المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413270
يتصفح الموقع حاليا : 307

البحث

البحث

عرض المادة

الرؤيا والاستخارة

يظن كثير من الناس أن المستخير لا بد له أن يرى في منامه -بعد الاستخارة- رؤيا ترشده إلى الخير في الأمر الذي يستخير فيه، لذلك يحرصون على أداء الاستخارة ليلًا والنوم بعدها، وذلك ظن غير صحيح، لأنه لا يستطيع الجزم هل ما يراه رؤيا أم حديث نفس أم حُلْم شيطاني.

قال ابن الحاج المالكي -رحمه الله-: "وبعضهم يستخير الاستخارة الشرعية، ويتوقف بعدها حتى يرى منامًا يفهم منه فِعْلَ ما استخار فيه أو تَرْكه، أو يراه غيرُه له، وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب العصمة -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يُرى في المنام" (1).

وقال العلَّامة بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله-: "النوم بعد الاستخارة لعله -أي: المستخير- يرى رؤيا تدله على أحد الأمرين: عمل لا أصل له". اهـ (2).

ومن البدع المتعلقة بالاستخارة أن يشترط المستخير أن يُريه الله في منامه خُضرةً أو بياضًا إذا كان ما يقصده خيرًا، ويرى حُمْرةً أو سوادًا إذا كان ما يقصده لا خير فيه (3).

وعلى العبد إذا استخار ربه -عز وجل- أن يمضي بعد الاستخارة في الأمر الذي هَمَّ به؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثم يعزم" أي: يقدم على فعل ما استخار فيه.


(1) "المدخل" (4/ 37).
(2) "تصحيح الدعاء" ص (488).
(3) "القول المبين في أخطاء المصلين" للشيخ مشهور حسن ص (409).

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لما تُوفِّيَ رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بالمدينة رجل يُلْحِد، وآخر يُضَرِّح (1)، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فايهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (2).

وفيه: أن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما استخاروا مضوا في الأمر دون اعتبار لرؤيا أو انشراح الصدر (3)، بل انتظروا ما يسره الله، واختاره، فعملوا به.


(1) اللاحد والضارح: الذي يعمل اللَّحْد، والضَّريح، واللحد: الشق الذي يُعمل في جانب القبر لموضع الميت، لأنه قد أُميل عن وسَط القبر إلى جانبه، والضريح هو القبر، فعيل بمعنى مفعول، من الضَّرْح: الشق في الأرض.
(2) أخرجه ابن ماجه (1557)، وسنده حسن كما قال الحافظ في "التلخيص" (2/ 125) رقم (53)، وانظر: "أحكام الجنائز" للعلامة الألباني ص (183).
(3) إذ لا دليل أيضًا على انشراح الصدر، وقد ينشرح الصدر لهوًى في النفس داخَلَها قبل الاستخارة، قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "يفعل ما اتفق"، نقله عنه الحافظ في "الفتح" (14/ 422)، طبعة دار طيبة - الرياض.
وقال ابن الزملكاني -رحمه الله-: "إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر، فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه أم لا، فإن فيه الخير، وإن لم تنشرح له نفسه، قال: وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس". اهـ. من "طبقات الشافعية الكبرى" (9/ 206).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما له فيه هوًى قوي قبل الاستشخارة". اهـ. من "فتح الباري" (14/ 422)، طبعة دار طيبة - الرياض، فالذي ينوي فعل أمرٍ ما، عليه التحري حوله جيدًا، والسؤال عنه، والاستشارة فيه، فإن هَمَّ بفعله استخار فيه متجردًا من كل ميل وهوًى، ثم أقدم عليه، وباشَرَ فِعْلَ ما يريد: فإن كان خيرًا يسره الله، وإن كان شرًّا صرفه الله.

