المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409147
يتصفح الموقع حاليا : 288

البحث

البحث

عرض المادة

دِلَالَاتُ خَوَارِقِ العَادَاتِ

ظهرت بعض خَوَارِقِ العادات على يد بعض من ادَّعَوا المهدية، الذين وظَّفوها للترويج لدعواهم، وبالتالي انساق وراءهم كثير من العوام، وبعض الخواص، فنشأ عن ذلك كثير من الفتن، من أخطرها ادِّعَاءُ أو نسبة أولئك إلى العصمة، الأمر الذي يترتب عليه طاعة عمياء في كل ما يأمرونهم به، مما يُعَدُّ تعديًا صريحًا على مصادر التلقي، والمرجعية الشرعية.

وخَرقُ العَادَةِ أَنوَاعٌ (1):

1 - إذا جرى على يد نبيٍّ، فهو المعجزة (2) التي يُقصد بها إظهارُ صِدْقِ مَن


(1) انظر: "الموسوعة الفقهية" (34/ 216 - 221).
(2) عبَّر القرآن الكريم عما أيَّد الله -تعالى- به الأنبياء من أجل إيمان الناس بهم بالآيات، وسماها علماء الإسلام "دلائل النبوة" و"أعلام النبوة" -انظر: "الجواب الصحيح" لابن تيمية (5/ 412) - بينما اصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، والمعجزة لغةً: ما يُعجزُ الخصمَ عند التحدي.
واعلم -وفقك الله- أن جعل خرق العادة "حدًّا" لمعجزات الأنبياء غير صحيح، فالذين سموا الآيات خوارق للعادات وعجائب ومعجزات -إذا جعلوا ذلك شرطًا فيها، وصفة لازمة لها؛ بحيث لا تكون الآيات إلا كذلك- فهذا صحيح، وأما إذا جعلوا ذلك حَدًّا لها وضابطًا، فلا بد أن يقيدوا كلامهم، مثل أن يقولوا: "خوارق العادات التي تختص بالأنبياء"، ويقولوا: "خوارق عادات الناس كلهم غير الأنبياء"، فإن آياتهم لا بد أن تخرق عادة كل أمة من الأمم، ولهذا لم يكن في كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأئمة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة، ولا يجوز أن يُجعل مجرد خرق العادة هو الدليل، فإن هذا لا ضابط له، وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإذا أتى مدعي النبوة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبي لا يصلح مثله لساحر ولا لكاهن ولا لغيرهما، كان دليلًا على نبوته". اهـ. من "ثبوت النبوات" ص (167).
وقال -رحمه اللَّه- أيضًا: "فلا بد في آيات الأنبياء من أن تكون مع كونها خارقًا للعادة أمرًا غير معتاد لغير الأنبياء، بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الأنبياء، ليس مما يقدر عليه غير الأنيياء =

ادَّعى النبوة، مع عجز المنكرين عن الإتيان بمثله (1).

2 - الإرهاص: ما يظهر من الخوارق قبل ظهور النبي (2).

3 - الاستدراج: ما يظهر من خارق للعادة على يد كافرٍ أو فاسق (3).

4 - الكرامة: ظهور أمر خارق للعادة على يد شخص ظاهر الصلاح (4)، غير مقارن لدعوى النبوة والرسالة.

 


= لا بحيلة ولا عزيمة ولا استعانة بشياطين ولا غير ذلك". اهـ. من "ثبوت النبوات" ص (169).
وقد أبدع شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذه القضية أيما إبداع، وجلَّى حقائقها في كتابه الرائع "ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات"، فتدارسْه فإنه نفيس في بابه.
(1) ومن خصائص معجزات الأنبياء أنه لا يمكن معارضتها، فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها، كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء.
قال شيخ الإسلام: "الآية الدالة على النبوة لا تظهر إلا على يد نبي". اهـ. من "ثبوت النبوات" ص (608).
(2) الإرهاص: قسم من الخوارق، وهو الخارق الذي يظهر من النبي -أو غيره- قبل البعثة للتبشير بها، وسُمِّىَ به لأن الإرهاص في اللغة: بناء البيت، فكأنه بناءُ بيتِ إثباتِ النبوة.
انظر: "التعريفات" للجرجاني ص (38)، و"تاج العروس" للزبيدي (1/ 325).
(3) قال العلامة صنع الله بن صُنع اللَّه الحنفي (ت: 1120 هـ) في كتابه: "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص (103):
"يقع الاستدراج لبعض الظلمة والفُسَّاق والجُهَّال، بل والكفرة أحيانًا استدراجًا لهم، وزيادةٌ في غَيِّهم، وفي التنزيل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وفي الحديث: "إذا رأيت الله يُعطي العبدَ ما يُحِبُّ، وهو مُقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج"، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 44]. وفي آخَر: "إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه"، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ". اهـ.
(4) وقد يحدث خرقُ العادة على جهة (المعونة) كما يقع لبعض العوام، وجُهَّال المؤمنين عند إضرارهم، تخليصًا لهم من ضِيق وبلاء لطفًا بهم، وتثبيتًا لهم؛ وإكرامًا لنبيهم، وانظر: "سيف الله" لصنع الله الحنفي ص (104).

