المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413789
يتصفح الموقع حاليا : 312

البحث

البحث

عرض المادة

الإلهام منقوض بالمعارضة بالمثل

وبيان ذلك: أن يحتج زيد بإلهامه، فيعارضه عمرو بإلهامٍ مثلِه، ولا مزية لأحدهما على الآخر، لأن الإلهام قد يكون من الله -تعالى-، وقد يكون من الشيطان أو النفس:

- فإن كان من الله -تعالى- فهو حق.

- وإن كان من الشيطان أو النفس فلا يكون حقًّا، بل يكون باطلًا، وما دام أن هناك (احتمالَ) أن لا يكون حقًّا، فلا يكون حقًّا.

يدل عليه: أن كل إنسان في دعوى الإلهام مثل صاحبه، فإن قال واحد:

 

"أُلهمت أن ما أقوله حق وصواب"، فيقول الآخر: "ألهمت أن ما تقوله خطأ وباطل"، ثم نأتي ونقول لهم: "إنا أُلهمنا أن ما تقولونه خطأ وباطل"، فإن قالوا: "هذا دعوى منكم"، قلنا: "ما تقولونه أنتم أيضا دعوى".

فإن قالوا: "إنكم لستم من أهل الإلهام"، قلنا لهم: "ولستم أيضًا من أهل الإلهام، وبأي دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا؟ " (1).

وقال الإمام ابن حزم -رحمه الله-:

(ويُقَالُ لمن قال بالإلهام: ما الفرق بينك وبين من ادَّعى أنه أُلْهِمَ بطلانَ قولك، فَلَا سبيل له إلى الانفصال عنه، والفرق بين هذه الدعوى، ودعوى من ادعَى أنه يُدْرِكُ بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سُئِلَ عَمَّا ذكرنا أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر به سواء بسواء، وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما لا يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم إلهامًا، أو إدراكًا، فصَحَّ بلا شك أنهم كَذَبَةٌ، وأن الذي بهم: وَسْوَاسٌ (2)؛ وأيضًا، فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أُعْطِيَ كل امرئ بدعواه المُعَرَّاة، لما ثَبَتَ حَقٌّ، ولا بطل باطل، ولا استقر ملك أحد على مال، ولا انتُصِفَ من ظالم، ولا صحَّتْ ديانة أحد أبدًا؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول: أُلْهِمْتُ أنَّ دَمَ فلانٍ حلال، وأن مَالَهُ مباحٌ لي أخذه، وأن زوجه مُبَاحٌ لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وَسَاوسُ كثيرةٌ، لا يجوز أن تكون حقًّا، وأشياء متضادة يُكذِّبُ بعضها بعضًا، فلابد من حاكم يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله) (3) اهـ.


(1) انظر: "فصول البدائع في أصول الشرائع" للفناري (2/ 391)، و"قواطع الأدلة" (5/ 127)، و"تقويم الأدلة" ص (395).
(2) الوسوسة: إلقاء معنى في النفس بمباشرة سبب نشأ من الشيطان له.
(3) "الإحكام في أصول الأحكام" (1/ 17، 18).

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه-:

[قال: وهو -أي الإلهام- على ثلاث درجات]

الدَّرَجَةُ الأُولَى: نَبَأ يقع وحيًا قاطعًا مقرونًا بسماع؛ إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن، فليس كل خبر نبأ، وهو نبأ خبر عن غيب معظم.

ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وَصَلَ إليه بموجبه، إما بواسطة سمع، أو هو الإعلام بلا واسطة.

قلت: أما حصوله بواسطة سمع، فليس ذلك إلهامًا، بل هو من قبيل الخِطاب، وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء، وهو الذي خُصَّ به موسى؛ إذ كان المخاطِبُ هو الحق -عز وجل-.

وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع؛ فهو من أحد وجوه ثلاثة، لا رابع لها؛ أعلاها: أن يخاطبه الملَكُ خطابًا جزئيًّا، فإن هذا يقع لغير الأنبياء؛ فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام، فلما اكتوى تركت خطابه، فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي؛ وهو نوعان:

أحَدُهُمَا: خطابٌ يسمعه بأذنه، وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين.

وَالثَّانِي: خطاب يُلْقَى في قلبه يُخَاطِبُ به الملك روحه، كما في الحديث

المشهور: "إنَّ لِلْمَلَكِ لمَّة بقَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وللشَّيْطَانِ لَمَّةًْ، فلَمَّةُ الْمَلكِ: إيعَادٌ

بالخَيْرِ، وتَصْدِيقٌ بالْوَعْدِ، ولَمَّةُ الشَّيْطَانِ: إيعَادٌ بالشَّرِّ، وتكذيبٌ بالْوَعْدِ" (1)،

ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال -تَعَالَى-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ

فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، قيل في تفسيرها: قَوُّوا قلوبهم، وبشِّرُوهُمْ بالنصر. وقيل: احضُروا معهم القتال، والقولان حق؛ فإنهم حضروا معهم القتال، وثبَّتُوا قلوبهم.

