المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413219
يتصفح الموقع حاليا : 309

البحث

البحث

عرض المادة

المثقف اليهودي: من هو؟

من شأن النموذج التفسيري الصهيوني، بافتراضه وجود ثقافة يهودية واحدة مستقلة، أن يخلق مشكلات لا حصر لها بخصوص عملية تعريف المثقف اليهودي. فلا يوجد نمط واحد لتناول المثقفين أو الأدباء اليهود للموضوعات اليهودية، فهناك من يتناول الموضوعات اليهودية من منظور يهودي ما، مثل الروائي الصهيوني الأمريكي مائير لفين، ولكن هناك أيضاً من يتناولها من منظور معادٍ لليهود مثل الروائي الأمريكي ناثانيل وست. وثمة فريق ثالث يتجاهل الموضوع اليهودي تماماً في كل كتاباته أو في معظمها مثل الناقد الأمريكي اليهودي ليونيل ترلنج. وهناك فريق رابع يتناول الموضوع اليهودي ولكنه يضعه في سياق إنساني عام ويرى أن غربة اليهودي الحادة إن هي إلا تعبير عن أزمة الإنسان (العلماني) الحديث، كما يفعل المخرج السينمائي الأمريكي وودي ألين والروائي الروسي أيزاك بابل. وهذا التنوع يجعل من العسير إطلاق اصطلاح «مثقف يهودي» على كل هؤلاء.  

وفي عام 1989 صدر كتاب بعنوان: (The Blackwell Companion to Jewish Culture) أي دليل بلاكويل للثقافة اليهودية، لكن هذا المعجم لا يضم سوى أسماء المثقفين اليهود داخل التشكيل الحضاري الغربي، ويستبعد كافة المثقفين اليهود من الشرق مثل يعقوب صنوع وداود حسني وغيرهما، ولعل محرري هذا المعجم قد فعلوا ذلك ليفرضوا نوعاً من الوحدة عليه. ولكن الوحدة في هذه الحالة هي وحدة غربية وليست يهودية.  

والمشكلة الأخرى هي أن هذا المعجم يضم أسماء مثقفين يهود معادين بشكل أساسي لليهودية ولا يمكن فهم فكرهم إلا في إطار تقاليد معاداة اليهود في الحضارة الغربية، فهل يُصنَّف هؤلاء على أنهم مثقففون يهود يعبِّرون عن الثقافة اليهودية بينما يُستبعد مثقفون يهود شرقيون؟  

وهناك مشكلة ثالثة وهي مجموعة المثقفين اليهود الذين يؤكدون انتماءهم للحضارة المسيحية باعتبارها مصدراً لوحيهم ولرؤيتهم للكون، مثل بوريس باسترناك ومثل إيليا اهرنبرج (في مرحلة من مراحل حياته). بل هناك فيلسوف يسمَّى ليف شستوف ظهر اسمه في كتاب عن أهم ثلاثة فلاسفة يهود في العصر الحديث ومعه مارتن بوبر وروزنزفايجولكن المعجم الذي نتحدث عنه لم يورد اسمه لسبب وجيه هو أن هذا الفيلسوف الذي وُلِد لأم يهودية يعتبر فيلسوفاً مسيحياً لأنه يتحدث عن واقعة صلب المسيح باعتبارها أهم حدث تاريخي. ورغم استبعاد معجم بلاكويل لاسمه، فقد ورد في الموسوعة اليهودية. وهناك أيضاً حالة نعوم تشومسكي، وهو من أشهر علماء اللغة في العصر الحديث ويجيد العبرية وعاش بعض الوقت في إسرائيل، ومع هذا تهمله كل الموسوعات اليهودية ربما بسبب عدائه لإسرائيل والصهيونية. فهل يمكن أن يؤدي الموقف السياسي للمثقف اليهودي إلى إسقاط إثنيته اليهودية عنه؟! وهل الانتماء الإثني اليهودي المزعوم جزء من الخطاب الصهيوني؟  

