المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409121
يتصفح الموقع حاليا : 249

البحث

البحث

عرض المادة

الصهيونية: حركة قومية أم حركة عقارية؟

يحاول الصهاينة الدفاع عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بشتى السبل وباستخدام كل أنواع الاعتذاريات. ومن أطرف هذه الاعتذاريات (وأكثرها وقاحة) القول بأن الصهاينة قد "اشترواالأرض الفلسطينية من أصحابها ودفعوا ثمنها من حر مالهم وكأن الأوطان عقار. وقد لجأ نتنياهو لنفس الحجة في الدفاع عن "حق" الصهاينة في مستوطنة أبو غنيم. وهذه الحجة البلهاء الوقحة لها تاريخ طويل ولفهمها لابد من العودة إلى بعض المفاهيم الأولية.  

وبداية يمكن القول إن ارتباط الإنسان بوطنه ارتباط قد يُفسر في بعض جوانبه على أسس مادية اقتصادية، ولكنه لا يرد برمته إلى الدوافع الاقتصادية وحسب، فهو ارتباط لا يمكن تفسيره إلا على أسس أكثر تركيباً (الذاكرة التاريخية المشتركة – الإحساس بالأمن وسط مجموعة بشرية ينتمي إليها الإنسان – مجموعة القيم المشتركة – رؤية المستقبل... إلخ).  فالإنسان الاقتصادي المحض، الذي يبيع ويشتري كل شيء، هو كائن مستحيل، فمهما بلغت مادية الإنسان يظل هناك جزء ما يتجاوز عالم الاقتصاد والمادة.  

ولكن هناك جماعات من البشر وجدوا أنفسهم في موقع يضطرهم للقيام بوظيفة محددة  (التجارة – الربا – جمع الضرائب... إلخ) يطلق عليها علم الاجتماع الغربي "الجماعات التجارية الهامشية". وقد قمت بتطوير المفهوم ليصبح "الجماعات الوظيفية"، ثم طبقته على أعضاء الجماعات اليهودية الذين اضطلعوا بدور التجار والمرابين داخل التشكيل الحضاري الغربي. فأعضاء هذه الجماعات يقتربون إلى حدٍّ كبير من هذا الإنسان الاقتصادي المحض، وعلاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه هي علاقة تعاقدية نفعية باردة، فهم ينزعون القداسة عن كل الأشياء، وكل شيء يصبح مباحاً لهم، وتصبح أرض الوطن بالنسبة لهم عقارات تباع وتُشترى، فهم حبيسو تجربتهم التي حولتهم إلى أدوات اقتصادية، ولذا فهم يدركون البشرية من خلال تجربتهم ويسقطون دوافعهم على الآخرين.  

ونحن نرد على هذا بقولنا أن هذا ليس جزءاً من طبيعة اليهود على وجه العموم، بل إنه جزء من الموروث الاقتصادي ليهود العالم الغربي . والصهيونية هي حركة سياسية نبتت من هذا الموروث. ولذا، فإننا نجد أن الفكر الصهيوني يدور في نطاق رؤية تعاقدية وظيفية نفعية ضيقة سواء في رؤيته لليهود أو في رؤيته للآخر، إذ أن الصهاينة يرون أن العالم بأسره إن هو إلا سوق تُباع فيها الأشياء وتُشترى، وضمن ذلك ما يسمى "الوطن القومي "، ويبدو أنه، في المراحل الأولى للحركة الصهيونية، ساد تصور بين المفكرين الصهاينة مفاده أن الحصول على هذا الوطن يمكن أن يتم من خلال عملية تجارية رشيدة عبر المقايضة والمساومة والسعر المغري. وكان هرتزل يتصور أن الحركة الصهيونية، ممثلة الشعب اليهودي، ستقوم بشراء العريش أو أوغندا أو فلسطين من أصحابها. فالأرض هنا ليست وطناً وإنما هي عقار، وعلاقة الإنسان بها ليست علاقة انتماء وكيان وإنما هي علاقة نفعية تعاقدية تشبه علاقة الجماعة الوظيفية بالمجتمع المضيف. وحينما نشر هرتزل كتابه دولة اليهود، اتهمه بعض اليهود بأنه تقاضى مبلغاً ضخماً من شركة أراضٍ بريطانية كانت تود القيام بأعمال تجارية في فلسطين فتم تفسير الحلم القومي على أنه مشروع تجاري. وعلق هو على هذا الاتهام بقوله: "إن اليهود لا يصدقون أن أي شخص يمكن أن يتصرف مدفوعاً باقتناع أخلاقي". وكان هرتزل يتصور، في واقع الأمر أن العالم حانوت أو سوق كبيرة، فحينما ذهب لمقابلة جوزيف تشامبرلين (وزير المستعمرات البريطاني) ليطلب منه قطعة أرض ليقيم عليها وطناً، كان يتخيل أن الإمبراطورية الإنجليزية مثل دكان كبير للعاديات لا يعرف مالكه عدد السلع فيه على وجه الدقة، وتخيل هرتزل نفسه زبوناً يطلب سلعة اسمها "مكان لتجمع الشعب اليهودي" ويحاول مع صاحب الدكان أن يبحث له عن مثل هذا المكان/السلعة في بضاعته.  

