم يصلوا، ولما ذهبوا إلى المشرع صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء وأقر هؤلاء. 

إقراره لهـذا ولهذا كان يجب أن يكون دسـتورا للفاهمين عند اللـه، والفقهاء الذين يسـتنبطون الأحكام مـن الله، وأن يعلموا أن الله والرسـول حين يترك نصا ً محتملا للفهم يجب أن يحتـرم كل فريق رأي الفريق الآخـر، أو يعتبره على الأقل مساويا ً لفهمه أو يقـول: أنا أصبت الحـق ويحتمل الخطأ، ورأي خصمي خطأ يحتمل الصواب. 

وهنا أكون قد احترمت المرجح لي في الاسـتنباط، لكنني لم أتهم سـواي حينما ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر هذا وأقر هذا في امر لم يُرد الرسول أن يكـون محكما. فمن صلى لم يخالف، ومن لم يصل لم يخالف، فهما سواء مع الأمر الآخر.

وإذا أردنا أن نقعد هذه القاعدة لتوضيحها نقول:

الصلاة حدث، والحدث له زمان وله مكان، ولا يوجد الزمان والمـكان إلا إن وجد الحـدث، وإن وجد الحدث لا بد أن يكون لـه زمان ومكان، والصلاة حدث يطلـب منا الإيمان أن نفعله، والرسـول هنا قال قولا حدد ماذا؟ حـدد الحدث، ثم قال: «إلا في بني قريظة». فحدد المكان، وترك الزمان. 

فالذي تعصب أن يصلي قبل مغيب الشمس قال: إن الحدث لـه زمان، فاحتـرم الزمن، وقال: أنا أصليـه في زمانه في أي مكان. والذي تعصب ألا يصلي قال: «إلا في بني قريظة» فأنا أصليه في المكان في أي زمن. 

فالرسـول صلى الله عليه وسلم احترم هذا واحترم هذا؛ لأن كلا ً منهما نظر إلى طرف من طرفي الحدث. 

كل الأحكام الاجتهادية التي تركها التشريع للبشر فيها إذن من الله أن كل ما وصل الاجتهاد يقبله الله، ويعتبره حقا ً.

ولكن المجتهدين أو أتباع المجتهدين أو المريدين يجعلون فهمهـم هو الأصـل، فكأنهم نقلـوا الإحكام من المشـرع إلى الإحكام في الفهم. 

نقول لهم: لا، لا حق لكم في ذلك فلو اراد الله الحكم باتا ً لبيّنه باتا ً.

" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ "

إذن الشـيء الذي ينفذ منه خصوم الإسـلام هـو ما يفعله بعـض علمـاء الإسـلام، أو بعـض أتباعهم، حين يـرون في اجتهاداتهـم التي أباح اللـه الاجتهاد فيها أصـلا لا يصح أن يترك، ومن هنا نشـأت النكبة على المسـلمين في جميع بقاع الأرض. 

ولذلـك نجد إسـلام دولة منتقدا ً من إسـلام دولـة أخرى؛ لأنهم أرادوا أن يجعلـوا من فهمهم للأمور المجتهد فيها نصا ً محكما، ومن خالفه فهو مخطئ، ولم ينظروا إلى آثار ذلك من الهجوم علينا في أن الإسـلام لم يعد دين تجميع، وإنما أصبح دين تفريق.

ونحـن فـي البلـد الواحد نشـاهد ذلك الآن. ففـي كل حي طوائف لو نظرت إلى إسـلام هؤلاء لوجدته بعيدا عن إسـلام سـر عليه هـؤلاء، لماذا؟ لأنهم جعلوا لشـيوخهم فهما ً من لم يسر عليه فهو مخالف للإسلام، ألم ينظروا إلى تبعات هذه الأشياء، هذه التبعات التي سنشقى بها طويلا من خصوم الإسلام.

التحقيق والتطبيق: 

وقد ذكروا صفحات طويلة عن مصر.. وفيها: نريد أن نسأل المسـلمين في مصر، وفيها الأزهر الـذي يدعي أنه الحريص على الإسلام والمحافظ عليه:

أي الإسـلام هـو الخيـر وهو الحـق: هل هو الإسـلام في المساجد التي تديرها وزارة الأوقاف، أو الإسلام في المساجد تنبث في سـائرأنحاء القطـر، ويقوم فيها أناس الأهلية التي يهاجمون الإسلام في المساجد الأوقافية؟ 

وهـم معذورون في ذلـك؛ لأن مصر فـي الحقيقة هي بلد تحقيـق الإسـلام. وتحقيق الإسـلام معناه: توضيـح قضاياه توضيحا لا لبس فيه، ومصر وإن لم تكن البلد لتطبيق الإسلام، فلا يجادل أحد في أنها البلد لتحقيق الإسلام. 

