المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413596
يتصفح الموقع حاليا : 204

البحث

البحث

عرض المادة

التَّحدِيثُ وَالمُحَدَّثُونَ

الأحَادِيثُ الوَارِدَةُ في المُحَدَّثِينَ:

عَنْ أبي هُرَيْرةَ -رضي اللَّه عنه- عَنِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "إنَهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَم مُحَدَّثُونَ، وَإنَّهُ إنْ كَانَ في أمَّتي هَذَهَ مِنْهُمْ فَإنَّهُ عُمَرُ بنُ الخَطابِ" (1).

وعنه -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمون (2) من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يَكُنْ من أمتي منهم أحد فعمر" (3).

وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" (4).

معنى المحدَّث: يقَالُ للرجل الصادق الظن: مُحدَّث، بتشديد الدال المفتوحة (5).

وقال ابن وهب: (تفسير "مُحَدَّثُونَ": مُلْهَمُونَ) (6)، والملهم: "هو الذي يُلقى في نفسه الشيء، فيُخْبرُ به حَدْسًا وفراسة" (7).


(1) رواه البخاري (3689) (7/ 42 - فتح).
(2) قيل: تكلمه الملائكة في نفسه، وإن لم ير مكلمًا في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام، انظر: "فتح الباري" (7/ 50).
(3) "نفسه".
(4) رواه مسلم (4/ 1864) (23).
(5) "لسان العرب" (2/ 124).
(6) "صحيح مسلم" (4/ 1864).
(7) "لسان العرب" (2/ 134)، و"النهاية" لابن الأثير (1/ 350).

وقال سفيان بن عيينة: مُحَدَّثُونَ: مُفَهَّمون (1).

وقال ابن القيم: هو الذي يُحَدَّثُ في سِرِّه وقلبه بالشيء، فيكون كما يُحدَّث به (2).

وقيل: "هو الرجل الصادق الظن، وهو من أُلقي في رُوعه شيء مِن قِبَلِ الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدَّثه غيره به، وبهذا جَزَمَ أبو أحمد العسكري، وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد" (3).

ونقل النووي عن البخاري -رحمه الله- أن المحدَّثين "هم الذين يجري الصواب على ألسنتهم" (4).


(1) "سنن الترمذي" (5/ 622) (3693).
(2) "مدارج السالكين" (1/ 39).
(3) "فتح الباري" (7/ 50).
(4) "شرح النووي لصحيح مسلم" (15/ 166).

التَّحدِيثُ إلهَامٌ خاصٌّ

قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله - تعالى-:

(المَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ (1): مرتبة التحديث، وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصدِّيقين؛ كما كانت لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-؛ كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهُ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحدَّثُونَ، فَإنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ فعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ".

التَحْدِيثُ أخَصُّ مِنَ الإلْهَامِ: فإن الإلهام عامٌّ للمؤمنين بحسب إيمانهم؛ فكل مؤمن فقد ألهمه اللَّه رشده الذي حصل له به الإيمان؛ فأما التحديث: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: "إنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أحد فعُمَرُ"؛ يعني من المُحَدَّثِينَ، فالتحديث إلهام خاص، وهو الوحي إلى غير الأنبياء: إما من المكلفين؛ كقوله -تَعَالَى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} (2) [المائدة: 111]، وإما من غير المكلفين، كقوله -تَعَالَى-: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]. فهذا كله وحي إلهام) (3).

الصِّدِّيقُ أكمَلُ مِنَ المُحَدَّثِ

قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "والمحدَّث هو الذي يحدَّثُ في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يُحَدَّثُ به.


(1) أي من مراتب الهداية للإنسان.
(2) قال الأزهري: "الوحي هنا بمعنى الإلهام" اهـ. نقله ابن منظور في "لسان العرب" (2/ 555).
(3) "مدارج السالكين" (1/ 44، 45).

قال شيخنا: والصِّدِّيقُ أكمل من المحدَّث؛ لأنه استغنى بكمال صِدِّيقِيَّتِه ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف؛ فإنه قد سلَّمَ قلبه كله، وسره، وظاهره، وباطنه للرسول، فاستغنى به عما منه (1).