ومن هذا الخطاب: واعظ اللَّه -عز وجل- في قلوب عباده المؤمنين؛ كما في "جامع الترمذي"، و"مسند أحمد" من حديث النَّواس بن سمعان، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَ اللَّهَ -تَعَالَى- ضَرَبَ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى كَنَفَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ، لَهُمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو على رَأسِ الصِّرَاطِ، وَدَاع يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ، فالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الإسْلَامُ، والسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، والأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَلَا يَقَعُ أحَدٌ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، والدَّاعِي عَلَى رأسِ الصِّراطِ: كِتَابُ اللَّهِ، والدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ"، فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهامُ الإلهي بواسطة الملائكة.

وأما وقوعه بغير واسطة: فمما لم يتبيَّنْ بعد، والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل، واللَّه أعلم.

النَّوْعُ الثَّانِي من الخِطَابِ المَسْمُوع: خطاب الهواتف من الجانِّ، وقد يكون المخاطِبُ جنيًّا مؤمنًا صالحًا، وقد يكون شيطانًا، وهذا -أيضًا- نوعان:

أحدُهُمَا: أن يخاطبه خطابًا يسمعه بأذنه.

والثَّاني: أن يُلْقِيَ في قلبه عندما يُلِمُّ به، ومنه وعده، وتمنيته حين يَعِدُ الإنسي ويُمَنِّيه، ويأمره، وينهاه، كما قال -تَعَالى-: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، وقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، وللقلب من هذا الخطاب نصيب، وللأذن -أيضًا- منه نصيب، والعصمة منتفية إلا عن الرسل، ومجموع الأمة.

 


(1) تقدم تخريجه ص (170) هامش رقم (1).

فمِن أين للمخاطَب أن هذا الخطاب رحماني، أو مَلَكِيٌّ؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟ والشيطان يقذف في النفس وَحْيَهُ، ويُلقي في السمع خِطَابَهُ، فيقول المغرور المخدوع: "قيل لي، وخوطبت"، صدقت، لكن الشأن في القائل لك، والمخاطِب، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لغيلان بن سلمة- وهو من الصحابة، لَمَّا طَلَّقَ نساءه، وقَسَم ماله بين بَنيه: "إني لأظن الشيطان -فيما يسترق من السمع- سمع بموتك، فقذفه في نفسك" (1)، فمن يأمن القراءَ بعدك يا شهرُ؟ (2).

النَّوْعُ الثَّالِثُ: خِطَابٌ حَالِيٌّ، تكون بدايته من النفس، وعَوْدُهُ إليها، فيتوهمه مِن خارجٍ، وإنما هو من نفسِه، منها بدأ، وإليها يعود.

وهذا كثيرًا ما يَعْرِضُ للسالك، فيغلط فيه، ويعتقد أنه خطاب من اللَّه، كَلَّمَهُ به منه إليه، وسبب غلطه: أن اللطيفة المدرِكة من الإنسان إذا صَفَتْ بالرياضة، وانقطعت عَلَقُها عن الشواغل الكثيفة، صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن، ومصير الحكم لهما، فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما، وتشتد عناية الروح بها، وتصير في محل تلك العلائق، والشواغل، فتملأ القلب، فتصرف تلك المعاني إلى المنطق، والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة، ويتفق تجرد الروح، فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية، فيرى صورها، ويسمع الخطاب، وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء، ويحلف أنه رأى وسمع، وصَدَقَ، لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه، ويتفق ضعف التمييز، وقلة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الروح، وتجردها عن الشواغل.


(1) انظره في: "الإصابة" (5/ 334).
(2) انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/ 375).

فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب، ومن سَمَّع نفسه غيرها، فإنما هو غرور، وخدع، وتلبيس، وهذا الموضع مقطع القول، وهو من أجَلِّ المواضع لمن حَقَّقَهُ وفَهِمَهُ، واللَّه المُوَفِّقُ للصواب" اهـ (1).

ثم قال -رحمه اللَّه-:

(قال: "الدرجة الثانية: إِلْهَامٌ يقع عيانًا، وعلامة صحته: أنه لا يخرق سِتْرًا، ولا يجاوز حَدًّا، ولا يخطئ أبدًا".

الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى: أن ذلك عِلْمٌ شَبِيهٌ بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب، وهذا مُعَايَنَةٌ ومُكَاشفَةٌ، فهو فوقه في الدرجة، وأتمُّ منه ظهورًا، ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين، وذكر له ثَلاثَ عَلَامَاتٍ:

إِحْدَاهَا: "أنه لا يخرق سِتْرًا"؛ أي صاحبه إذا كُوشِفَ بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره، ويَكْشِفُهُ؛ خيرًا كان أو شرًّا، أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس، بل يستر نفسه، ويستر من كُوشِفَ بحاله.

الثَّانِيَةُ: "أنه لا يُجَاوِزُ حَدًّا" يَحْتَمِلُ وجهين:

أَحْدهُمَا: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي، وتجاوز حدود اللَّه؛ مثل الكُهَّان، وأصحاب الكشف الشيطاني.

الثَّانِي: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية؛ مثل أن يتجسس به على العورات التي نهَى الله عن التجسس عليها وتتبعها، فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف، فهو شيطاني لا رحماني.

الثَّالِثَةُ: أنه لا يخطىء أبدًا، بخلاف الشيطاني؛ فإن خطأه كثير؛ كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن صائد: "مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى صادِقًا وكَاذِبًا، فَقَالَ: ْلُبِّسَ عَلَيْكَ". فالكشف الشيطاني لابد أن يَكْذِبَ، ولا يستمر صدقه البتة) (2) اهـ.


(1) "مدارج السالكين" (1/ 45 - 48).
(2) "السابق" (1/ 48، 49).

وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي -رحمه اللَّه- تَعَالَى:

"اعلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مُؤَيَّدٌ بالعصمة، معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال، وصحة ما بيَّن، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصومًا بلا خلافٍ، إما بأنه لا يخطئ البتة، وإما بأنه لا يُقَرُّ على خطأ إن فُرِضَ؛ فما ظنك بغير ذلك؟

فكل ما حَكم به؛ أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم، أو رؤية كشف؛ مثلُ ما حكم به مما ألقى إليه الملَكُ عن اللَّه -عز وجل-.

وأمَّا أمَّتُهُ، فكل واحدٍ منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط، والخطأ، والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حُلمًا (1)، وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقه (2)، واعْتيدَ ذلك فيه واطَّرَدَ؛ فإمكان الخطأ والوهم باقٍ، وما كان هذا شأنه لم يَصِحَّ أن يُقطَعَ به حكم.

وأيضًا؛ فإن كان مثل هذا مَعْدُودًا في الاطّلاع الغيبي؛ فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا اللَّه؛ كما في الحديث من قوله -عليه السلام-: "في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] ... إلى آخر سورة لقمان) (3).

وقال في الآية الأخرى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].

واستثنى المُرْسَلينَ في الآية الأخرى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]. فبقي من عداهم على الحكم الأول؛ وهو امتناع علمه.


(1) أي: والحُلم من الشيطان، كما جاء في الحديث.
(2) أي في غير هذه الجزئية التي يفرض الكلام فيها؛ فإمكان الخطأ والوهم باقٍ في هذه الجزئية حتى ينكشف الأمر؛ إما بتحققها، أو عدمه، وبعد تحققها وحصولها، فالمرجع الوجود، لا الكشف ولا الرؤيا.
(3) قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (50) (1/ 114)، (4777)، (8/ 513)، ومسلم (9) (1/ 39).

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].

وفي حديث عائشة: "وَمَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا في غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ عَلَى اللهِ" (1).

وقد تعاضدت الآيات والأخبار، وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر، فإذا كان كذلك، خرَجَ مَن سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء -صلوات الله عليهم- في العلم بالمغيبات، وما ذُكِرَ قبلُ عن الصحابة، أو ما يُذْكَرُ عنهم بسندٍ صحيحٍ، فَمِمَّا لا ينبني عليه حكم؛ إذ لم يشهد (2) له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووقوعه على حسب ما أخبروه، هو مما يُظَنُّ بهم، ولكنهم لا يُعَامِلُونَ أنفسهم إلا بأمر مشتركٍ لجميع الأمة، وهو جواز الخطأ؛ لذلك قال أبو بكر: "أُرَاهَا جارية" (3)، فأتى