لكن إنكارنا لوجود ثقافة يهودية مستقلة ومثقفين يهود خالصين لا يعني إنكار وجود مكون يهودي أو عناصر يهودية مستقلة. كل ما نذهب إليه أن مثل هذه العناصر، إن وجدت، ليس لها مركزية تفسيرية. أي أنه، لتفسير بنية فكر فيلسوف أو مفكر يهودي ما وطبيعة أدب أديب يهودي ما، يتعين علينا تبني نماذج تفسيرية مشتقة من الحضارة التي ينتمي إليها هذا المفكر أو ذاك الأديب اليهودي بدلاً من العودة للتوراة والتلمود وتاريخ العبرانيين والكنعانيين (كما يفعل الصهاينة والمعادون لليهود). فالنماذج المشتقة من تلك الحضارة ذات مقدرة تفسيرية تفوق بمراحل مقدرة النماذج المشتقة من الثقافة اليهودية، ويمكن دراسة العناصر اليهودية باعتبارها عناصر مكملة دون أن تكتسب مركزية تفسيرية. وانطلاقاً من هذا الإطار التفسيري، فنحن نطرح في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية نموذجاً تفسيرياً جديداً مشتقاً من الحضارة الغربية الحديثة. نخن نذهب إلى القول بأن هذه الحضارة، منذ عصر نهضتها، قد هيمن عليها بالتدريج ما نسميه بالنموذج الحلولي الكموني. و«الحلولية الكمونية»  تعني أن الإله قد حل في المادة (الطبيعة والإنسان) وأصبح غير مفارق لها، وبذلك أصبح العالم (الإنسان والطبيعة) مكتفياً بذاته، لا يحتاج إلى قوة خارجة عنه، ويمكن تفسيره بدراسة قوانين الحركة الكامنة (الحالَّة) فيه. هذه الحلولية الكمونية هي الإطار الفلسفي العام للحضارة الغربية بعقلانيتها المادية منذ فرانسيس بيكون وديكارت، مروراً بهيجل وانتهاءً بنيتشه (الذي ذكَّر أوربا بأن الإله الحالّ في المادة قد مات وأصبح غير قادر على أن يعطي للعالم معنى).  والحلولية الكمونية هي الأرضية التي يدخل اليهود خلالها إلى الحضارة الغربية. لكن سيادة هذه الرؤية الحلولية الكمونية أمر لا دخل لليهود فيه، فهو أمر خاضع لحركيات الحضارة الغربية.  

ولنا أن نلاحظ أن العقيدة اليهودية ذاتها كانت قد أصبحت عقيدة حلولية كمونية بعد هيمنة القبالاه عليها منذ القرن الرابع عشر، وأن الميراث الحلولي للمثقفين اليهود في العصر الحديث (ابتداءً بإسبينوزا وانتهاءً بدريدا) قد ساهم ولا شك في جعلهم أكثر استعداداً لقبول الحضارة الغربية الحديثة بحلوليتها وكمونيتها. ويمكن أن نشير إلى تصاعد معدلات العلمنة بين الجماعات اليهودية بدرجات تفوق المعدلات السائدة في المجتمع الغربي (كما هو الحال دائماً مع الأقليات). ويمكن أن نشير كذلك إلى أن إحساس أعضاء الجماعات اليهودية بالغربة وعدم الأمن (كما هو الحال أيضاً مع أعضاء الأقليات) جعلهم تربة صالحة وخصبة لتقبل الحضارة الغربية الحديثة.  

ويمكن، أخيراً، الإشارة إلى أن موقف كثير من المثقفين اليهود يتسم بأنه موقف نقدي جذري من الحضارة الغربية يتسم بالشك المعرفي والأخلاقي وبسيطرة الفلسفات العدمية، وأن كل هذه العناصر اليهودية ساهمت ولا شك في جعل المثقفين اليهود أكثر ً استعدادا لتقبل الحضارة الغربية الحديثة وأكثر قدرة على التعبير عنها. ومعنى ذلك أن المكون اليهودي في ثقافة المثقف اليهودي الغربي قد يفسر حدة نبرته وجذريتها وعمق عدميتها وحلوليتها، قد يفسر أيضاً تزايد عدد المثقفين اليهود من الثوريين والعدميين ودعاة العقلانية المادية، ولكنه لا يفسر بأية حال ظهور المنظومة الحضارية الغربية الحديثة (العقلانية المادية)، فهذا مرتبط - كما أسلفنا - بآليات المجتمع الغربي الثقافية والاقتصادية.  

والملاحظ أن بروز أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية الحديثة ناجم عن انتمائهم إلى هذه الحضارة واندماجهم فيها واستيعابهم لها لا لانعزالهم عنها، بل إن هذا البروز يتزايد بمقدار تخليهم عن عزلتهم واستقلالهم. وليس من قبيل الصدفة أن أول مفكر يهودي بارز في الحضارة الغربية الحديثة هو إسبينوزا الذي تخلى عن يهوديته. وقد أعلن هايني أن التنصر هو تأشيرة الدخول للحضارة الغربية، فتنصَّر كما تنصَّر والد ماركس وأولاد هرتزل وأولاد موسى مندلسون ونصف يهود برلين في القرن التاسع عشر... إلخ. ولكن الأدق هو القول بأن التخلي عن العقيدة اليهودية (وليس بالضرورة التنصر) هو تأشيرة الدخول للحضارة الغربية، فليس مطلوباً من أحد أن يتنصَّر لأن مرجعية الحضارة الغربية لم تعد المسيحية وإنما العقلانية المادية أو الحلولية الكمونية. وينبغي الإشارة إلى أن المكمون اليهودي قد ينصرف إلى بنية فكر المثقف اليهودي وإلى الموضوعات الكامنة وليس إلى مضمونها الواضح. بل إنه يمكن أن يكون المضمون الواضح عالمياً وإنسانياً بل ومعادياً لليهود أو الصهيونية. وتظل البنية والمقولات الأساسية الكامنة يهودية بالمعنى المحدد الذي نطرحه، كما هو الحال مع إسبينوزا ودريدا وفرويد وكافكا. فإسبينوزا وقف موقفاً رافضاً تماماً لكل الأديان، بل واختص اليهودية بالهجوم الشرس، وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن كثير من المفكرين الغربيين من عصر النهضة، وهيمنة العقلانية المادية. ومع هذا، لا يمكن فهم حدة هذا الرفض وهذا الهجوم إلا بالعودة للقبالاه اللوريانية والتراث الماراني.  