قال: وكان هذا المحدَّث يَعْرِضُ ما يُحَدَّثُ به على ما جاء به الرسول، فإن وافقه قَبِلَهُ، وإلا ردَّهُ، فعُلِمَ أنَّ مرْتبَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ فوق مرتبة التحديث" (2) اهـ.

وقال أيضًا -رحمه اللَّه- تعالى:

"ولا تظن أن تخصيص عمر -رضي اللَّه عنه- بهذا؛ تفضيل له على أبي بكر الصديق، بل هذا من أقوى مناقب الصديق، فإنه- لكمال مشربه من حوض النبوة، وتمام رضاعه من ثدي الرسالة، استغنى بذلك عما تلقَّاه من تحديثٍ أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث، فتأمل هذا الموضع، وأعطه حقه من المعرفة، وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير" (3).


(1) كذا بالأصل.
(2) "مدارج السالكين" (1/ 39، 40)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (2/ 226، 227)، و"دقائق التفسير الجامع لتفسير شيخ الإسلام ابن تيمية" تحقيق د. محمد السيد الجليند (4/ 306، 307).
(3) "مفتاح دار السعادة" (1/ 255)، دار الكتب العلمية، بيروت.

الفَرقُ بَينَ الفِرَاسَةِ والإلهَامِ

أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسبٍ وتحصيلٍ، وأما الإلهامُ فموهبة مُجَرَّدَةُ، لا تُنَالُ بكسبٍ البتة (1).

هل في الأُمَّةِ المُحَمَّديَّة مُحَدثَّونَ؟

قال الإمام المحقِّق ابن قَيِّمِ الجوزية -رحمه اللَّه - تعَالَى-: "وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه اللَّه- يقول: جزم (2) بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعَلَّق وجودهم في هذه الأمة بـ "إن" الشرطية، مع أنها أفضل الأمم؛ لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها، ورسالته، فلم يُحْوِج الله الأمة بعده إلى مُحدَّث، ولا مُلْهَم، ولا صاحب كشف، ولا منامٍ، فهذا التعليق لكمال الأمة، واستغنائها لا لنقصها" (3).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه - تعَالَى-:

"وأمَّا مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- فبُعِثَ بكتاب مستقلٍّ، وشرع مُستقِل كامل تامٍّ لم يُحْتَجْ معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره، ولا إلى شرعٍ لاحقٍ يكمل شرعه؛ ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (إنَّهُ قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُنْ في أُمَّتِي أحَد فعُمَرُ).

فجزم أن من كان قبله كان فيهم مُحدَّثُونَ، وعلَّقَ الأمرَ في أمته، وإن كان هذا المُعَلَّق قد تحقق؛ لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر، فَلأَن لا تحتاج معه إلى مُحدَّث ملهم أولى وأحرى.


(1) "نفسه" (1/ 45)، وانظر: "لرسالة القشيرية" ص (106)، و"الذريعة إلى مكارم الشريعة" ص (186، 187)، و"فتح الباري" (1/ 170)، و"فراسة المؤمن" للشيخ إبراهيم الحازمي.
(2) أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(3) "مدارج السالكين" (1/ 39).

وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي، فأمكن حاجتهم إلى المُحَدَّثِينَ الملهمِين؛ ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمَّتِه لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (1). اهـ.

وقال -أيضًا- رحمه اللَّه-: "المُحَدَّثُ كان فيمن قبلنا، وكانوا يحتاجون إليه .. وأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تحتاج إلى غير محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (2). اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه-: "وقوله: (إنْ يَكُ في أُمَّتِي)، قيل: لم يورد هذا القول مورد الترديد؛ فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وُجِدَ في غيرهم، فإمكان وجوده فيهم أولى (3)، وإنما أورده مورد التأكيد، كما يقول الرجل: "إن يكن لي صديق، فإنه فلان"، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: "إن كنتُ عملتُ لك، فَوَفنِّي حقي"، وكلاهما عالم بالعمل، لكن مراد القائل أن تأخيرك حقي عملُ مَنْ عِنْدَهُ شكٌّ في كوني عملتُ.