وهـم لا يتكلمـون عن تطبيق الإسـلام؛ لأنهـم يقولون: إن جمهـرة المسـلمين فـي مصـر لا تطبـق الإسـلام، إذن فهم يحاكمـون مصر لا من أجـل تطبيق الإسـلام، ولكن من أجل تحقيق الإسلام، فيسألون: 

أي إسـلام هذه المسـاجد هو الحق عندكـم وعند الله، هل هو اسلام المساجد التي ينادي فيها بعد الأذان بالصلاة على رسول الله، أم إسلام المساجد الأخرى التي تقول: إن هذا عمل مخالف للإسلام، وتحمل عليه حملة عنيفة؟! 

ونقـول: هم محقون في هذا؛ لأن كثيـرا من الذين يؤذنون يجهلـون الموقف الحـق للدين من هذه المسـألة، ويعتبرون المسألة ادبا ً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين ليس ادبا ً فقط، وانما هو في الاصل طاعة، والطاعة هي الادب.

يجب أن نطيع رسـول الله صلى الله عليه وسلم فيما شـرع رسول الله. ولا تتجمل أنت على رسول الله بما لم يشرعه رسول الله. فالأذان أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة، وبلا صلاة عليه في آخره.

صحيح انه قال: " اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ "[2]. فالذين التزموا الادب قبل الطاعة جعلوا المؤذن مع المصلين عليه، وهذا لا شـك فيـه، المؤذن يصلي عليـه بعد الأذان، ولكن ليس بلهجة الأذان الجاهرة، بل يصلي عليه في سره حتى لا يدخل على الأذان ما ليس منه؛ لأن الدين دين طاعة وأدب، وليس دين أدب فقط. 

حين يأخذون علينا هذا يجب أن نحمد لهم أنهم نبهونا إلى شـيء لم يكن وجوده ضرورة في الدين، ولكن وجوده أدخل التشـكك في نفوس غيـر المتدينين ليدخلوا منـه على الدين، فقالوا: 

أي الإسـلام خير؟ هذا يقول: ذاك باطـل، وذاك يقول: هذا باطل، وهكذا إذن فما أحرانا أن نتجنب هذه الأشياء.

نحن نحب رسـول الله، ونعظمه، ونبجله، ونوقره، ونزداد منزلـة عند اللـه عندما نصلي عليـه، ولكن لكل مقـام مقاله التشـريعي، فمـا دام ذلك لم يـرد فـي الأذان فليصل المؤذن والسـامع في سـره على رسـول الله صلى الله عليه وسلم. وبذلك نقطع على مريـدي الكيد للإسـلام منفذا يدخلون منه على الإسـلام، مما يُغضب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هناك أشـياء كثيرة يكون الأدب فيها شـيئا ً والطاعة شيئا ً آخر.

وكذلـك يقولون: قولوا لنا: أتقولون أيها المسـلمون: اللهم صـل على محمـد، أم اللهم صل على سـيدنا محمد؟ ونقول: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أم أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله؟ 

ونقول: أما الشهادتان فرسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وصلّوا كما رأيتموني أصلي "[3]. وحين كان يصلي كان يقول في تشهده: وأشهد ان محمدا ً رسول الله، فإن أردنا الطاعة فلنفعل هذا.

ولكـن النـاس ينفعلـون عنـد ذكر رسـول اللـه بالحب، فيسـتنكفون أن يذكروا اسـم رسـول الله دون أن يقدموا له بسيدنا، وهم مشكورون على هذا، ولكن الأدب شيء والطاعة شيء آخر. 

الطاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي«

ولكـن الذين وقفوا ضد هذه المسـألة ليخطئوا من يحذف السـيادة حاولوا أن يحتجوا لذلك، وما كان أغناهم أن يحتجوا بأن رسـول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل: وأشـهد أن سيدنا محمدا رسول الله في التشـهد؛ لأنه لا يقول عن نفسـه هذا، ما كان أغناهم عن أن يلتمسوا دليلا؛ لأننا نصلي كما صلى، وهو مطلوب منه أن يصلي على نفسـه، ولم يقل: اللهم صل على سيدنا محمد، فنحن نصلي مثله. إذن ليس في ذلك قدح. 

أرأيت لو أنك قرأت القرآن كله في ركوعك، ولم تقل سبحان ربـي العظيـم، أكنت قد أديـت الصلاة كما يريدهـا الله؟ ولو قرأت القرآن مكان التشـهد ما نفعك. فالطاعة شـيء، والأدب شيء آخر. 

وما يدرينا أن الله تعالى يأتينا بأشياء قد يتطلب الأدب فيها وصفـا ً، ولكنه يريد بأمره أن يخرجنا عن هذا الأدب، العبودية التزام، لا عبودية أدب فقط. 

إذن ما أغنانا عن الدخول في هذه المتاهات. 

وعلى الذين يأتون بعد الأذان ويعلنونها صلاة أن يصلوا في نفوسهم سـرا، وما على الذين يؤدون التحيات إلا أن يؤدوها كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

---------------------------------------------------------------------

[1] بنحوه في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنهما برقم 946.

[2] رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- برقم: 11.

[3] رواه البخاري عن مالك بن الحويرث، برقم 631،6008،7246

  • الاربعاء PM 10:50
    2022-08-24
  • 930
Powered by: GateGold