ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
تفكيك الصهيونية
تشيع بين جماهير أي حركة سياسية مجموعة من الشعارات القادرة على تحريكها لأنها تلخص بشكل مثير ومكثف وسريع مجموعة المقولات التي تشكل ثوابتها المرجعية دون أن تدخلها في متاهات المفاهيم والفكر والفلسفة. فحينما طرحت الحركة القومية المصـرية (قبـل ١٩٥٢ ( شعار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" على سبيل المثال، أو حينما طرحت ثورة يوليو/تموز "الاتحاد والنظام والعمل "، (في مراحلها الأولى) أو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" (بعد ١٩٦٧ ،(كانت هذه الشعارات تعبر عن شىء حقيقي وعن بناء نظري متكامل يمكن أن يمـلأ صفحات وصفحات. ولكن هذه الصفحات الكثيرة يمكن اختزالها في نهاية الأمـر والتحليـل الأخير إلى ثوابت قليلة، كما يمكن اختزال الثوابت بدورها إلى شعارات مثيرة.
ويمكن لهذه الشعارات الجماهيرية أن تعبر عن رؤيـة تحريريـة مناهضـة للظلـم والاستغلال والاستعمار (مثل الشعارات التي أدرجناها من قبل) ويمكن أيضا أن تكون تعبيرًا عن رؤية عنصرية استعمارية ظالمة مثل شعار الإمبريالية الغربية "عبء الرجـل الأبـيض" وشعار النازية "ألمانيا فوق الجميع" وبعض شعارات الصهيونية مثل: (وطن قومي لليهود على ضفتي النهر [نهر الأردن].
ويبدو أن الشعارات السياسية، حتى تزداد قيمتها التعبويـة وحتـى يسـهل حفظهـا والتصاقها بالوجدان الشعبي، تأخذ عادة شكل صيغ لفظية متناسقة بل وهندسـية فـي بعـض الأحيان. وقد يكون هذا على حساب مضمونها، وقد يؤدى إلى مزيد من الاختزاليـة الفكريـة لتحقيق الهندسة اللفظية.
وتعبر هذه الشعارات (بشكل مبتسر ) عن شيء أساسي له مـا يقابلـه فـي الحقيقـة الموضوعية التاريخية وفي طموحات الجماهير وفي مشروعها القومي، ً تحرريا إنسانياً كان أم استعمارياً عنصرياً، هذه الشعارات تشكل ما يشبه الخريطة المعرفية التـي تحـدد توقعاتهـا الجماهير وحركتها وسلوكها. ومن هنا تكمن أهمية دراسة هذه الشعارات الشائعة في حياتنـا وحياة الآخر وتفكيك المفاهيم الكامنة ورائها وإعادة تركيبها حتى يمكن فهمها حق الفهم.
ومن أهم الشعارات المطروحة الآن في الساحة السياسية في العالم العربـي الشـعار القائل بأن الصراع مع العدو الصهيوني "صراع وجود لا صراع حدود". وهذا الشعار مطروح منذ مدة طويلة، ونحن نذهب إلى أنه يعكس بعدًا مهمًا للصراع العربي الإسرائيلي. ولتوضيح وجهة نظرنا قد يكون من المفيد أن نبدأ بتصنيف إسرائيل والصـهيونية. فالصـهيونية فـي تصورى لا تنبع من العقيدة اليهودية ولا يمكن فهمها في ضوء مـا ورد فـي كتـب اليهـود المقدسة (التوراة أو التلمود) أو في ضوء ما ينسب -زورا - لأعضاء الجماعات اليهودية (من شر أزلى وتآمر أبدى) وإنما يمكن فهمها في إطار الحضارة الغربية، فهـي إحـدى تبـديات التشكيل الحضاري الغربي في جانبه الاستعماري الاستيطاني. وأعتقد أنـه لا يوجـد تـاريخ مستقل للحركة الصهيونية عن الفكر الغربي أو الإمبرياليـة الغربيـة، فالصـهيونية حركـة استعمارية استيطانية إحلالية تمت في كنف الإمبريالية الغربية وتحت مظلتها، وبـدون هـذه الإمبريالية لما أمكن وضع الصهيونية موضع التنفيذ.