[دلالة رؤى الأنبياء على الأحكام]

[رؤى الأنبياء عليهم السلام]

لا خلاف في ترتب الأحكام الشرعية على رؤى الأنبياء -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- لأنها وحي من الله -عز وجل-، فالرؤى وسيلة من وسائل تلقي التكاليف الشرعية، والنواميس الإلهية التي بها تنتظم أمور العباد مما يتعلق بالمعاش والمعاد، وهذا مختص بالأنبياء -عليهم أفضل الصلاة والسلام- (1)، "فأول ما بُدئَ به رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (2).

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُريتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي، فنسيتُها، فالتمسوها في العشر الغوابر" (3).

- وإذا رأى بعض الصحابة -رضي الله عنهم- رؤيا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقرَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليها، فإن الأحكام الشرعية تترتب عليها لا لذاتها، ولكن لتقرير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إياها، كما وقع من عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- عندما رأى من علَّمه ألفاظ الأذان، وقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك" الحديث (4).


(1) وقد شرع خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- في ذبح ابنه إسماعيل -عليه السلام- لما رأى الرؤيا، كما قصَّه الله -تعالى- في سورة الصافات (الآيات 99 - 112)، فهذا النوع من الوحي يدخل تحت قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51]، فالوحي هنا يشمل الرؤيا والإلهام.
(2) أخرجه البخاري (1/ 22)، ومسلم رقم (252) (1/ 139 - 142)، وغيرهما.
(3) انظر: "فتح الباري" (4/ 259)، والحديث رواه مسلم (2/ 823) (207).
(4) أخرجه أبو داود (1/ 135، 136) (499)، والترمذي (1/ 358 - 362) (189)، وقال: "حسن =

وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بالسجود في سورة "ص" اعتمادًا على رؤيا أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- لما رأى أنه يكتب سورة "ص"، فلما بلغ السجدة، سجدت الدواة والقلم وكل شيء بحضرته، فقصها على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يزل يسجد بها (1).

فالعمل بهذه الرؤى ليس من العمل برؤيا غير الأنبياء، بل هو من العمل بقول رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيمكن أنه علم بحقيقة الرؤى بوحي أو إلهام، أو بأي وجهٍ كان -والله تعالى أعلم-.


= صحيح"، وابن ماجه (1/ 222، 223)، (706)، والإمام أحمد (4/ 42، 43)، وغيرهم، وصححه البخاري، وابن خزيمة، والنووي، ومن المعاصرين الألباني، وشعيب الأرناؤوط.
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 78، 84)، والحاكم (2/ 432)، وسكت عليه، وصححه الذهبي على شرط مسلم، والبيهقي (2/ 320)، وقال المنذري: "رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح"، كما في "الترغيب" (2/ 356) (35)، وقال الهيثمي: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، كما في "المجمع" (2/ 284).

[من فوائد الرؤى]

لا تُستفاد الأحكام الشرعية من رؤى غير الأنبياء -عليهم السلام-، لكن يُستفاد منها:

أولًا: البشارة والنذارة

وقد سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة "المبشرة"، وفي معناها: "المنذرة" (1)، وفائدة المبشرات أنها ترغِّب في المزيد من الطاعات، وفائدة "المنذرات" الردع عن المخالفات.

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إنَّ رجالًا، من أصحاب رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- كانوا يرون الرؤيا على عهد رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقصونها على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقول فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله، وأنا غلام حديث السن، وبيتي المسجدُ قبل أن أنكح، فقلت في نفسي: لو كان فيك خيرٌ لرأيتَ مثل ما يرى هؤلاء، فلما اضطجعت ليلة قلت: اللهمَّ إن كنتَ تعلم فيَّ خيرًا فأرني رؤيا، فبينما أنا كذلك إذْ جاءني مَلَكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلان بي إلى جهنم، وأنا بينهما أدعو الله: اللهمَّ أعوذ بك من جهنم، ئم أُراني لقيني مَلَك في يده مقمعة من حديد، فقال: "لن تُراعَ (2)، نعم الرجل أنت لو تكثر من الصلاة"، فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير (3) جهنم، فإذا هي مطوية كطي


(1) (والمنذرة قد ترجع إلى معنى المبشرة؛ لأن من أُنذر بما سيقع له -ولو كان لا يسره- أحسنُ حالًا ممن هجم عليه ذلك، فإنه ينزعج ما لا ينزعج مَن كان يعلم بوقوعه، فيكون ذلك تخفيفًا عنه ورفقًا به). اهـ. من "فتح الباري" (12/ 372).
(2) أي: لا فزع، ولا خوف، كما في "النهاية" (2/ 277).
(3) أي: على جانبها وحرفها، كما في "النهاية" (2/ 485).