إن التمييز بين هذه الأنواع من الخوارق من الأهمية بمكان، وبخاصة التفريق بين ضِدَّين هما الاستدراج والكرامة، وذلك لأن العوام ومن لا يحسنون العلم يربطون بين خرق العادة بمجرده وبين وَلاية اللَّه -تَعَالَى-، فعندهم كل من خُرِقَتْ له العادة فهو ولي، ويترتب على ذلك خطأ ثانٍ، وهو الافتتان بذلك "الولي" والغلو فيه الذي يَصِلُ أحيانًا إلى ادِّعَاء عصمته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-: "المراتب ثلاثة: آيات الأنبياء، ثم كرامات الصالحين، ثم خوارق الكفار والفجار كالسحرة والكهان، وما يحصُل لبعض أهل الكتاب والضُلَّال من المسلمين" (1).


(1) "ثبوت النبوات" ص (130).

بَينَ المعُجِزَةِ والكرامَةِ

مما يتعلق بتمييز الكرامة عن غيرها من خوارق العادات؛ التمييز بين الولي الذي يجوز أن تحدث له الكرامة، وبين من هو أعلى منه منزلة؛ وهو النبي، أو من يَدَعِي مثل منزلته كذبًا وبهتانًا، وهو الْمُشَعْوِذُ والساحر وغيرهما.

فأما الفرق بين النبي والولي من جهة الخارق الذي يجري على يد كل منهما، فقد علمنا أن النبي تجري على يده المعجزات، وهي نوعان، سَمَّاهَا "ابن تيمية" معجزات كبرى، وهي دليل صدقه، ونوع من التوابع والنوافل سَمَّاها معجزات صغرى.

والولي تحدث على يده الكرامات، وقد تشتبه بالمعجزات الصغرى، أو تماثلها، ولكن النبي يختص بالعصمة دون الولي، فالمعجزة للنبي دليل على عصمته من الخطأ فيما أُرِسل من أجله، وهو التشريع.

أما الولي فكرامته إنما تدل على صدق النبي الذي آمن به هذا الولي، واتبعه في شريعته، ولا تدل بحال على عصمته هو مِن أن يخطئ في بعض أعماله، أو عباداته أو توجيهاته؛ لأنه لم يُرْسَلْ ويُصْطَفَ من اللَّه -عزَّ وَجَلَّ- لهذا الغرض كالنبي، وإنما هو مجتهد فيه، أما النبي فقد اصطفاه الله من عباده لهذا الغرض.

الكرَامَةُ تَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ، لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى العِصمَةِ

ومن هنا وجبت طاعة النبي مطلقًا، بينما لا تجب طاعة الولي مطلقًا، إلا فيما دل عليه دليل شرعي واضح، وفارق آخر بين المعجزة والكرامة؛ هو أن الكرامة تحدث بحسب حاجة الولي، فإذا احتاج إليها لتقوية إيمانه؛ جاءه منها ما يكفيه لتقوية إيمانه، أو احتاج إليها لفك ضيق عليه، أو على من يدعو له؛ جاءه من ذلك ما يُفَرِّجُ كربته، ويجيب دعاءه، بخلاف المعجزات؛ فإنها لا تكون إلا لحاجة الخلق وهدايتهم (1).


(1) انظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (77).

ويقول شيخ الإسلام "ابن تيمية" ما نصه: "وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول، ولا تدل على أن الولي معصوم، ولا على أنه يجب طاعته في كل ما يقوله.