والصهيونية، أيةشأنها شأن حركة استيطانية إحلالية أخرى، تدور في إطار الرؤيـة المادية الداروينية التي حولت العالم بأسره إلى ساحة للقتال والصراع: البقاء فيهـا لصـاحب القوة وليس بالضرورة لصاحب الحق، والتي جعلت من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية مجـرد مادة استعمالية ومجال حيوي تصدر له أوربا فائضها البشرى وسلعة البائرة وتنهـب المـواد الخام والعمالة الرخيصة.
والحركة الصهيونية الاستيطانية، شأنها شأن أ ةي حركـة اسـتيطانية أخـرى، تنكـر التاريخ: تاريخ الجماعات اليهودية وتاريخ الشعب المستهدف الذي يود المستوطنون الاستيلاء على أرضه. ولذا فالحركات الاستيطانية حركات إبادية عنصرية تنكر على السكان الأصـليين أبسط حقوقهم الإنسانية والثقافية، بل وتنكر عليهم حق الوجود ذاته. في هذا الإطـار قامـت الإمبريالية الغربية بنقل كتلة بشرية من أوربا لتوطنها في فلسطين لتحل محل سكانها الأصليين (كما فعلت مع بعض الكتل البشرية الأخرى التي تم نقلها إلـى جنـوب إفريقيـا والجزائـر والأمريكتين من قبل).
والصهيونية، شأنها شأن أية حركة استيطانية أخرى، لا تنكر تاريخ الشعب المستهدف وحسب؛ بل وتنكر الجغرافيا أيضاً، فهي مبنية على التوسع وعلى الالتهام المستمر لـلأرض، فهي بطبيعة تكوينها ذات ميول توسعية (وطن اليهود القومي - أرتس يسرائيل - مـن النيـل إلى الفرات).
استبدال الشعارات
وتعبر الثوابت الصهيونية عن نفسها فيما أسميه "الإجماع الصهيوني" الذي يشكل الحد الأدنـى الذي يلتزم به كل الصهاينة. ويمكن القول إن الإجماع الصهيوني يترجم نفسه إلـى الشـعار الصهيوني القديم "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو شعار لـه خصـائص الشـعارات السياسية فهو يعبر عن شيء أساسي في المشروع الصهيوني وفـي تطلعـات المسـتوطنين الصهاينة كما أنه يتسم بالاختزالية والتناسق اللفظي. ورغم هذا تم إخفاء هذا الشـعار بسـبب طبيعته الإبادية والإرهابية الواضحة، وتم إحلال محله مجموعة من المقـولات تتسـم بأنهـا مصقولة، تستخدم لغة حركات التحرر الوطني، ولكنها في واقع الأمر لا تقـل عـن الشـعار الأول إبادية أو عنصرية أو إرهاباً؛ إذ بدأ الصهاينة (منذ منتصف الخمسينيات) يتحدثون عـن الصهيونية باعتبارها "حركة التحرر القومي للشعب اليهودي التي تهدف إلى عودة اليهود إلى وطنهم القومي، وطن أسلافهم". وغنى عن القول أنه بمجرد فك شفرة هذا الشـعار سـيظهر الشعار القديم "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" رابضاً كالثعبان، فوراء كليهما يوجد الإجماع الصهيوني الذي ينطلق أن فلسطين هي "أرتس يسرائيل" (أرض بلا شـعب) وأن الجماعـات اليهودية المنتشرة في بقا ع الأرض هي في واقع الأمر الشعب اليهودي الواحد الـذي يطمـح للعودة إلى أرضه (شعب بلا أرض)، وأن له حقوقاً مطلقة في هـذه الأرض. وإن تصـادف ووجد شعب آخر في "أرتس يسرائيل" فليس له حقوق تاريخية جوهرية، وإنما حقوق عرضية.
هذا هو جوهر الإجماع الصهيوني الذي تتفرع عنه كل المطالب واللاءات الصهيونية الأخرى:
١ - لا يمكن أن يوجد جيش غير جيش إسرائيل بين البحر المتوسط والضفة الغربيـة لنهر الأردن.