البئر، له قرون كقرون البئر، بين كل قرنين مَلَك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالًا معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالًا من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتُها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ عبد الله رجل صالح"، فقال نافع: "لم يزل بعد ذلك يكثر من الصلاة بالليل" (1).


(1) رواه البخاري (3/ 6) (1121)، ومسلم (14/ 1927) (140)، وغيرهما.

ثانيًا: الرؤيا قد تصحح مسار حياة الإنسان

عن جعفر الصائغ قال: كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل ممَّن يمارس المعاصي والقاذورات، فجاء يومًا إلى مجلس أحمد يسلم عليه، فكأن أحمد لم يردَّ عليه ردًّا تامًّا، وانقبض منه، فقال له: يا أبا عبد الله، لِمَ تنقبض مني؟! فإني قد انتقلتُ عما كنت تعهدني برؤيا رأيتُها، قال: وأي شيءٍ رأيتَ؟ قال: رأيتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم كأنَّه على علوٍّ من الأرض، وناسٌ كثير أسفل جلوسٌ، قال: فيقوم رجل منهم إليه، فيقول: "ادعُ لي"، فيدعو له، حتى لم يبق من القوم غيري، قال: فأردتُ أن أقوم، فاستحييتُ من قبيح ما كنتُ عليه، قال لي: "يا فلان، لِمَ لا تقومُ إليَّ فتسألني أن أدعو لك؟ " قال: قُلْتُ: يا رسول الله، يقطعني الحياءُ لقبيح ما أنا عليه، فقال: "إن كان يقطعك الحياء؛ فقم فسلني أدعُ لك؛ فإنك لا تسب أحدًا من أصحابي"، قال: "فقمتُ، فدعا لي، فانتبهتُ وقد بَغَّضَ اللَّهُ إليَّ ما كنتُ عليه"، قال: فقال لنا أبو عبد الله: "يا جعفر، يا فلان، حدِّثوا بهذا، واحفظوه؛ فإنه ينفع" (1).

وحكى أحمد بن كامل الشَّجَري -القاضي- تلميذ الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري - قال:

قال لي أبو جعفر: رأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله- صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان معي مِخلاة مملوءة حجارة، وأنا أرمي بين يديه، فقال المُعَبّر: "إنه إن كبُر نصح في دينه، وذَبَّ عن شريعته"، فحرِص أبي على معونتي على طلب العلم، وأنا حينئذ صغير (2).


(1) "كتاب التوابين" ص (264، 265).
(2) "رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام" لمحمد شومان الرملي ص (89).

- وكان من أسباب توجه الإمام العجلوني إلى طلب العلم أنه لما كان في بلاده، وكان صغيرًا يقرأ في "المكتب" رأى في عالم الرؤيا أن رجلًا ألبسه جوخة خضراء مركبة على فرو أبيض في غاية الجودة والبياض، وقد غمرته لكونها سابغة على يديه ورجليه، فأخبر والده بالمنام، فحصل له بذلك السرور التام، وقال له: "إن شاء الله يُجعل لك يا ولدي من العلم الحظ الوافر"، ودعا له بذلك (1).


(1) "أغرب وأظرف الرؤى والأحلام" للدكتور محمد غنيم ص (87).

ثالثًا: الرؤى دليل على بقاء الأرواح بعد فناء الأبدان

- فإن كثيرًا من الناس يرى أباه أو ابنه في المنام، ويقول له: اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبًا دفنته لك، وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه، ثم عند اليقظة إذا فتش عنه كان كما رآه في النوم من غير تفاوت، ولولا أنَّ روح الإنسان باقية بعد الموت لما وقع ذلك.