(1) أخرجه مسلم (177) (1/ 159) عن عائشة -رضي الله عنها-، ولفظه: "من زعم أنه يخبر بما يكون في غدٍ؛ فقد أعظم على اللَّه الفرية"، واللفظ الذي ذكره الشاطبي هو لفظ رواية الترمذي (3068) (5/ 262، 263).
(2) كشهادته لرؤيا عبد الله بن زيد في الأذان.
(3) يشير إلى ما رواه مالك في "الموطأ" (2/ 752) رواية يحيى الليثي، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: إن أبا بكر الصديق نَحَلَها جَادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: "واللَّه يا ابنتي ما من الناس أَحَدٌ أحبُّ إليَّ غِنًى بعدي منك، ولا أعَزُّ علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتُك جادَّ عشرين وَسْقًا، فلو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليومَ مالُ وارث، وإنما هما أخواكِ، وأختاكِ، فاقتسموه على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-".
قالت عائشة: فقلت: "يا أبت! واللَّه لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ " قال أبو بكر: "ذو بطن بنتِ خارجة، أُراها جارية".
جادَّ عشرين وَسقًا: أي ما يُجَدُّ منه هذا القدر، والجاد هنا بمعنى المجدود، أي المقطوع.
جددتيه: قطعتيه، احتزتيه: حُزْتيه.
ذو بطن بنت خارجة: أي صاحب بطنها، يريد الحمل الذي فيه. =

بعبارة الظن التي لا تفيد حكمًا، وعبارة "يا ساريةُ الجبلَ" (1) - مع أنها إن صحت لا تفيد حكمًا شرعيًّا (2)، هي -أيضًا- لا تفيد أن كل ما سواها مثلها، وإن سُلِّمَ فلخاصية أن الشيطان كان يَفِرُّ منه (3)، فلا يَطُورُ (4) حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها، بخلاف غيره؛ فإذا لاح لأحدٍ من أولياء الله شيءٌ من أحوال الغيب، فلا يكون على علم منها مُحقَّقٍ لا شَكَّ فِيهِ، بل على الحال التي يُقَالُ فيها "أُرَى"، و "أَظُنُّ"، فإذا وقع مطابقًا في الوجود، وفُرِضَ تحققه بجهة المطابقة أولًا، والاطراد ثانيًا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكمٌ؛ لأنه قد صار من باب الحكم على الواقع (5)؛ فاستوت الخارقة وغيرها، نَعَمْ (6) تفيد الكرامات


= أراها جارية: يعني أظنها أنثى، فكان كما ظن -رضي الله عنه-، سُميت أم كلثوم، قيل: لرؤيا رآها أبو بكر -رضي الله عنه-.
(1) عن نافع أن عمر بعث سرية، فاستعمل عليهم رجلًا يقال له: سارية، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة فقال: "يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ"، فوجدوا سارية قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة، وبينهما مسيرة شهر.
وفي رواية: (فجعل ينادي: "يا سارية الجبل، يا سارية الجبل" ثلاثًا، ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هُزمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديًا: "يا سارية الجبل" ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله، فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك).
عزاه الألباني في "الصحيحة" (1110) إلى أبي بكر بن خلاد في "الفوائد"، والسلمي في "الأربعين الصوفية"، والبيهقي في "الدلائل"، وصححه، وانظر: "الموافقات" (4/ 469)، وقال ابن كثير في "البداية" (7/ 131): "وهذا إسناد جيد حسن".
(2) بل نصيحةً ومشورة.
(3) كما روى الشيخان عن سعد -رضي الله عنه- مرفوعًا: (والذي نفسي بيده؛ ما لقيك الشيطان سالكًا فَجًّا قط إلا سلك فَجًّا غير فجك".
(4) يطور: يقرب، وفلان يطور بفلان: أي كأنه يحوم حوله، ويدنو منه.
(5) أي: لأنه يبقى على عدم العلم، بل على مجرد ظن أو شك حتى يقع، فبعد وقوعه مطابقًا لا يبقى للإخبار به فائدة في بناء حكم عليه، ويكون الحكم -إن كان هناك حكم- مبنيًا على الواقع نفسه.
(6) استدراك على ما قبله الموهم أنه حينئذٍ لا فائدة في الخوارق والكرامات لأنه لا ينبني عليها حكم أصلًا، يقول: بل لها فائدة أهم من هذا، وهي زيادة اليقين، وشرح الصدر، بتضاعف نور الإيمان، واتساع البصيرة والعلم بالرب واهبِها.

والخوارق لأصحابها يقينًا، وعلمًا بالله -تَعَالى-، وقوة فيما هم عليه، وهو غير ما نحن فيه" (1). اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه -تَعَالى-:

"وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب، أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة، فإنما يتبع ظنًّا لا يغني من الحق شيئًا، فليس في المُحَدَّثين المُلْهَمِينَ أفضلُ من عمر؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنهُ قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُنْ في أُمَّتِي مِنْهُمْ أحَدٌ، فعُمَرُ مِنْهُمْ"، وقد وافق عمر ربَّه في عدة أشياء، ومع هذا فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي اللَّه ورسوله.