٢ - لا يمكن فك المستوطنات القائمة بالفعل.
٣ - القدس هي العاصمة الموحدة والأزلية للدولة الصهيونية.
٤ - سياسة الأمر الواقع هي السياسة الوحيدة التي يمكن اتباعها مع العرب.
٥ - الكيان الفلسطيني الذي ينشأ في الضفة والقطاع لابـد أن يكـون كيانـاً سياسـياً منقوص السيادة منزوع السلاح، خاضعا للسيطرة الإسرائيلية.
٦ - السيادة الفلسطينية تشمل الفلسطينيين وحسب، ولا تشمل بأية حال الأرض.
٧ - لن يقدر للمستوطن الصهيوني البقاء بدون الدعم الغربي عامة والأمريكي خاصة. هذا الإجماع هو ما يتحرك داخله كـل الصـهاينة، متطـرفهم ومعتـدلهم، يمينـيهم ويساريهم، رأسمالييهم واشتراكييهم. وينطلق هذا الإجماع من أن الوجود الصـهيوني يفترض الغياب العربي (ومن ثم فالعكس صحيح)، وأن الحد الأدنى الصهيوني يتطلب غياب العرب أو على الأقل تهميشهم، فوجودهم عرضـي، أمـا الوجـود اليهـودي فجوهري وحقوقهم مطلقة.
وقد اكتسب شعار "صراع وجود لا صراع حدود" حدة وجدة مع تسارع عملية السلام. فقد طرح دعاة التطبيع ووهم السلام شعارات مضادة متصورين أنهم سيمكنهم تجنيد الجماهير وراءها فبدأوا يتحدثون عن "النظام العالمي الجديد المبنى على العـدل والتفـاهم والتفـاوض السلمي" وعن "الشرق الأوسط الجديد وعن السوق الشرق أوسطية التي سيتم تبادل السلع فيها على قدم المساواة في إطار من العدل والسلام" إلخ.
وتقف كل هذه شعارات على الطرف النقيض من شعار "صراع وجـود لا صـرا ع حدود" للسببين التاليين:
١ - يفترض الشعار الأول أن ثمة وجوداً عربياً يود التحقق ً تاريخيا وحضـارياً فـي
العصر الحديث، أما الشعارات الأخرى فهي تنفي مثل هذا الوجود، ومن هنا الحـديث عن الشرق الأوسط أي أن شرقنا العربي ليس شرقاً ت، وليس له ذاكرة تاريخية محددة، وإنما هو رقعة جغرافية، مكان بلا زمان، يمكن أن يتحرك فيه أي إنسان "طبيعـي "، ليست له أي خصوصية حضارية.
٢ - المكان الذي يوجد في اللازمان يتواجد فيه بشر لا ذاكرة لهم ولا تاريخ، دوافعهم اقتصادية بسيطة، يمكن التنبؤ بها (ومن هنا نذهب إلى أن ما بعد الحداثة هي في واقع الأمر أيديولوجية النظام العالمي الجديد، فهي تذهب إلى إنكـار المعياريـة والـذاكرة التاريخية، حيث يتحول العالم إلى قصص صغيرة بلا مركز، ليس لهـا أي شـرعية خارج حدودها، فتسقط الإنسانية المشتركة، وتسقط معها أحلام الإنسان الثوريـة فـي تجاوز واقعه وتغييره).
لكل هذا فإن ما قد ينشأ من مشاكل بين مثل هؤلاء البشر لا يمكن أن تكون إلا مشاكل اقتصادية كمية يمكن حسابها وحلها ببساطة عن طريق المفاوضـات، أي أن الصـراع هـو "صراع حدود" وحسب، ولا داعي للحديث عـن الحقـوق التاريخيـة والكرامـة والأصـالة والقصص الكبرى والكلمات وما شابه من قيم ومعايير "بالية" تستدعى التراث والتاريخ والهوية الإنسانية والتاريخ العربي ومن ثم تؤدى إلى "صرا ع وجود" ي، أ أن الشـعارات المطروحـة تهدف إلى تفكيك مفاهيم المقاومة والرفض لصالح مفاهيم السلام المبنـى علـى الحـرب، أي السلام الذي يترجم موازين القوى إلى واقع سياسي ينهائ .