"عن أنس -رضي اللَّه عنه-: أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عوّدتم أقرانكم، خلوا بيننا وبين أقراننا ساعة، ثم حمل فقاتل ساعة فقُتل، وكانت درعه قد سُرِقت، فرآه رجل فيما يرى النائم، فقال: إن درعي في قِدْر تحت إكاف بمكان كذا وكذا، وأوصى بوصايا، فطُلب الدرعُ فوُجِد حيث قال، فأنفذوا وصيته" (1).


(1) تقدم ص (69) هامش (1)، وانظر ص (142).

رابعًا: الرؤى وسيلة تواصل مع الأموات

فقد يطلع الأحياء من خلال الرؤى على أحوال الأموات، وقد يفيد هذا في معرفة ما هم فيه من الكرامة والنعيم، أو المرارة والعذاب الأليم، وربما تعين الرؤية على استدراك ما فاتهم من الطاعات، وجبران ما عليهم من التبعات، وقد يخبرون عن سبب ما هم فيه من الآلام.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، قال: "تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها" (1).

وعن جابر -رضي الله عنه- "أنَّ الطفيل بن عمرو الدَّوْسِيَّ أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومَنَعَةٍ؟ (قال: حصن كان لِدَوْسٍ في الجاهلية) فأبى ذلك النبيُّ للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا (2) المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مَشَاقِصَ (3) له، فقطع بها براجِمه (4)، فشخبت (5) يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدتَ، فقصها الطفيل


(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 116، 117) (122)، وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". اهـ. من "مجمع الزوائد" (7/ 100).
(2) اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة. "النهاية" (1/ 318).
(3) المشقص: نَصْل السهم إذا كان طويلًا غير عريض. "النهاية" (2/ 490).
(4) البراجم: هي العقد التي في ظهور الأصابع. "النهاية" (1/ 113).
(5) الشَّخْب: السيلان.

على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم وليديه فاغفر" (1).

كما أنها طريق إلى الاطلاع على أحوال الأقارب والأحباب الأحياء في مكان ما من العالم، فقد يتعرف النائم على أخبار حبيبه الذي غاب عنه من خلال الرؤيا في المنام. عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أنَّ أباه قال: "رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره بذلك، فقال: إنَّ الروح ليلقى الروح، وأقنع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسَه هكذا، قال عفان برأسه إلى خلفه، فوضع جبهته، على جبهة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (2).

وإليك هذه القصة الواقعية التي أوردها الشيخ محمد بن عبد العزيز، قال: هذه القصة ذكرها الواعظ المشهور "صالح المالك" في موعظة له في المسجد، نقلًا عن رجل كان من الحاضرين أشار إليه في بداية روايته لهذه القصة:

(شيخ كبير في السن كان سببًا في هداية أسرة كاملة، كانت غافلة لاهية تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفاز لمشاهدة الصور المحرمة ومسلسلات الحب والغرام والهيام، فما هي تفاصيل القصة؟ .. لنترك المجال لهذا الشيخ الكبير ليحدثنا عن التفاصيل، يقول:

في يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت نائمًا في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلًا أعرفه من أقاربي قد مات -ولم أكن أعلم أن في بيته تلفازًا- جاءني، فضربني بقدمه ضربة كدت أُصرع من ضربته، وقال لي:


(1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" ص (125)، ومسلم -واللفظ له- (1/ 108، 109) رقم (184)، وغيرهما.
(2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4/ 384) (7631)، والإمام أحمد (5/ 214 - 216)، وابن حبان (9/ 140) (7105)، والحاكم (3/ 396)، وسكت عليه هو والذهبي، وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقاث". اهـ. من "المجمع" (7/ 182)، وصححه شعيب الأرناؤوط في "تحقيق شرح السنة" (12/ 225).

"يا فلان، اذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي".

قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته، وكأنه كلب أسود، والعياذ بالله .. قال: فاستيقظت من نومي مذعورًا، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وعدت إلى نومي .. فجاءني في المنام مرة ثانية، وضربني ضربة أقوى من الأولى، وقال لي: "قم، واذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي، لا يعذبونني به". قال: فاستيقظت مرة ثانية، وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت، وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة، وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين، وقال لي: "يا فلان قُمْ! .. اذهب إلى أهلي، وقل لهم يُخَلِّصونني مما أنا فيه خلَّصك الله". قال: فاستيقظت من نومي، وعلمت أن الأمر حقيقة، فلما صليت التراويح من ذلك اليوم؛ ذهبت إلى بيت صاحبي -وهو قريب لي- فلما دخلت إذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه، وكأن على رؤوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني، قالوا مستغربين: "ما الذي جاء بك يا فلان في هذا الوقت فليس هذا من عادتك؟ " قال: فقلت لهم: "جئت لأسألكم سؤالًا فأجيبوني عليه .. لو جاءكم مخبر، وأخبركم أن أباكم في نار جهنم، أو يُعذب في قبره هل ترضون بذلك؟ قالوا: "لا .. ندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب".

قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم، فانفجروا جميعًا بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز "التلفاز"، وكسَّره تكسيرًا أمام الجميع معلنًا التوبة ...

ولكن القصة لم تنته بعد ..

قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم؛ فقال لي: "خَلَّصك الله كما خلصتني" (1).


(1) "العائدون إلى الله" ص (81 - 83).

خامسًا: وقد تفيد الرؤية تزكية بعض الصالحين، وذم من سواهم

قال محمد بن يوسف الفِرَبْرِيُّ:

سمعت محمدًا البخاري بخوارزم يقول: "رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل (أي البخاري) -يعني في المنام- خلف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمشي، فكلما رفع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قدمه، وضع أبو عبد الله محمد بن إسماعيل قدمه في ذلك الموضع". اهـ (1).

وقال كذلك: "رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل البخاري. فقال: أقرئه مني السلام". اهـ (2).

وقال الحافظ أبو موسى المديني: حدثنا مَعْمَر بن الفاخر، حدثنا عمي، سمعت أبا نصر بن أبي الحسن يقول: قيل للصاحب إسماعيل بن عباد: "أنت رجل معتزلي وابن المقرئ (3) محدِّث، وأنت تحبه! "، قال: "لأنه كان صديق والدي، وقد قيل: مودة الآباء قرابة الأبناء، ولأني كنت نائمًا فرأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول لي: أنت نائم، وولي من أولياء الله على بابك؟! فانتبهت، ودعوت، وقلت: مَن بالباب؟ فقال: أبو بكر بن المقرئ" (4).


(1) "تاريخ بغداد" (2/ 9، 10).
(2) "نفسه" (2/ 10).
(3) هو الشيخ الحافظ الجوال الصدوق، مسند الوقت، أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني ابن المقرئ، صاحب "المعجم"، والرحلة الواسعة، (ت 381).
(4) "سير أعلام النبلاء" (16/ 401).

وحكى أبو بشر القطان قال: رأى جار لابن خزيمة -إمام الأئمة- من أهل العلم كأن لوحًا عليه صورة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن خُزيمة يصقُلُه، فقال المعبِّر: "هذا رجلٌ يُحيي سنة رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (1).

وروى الإمام ابن عساكر بإسناده عن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي قال: سمعت الإمام أبا المعالي الجويني قال: كنت بمكة أتردد في المذاهب، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال: "عليك باعتقاد ابن الصابوني" (2).


(1) "سير أعلام النبلاء" (14/ 372 - 373).
(2) "تاريخ دمشق" (9/ 12)، وابن الصابوني هو الإمام العلامة القدوة المفسر المحدث شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني، كان من أئمة الأثر، له مصنف في السنة واعتقاد السلف، ما رآه منصف إلا واعترف له، (ت 449)، راجع "سير أعلام النبلاء" (18/ 40).