فكل من كان من أهل الإلهام والخِطاب، والمكاشفة، لم يكن أفضلَ من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعًا لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعًا لما ورد عليه، وهؤلاء الذين أخطئوا وضلُّوا، وتركوا ذلك، واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول.

وصار أحدهم يقول: "أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت"، فيُقَالُ لَهُ: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم، لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى، وأما ما ورد عليك؛ فمِن أين لك أنه وحيٌ من اللَّه؟ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان؟

و"الوحي" وحيان: وحيٌ من الرحمن، ووحي من الشيطان، قال -تَعَالى-:

{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، وقال -تَعَالى-:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وقال -تَعَالَى-: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 221] (2) اهـ.

 


(1) "الموافقات" (4/ 470 - 473).

(2) "مجموع الفتاوى" (13/ 73 - 75).

[نقد موقف أبي حامد الغزالي من الكشف والإلهام]

1 - لقد غلا أبو حامد الغزالي في إثبات حجية "الكشف" و"الإلهام" حتى قال في "مشكاة الأنوار" -وبئس ما قال-: "فى الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء" (1).

بل بلغ اغترار بعض الصوفية بالكشف إلى حد قول بعضهم: "خُضْنا بحرًا، وقف الأنبياء بساحله".

ومما يستنكر على الغزالي -سامحه الله- قوله: "الأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعلُّم والدراسة، والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله -تعالى-.

ثم قال: فمن كان حاله كذلك، فإنه يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب". اهـ (2).

ولا شك أن جمعه -في مثل هذا السياق- بين الأنبياء والأولياء (3) أمر مرفوض بالكلية، إذ لا يُقاس الأولياء على الأنبياء للافتراق بينهما في علة إرسال الرسل، وفي تلقيهم الوحي المعصوم، وفي غير ذلك، أضف إلى ذلك أن إرشاده مَن وصل إلى تلك الحال إلى أن يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب فيه انحراف عن هَدْي مَن هديُه خير الهدي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه السلبية فيها هدم لأركان الدين، من الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو فعل الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك لما فتحوا الفتوح، ولا نشروا الإسلام، ولا تعلموا الوحيين، ولا علَّموا الناس.


(1) "مشكاة الأنوار" ص (45)، ضمن مجموعة "القصور العوالي"، ونقول تعقيبًا على هذا الضلال المبين: "لماذا إذن بكى الصحابة -رضي اللهُ عنهم- لانقطاع الوحي بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! "، وانظر ص (164، 165).
(2) "الإحياء" (1/ 18 - 20)، وانظر: "كيمياء السعادة" ص (88).
(3) وله في الجمع بين الأنبياء والأولياء كلام شنيع يلزم منه انتقاص مرتبة النبوة، كما في "فيصل التفرقة" ص (130)، و"ميزان العمل" ص (75)، وغيرهما.

2 - وادعى الغزالي أن "فكر المريد يتفرق بقراءة القرآن، وبالتأمُّل في كتب التفسير والحديث وغيرهما" (1).

وهذا الكلام النحس، والمذهب الشؤم، والرأي المظلم أوقعه فيه بُعده عن منهج أهل السنة والحديث، وهو الذي دفع الإمام ابن الجوزي إلى أن يعلق عليه قائلًا: "عزيز عليَّ أن يصدر هذا الكلام من فقيه، فإنه لا يخفى قبحه، فإنه على الحقيقة طيٌّ لبساط الشريعة التي حثت على تلاوة القرآن وطلب العلم" (2).اهـ.

3 - ويرشد الغزالي المريد الذي يريد أن يجمع قلبه إلى أن يجتهد حتى لا يخطر بباله شيء سوى الله -تعالى-، وتكون غايته -في حَلِّه وتَرْحَاله- تحصيلَ مرتبة الكشف والإلهام، كما فتحها على الأنبياء والأولياء.

والجواب: أن هذا التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، وحصول الكشف والإلهام وما أشبه ذلك (3) مما ينافي الإخلاص، ويُكَدِّر صفاءه، لأن العابد هنا جعل العبادة وسيلة إلى ما لم تقره الشريعة، بجانب أن التعبد بهذا القصد يضعف الإخلاص في حالة عدم حصول مراده، وربما أعرض عن العبادة.

وحين كان رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- يتعبد لله في غار حراء، لم يكن يطلب كشفًا ولا إلهامًا، ولا شيئًا ينزل عليه من السماء، ولم يخطر له ذلك 

على بال، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]، بل حين جاءه الوحي كان مفاجأة هائلة له، ورجع إلى خديجة -رضي الله عنها- يرجف فؤاده، ويقول: "زمِّلوني، زمِّلوني"، ويقول: "لقد خشيت على نفسي".