نحو مشروع حضاري عربي
ولكن هناك في الواقع العربي والإسرائيلي ما يعطى شعار "صراع الوجود " مضموناً متجـدداً حيوياً. ولعل أولى هذه العناصر هو المشروع الحضاري العربي، فلا تزال معظم الجمـاهير العربية تطمح نحو قدر من الوحدة (القصة العربية الكبرى) يضمن لها موطئ قدم في الألفيـة القادمة، أو يمكنها أن تتحدث بصوت مسموع في عالم التكتلات الكبرى والشركات العملاقـة والعولمة التجارية التي تمسك بخيوطها الدول الكبرى خاصة الولايات المتحـدة الأمريكيـة. ويرى الكثيرون أنه بدون هذه الوحدة سيتحول العالم العربي إلـى جـزر متنـاثرة ضـعيفة، وقصص صغرى عديدة لا يربطها رابط، دويلات دينية وإثنية صغيرة، تشبه إسـرائيل فـي بعض الوجوه، دون أن يكون لها ما لدى إسرائيل من قوة عسكرية وسياسية وإنتاجية، توصلت لها أساسا من خلال الدعم الغربي المستمر والمكثف. ويشعر الكثيرون أن من صالح إسرائيل والغرب - أن تملي شروطها على هذه الجزر المتناثرة بدل أن تتحاور، على مستوى الندية، مع عالم عربي يتسم بقدر من الوحدة. فالغياب العربي هو ما تنشده إسـرائيل ومـن ورائهـا الغرب.
المشكلة السكانية
ولكن هناك مشكلة أعمق من كل هذا تؤدي إلى طرح شعار "صراع وجود لا صراع حـدود" على شاشة الوعي الإسرائيلي، وهو ما نسميه بالمشكلة الديموجرافيـة (السـكانية) فالجيـب الاستيطاني الإحلالي الصهيوني لم ينجح في إبادة السكان الأصليين لعدة أسباب من بينها مـا يأتي:
١ - يتكون الفلسطينيون من كتلة بشرية موحدة، في غاية التركيب والوعي، قادرة على استخدام كل الأسلحة الممكنة بما في ذلك الإعلام، ومثل هذه الكتلـة ليسـت سـلبية، تجلس في مكانها بلا حراك، وعدوها يذبحها ذبح الشاة.
٢ - منذ بداية القرن التاسع عشر (تاريخ الاستيطان الصهيوني) أصبح العالم أصـغر في حجمه بسبب وسائل المواصلات ووصول الإعلام إلى كل أرجائه، وقد تزايـدت هذه العملية، مما يجعل عمليات الإبادة أمرًا مستحيلا، فهي عادة ما تـتم وراء سـتار كثيف من الصمت، حتى لا يحتج أحد.
٣ - توجد فلسطين في وسط العالم القديم ومن ثم يصعب إبادة سكانها.
٤ - تحيط بالفلسطينيين دول عربية تضم جماهير متعاطفة مع الفلسطينيين وقضـيتهم وتزودهم بالعون.
وقد أدى فشل الجيب الصهيوني في تصفية السكان الأصليين إلى عدة نتائج من أهمها ما يسمى بالمشكلة الديموجرافية (السكانية)، أي تزايد عدد الفلسطينيين بدرجة كبيـرة، مما يهدد الطابع اليهودي الإحلالي لهذا الجيب.
ومما فاقم هذه المشكلة عنصران:
١ - جفاف ينابيع المادة البشرية الاستيطانية (خاصة بعد الهجرة السوفييتية الأخيـرة، واضعين في اعتبارنا أن يهود العالم الغربي لا يهاجرون البتة) وضم الجيب الصهيوني للضفة الغربية وغزة عام ١٩٦٧ اللتين يتسمان بكثافة بشرية عربية.
٢ - تزايد الفلسطينيين لا كما وحسب، وإنما كيفا أيضـا. إذ يتزايـد عـدد المواليـد الفلسطينيين ويزداد عدد المتعلمين بينهم ويتحسن أداؤهم وتتزايد مقاومتهم يوما بعد يوم.