سادسًا: وقد تكون الرؤية وسيلة لاكتشاف ما ينفع البشر

- فقد حاول الكيميائي الألماني "فريدريك أوجست كيكولي" مرارًا أن يصل إلى التركيب الكيميائي للبنزين، لكنه كان يفشل على الدوام، وذات ليلة رأى في منامه ستة ثعابين كان كل واحد منها يعض ذيل الآخر، لتتكون من ذلك حلقة كبيرة دوارة، فلما أفاق من نومه واستيقظ وجد لديه حل مشكلته، وهو أن تكوين البنزين يشبه حلقة الثعابين الستة، ويتكون من حلقة مغلقة من ست ذرات كربون (1).

وهذا "فريدريك نانتنج" مكتشف الإنسيولين يقوم بتجارب مضنية لاستخلاص تلك المادة الحيوية، وبعد أن أعياه البحث رأى في منامه رؤيا تدله على طريقة استخلاص الإنسيولين من بنكرياس الكلب، وحين يستيقظ يقوم بالتجربة، وينجح في استخلاص تلك المادة الحيوية التي أنقذت، ومازالت، الملايين من مرضى "البول السكري" (2).

في عام 1967 م أُنشئ في بريطانيا "مكتب التوقعات البريطاني" لمحاولة تتبع الأحلام التي تدل أو تشير إلى كوارث عامة أو قضايا تخص المجتمع كله، وذلك لمحاولة تلافي حدوثها، أو تقليل آثارها إن حدثت.


(1) "نوادر الحكايات في الرؤى والمنامات" ص (21).
(2) "الأحلام بين العلم والعقيدة" للدكتور علي الوردي ص (182)، و"النوم والرؤى والأحلام" للدكتور السيد سلامة السقا ص (65).

وقد أُنشئ هذا المكتب بعد وقوع كارثة في قرية بريطانية تدعى "إيبرفاين" سنة 1966 م حيث انهار جبل من الفحم على تلك القرية مما أدى إلى وفاة عدد كبير من الأفراد معظمهم من الأطفال، وبتتبع أخبار الكارثة وُجد أن عددًا كبيرًا من أهل القرية وأطفالها كانوا قد رأوا الكارثة أو ما يشير إلى حدوثها في منامهم" (1).

أما العالم الفارماكولوجي "أتولوي" الذي حاز على جائزة نوبل في الفسيولوجي والطب في عام (1936 م)، فقد كان يقوم باختبارات على الضفادع في محاولة للتوصل إلى طبيعة النقل العصبي (نقل الإثارات العصبية)، غير أنه لم يستطع التقدم في أبحاثه إلى نقطة الحل ... وذات ليلة أفاق من حلمه وقد انجلت له في آن واحد نظرية "النقل العصبي" والتجربة المختبرية اللازمة لاختبارها، وراح يخط بعض الكلمات في ورقة ثم رجع إلى نومه، وفي الصباح وجد بأن ما خطه على قصاصة الورق لا يستطيع فهمه، كما أنه لم يتمكن من استعادة ذكرى حلمه في الليل، وحاول جاهدًا أثناء النهار استعادة ذلك الحلم، ولكن دون جدوى، وفي الليلة التالية عاد له الحلم ثانية، وفي هذه المرة استفاق ولم يعد إلى النوم، وإنما ارتدى ملابسه، وذهب مباشرة إلى مختبره، وقام بإجراء التجارب التي تبينت له في حلمه، والتي أثبتت بأن الفعل العصبي يحدث بواسطة مواد كيمياوية، وهو الاكتشاف الذي منح عليه جائزة نوبل لاكتشافه له" (2).

* * *


(1) "أغرب وأظرف الرؤى والأحلام" ص (26)، و"النوم والرؤى والأحلام" للدكتور السقا ص (66).
(2) "باب النوم وباب الأحلام" د/ علي كمال (716 - 717).

 

  • الثلاثاء PM 12:48
    2022-08-02
  • 1055
Powered by: GateGold