المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412310
يتصفح الموقع حاليا : 286

البحث

البحث

عرض المادة

التهويد العلماني

استقر في إسرائيل خلال الأعوام القليلة الماضية مالا يقل عن نصف مليون شخص غير يهودي، نصفهم من المهاجرين والنصف الآخر من العمال الأجانب. ويشكل هؤلاء، الذين قدموا في معظمهم من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق وبعض بلدان آسيا، كتلة بشرية كبيرة بالقياس إلى إجمالي تعداد السكان في الدولة الصهيونية، وقد أصبحت تسبب الكثير من المشاكل الاجتماعية، ومن أهمها أن أعضاء هذه الكتلة البشرية، كما هو متوقع من أي بشر، يتزاوجون وينجبون. ولكن هذا الأمر البسيط والمتوقع له توابع في المجتمع الاستيطاني العنصري الصهيوني، فهو يزيد من عمق الهوة بين المتدينين والعلمانيين.  

ولفهم هذه القضية كان من الضروري تطوير مصطلحاتٍ جديدة تتلاءم مع جدة الظاهرة، وهذا ما فعله أشير كوهين، وهو من علماء الاجتماع في إسرائيل (قسم الدراسات السياسية في جامعة بارإيلان)، حيث نحت مصطلحاً جديداً هو "الاندماج الداخلي". والاندماج في الخطاب الصهيوني هو عاده اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في المجتمعات غير اليهودية. ولكن أشير كوهين لاحظ أنه لأول مرة في التاريخ تظهر عملية اندماج عكسية، أي اندماج المهاجرين والعمال غير اليهود في "المجتمع اليهودي" في إسرائيل، فهم يندمجون ثقافياً واجتماعياً (اثنياً) في هذا المجتمع ، فيتحدثون العبرية ويكتسبون طبائع الإسرائيليين ويأكلون طعامهم ويرتدون رداءهم، ولكنهم يظلون من منظور الشريعة اليهودية غير يهود، لأن هذه الشريعة تُعرِّف اليهودي تعريفاً مزدوجاً. فاليهودي هو أولاً من ولد لأم يهودية (وهذا هو الجانب العرقي أو الإثني/أو العلماني الذي يرضي العلمانيين ولهذا يكتفون به)، ولكن الشريعة اليهودية تضيف شرطاً آخر يقضي بأن اليهودي هو من يؤمن بالعقيدة اليهودية أو من تم تهويده علي يد حاخام أرثوذكسي. وهذا بطبيعة الحال لا يرضي العلمانيين، ولهذا إذا قرر أحد هؤلاء المهاجرين في المستقبل أن يتزوج من مواطنة إسرائيلية يهودية، فإن مثل هذا الزواج سيصنف باعتباره زواجاً مختلطاً، أي أنه زواج بين يهودي وغير يهودي، وهو الأمر الذي تحرمه العقيدة اليهودية.  

وقد لاحظ أشير كوهين أن هناك ما يقرب من ٢٠٠ ألف شخص، ممن لا ينطبق عليهم هذا التعريف لليهودي، غير متزوجين وعلي استعداد للزواج، أي أنهم يمثلون قنبلة موقوتة ستطرح قضية "من هو اليهودي؟" مرة أخري وبعنف على المجتمع الإسرائيلي.  

فالإسرائيليون العلمانيون يذهبون إلى أن المهاجر غير اليهودي الذي اندمج ثقافياً في المجتمع الصهيوني وربط مستقبله بمصيره، يصبح يهودياً، بل إنهم يذهبون إلي أبعد من هذا، فهم يتحدثون الآن عما يُسمى "التهويد العلماني". ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه يوسى بيلين (وزير العدل في حكومة باراك)، وكذلك يعقوف مالكين (أستاذ علم الجمال في جامعة تل أبيب ورئيس تحرير مجلة اليهودية الحرة Judaism Free ،(فهما يحددان بعض قواعد أو شعائر هذا "التهويد العلماني"، ومن بينها المعرفة الوثيقة بما يسمي "الثقافة اليهودية"، والانخراط في الحياة اليهودية الجماعية، وممارسة بعض الشعائر الدينية باعتبارها فلكلور الشعب اليهودي، وتلاوة التوراة باعتبارها كتاباً تراثياً غير ملزم دينياً أو أخلاقياً. بل إن العلمانيين يرون أن كثيراً من الشعائر والمحظورات الدينية تثير السخرية والضحك. فهم يذهبون مثلاً إلى أن أكل لحم الخنزير، الذي تحرمه الشريعة اليهودية، هو مسألة شخصية يقررها كل شخص لنفسه، وأن الشذوذ الجنسي مسألة طبيعية ولا يجوز أن تُقابل بالرفض والتحريم من جانب المتدينين، فهي مجرد أسلوب حياة يختاره الفرد لنفسه. وكل هذا يعني أن العلمانيين يرون أن من يكتسب ما يسمي الثقافة اليهودية يصبح يهودياً، بل إنهم يرون أن المعيار الأساسي هو أن يربط الإنسان المتهود مصيره بمصير "الشعب اليهودي"، أما العقيدة اليهودية وما يرتبط بها من شعائر فهذه مسائل ثانوية.  