لكن هرتزل كان ينوي المتاجرة في عدة بلاد حتى يكسب إحداها في نهاية الأمر ومجاناً (فالطفيلية هي إحدى سمات الجماعة الوظيفية في آخر مراحل تطورها). وعلى سبيل المثال، حاول هرتزل أن يحصل على امتياز شركة أراضٍ في موزمبيق من الحكومة البرتغالية دون أن يدفع فلساً واحداً، وذلك بأن يعد بسداد الديون ويدفع ضريبة فيما بعد. ثم يوضح هرتزل للقارئ نواياه قائلا " على أني أريد موزمبيق هذه للمتاجرة عليها فقط وآخذ بدلاً منها جزيرة سيناء مع مياه النيل صيفاً وشتاءً، وربما قبرص أيضاً دون ثمن"، فالمسألة كلها تبادل وتعاقد وعلاقات موضوعية رشيدة.  

ويؤمن هرتزل بأن الدولة اليهودية ذاتها سلعة مربحة ناجحة، فهو يوضح أن الجمعية اليهودية ستعمل مع السلطات الموجودة في الأرض، وتحت إشراف القوى الأوربية: "وإذا وافقوا على الخطة فإن هذه السلطات ستستفيد بالمقابل، وسندفع قسطاً من دينها العام ونتبنى إقامة مشاريع نحن أيضاً في حاجة إليها، كما سنقوم بأشياء أخرى كثيرة. وستكون فكرة خلق دولة يهودية مفيدة للأراضي المجاورة لأن استثمار قطعة أرض ضيقة يرفع من قيمة المناطق التي تجاورها"

والرؤية الصهيونية التعاقدية (التي تضع لكل شيء سعراً مهما سمت مرتبته ) تفترض أن فلسطين (هي الأخرى) سلعة، بل سلعة غير رائجة لا يود أحد شراءها سوى المعتوهين من اليهود. ويقدر هرتزل الثمن لفلسطين الحقيقي، بمليونين من الجنيهات فقط (حيث أن العائد السنوي منها عام ١٨٩٦ كان –حسب تصوره وحساباته الحقيقية أو الوهمية – حوالي ٨٠ ألف جنيه). ولعله أخذ في الاعتبار سعر الفائدة والتحويل. وقد وافق كثير من الصهاينة على هذا الثمن الواقعي أو التجاري، إلا أن السمسار السياسي يعرف أن الثمن التجاري يختلف عما يجب أن يُدفع عندما يحين وقت البيع والشراء، وهو لهذا يجب أن يرفع السعر إلى عشرين مليون جنيه تركي دفعة واحدة، يدفع منها مليونين لتركيا والباقي لدائنيها.  

بل ويبدو أن هرتزل كان يحاول الحصول على فلسطين بالمجان مثل أي سمسار غشاش من أعضاء الجماعات الوظيفية المالية الذين تفوقوا في الغش التجاري. فقد ذهب إلى السلطان عبد الحميد خاوي الوفاض، ودوَّن في مذكراته أنه لو عُرضت عليه فلسطين الغالية نظير سعر مخفض لشعر بالحرج لأنه لا يحمل معه كل المبلغ. إن كل ما يريده من السلطان هو وعد ببيع فلسطين له، وهذا الوعد سيكون له بمثابة السلة التي يستخدمها المتسولون لجمع التبرعات. وإن لم ينجح التسول، فإن هرتزل لن تعجزه الحيلة، فهو يقرر أن يقبل الصفقة على أن يطلب بعض الامتيازات من تركيا (مثل احتكار الكهرباء) حتى يتسنى له الدفع بيسر.  