وقيل: الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم، حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده -صلى الله عليه وسلم- ألَّا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك، لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك؛ حتى إن المحدَّث منهم إذا تحقق وجوده؛ لا يحكم بما وقع له، بل لابد من عرضه على القرآن، فإن وافقه، أو وافق السنة، عمل به، وإلا تركه، وهذا -وإن جاز أن يقع- لكنه نادر ممن يكون أمره منهم مبنيًّا على اتباع الكتاب والسنة" (4). اهـ.


(1) "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/ 382، 383).
(2) "الفتاوى الكبرى" (5/ 107) بتصرف.
(3) بل مقتضى أفضلية هذه الأمة المحمدية استغناؤها عن المحدثين، لكمال دينها، وإن فرض وجودهم فإن الشرع مستغن عنهم، وحاكم عليهم لا العكس، كما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وكما يأتي من كلام ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
(4) "فتح الباري" (7/ 50، 51).

الفَرقُ بَينَ النَّبِيِّ والمُحَدَّثِ (1):

النَّبِيُّ: يُوحى إليه بوحي يَعلم أنه وحي من اللَّه -عز وجل- سواء كُلِّف بتبليغه إلى الناس أم لا.

والنَّبي لا يحتاج إلى التأكد من صحة ما أوحي إليه به بعرضه على وحي سابق؛ لأنه يعلم يقينا أنه وحي من الله -سبحانه- ووحي اللَّه -عز وجل- يكمل بعضه بعضًا، ثم إن النبي معصوم من الوهم فيما يخبر به عن اللَّه -سبحانه- كما قال -جل ذكره-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 26 - 28]، فهو هنا يحرسهم حتى يبلِّغوا عنه.

والنبي إن أخطأ في رأي أو اجتهاد، فإن اللَّه -سبحانه- لا يتركه على ذلك، بل يصحح له عن طريق الوحي؛ كما وقع في قصة أسرى بدر؛ حيث أنزل اللَّه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وكإذنه للمتخلفين عن تبوك، يقول اللَّه -تَعالَى-: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وغير ذلك كثير.

أمَّا المُحَدَّثُ: فإنه يُحدَّث في سره بالشيء، ولا يعلم أنه من الله -تَعالَى-، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يقول: "لا يقولن أحد: قضيت بما أراني اللَّه -تعَالَى-؛ فإن اللَّه -تَعالَى- لم يجعل ذلك إلا لنبيه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنًّا، ولا يكون علمًا" (2)، أي أنه لا يصل ذلك التحديث إلى درجة اليقين لعدم تيقنه بكونه من اللَّه -سبحانه-، وكان -رضي اللَّه عنه- إذا قضى في شيء لا يعتبره قضية مُسلَّمة، وأنه من اللَّه، بل يعزوها إلى نفسه غير مؤكد صحتها؛ ففي قضية الكَلَالة (3). 


(1) بتصرف من "عقيدة ختم النبوة" للشيخ أحمد بن سعد الغامدي ص (123 - 126).
(2) "تفسير مفاتيح الغيب" (1/ 33).
(3) الكلالة: اسم للورثة ما عدا الوالدين والمولودين، وقيل: اسم للميت الذي لا والد له، ولا ولد.

قال: "أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا؛ فمن الله، وإن يكن خطأ؛ فمني ومن الشيطان" (1).

فهذا عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أفضل المحدَّثين -إن وجِدوا-، وقد شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنِّي لأنْظُرُ إلى شَيَاطِينِ الجِن والأنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ" (2)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن اللهَ جعَلَ الحَق علَى لِسَانِ عُمَرَ وقَلْبِهِ" (3)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ نَبي بعْدِي لكَانَ عُمَرَ" (4)، وكان علي -رضي الله عنه- يقول: "ما كنا نُبْعِدُ أن السكِينة تنطق على لسان عمر" (5).

وكان عمر يقول: "اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنه تتجلى لهم أمور صادقة" (6).

ومع ذلك لم يعتبر آراءه حقًّا صوابًا، بل كان يتَّهم نفسه؛ كما سبق؛ ولذلك كان يعرض آراءه على الكتاب والسنَّة.

المُحدَّثُ يَجِبُ أن يعرضَ آراءَهُ علَى الكِتَابِ والسَّنَّةِ:

لما كان المحدَّث لا يعلم أن ما في قلبه من الله؛ فإنه يلزمه -ليعلم صحة ذلك- أن يعْرضَهُ على ميزان صحيح واضح، وليس ذلك إلا كتاب الله، وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت هذه حالة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- مع نفسه وغيره.