والملاحظ أنه كلما ازداد العلمانيون شططاً في دعواتهم وأنشطتهم، ازداد الأرثوذكس بدورهم تطرفاً في المقابل، حيث وصل الأمر بهم إلى المطالبة بزيادة الحواجز بين اليهود وغير اليهود. فقد طالب الحاخام جداليا أكسيلورد (وهو يعمل قاضياً في المحكمة الدينية في محكمة حيفا الحاخامية) بأنه حتى بعد أن يتم إصدار شهادة التهويد لأحد المهاجرين غير اليهود، لابد وأن يُعاد اختبار صاحب هذه الشهادة وأسلوب حياته كل عام للتأكد من مدى تمسكه باليهودية، وكأن شهادة التهويد هي مجرد وثيقة مثل رخصة القيادة لابد من تجديدها.  

ويري أشير كوهين أن قانون العودة الصهيوني لابد وأن يُعدل لأنه فتح الباب علي مصراعيه أمام غير اليهود للهجرة والاستقرار في إسرائيل. فهو يطالب علي سبيل المثال بإلغاء البند الخاص بالأحفاد، وهو البند الذي يسمح لشخص ما بالهجرة إلي الدولة الصهيونية إذا كان جده يهودياً، حتى لو كان أبواه غير يهوديين (أي تنصرا أو تزوج أحدهما من زوج غير يهودي). كما طالب أشير كوهين بعدم الربط بين حق العودة وحق الحصول علي الجنسية الإسرائيلية! وهذا شيء مضحك للغاية يدل علي عمق الأزمة التي يواجهها الكيان الصهيوني، فماذا تعني "عودة" اليهودي إلى أرض الميعاد دون أن يحصل على الجنسية؟ هل سيجلس هناك علي حقيبته ينتظر "العودة" إلي دولةٍ أخرى تمنحه الجنسية؟ وأخيراً يطالب أشير كوهين بأن تكون المؤسسة الحاخامية أكثر مرونة في شعائر التهويد، وهي شعائر تحددت عبر مئات السنين ويصعب تغيرها أو تعديلها خاصةً مع تصاعد هذه اللهجة العلمانية وهذا الحديث الجديد عن التهويد العلماني، والذي يوحي بأن اليهودية العلمانية أصبحت متساوية مع اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية.  

وليس من الغريب أن أشير كوهين لم يتقدم بأية اقتراحاتٍ محددةٍ بخصوص تغيير شعائر التهويد، فأي خوضٍ في هذه القضية لابد وأن يصطدم في نهاية المطاف بالسؤال المعلق الذي لم يتفق المتدينون ولا العلمانيون على إجابةٍ محددةٍ له، وهو "من هو اليهودي؟"

  

أتون الصهر الإسرائيلي

  

تنطوي كل أيديولوجية إصلاحية على نزعة مثالية. ففي جنوب أفريقيا، على سـبيل المثـال، كانت أيديولوجية الثوار الأفريقيين هي إزالة النظام العنصري الذي يستند إلى التفرقـة بـين البشر على أساس اللون، وتشييد نظام جديد مبني على المساواة بين كل المواطنين دون تفرقة بسبب الدين أو اللون أو العرق. وفي الولايات المتحدة، في أواخر القرن السابع عشر، تمثلت أيديولوجية السكان البيض في ضرورة الاستقلال عن العرش البريطاني الذي كـان يسـتغلهم ويفرض عليهم الضرائب دون وجه حق.  

وثمة مسافة تفصل بين الأيديولوجية الإصلاحية والواقع الظالم، ولكنها ليست مسـافة شاسعة، خاصة وأن الأيديولوجية الإصلاحية في حالة جنوب أفريقيا والولايات المتحدة كانـت تستند إلى منظومة أخلاقية تعبر عن أنبل القيم الإنسانية" ولذا نجد أن الثـوار فـي الولايـات المتحدة وفي جنوب أفريقيا حملوا السلاح ضد القوة الظالمة الحاكمة وحاربوا ضدها وكُللـت جهودهم بالنجاح.  