ومن هنا، ضل كثير من الناس من النصارى وغيرهم، فإن الحواريين -مثلًا- كانت لهم كرامات، كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة، فظنوا أن ذلك يستلزم عصمتهم، كما يستلزم عصمة الأنبياء، فصاروا يوجبون موافقتهم في كل ما يقولون، وهذا غلط" (1).

والحقيقة أن كثيرًا من المسلمين -أيضًا- قد وقع فيما وقع فيه النصارى من الخطأ الذي ذكره شيخُ الاسلام ابن تيمية، فبمجرد أن يُشتَهر شخص بشيء من الكرامات ترتفع درجة الثقة في أقواله، وتوجيهاته، وأوامره، ونواهيه، إلى حد أن أكثر الناس لا يقبل فيها جدلًا البتة.

من ضَوَابِطِ الحُكمِ عَلَى خَرقِ العَادَةِ النَّظَرُ فيِ سِيَرةِ واستِقَامَةِ مَن خُرِقَتْ لَهُ

"وأما تمييز الولي الصادق الذي قد تجري على يديه الكرامات من الدَّعِيِّ الكاذب الذي يُمَوِّهُ على الناس ويخدعهم، فإنما يكون ذلك بحسب صلاحه وتقواه، من قيامه بالفرائض والنوافل، واتقائه الكبائر، والصغائر، واتصافه بالصفات الكريمة، واستدامته عليها، فإن اتصف شخص بكل هذه الصفات الطيبة، وعُرِفَتْ عنه، ثم حَدَثَ على يديه شيء من الخوارق فيما لا يخالف الشرع، فيجوز أن يطلق على ذلك الخارق اسم "كرامة".

أما إن كان الرجل على خلاف ذلك، مُشْتَهَرًا بالفسق والفساد والضلال، وغير ذلك، فإن كل ما يجري على يديه لا يُعْتَدُّ به بالغًا ما بلغ، والله أعلم" (2).


(1) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (29).
(2) انظر: "موقف ابن تيمية من التصوف والصوفية" ص (236، 237)، و"شبهات التصوف" ص (138).

مِن شُرُوطِ الكرَامَةِ

قال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه-: " ومن الفوائد في هذا الأصل أن يُنْظَرَ إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعجزاته؛ فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل؛ فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك.

وبيان ذلك بالمثال: أن أرباب التصريف بالهمم، والتقربات بالصناعة الفلكية، والأحكام النجومية، قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يُوجَدُ لها في كرامات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قِرانِ في الكواكب، ولا التمس سُعودَها أو نحوسَها، بل تَحَرَّى مجردَ الاعتمادِ على مَن إليه يُرْجَعُ الأمرُ كلَّه، والتجأ إليه، مُعْرِضًا عن الكواكب، وناهيًا عن الاستناد إليها، إذ قال: (أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُومِن بِي وَكَافِرٌ) الحديث (1)، وإن تَحَرَّى وقتًا، أو دعا إلى تَحَرِّيهِ، فلسبب بريءٍ من هذا كله؛ كحديث التنزل (2)، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار (3)، وأشباه ذلك" إلى أن قال -رحمه الله-: "وهذا الموضع مَزَلَّة قدم للعوامِّ، ولكثير من الخواص، فَلْتَنَبَّهْ له" (4).


(1) وتتمته: "فأما من قال: (مُطِرنا بفضل الله ورحمته) فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: (بنوء كذا وكذا)، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب" أخرجه البخاري (2/ 333) (846)، ومسلم (1/ 83، 84) (71).
(2) أخرجه البخاري (3/ 29) (1145)، ومسلم (1/ 521) (758).
(3) أخرجه البخاري (2/ 33) (55)، ومسلم (1/ 439) (632).
(4) "الموافقات" (2/ 444 - 446).

خَرقُ العَادَةِ بمُجَرَّدِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ

قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالى-:

"وكل من خالف شيئًا مما جاء به الرسول، مقلدًا في ذلك لمن يظن أنه وَليٌ للَّه، فإنه بنى أمره على أنه ولي للَّه، وأن ولي اللَّه لا يُخَالَفُ في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء اللَّه؛ كأكابر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لم يُقْبَلْ منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟!

وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقادِ كَوْنهِ وليًّا للَّه أنه قد صدر عنه مُكَاشَفَةٌ في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة؛ مثل أن يُشِيرَ إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء (1)، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يُخْبِرَ الناس بما سُرِقَ لهم، أو بحالِ غائِبٍ لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي اللَّه، بل قد اتفق أولياء اللَّه على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يُغْتَرَّ به حتى يُنْظَرَ متابعته لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وموافقته لأمره ونهيه (2).


(1) أي: يملأ إبريقًا ماءً من الهواء.
(2) قال موسى بن عيسى: قال أبي: قال أبو يزيد: "لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يُرفَعَ في الهواء؛ فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدوه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة".
أخرجه البيهقي في "الشعب" (2/ 301).

وكرامات أولياء اللَّه -تَعَالَى- أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة -وإن كان قد يكون صاحبها وليًّا للَّه- فقد يكون عَدُوًّا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفَّار، والمشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يُظَنَّ أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يُعْتبَرُ أولياء الله بصفاتهم، وأفعالهم، وأحوالهم التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وُيعْرَفُونَ بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.

مِثَال ذلك: أن الأمور المذكورة وأمثالها، قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون مُلَابِسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر، والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف ... "، إلى أن قال -رحمه الله-: "فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن" (1). اهـ.

وقال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه-:

(ومن هنا يُعْلَمُ أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح رَدُّها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك؛ فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تُقْبَلْ إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء -عليهم السلام-؛ فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا؛ فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حَكَمَ إبراهيم -عليه السلام- فى ذبح ولده بمقتضي رؤياه، وقال له ابنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.

وبيان عرضها أن تُفرض الخارقة واردة من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبًا، ساغت في نفسها، وإلا فلا؛ كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة، بحيث اطَّلع منها على مالا يجوز له أن يَطَّلِعَ عليه، وإن لم يكن مقصودًا


(1) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (61، 62)، وانظر: "وَلاية الله والطريق إليها" ص (252 - 254).

له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يُجَامِعُ زوجته ويراه عليها، أو يكاشَف بمولود في بطن امرأة أجنبية؛ بحيث يقع بصره على بَشَرتها، أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: "أنا ربك"، أو يرى ويسمع من يقول له: "قد أحللتُ لك المحرماتِ" (1)، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويُقَاسُ على ذلك ما سواه، وباللَّه التوفيق) (2). اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر -ورحمه الله-:

"خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصِّدِّيق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة" (3).

وقال العلامة الشوكاني -رحمه اللَّه-:

"ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من اللَّه -سبحانه-، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره، بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة: فإن كانت موافقة لها؛ فهي حق، وصدق، وكرامة من اللَّه -سبحانه-، فإن كانت مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبَّس عليه" (4). اهـ.


(1) انظر: ص (47).
(2) "الموافقات" (2/ 481، 482) بتصرف، وانظر: "مدارج السالكين" (1/ 48، 49).
(3) "فتح الباري" (12/ 385).
(4) "ولاية الله والطريق إليها" ص (249)، وطمع فيه، وبه: اشتهاه ورغب فيه، أو: حَرَصَ عليه.

وقال الدكتور تقي الدين الهلالي داعية التوحيد والسنة في بلاد المغرب - بل في كثير من بلاد العالم الإسلامي -رحمه اللَّه- تَعَالَى: " ... ومن هذا تَعْلَمُ أن ظهور الخوارق، وما في عالم الغيب، ليس دليلًا على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق، ولا على وَلايته لله البتة؛ فإن كل مرتاضٍ رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العُبَّاد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام" (1). اهـ.

"إذن، فيجب على كل مسلم التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بوَلاية كل من فعل خارقًا من خوارق العادات؛ لأن الغاية من خرق العادة عند المُشَعْوذِينَ: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين تخدع المشركين، فَتَدْخُلُ في أجواف الأصنام، وتُصْدِر أصواتًا، يظنون أن أصنامهم تتحدث إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها.

ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى عُبدت من دون اللَّه" (2).


(1) نقله عنه في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (466).
(2) "الرفاعية" (ص 94، 95).

  • الثلاثاء PM 12:40
    2022-08-02
  • 2366
Powered by: GateGold