كما أن الاهتمام الحاد لدى فرويد بالجنس يمكن رؤيته كتعبير طبيعي عن تصاعد معدلات العلمنة ومحاولة رد كل شيء إلى عنصر واحد كامن / حالّ (الجنس في حالة فرويد).

ولكن القبالاه اللوريانية كانت قد قامت قبل ذلك بعدة قرون بإنجاز هذا معرفياً وبشكل متبلوروقد وصف أحد المراجع القبالاه بأنها جنَّست الإله وألَّهت الجنس، أي جعلت الجنس نموذجاً تفسيرياً كلياً ونهائياً يُردُّ له كل شيء. وهذا ما فعله فرويد.  

وتلجأ بعض المراجع لحيلة رخيصة لتأكيد وجود حضارة يهودية مستقلة وهوية يهودية ثقافية مستقلة نابعة منها، فتتحدث موسوعة الثقافة اليهودية عن هذا الزي «اليهودي الصميم» الذي يرتديه يهود المغرب والذي يسمَّى Kubra Keswa  وهي «الكسوة الكبيرة »، وتُكتب الكلمة بحروف لاتينية، فيتصور القارئ الذي لا يعرف العربية أن هذه كلمة عبرية أو كلمة عربية عبرية لا يستخدمها سوى اليهود المغاربة! ويوجد للزي اليهودي الصميم شيء لم نسمع عنه من قبل أو بعد يسمَّى Cum وهو «الكم». ويأكل أعضاء الجماعات اليهودية في بخارى طعاماً يهودياً مميَّزاً يسمَّى Yachni أي «الياخني»، أما في اليمن فهم يأكلون طعاماً خاصاً للغاية لم نسمع عنه قط من قبل يسمَّى Khubz أي «خبز». أما في إسرائيل فإن اليهود يأكلون طعاماً موغلاً في يهوديته اسمه Falafel أي «الفلافل» والتي اكتشفت أنها طعام إسرائيلي فريد حينما كنت أعيش في مدينة نيويورك!  

ورؤساء يهود الفلاشاه نوع خاص من الحاخامات يسمونهم «قسيم» وهي صيغة الجمع العبرية لكلمة «قس» العربية (وربما الأمهرية) التي اقتبسها يهود الفلاشاه الذين دخلت على يهوديتهم عناصر مسيحية كثيرة! وحينما يحاول الإسرائيليون أن يرقصوا فهم يرقصون رقصة يهودية صميمة تسمَّى «الهورا» (من أصل روماني) أو رقصة يهودية أخرى تسمَّى «الدبكة»! وحينما ترتدي مضيفات شركة العال زي الفلاحة الفلسطينية، فهذا زي إسرائيلي نابع من الثقافة اليهودية. وحينما أسس متحف في قرى حيفا على هيئة قرية عربية، ذكر كتيب المعرض للزائرين أن هذه قرية من حوض البحر الأبيض المتوسط، وذلك حتى يمكن تحاشي ذكر كلمة «فلسطين» وحتى يختبئ الأصل الحقيقي للمنتج الحضاري. لكن هل يمكن تأسيس ثقافة من خلال مثل هذا التلفيق الرخيص والعنف اللفظي الذي يبعث على الرثاء؟! قد ينجح الصهاينة في تأسيس بعض المستوطنات من خلال العنف والبطش العسكري، ولكن التجذر الحضاري أمر آخر، والقلاع الصليبية المهجورة التي لا يبكي أحد على أطلالها شاهد على ذلك.  

وما دام "الاستقلال "الثقافي اليهودي أمراً لا وجود له، فلا يمكن الحديث عن خصوصية يهودية، ذلك لأن مفهوم الخصوصية ليس له ما يسانده في الواقع الثقافي لليهودوالواقع أن ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية بل ومعتقداتهم الدينية تتسم بقدرٍ عالٍ من عدم التجانس النابع من وجودهم في مجتمعات شتى يتكيفون مع حضاراتها ويستوعبونها ويستمدون خصوصياتهم منها (فلا خصوصية يهودية واحدة عالمية كما يدَّعي الصهاينة والمعادون لليهود)، ولذا فقد يكون من الأدق الحديث عن خصوصيات الجماعات اليهودية، تماماً مثل حديثنا عن ثقافات الجماعات اليهودية، بدلاً من الحديث عن خصوصية يهودية واحدة عالمية مستمدة من معجم حضاري واحد.  

  • الخميس PM 03:34
    2022-08-18
  • 759
Powered by: GateGold