فليس في المحدَّثين أفضل من عمر، وقد وافق ربَّه في عدة أشياء، ومع هذا، فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله.


(1) "مدارج السالكين" (1/ 40).
(2) "صحيح سنن الترمذي" (3/ 207) (2914).
(3) "نفسه" (3/ 204) (2908).
(4) "نفسه" (3/ 204) (2909).
(5) "سير أعلام النبلاء: سير الخلفاء الراشدين" ص (76).
(6) ذكره في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (52).

وكان إذا تبين له من ذلك أشياء خلاف ما وقع له فيرجع إلى السنَّة.

وكان أبو بكر يبين له أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيانه، وإرشاده؛ كما جرى يوم الحديبية، ويوم مات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويوم ناظره في مانعي الزكاة، وغير ذلك، وكانت امرأة ترُدُّ عليه، وتذكر الحجة من القرآن، فيرجع إليها؛ كما جرى في مُهور النساء، ومثل ذلك كثير (1).

ومن الأمور التي بينها له أبو بكر - رضي الله عنه - وردَّه فيها إلى الصواب:

أمر موت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ حيث قام عمر يقول: "والله، ما مات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وكان يقول بعدها: "واللَّه ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه اللَّه، فيقطعن أيدي رجال، وأرجلهم"، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقبَّله، وقال: "بأبي أنت وأمي، طِبْتَ حيًّا وميِّتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك اللَّه الموتتين أبدًا"، ثم خرج، فقال: "أيها الحالفُ، على رِسْلِكَ"، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر: فحمِد اللهَ أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: "ألَا من كان يعبد محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه، فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} " (2) [آل عمران: 144].

وكذلك في قصة الحديبية عندما صالح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قريشًا، وثبت عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: "يا أبا بكر، أليس رسولَ الله؟ " قال: بلى، قال: "أولسنا بالمسلمين؟ " قال: بلى، قال: "أوليسوا بالمشركين؟ " قال: بلى، قال: "فعلام نعطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟ "


(1) انظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (53، 54).
(2) رواه البخاري (7/ 19 - فتح).

قال أبو بكر: "يا عمر، الزم غَرْزَه؛ فإني أشهد أنه رسولُ الله"، قال عمر: "وأنا أشهد أنه رسولُ اللَّه" (1).

وقد قال عمر في ذلك: "ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق؛ من الذي صنعتُ يومئذ مخافةَ كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رجوتُ أن يكون خيرًا" (2)، لأنه قد قال للرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل ما قال لأبي بكر.

وكذلك في قصة عيينة بن حصن عندما دخل عليه، فقال له: "هِي يابن الخطاب، فواللَّه، ما تعطينا الجَزلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل"؛ فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحُرُّ: "يا أمير المؤمنين، إن اللَّه -تعَالَى- قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين"، قال ابن عباس الراوي: "واللَّه، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب اللَّه" (3).

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "إن المحدَّث منهم إذا تحقق وجوده لا يحْكمُ بما وقع له، بل لابد له من عرضه على القرآن، فإن وافقه، أو وافق السنَّة، وإلا تركه" (4).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

(وكذلك في قتال مانعي الزكاة، قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإنْ فعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّهَا"، فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-: ألم يقل: "إلَّا بحَقِّهَا"، فإن الزكاة من حقها، واللَّه، لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فواللَّه، ما 

هو إلا أن رأيت قد شُرحَ صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.

ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر، مع أن عمر - رضي الله عنه - مُحَدَّثٌ، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياءَ، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم.

ولهذا كان عمر -رضي اللَّه عنه- يشاور الصحابة -رضِيَ اللَّه عنْهُمْ-، ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء، فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنَّة، ويقرهم على منازعته، ولا يقول لهم: "أنا محدَّث ملهم مخاطَب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني"، فأي أحد ادعى، أو ادعى له أصحابه أنه ولي للَّه، وأنه مخاطَب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله، ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ فهو، وَهُمْ مخطئون، ومثل هذا أضل الناس، فعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه، ويعرضون ما يقوله -وهو، وهُمْ- على الكتاب والسنَّة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، إلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.

وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم؛ فإن الأنبياء -صلوات اللَّه عليهم وسلامه- يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن اللَّه -عز وجل- وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء؛ فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنَّة، فما وافق الكتاب والسنَّة: وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنَّة: كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء اللَّه، وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده، ولكنه إذا خالف الكتاب والسنَّة كان مخطئًا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى اللَّه ما استطاع، فإن اللَّه -تعَالَى- يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا تفسير قوله -تَعَالَى-: 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].

قال ابن مسعود وغيره: "حق تقاته: أن يطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَرَ فلا يُكفر"، أي بحسب استطاعتكم؛ فإن اللَّه -تعَالَى- لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كما قال -تعَالَى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال -تعَالَى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]، وقال -تعَالَى-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].

وقد ذكر اللَّه -سبحانه وتعالى- الإيمان بما جاءت به الأنبياءُ في غير موضع؛ كقوله -تعَالَى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

وقال -تعَالَى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 1 - 5]، وقال -تَعَالَى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

 


(1) رواه بنحوه البخاري (8/ 281).
(2) "سيرة ابن هشام" (2/ 317).
(3) رواه البخاري (8/ 304، 305 - فتح).
(4) "فتح الباري" (7/ 51).

وهذا الذي ذكرته من أن أولياء اللَّه يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنَّة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له، أو لغيره اتباعُ ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنَّة هو مما اتفق عليه أولياء اللَّه -عز وجل-، ومن خالف في هذا فليس من أولياء اللَّه -سبحانه- الذين أمر اللَّه باتباعهم، بل إما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون مُفرِطَا في الجهل) (1) اهـ.

وقال -أيضًا- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: "ولو كان أحد يأتيه من اللَّه ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنَّة؛ لكان مستغنيًا عن الرسول في بعض دينه، وهذا من المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخَضِر مع موسى، ومن قال هذا فهو كافر (2).

شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ يدحَضُ مقُولَةَ: "حدَّثَني قلبِي عن رَبِّي":

قال: (وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: "حدَّثَنِي قلْبِي عَنْ ربِّي"، فصحيح أن قلبه حدَّثه، ولكن عَمَّن؟ عن شيطانه، أو عن ربه؟ فإذا قال: "حدَّثَنِي قلْبِي عَنْ رَبِّي"، كان مُسْندًا الحديثَ إلى من لم يعلم أنه حدَّثه به، وذلك كذبٌ، قال: ومحدَّث الأمة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوَّه به يومًا من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك، بل كتب كاتبه يومًا: "هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب"، فقال: "لا، امْحُهْ، واكتب: هذا ما رأى عمر بن الخطاب، فإن كان صوابًا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمن عمر، واللَّه ورسوله منه بريء"، وقال في الكلَالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان"، فهذا قول المحدَّث بشهادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنت ترى الاتحادي، والحلولي، والإباحي الشَّطَّاح، والسماعي، مجاهرًا بالقِحَة والفِرية، يقول: "حدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي".

فانظر إلى ما بين القائلَينِ والمرتبتين والقولَين والحالَين، وأعطِ كل ذي حقٍّ حقه، ولا تجعل الزَّغَلَ والخالص شيئًا واحدًا) (3) اهـ.


(1) "الفرقان" ص (54 - 56).
(2) "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/ 43).
(3) "مدارج السالكين" (1/ 40)، والزَّغَل: الغِشُّ.

* قال الحافظ الذهبي -رحمه اللَّهُ - تَعَالَى-:

" ... وقد رأيت غير واحد من هذا النمط الذين زال عقلهم أو نقص، يتقلبون في النجاسات، ولا يصلون، ولايصومون، وبالفحش ينطقون، ولهم كشف كما -واللَّه- للرهبان كشف، وكما للساحر كشف، وكما لمن يُصرع كشف، وكما لمن يأكل الحية، ويدخل النار حالٌ مع ارتكابه للفواحش، فواللَّه، ما ارتبطوا على مسيلمة والأسود إلا لإتيانهم بالمغيبات (1) ". اهـ.