وكان من شأن هذا كله أن يؤدي إلى اتضاح زيف الافتراض الصهيوني المبـدئي أن فلسطين أرض بلا شعب، مما يعني أن فرض الأسطورة الصهيونية على الواقع يحتـاج إلـى مزيد من العنف.. ولكن العنف لا يؤدي إلى تخفيف وطأة الهاجس الأمني، فالإسرائيلي يعيش في خوف دائم من العرب، وهو محق في خوفه هذا. فقد اغتصب أرضهم وشردهم وهو يعلم أنهم لن يستسلموا ولن يقبلوا وضعهم هذا بكل ما يتضمنه من ألم، ولذا نجد أن كـل اتفاقيـات "السلام" اتفاقيات أمنية تهدف بالدرجة الأولى لتحقيق أمن إسرائيل، هذا الشىء المستحيل (وقد أخبرني أحد الأطباء النفسيين في فلسـطين المحتلـة عـام ١٩٤٨ أن المرضـى النفسـيين الإسرائيليين قد استبعدوا العربي تماما من أحلامهم وكوابيسهم، مما يعني أن خوفهم قد بلغ من العمق أنه تم استبعاد العرب تماما، حتى على مستوى اللاوعي).
ولاشك في أن الإسرائيليين يعرفون مصير ممالك الفرنجة كما يعرفـون أن الجيـوب الاستيطانية الإحلالية التي قدر لها البقاء (مثل أمريكا الشمالية وأستراليا) نجحت لأنها أبـادت السكان الأصليين، أما تلك التي لم تنجح في ذلك (مثل الجزائر وأنجولا وجنوب إفريقيا) فقـد تم تصفيتها، وهو يعرف أنه لا يوجد أي سبب لآن يمثل الجيب الاستيطاني الصهيوني استثناء لهذه القاعدة التاريخية العامة.
لكل هذا تعمق لدى الإسرائيليين أنفسهم الإحساس بأن الصراع هو صراع وجـود لا صراع حدود أو لعلهم لا يصرحون بذلك لأن المسرح الدولي لم يعد يسمح بـذلك، والنظـام العالمي الجديد يتطلب من الجميع أن يدخلوا في مفاوضات سلمية باردة بدلا مـن مواجهـات عسكرية ساخنة، والصهاينة الذين تملكوا عبر تاريخهم ناصية الخطـاب الإعلامـي ونمـوا وترعرعوا في ظلال المظلة الغربية التي يقال لها دوليـة، لابـد وأن يسـايروا مثـل هـذه المتطلبات. ولذا فهم يطلقون التصريحات الوردية ويرحبون بالمفاوضات السلمية، ولكن هناك دائما أرض الإجماع الصهيوني الصلبة يقفون عليها لا يتزحزحون ويكشرون عن أنيـابهم إن طلب منهم التنازل عن أي شيء يمس هذا الإجماع.
التحدي الحضاري
الصراع إذن صراع وجود وليس صراع حدود، ولكن هل هو أيضا صراع حضـاري؟ هـل يشكل الوجود الإسرائيلي تحدياً حضارياً بالنسبة لنا.
يجب أن نشير ابتداء إلى أن التحدي الحضاري ليس مجرد إنجاز تكنولوجي أو تفوق عسكري وإلا اضطررنا للقول بتفوق التتار على العرب لأنهم عبروا نهر دجلة على كـوبري من المخطوطات العربية، ولقلنا بتفوق البرابرة على الرومان لأنهم نجحوا في غـزو رومـا وتحطيم منجزاتها الحضارية.