وقد رُوي أن بعض الناس سَمِعَ بالقول المأثور: "مَن أخلص للَّه أربعين صباحًا، ظهرت ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه"، فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يُفتح له بابها، فبلغت القصة أحد الفضلاء، فقال: "هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله".

- والشرع الشريف لم يأمرنا بتطلب الكشف والإلهام، لأنه وهبي وليس كسبيًّا، وإنما أُمِرنا بطلب العلم.

- أن هذا النوع من القصد -إن أُريد به تثبيت القلوب وزيادة طمأنينة النفوس- ففي عالم الشهادة من الآيات القريبة السهلة المأخذ ما يدهش الألباب، وقد أمرنا الله بالنظر والتفكر في الآيات الكونية التي يدركها الحس كما قال -عز وجل-: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} الآيات [ق: 6، 7]، وقال -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الآيات [الغاشية: 17 - 20].

ولم يأمرنا قط بالنظر فيما حُجِب عنا، ولا سبيل إلى الاطلاع عليه في العادة، كالملائكة والعوالم الغيبية.

- ومِن جهة أخرى فهذا المسلك مسلك فلسفي منقول عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين والهندوس الوثنيين، والرهبان الضالين، مشروط برياضات معينة، لم تأت بها شريعتنا الإسلامية، فهو مسلك أجنبي دخيل على الإسلام، و"خير الهدي هدي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-".


(1) انظر: "الإحياء" (3/ 19، 20)، (2/ 66).
(2) وله في الجمع بين الأنبياء والأولياء كلام شنيع يلزم منه انتقاص مرتبة النبوة، كما في "فيصل التفرقة" ص (130)، و"ميزان العمل" ص (75)، وغيرهما.
(3) كالاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة، وحصول خوارق للعادات.

ومن أراد أن يكون لله وليًّا فليطلب ذلك بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، وبالفرائض والنوافل كما في حديث الوَلاية (1).

- وكما لم يكلفنا الله بالتطلع إلى المحسوسات البعيدة عنا في أقطار الأرض وأعماقها، كذلك لا يكلفنا هذا بالنسبة للأمور الغيبية.

- وأخيرًا: "فإن هذه الطريقة لو كانت حقًّا، فإنما تكون في حق مَن لم يأته رسول، فأما مَن أتاه رسول وأُمِر بسلوك طريق، فمَن خالفه ضلَّ، وخاتم الرسل -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أُمَّته بعبادات شرعية مِن صلاة وذكر ودعاء وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب مِن كل خاطر وانتظار ما ينزل!

فهذه الطريقة لو قُدِّر أنها طريق لبعض الأنبياء لكانت منسوخة بشرع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله -تعالى- في قلب العبد إلهامًا ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد، ليس هو من لوازم هذه الطريق.

ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملأه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله، ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه من محبة غير الله، ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، ولا يناقضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا".


(1) انظر: "الموافقات" (2/ 298 - 302)، و"مقاصد المكلفين" للدكتور عمر الأشقر ص (475 - 480).

وأما الاقتصار على الذِكْر المجرَّد الشرعي مثل قول: "لا إله إلا الله " -فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانًا، ولكن ليس هذا الذِكْر وحده هو الطريق إلى الله -تعالى- دون ما عداه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة ثم القراءة ثم الذِكْر ثم الدعاء" (1).

ومما قاله الغزالي -أيضًا-: " فَأمَّا من يأخذ معرفة هذه الأمور (2) من السمع المجرد، فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتَعَيَّنُ له موقف" (3) اهـ.

علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية قائلًا: "قلت: هذا الكلام مضمونه أنه لا يُسْتَفَادُ من خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيء من الأمور العلمية، بل إنما يُدْرِكُ ذلك كل إنسان بما حصَلَ له من المشاهدة والنور والمكاشفة".

وقال -أيضًا-: "وهذان أصلان للإلحاد؛ فإن كل ذي مكاشفة إن لم يَزِنْهَا بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات" (4).

وقال -رحمه الله-: "وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ، وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة: ففيه صواب وخطأ، وإنما يُفَرَّقُ بين صوابه، وخطئه بنور النبوة.


(1) "مجموع الفتاوى" (10/ 399).
(2) يقصد بهذه الأمور: معرفة ما يُتأول من الصفات الألهية وغيرها مما لا يُتأول، وقد حكى مذهب الأشعرية، ثم المعتزلة ثم الفلاسفة، ثم قال: "وحد الاقتصاد يين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض، لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع (يعني الأدلة السمعية من الكتاب والسنة)، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه" اهـ. من "الأحياء" (1/ 104).
(3) "نفس المصدر".
(4) وانظر شيئًا من هذه الضلالات مفصلة في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (143 - 199)، و"أبو حامد الغزالي والتصوف" ص (179 - 201).