ولا يقتصر هذا التصور التجاري التعاقدي للوطن القومي اليهودي بأي حال على هرتزل وحده. فها هو موسى هس يؤكد أنه لا توجد أية قوة أوربية تفكر في منع اليهود من شراء أرض أجدادهم ثانيةً. وهو يتصور أن تركيا سترد لهم وطنهم نظير حفنة من الذهبكما أن تصور ليلينبلوم فكرة شراء الوطن ليس مغايراً لفكرة هس: "على رجالنا الأغنياء أن يبدأوا بشراء العقارات في تلك الأرض، ولو ببعض مما يملكون من ثروة. وما دام هؤلاء لا يرغبون في ترك أراضيهم التي يسكنونها الآن، فليشتر كل منهم قطعة أرض في أرض إسرائيل ببعض من مالهم حيث تُعطى هذه الأرض لمن يستغلها على أساس اتفاقية بشأن العائد (أو الربح) مع الشاري". ويرى بنسكر من ناحيته أن حل المسألة اليهودية يتلخص في تأسيس شركة مساهمة لشراء قطعة أرض تتسع لعدة ملايين من اليهود يسكنون فيها مع مرور الزمنوالواقع أن هذا التصور التجاري لكل أراضي آسيا وأفريقيا لم يكن أمراً غريباً على العقل الغربي الاستعماري في القرن التاسع عشر الذي كان يرى العالم بأسره حيزاً للاستغلال وأرضاً توظف بطريقة مربحة (من خلال شركات ذات براءة في معظم الأحيان).  

ولا يزال التصور الوظيفي التجاري التعاقدي قائماً حتى الآن . فحينما يتحدث وايزمان عن فائدة الدولة الصهيونية للإمبريالية ويقدم حساب التكاليف، وحينما تقدم الحركة الصهيونية الحوافز المادية والرشاوي ليهود المنفى ليهاجروا إلى أرض فلسطين، فإن العقلية التجارية تؤكد أنها لا تزال موجودة. بل وقد حاول الصهاينة فى بادئ الأمر الاستيلاء على حائط المبكى عن طريق الشراء، ومن تلك المحاولات محاولة الحاخام عبد االله (حاخام الهند) شراء الحائط عام ١٨٥٠ .ففي عام ١٨٨٧ ،حاول البارون روتشيلد شراء الحي المجاور للحائط لإخلائه من السكان، واقترح أن تشتري إدارة الوقف أرضاً أخرى بالأموال التي ستحصل عليها وتوطن السكان فيها، وهو حل يحمل كل ملامح الحلول الصهيوني (الترانسفير )، لكن طلبه قد رفض. وقبل الحرب العالمية الأولى، قام البنك الأنجلو فلسطيني بمحاولات "جادةلشراء الحائط، كما قام الصهاينة بمحاولات للاستيلاء عليه، أو التسلل إلى منطقة هضبة الحرم عن طريق تقديم رشاوى، أولاً للحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين حيث عرضوا عليه نصف مليون جنيه استرليني، ثم عرض على الشيخ سعيد العلمي مبلغ مليون دولار. وغني عن البيان أن هذه المحاولات لم تكلل لا بكثير ولا بقليل من النجاح.  

وقد أدرك بعض المستوطنين خطورة المنطق العقاري الصهيوني. فقد حذر إسحق إبشتاين الصهاينة من سطحيتهم وعجزهم عن الغوص في بواطن الأمور. وحاول أن يبين لهم أن الحق القانوني (أي العقاري) قد يكون في جانبهم، ولكن الموقف يصبح أكثر ً تركيبا إن تمت رؤيته في إطار سياسي قومي. وقد استخدم إبشتاين كلمة denationalization أي "نزع الصبغة القومية" ليصف عملية الشراء هذه، أي أنه بيَّن لهم أن الأرض ليست عقاراً وأن السيادة القومية ليست أمراً مطروحاً للبيع.  