وقال الإمام المحقق ابن القيم -رحمه اللَّه - تَعَالى-: "الفراسة الثانية: فراسة الرياضة والجوع، والسهر والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق، صار لها من الفراسة، والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان، ولا على وَلاية، وكثير من الجهال يغتر بها، وللرهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة، وأصحاب عبارة الرؤيا، والأطباء، ونحوهم.

وللأطباء فراسة معروفة مِن حذقهم في صناعتهم، ومَن أحب الوقوف عليها، فليطالع تاريخهم وأخبارهم" (2). اهـ.


(1) "نزهة الفضلاء" (4/ 3671)، وانظره: (4/ 1683، 1733)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (10/ 435) وما بعدها.
(2) "مدارج السالكين" (2/ 486، 487)، وانظر: "قطر الولي" ص (171 - 179)، فإنه مهم.

وقال العلامة عبد الرحمن المُعَلِّمِيُّ اليماني -رحمه اللَّه- تَعَالَى-: " ... ثم جاء القرن الثاني، فتوغل أفرادٌ في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل، لعزَّة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوقعوا في طرفٍ من الرياضة، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية؛ كالإخبار بأن فلانًا الغائب قد مات، أو سيقدم وقت كذا، وأن فلانًا يضمر في نفسه كذا، وما أشبه ذلك من الجزئيات القريبة (1)، فكان


(1) علق العلامة الألباني -رحمه الله- على هذا الموضع قائلًا: (قلت: الإخبار عما في نفس الغير ليس من الجزئيات القريبة، بل هو من خصوصيات الله -تبارك وتعالى-، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116]، فيستحيل أن يصل إلى هذه المرتبة من يتعاطى الرياضة من مؤمن أو كافر، ونحوه الإخبار بموت الغائب، أو بقدومه، نعم هذان الأمران الأخيران ونحوهما قد يكون من وحي الشيطان الجني الذي يسترق السمع إلى الشيطان الإنسي، أو يمكنه بحكم جبلته أن يطلع على موت فلان، قبل أن يطلع عليه البعيد عنه من بني الإنسان، فيخبر به من يريد أن يضله من الإنس، كهؤلاء المرتاضين الذين يتحدث عنهم المصنف -رحمه الله تعالى- ومثله قدوم الغائب، ومكان الضالة، ونحو ذلك، فهذه أمور ميسورة للجن، فَيُطْلِعون بعض الإنس بها لإضلالهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، وأما الاطلاع على ما في الصدور والإخبار به، فليس في طوق أحد منهم إلا بإخبار الله -عز وجل- من شاء من عباده الذين ارتضاهم لرسالته، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، نعم ليس من هذا القبيل ما يُلهمه الرجل الصالح، ثم يقع كما أُلهم، لأنه لو سئل عنه قبل ذلك لم يستطع الجزم به، فلأنه لا يدري أمن إلهام الرحمن هو، أم من وحي الشيطان؟ بخلاف التي قالت: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}. وليس منه أيضًا ما يتنبأ به الإنسان بفراسته وملاحظته الدقيقة التي لا يتنبه لها غيره، وقد وقع لي شخصيًّا من هذا النوع حوادث كثيرة لولا أنني كنت أبادر إلى الكشف عن أسبابها الطبيعية لظنها الناس كشفًا صوفيًّا! فمن ذلك أنني كنت يومًا في حلقة الدرس أنتظر أن يكتمل الجمع، إذ قلت لمن عن يميني -وهو حي يرزق-: "بعد قليل يدخل فلان -لشاب سميته-"، فلم يمضِ سوى لحظات حتى دخل! فنظر إلى جليسي دهشًا كأنه يقول: أكشف؟ فقلت: "لا بل هي الفراسة"، ثم شرحت له سر المسألة، وذلك أن الشاب المشار إليه أعرف أن له دراجة عادية يأتي عليها إلى الدرس، وأعرف أيضًا أن الراكب لها إذا أراد النزول عنها أوقف تحريك رجليه إذا اقترب من المكان الذي يريد النزول عنده، وأنه عند ذاك يُسمع منها صوتُ بعض مسنناتها، وكانت دراجة الشاب من النوع المعروف بـ (السباقية)، والصوت الذي يسمع منها عند النزول أنعم من الأخريات، وكان هو الوحيد الذي يركبها من بين الذين يحضرون الدرس عادة، فلما أراد النزول، وأوقف رجليه طرق سمعي ذلك الصوت، فعرفت أنه هو، وأخبرت جليسي به، فكان كذلك!
وقد اتفق لي مرارًا -ويتفق مثله لغيري- أنني وأنا في صدد تقرير مسألة يقوم بعض الحاضرين يريد أن يسأل، فأشير إليه بأن تمهل، فإذا فرغت منها، قلت له: "الآن فَسَل"، فيقول: "ما أردت السؤالَ عنه قد حصل! " فأقول: أهذا هو الكشف؟! فمثل هذه الإجابة قد تقع تارة عفوًا، وتارة بقصد من المدرس الذي بحكم مركزه قد يتنبه لما لا يتنبه له الحاضرون، فيعرف من علاماتٍ خاصة تبدو له =