قال بعض الشيوخ ما معناه: قد ضُمِنَتْ لنا اْلعصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تُضْمَنْ لنا العصمة في الكشوف"، ثم قال شيخ الإسلام: "من المعلوم أن هذا -أي الكشف- لو كان ممكنًا؛ لكان السابقون الأوَّلُونَ أَحَق الناس بهذا، ومع هذا فما منهم من ادَّعى أنه أدرك بنفسه ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (1).

وقال الإمام المحقق ابن قيِّمِ الجوزية في ضمن شرحه لعبارة صاحب المنازل: "وأمَّا الدرجة الثالثة: فمكاشفة عين، لا مكاشفة علم" ... إلخ.

"وليس مراد الشيخ في هذا الباب: الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفجَّار؛ كالكشف عمَّا في دار إنسان، أو عمَّا في يده، أو تحت ثيابه، أو ما حَمَلَتْ به امرأته، بعد انعقاده ذكرًا أو أنثى، وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك، فإن ذلك يكون من الشيطان تارةً، ومن النفس تارةً؛ ولذلك يقع من الكفَّار؛ كالنصارى، وعابدي النيران، والصلبان؛ فقد كاشف ابن صياد النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أضمره له، وخبَّأه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخوَانِ الكُهَّانِ"، فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك قَدْرُهُ، وكذلك مُسَيْلمَةُ الكذَّاب، مع فرط كفره، كان يُكَاشِفُ أصحابه بما فعله أحدهم في بيته، وما قاله لأهله، يخبره به شيطانه، ليُغويَ الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان، وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة، وشاهد الناس مِن كَشْفِ الرُّهْبَان عُبَّاد الصليب ما هو معروف.

والكشف الرحماني من هذا النوع: هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة -رضي اللَّه عنهما-: إن امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر -رضي الله عنه- لمَّا قال: "يا ساريةُ الجبلَ"، وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن.

والمقصود: أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك، وأفضله وأجله: أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه؛ ليستقيم عليها، وعن عيوب نفسه ليصلحها، وعن ذنوبه ليتوب منها.


(1) "درء تعارض العقل والنقل" (5/ 348 - 354)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (2/ 91).

فما أكرم اللَّه الصادقين بكرامة أعظم من هذا الكشف، وجعلهم منقادين له، عاملين بمقتضاه، فإذا انضم هذا الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة عن قلوبهم: سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح" (1).

وقال -رحمه الله- أيضًا:

"فالكشف الصحيح: أن يَعْرِفَ الحق الذي بعَثَ اللَّه به رُسُلَهُ، وأنزل به كُتُبهُ، معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وُجُودًا وعَدَمًا، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح" (2) اهـ.

[فائدة]

قال الشيخ العلَّامة محمد حبيب الله الشنقيطي -رحمه الله تعالى-:

(وإنما لم تظهر كرامات الصحابة كثيرًا مثل ما وقع لأكابر هذه الأمة بعدهم، لكون كرامتهم كانت بالاستقامة، والإعراض عن درجات الدنيا زهدًا فيها، تأسيًا بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لتزداد درجاتهم في الآخرة، لأنهم كانوا على مشربه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الإعراض عن الدنيا، وظهور الكرامات فيها من جملة ما يَستلِذُّ به من وقعت له، فلربما يشغله ذلك عن الدار الآخرة، وقد أشار صاحب نظم "عمود النسب" لكون كرامات الصحابة كانت بالاستقامة غالبًا بقوله:

لا يتشوَّفون للكرامَهْ ... بالكشف بل لنيل الاستقامَهْ

وَقَلَّ مَن بالكشفِ منهم اشتَهَرْ ... وبعدهم على الخلائق ابْذَعَر

وقد أشار بقوله: "وبعدهم على الخلائق ابذعر" إلى أن الكشف انتشر وكثر بعد الصحابة -رضي الله عنهم- وكذا سائر الكرامات غيره) (3) اهـ.

لَا عِلمَ إلَّا بدَلِيلٍ أو شَاهِدٍ

* قال الإمام المحقِّقُ ابن قيم الجوزية -رحمه الله - تعالى-:

"علوم الشواهد" هي ما حصَلَتْ من الاستدلال بالأثر على المؤثر، وبالمصنوع على الصانع، فالمصنوعات شواهد، وأدلة، وآثار، وعلوم الشواهد: هي المستندة إلى الشواهد الحاصلة عنها.