وإذا نظرنا إلى التجمع الاستيطاني الصهيوني الذي يمثل تحدياً حضارياً - حسب رؤية البعض - لوجدنا بالفعل تجمعاً حقق تفوقاً عسكرياً لا يمكن إنكاره ولكنه تفـوق لـم يحـرزه بإمكانياته الذاتية، وإنما بسبب الدعم الاقتصادي والعسكري الغربي. وهذا التجمع لا توجد فيه حضارة متجانسة، فكل مستوطن صهيوني أحضر معه من وطنه الأصلي خطابـاً حضـارياً مختلفاً. وقد ادعت الدولة الصهيونية في بداية الأمر أنها ستمزج الجميع فـي بوتقـة يهوديـة عبرانية جديدة ليخرج منها مواطن جديد وما حدث هو أن الخطاب الحضاري الجديد المزعوم لم يتشكل، وظهر بدلا منه واقع حضاري غير متجانس.
والتجمع الصهيوني ليس ً مجتمعا، وإنما هو تجمع يتسم بالشذوذ البنيوي غُـرس فـي المنطقة بمساعدة القوة العسكرية الغربية ومن خلال دعمها الاقتصادي والسياسي والعسـكري ليقوم بدور عسكري لصالح الحضارة الغربية. ومن ثم فهو يشكل تحديا عسكريا وحسـب، لا تحديا حضاريا. بل إنه تحد عسكري جعلنا ننحرف عن الاستجابة للتحدي الحضاري الأصلي الذي طرحته علينا الحضارة الغربية الحديثة.
ويمكن القول إنه لا يمكن الاستفادة من الدولة الصهيونية في عمليـة تحـديث العـالم العربي للسببين التاليين:
١ - تقف عملية تحديث العالم العربي ضد مصالح الدولة الصهيونية والعالم الغربـي، فالتحديث يعني وصول نخب حديثة رشيدة غير فاسدة إلى سدة الحكـم سـتحاول أن تسلك طريق التنمية المستقلة وتحاول أن تبيع المواد الخام بما في ذلك البترول بأسعار معقولة، ولا تبدد عوائده في مظاهر استهلاكية تافهة مسفة وإنما تعيد اسـتثماره فـي الاقتصاد الوطني. وهذه النخب ستكون مدركة للأمن القومي العربي وضرورة تحديث الجيوش العربية. وهي ً أخيرا ستدرك ضرورة الدخول في شكل من أشـكال الوحـدة وعالم العولمة . وكل هذه التوجهات هي ولا شك في غير صـالح إسـرائيل والـدول الغربية.
٢ - لا تصلح إسرائيل أن تكون نموذجاً يُحتذى، فهي نموذج غيـر قابـل للتكـرار، فالتجمع الصهيوني ككل لا يعتمد على موارده الطبيعية أو الإنسانية، وإنما يعتمد على الدعم المادي والعسكري والسياسي المستمر والمكثف من العالم الغربـي، ولا يمكـن تفسير كثير من إنجازات هذا الجيب الاستيطاني إلا في ضوء هذه المعونـات التـي تصب فيه باعتباره ً جيبا استيطانياً إحلالياً أسس ليكون بمثابة قاعدة أمامية للاسـتعمار الغربي في العالم العربي.
لكل هذا لا تشكل إسرائيل أي تحد حضاري لنا، فالتحدي الحضاري الحقيقي يأتي لنـا من الغرب الذي طور منظومته التحديثية وأسس بنيته التحتية مـن خـلال عمليـات النهـب الإمبريالي المستمر. لذا فمنظومته التحديثية داروينية إمبريالية منفصلة عن القيمة، أدت إلـى تفكيك الإنسان والطبيعة، والتحدي الحضاري الحقيقي هو كيف نطور منظومة حداثية جديـدة تنطلق من قيمنا الحضارية والأخلاقية، لا تنزع ً منزعا داروينياً إمبريالياً، وإنما ترى الإنسـان باعتباره مستخلفا في هذه الأرض، ً مؤتمنا عليها، فهو لا يغزوها فيدمرها ويدمر نفسه، وإنمـا يستفيد منها وفي الوقت ذاته يحتفظ بتوازنه معها ومع نفسه. وإسرائيل، الدولـة الصـهيونية، التي غزت أرضنا واستولت عليها وأبادت من أبادت وطردت من طردت وأدخلتنا في سـباق تسلح لاهث وحروب مستمر ،ة لا يمكنها أن تكون جزءاً من مشروعنا الحضاري هذا.
-
الخميس PM 04:16
2022-08-18 - 1523