       والأيديولوجية الصهيونية هي الأخرى أيديولوجية لها برنامج إصـلاحي: الاسـتيلاء على الأرض الفلسطينية وتجميع أعضاء الشعب اليهودي من كل أنحاء العالم وتأسيس دولـة يهودية خالصة. ولكن المسافة التي تفصل البرنامج الإصلاحي الصهيوني عن الواقع مسـافة أقل ما توصف به بأنها شاسعة. بل يمكن القول إنه لا توجد علاقة واضـحة بـين البرنـامج الإصلاحي الصهيوني والواقع سواء الواقع الفلسطيني أو واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. فالواقع الفلسطيني أثمر مقاومة فلسطينية مستمرة منذ أن وصل المستوطنون الصهاينة، وهي مقاومة أخذت في التصاعد والنضج إلى أن وصلت إلى ذروتها في انتفاضة الأقصـىكما أن واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم يثبت أنهم ليسوا شعباً يهودياً بل جماعـات يهودية تستمد كل جماعة منها خطابها الحضاري من المجتمع الذي تعيش فيه. ومع هذا استمر الصهاينة في محاولة تنفيذ برنامجهم "الإصلاحي". وقد عبر هذا عن نفسه مؤخراً فيما سُـمي "ميثاق طبرية" الذي وقع عليه عدد من المفكرين وقادة الرأي والقادة السياسيين والعسـكريين في الكيان الصهيوني. تقول الوثيقة إن إسرائيل تجسد حق الشعب اليهودي في تقرير المصيروهي ملتزمة بمواصلة وجود الشعب اليهودي وحقه في أن يحكم نفسـه بنفسـه فـي دولتـه السيادية. وهي دولة لها طابع يهودي واضح يجد تعبيره في التزامها العميق بالتاريخ اليهودي والثقافة الإسرائيلية وتشجيع الهجرة والاستيعاب، ونشر اللغة العبريـة وهـي لغـة الدولـة الأساسية، ولغة الإبداع الإسرائيلي المميز، كما يُقال.  

       ومنذ البداية، ارتطمت هذه الكلمات الطنانة بالواقع غير المتجانس ليهود العالم. وفـي عام ١٩٥٠ ،صدر قانون العودة الإسرائيلي الذي يؤكد أنه "يحق لكل يهودي أن يهاجر إلـى إسرائيل" ولكن من أصدروا القانون نسوا (أو تناسوا) أن يعرِّفوا من هو اليهودي الذي يحق له الهجرة إلى فلسطين المحتلة بموجب هذا القانون. ولذا لم يكن أحد يهتم بتفحص كـل مهـاجر وما إذا كان قد ولد لأم يهودية بالفعل أو أنه قد خضع لطقوس التهويد حسب الشريعة اليهودية.  

       وقد أُثيرت قضية "من هو اليهودي" عدة مرات، ولكن الأمر كان ينتهي إلى تجاهلهـا نظراً لعدم التوصل إلى حدٍ أدنى من الاتفاق حولها، وهو مـا عبَّـر عنـه أحـد المعلقـين الإسرائيليين بقوله إنه "مع مرور السنين اتضح شيئاً فشيئاً أنه لا تتوفر إمكانية لتكوين إجمـاع وطني بخصوص هذه القضية". وقد طرح البرنامج الإصلاحي الصهيوني في بدايـة الأمـر رؤية "أتون الصهر" أو مزج الجاليات (بالعبرية: ميزوج جـاليوت)، وفحواهـا أن أعضـاء الجماعات اليهودية سيحضرون إلى إسرائيل ويتخلون ً تدريجيا عن هويـاتهم القديمـة التـي اكتسبوها في المنفى ويتم صهرهم جميعاً في بوتقة واحدة فيكتسبوا هوية إسـرائيلية جديـدة، وبذلك يتحقق الحلم الصهيوني الخاص بتجميع "الشعب اليهودي" الواحد. وبالفعل كـان علـم الاجتماع الإسرائيلي يدور في إطار هذا التصور، وكان يراكم الحقائق التي تؤكد هذا الـزعملاحظ على سبيل المثال الاختفاء التدريجي للأحزاب التي تستند إلى أساس عِرقـي وظهـور الأحزاب الأيديولوجية التي سيطرت على المسرح السياسي في الدولة الصهيونية حتى نهايـة الستينيات.  