و"العلم اللدني" هو العلم الذي يقذفه اللَّه في القلب إلهامًا بلا سبب من العبد، ولا استدلال؛ ولهذا سُمِّيَ لدُنِّيًّا، قال اللَّه -تَعَالَى-: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، واللَّه -تَعَالى- هو الذي علَّم العباد ما لا يعلمون؛ كما قال -تَعَالى-: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، ولكن هذا العلم أخص من غيره؛ ولذلك أضافه إليه -سبحانه-؛ كبيته، وناقته، وبلده، وعبده، ونحو ذلك، فتضمحل العلوم المستندة إلى الأدلة والشواهد في العلم اللدنِّي، الحاصل بلا سبب ولا استدلال، هذا مضمون كلامه.

ْونحن قول: إن العلم الحاصل بالشواهد والأدلة هو العلم الحقيقي، وأما ما يَدَّعي حُصُولَهُ بغَيْرِ شاهدٍ، ولا دليل، فلا وُثُوقَ به، وليس بعلْم، نَعَم قد يقوى العلم الحاصل بالشواهد، ويتزايد؛ بحيث يصير المعلوم كالمشهود، والغائب كالمُعَايَن، وعلم اليقين كعين اليقين، فيكون الأمر شعورًا أولًا، ثم تجويزًا، ثم ظنًّا، ثم علمًا، ثم معرفةً، ثم علمَ يقينٍ، ثم حقَّ يقينٍ، ثم عينَ يقينٍ، ثم تضمحل كل مرتبة في التي فوقها؛ بحيث يصير الحكم لها دونها، فهذا حقٌّ.


(1) "مدارج السالكين" (3/ 227، 228).
(2) "نفسه" (3/ 226).
(3) "فتح المنعم مع زاد المسلم" (2/ 42).

وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال، فليس بصحيح؛ فإن اللَّه -سبحانه- ربَطَ التعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه. وقَدْ أيَّدَ اللَّه -سبحانه- رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما جاءهم هو من عند اللَّه، ودَلَّتْ أممهم على ذلك، وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على أن ما جاءهم هو من عند اللَّه، وكانت براهينهم أدلةً، وشواهد لهم، وللأمم؛ فالأدلة والشواهد التي كانت لهم ومعهم، أعظم الشواهد والأدلة، واللَّه -تَعَالَى- شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشواهد، فكل علمٍ لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها، وحكم لا برهان عند قائله، وما كان كذلك لم يكن علمًا، فضلًا عن أن يكون لدُنَّيًّا.

فالعلم اللدني ما قام الدليل الصحيح عليه: أنه جاء من عند اللَّه على لسان رسله، وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان، منه بدأ وإليه يعود، وقد انبثق (1) سَدُّ العلم اللدني ورخص سعره حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني، وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك، وباب الأسماء والصفات بما يسنح له، ويلقيه شيطانه في قلبه، يزعم أن علمه لدني، فمَلاحِدَةُ الاتحادية، وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون: "إن علمهم لدني، وقد صنَّفَ في العلم اللدني متهوكو المتكلمين، وزنادقة المتصوفين، وجهلَةُ المتفلسفين، وكلٌّ يزعم أن علمه لدني، وصدقوا، وكذبوا فإن "اللدني" منسوب إلى "لدن" بمعنى "عند"، فكأنهم قالوا: العلم العندي، ولكنَّ الشأن فيمن هذا العلم مِن عنده، ومن لدنه، وقد ذمَّ اللَّه -تَعَالَى- بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده؛ كما قال -تَعَالى-: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93].

فكلُّ من قال: هذا العلم من عند اللَّه، وهو كاذب في هذه النسبة، فله نَصِيبٌ وافر من هذا الذَّم، وهذا في القرآن كثير، يذم اللَّه -سبحانه- من أضاف إليه ما لا علم له به، ومن قال عليه ما لا يعلم؛ ولهذا رتب -سبحانه- المحرماتِ أربعَ مراتبَ، وجعل أشدَّها القولَ عليه بلا علم، فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تبُاحُ بحال، بل هي محرمة في كل مِلةٍ، وعلى لسان كل رسول؛ فالقائل: "إن هذا علم لدني"، لما لا يعلم أنه من عند الله، ولا قام عليه برهان من اللَّه أنه من عنده: كاذبٌ مُفْترٍ على الله، وهو من أظلم الظالمين، وأكذب الكاذبين" (2).

* * *


(1) انبثق: انثقب، وانشق.

(2) "نفسه" (3/ 431، 433).

 

  • الثلاثاء AM 10:58
    2022-08-02
  • 763
Powered by: GateGold