ومع هذا، استمر الصهاينة في استخدام المنطق العقاري، فكيف نفسر هذا؟ كيف نفسر أن شخصاً في ذكاء نتنياهو ودهائه، خريج MIT ) معهد ماساشوستس للتكنولوجيا )، يمكن أن يتبنى مثل هذا المنطق الأبله؟ لابد أن صلف القوة قد أعماه تماماً عن إدراك الحقائق وجعله يتخفى وراء منطق متهافت مثل "شراء فلسطين". ولكن هناك أسبابًا أكثر عمقاً، فالصهاينة (الذين يدورون في إطار الميراث الاقتصادي للجماعة الوظيفية) كانوا في كثير من الأحيان يمنون أنفسهم بأن يكون العربي الفلسطيني حيواناً اقتصادياً يمكن تخديره عن طريق توضيح المزايا الاقتصادية الجمة التي سيجلبها الاستيطان الصهيوني، وعن طريق حثه على الرحيل إلى البلاد العربية (بعد إعطائه التعويض الاقتصادي المناسب عن وطنه). وكما قال الفيلسوف البرجماتي الصهيوني هوراس كالن: "لو حصل اللاجئون على جوازات سفر وغير ذلك من الوثائق التي تمكنهم من التحرك بحرية، ولو حصلوا على مبلغ كافٍ من المال ليشقوا به طريقهم إلى مكان من المتوقع أن يجدوا فيه سبل العيش المعقولة، وقيل لهم إن هذا هو كل ما سيحصلون عليه ولا شيء آخر أبداً، لو حدث هذا لبدأوا عندئذٍ في الاعتماد على النفس وتركوا فلسطين. ومن الصعب مهما بلغ الإنسان من عنصرية، أن يتخيل العربي كتاجر، فمن الممكن تصوره ممسكاً سيفاً تقطر منه الدماء أو إرهابياً ماكراً يقتل الأطفال، أما تصوره كتاجر فأمر مستبعد".  

فما هو مصدر هذه الصورة النمطية المستحيلة؟ أعتقد أن ما يحدث هنا هو عملية إسقاط كاملة. فأدبيات معاداة السامية تتهم اليهود بأنهم تجار ومرابون، وقد تبنى الصهاينة هذه الرؤية (فالصهيونية على عكس ما هو شائع معادية تماماً لليهود واليهودية). وكما أسلفنا، فقد وصف هرتزل اليهود بأنهم غير قادرين على تصور سلوك إنساني لا يكون دافعه الأساسي هو المال.. وتتهم الصهيونية العالمية يهود المنفى بأنهم عناصر تجارية هامشية طفيلية لا تجيد سوى فن السمسرة والبيع والشراء -وهي عناصر لا يمكن إصلاحها وشفاؤها من أنانيتها إلا من خلال المزارع الجماعية.  

لكن ما حدث أن العرب تحولوا في العقل الصهيوني والإسرائيلي إلى يهود المنفى الطفيليين الذين لا جذور لهم والذين يعانون من ازدواج الولاء ويبيعون كل شيء وأي شيء طالما أنهم يحققون ربحاً معقولاً، ولذا، فإن المتوقع من هؤلاء العرب أن يبيعوا أوطانهم. ومن هنا يرى العقل الصهيوني أن المقاومة الفلسطينية والرفض الفلسطيني للاستيطان الصهيوني مسألة لاعقلانية. وحينما يقاوم هؤلاء العرب الاستيطان الصهيونى وينتفضون ضده ويمكثون فى الأرض حتى بعد هدم بيوتهم وحتى بعد أن ترسل البلدوزرا ،ت تبدو المسألة غير عقلانية، فالمفروض أن العربي تاجر والتاجر لا يقاوم وإنما يساوم وحسب: ومن هنا أخرج نتنياهو العقلاني أوراقه العقارية البلهاء ليثبت للعالم أن حدود رؤيته لا تختلف كثيراً عن حدود رؤية صغار البقالين، وأن الصهيونية ليست حركة قومية وإنما حركة عقارية!  

  • الخميس PM 03:38
    2022-08-18
  • 632
Powered by: GateGold