 ولكن بمرور الوقت بدأت أسطورة "أتون الصـهر" تتآكـل، وبـدأ علـم الاجتمـاع الإسرائيلي يعترف تدريجياً بأن هناك أمتين واحدة غربيـة (أشـكنازية) والأخـرى شـرقية (سفاردية)، ثم بدأ الانقسام الديني العلماني في التيلور، وعادت الأحزاب العِرقية إلى الظهور، فهناك حزب "شاس" (السفاردي) وهناك أحزاب روسية وأخرى دينية أشكنازية وهكذا.  

 والتركيبة السكانية الإسرائيلية (حسب بيانات عام ١٩٩٢ (تبين مدى عدم التجـانس، فالأوروبيون والأمريكيون يشكلون قرابة ٤٠ بالمئة والنسبة الباقية ذات أصول شرقية (إفريقية آسيوية) واصطلاح "أصول شرقية" اصطلاح عريض للغاية يشير إلى متحفٍ مـن الأقليـات العِرقية والدينية ليس له نظير في العالم.  

 ولنبدأ بالمهاجرين الذين جاءوا من اتحاد دول الكومنولث (الاتحاد السوفيتي سابقاً). فلم يكن الدافع وراء هجرة هذه الكتلة البشرية هو العودة إلى أرض الأجداد تحقيقاً للوعد الإلهـي، وإنما كان يشكل فرار مجموعة من المرتزقة من إمبراطورية تداعت أركانها إلى بقعـة مـن الأرض يمكنهم أن يحققوا فيها مستوى معيشياً معقولاً.  

 وقد أظهر بحث أجراه العلامة يوحانان بيريس من قسم العلوم الاجتماعية بجامعة تـل أبيب، وعُرضت نتائجه في مقال بعنوان "غرباء في بيتنا: فشل بوتقة الصـهر" بقلـم ناتاشـا موزجوفياه (يديعوت أحرونوت ٢٩ مايو /أيار ٢٠٠٠ ( ٨ ،أن بالمئة فقط مـن مهـاجري دول الكومنولث يعتبرون أنفسهم إسرائيليين. وقد شمل البحث ١٢٠٠ شخص، وتنخفض النسبة إلى ٤ بالمئة فقط بالنسبة للذين هاجروا بعد عام ١٩٧٧ !كما لُوحظ أن هؤلاء المهاجرين يبتعدون تدريجياً عن اللغة العبرية، فعدد الذين يستخدمون اللغة العبرية حتى بعد أربع سـنوات مـن التواجد في الكيان الصهيوني لا يزيد عن ٦ بالمئة. ولذا توجد عشرات المجـلات والجرائـد باللغة الروسية، كما توجد محطات إذاعة وتليفزيون باللغة الروسية، كمـا أن هنـاك حـزبين روسيين.  

       ويبدو أن أعضاء التجمع الصهيوني لم يرحبوا بهؤلاء المهاجرين الجدد، وهـذا أمـر مفهوم فهم يحصلون على امتيازات كثيرة (رغم احتفاظهم بهويتهم الروسية ورغم أن يهوديتهم أمر مشكوك فيه)، بينما توجد قطاعات كثيرة في هذا التجمع تعاني من الفقر وليس ثمة شـبهة في انتماءها اليهودي. وقد اشتكت إحدى المهاجرات الروسيات من هذا الوضع بقولهـا: "أنـا بالذات لا تبدو ملامحي كروسية نموذجية، ولكن ما أن افتح فمي لأتكلم حتى يعرفـوا أننـي روسية. وعندها يحدث هذا تبدأ التعليقات والإهانات والشتائم وعبارات الازدراء". ويتعـرض كثير من أبناء المهاجرين الروس للإيذاء بسبب انتمائهم العِرقي، بل إن ناتان شارانسكي عضو الحكومة الإسرائيلية قال: "أنا شخصياً اعتبر نفسي يهودياً إسرائيلياً من أصل روسي. ولكـن عندما ينادون عليك بكلمة "روسي"، فإنك تجد نفسك رغم أنفك فـي هـذا الإطـار الضـيقوالانتماء العِرقي الروسي هو واحد من عشرات الانتماءات الأخرى التي تبين كـذب مقولـة "الشعب اليهودي الواحد" وتقوِّض أسطورة "أتون الصهر" الذي سيقفز فيها كل مهاجر يهـودي جديد ليخرج بعد قليل مواطناً إسرائيلياً لا علاقة له بتراثه الحضاري وتاريخـه الاجتمـاعي وهويته العِرقية التي حملها من وطنه الأصلي..

  • الخميس PM 03:36
    2022-08-18
  • 693
Powered by: GateGold