الناس يظنون أن جميع ذلك من الكرامات، والواقع أن كثيرًا منه كان من آثار الرياضة، وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كان في طبعه استعداد وتعانى الرياضة بشروطها؛ سواء أكان مسلمًا -صالحًا أو فاجرًا- أم كافرًا، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخل فيها لقوى النفوس، فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطان مسلكًا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنَّة؛ فمنهم من كان عنده من العلم ما دافع به عن دينه؛ كما نُقِل عن أبي سليمانَ الداراني أنه قال: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنَّة، ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في "الاعتصام" (106 - 121).

ومنهم من سلم له أصل الإيمان، لكن وقع في البدع العلمية، ومنهم من كان سلطان الشيطان عليه أشد؛ فأوقعه في أشد من ذلك، كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمرو القيسي من "لسان الميزان"، ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسَّهَرَ لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نُقِلت مقالات الأمم الأخرى، ومنها الرياضة، وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير، فضمها هواتُها إلى ما سبق، ملصِقين لها بالعبادات الشرعية، وكَثُرَ تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها؛ ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتورع عن الإنكار عليه، بزعم أنه من أولياء اللَّه -تَعَالَى-، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلًّا للشكوك والشُّبَهِ التي أوقعه فيها التعمقُ في الكلام والفلسفة.


= من الذي يريد السؤال، ما هو سؤاله، فيجيبه قبل أن يسأل! فيظن كثير من الناس أنه كشف أو إخبار عما يضمر في نفسه، وإنما هو الظن والفراسة، ويستغل ذلك بعض الدجالين، فيلقون في نفوس مريديهم أنهم يطلعون على الضمائر، وأنهم يعلمون الغيب، فيتقبلون ذلك منهم ببساطة وسلامة قلب، حتى إن الكثير منهم لا يسافرون، ولا يأتون عملًا يهمهم، إلا بعد موافقة شيخهم عليه، فكأنه عندهم {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. واللَّه المستعان). اهـ. من هامش "القائد إلى تصحيح العقائد" ص (66، 67).

هذا، والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّرَاتُ" (1)، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ".

وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا، فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث، والإلهام، والفراسة، والكهانة، والكشف، كلها دون الرؤيا، والسر في ذلك أن الغيب على مراتب:

الأُوْلَى: ما لا يعلمه إلا اللَّه، ولم يُعْلِمْ به أحدًا، أو أعلم به بعض ملائكته.

الثَّانِيَةُ: ما قد علمه غير الملائكة من الخلق.

الثَّالِثَةُ: ما عليه قرائن ودلائل إذا تنبه لها الإنسان عرفه؛ كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من ذكاء إياس، والشافعي، وغيرهما، فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى، لكن الحديث يقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط، وفي معناه التحذير، والفراسة، تتعلق بالمرتبة الثالثة، وبقية الأمور بالمرتبة الثانية، وإنما الفرق بينهما -واللَّه أعلم- أن التحديث والإلهام من إلقاء الملَك في الخاطر، والكهانة من إلقاء الشيطان، والكشف قوة طبيعية غريبة؛ كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار.

نعم، قد يقال: إن الرياضة قد تؤهل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه، فيكون الكشف ضربًا من الرؤيا.

وأقول: إن صح هذا، فقد تقدم أن الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي الصحيح أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، والتمييز مُشْكِل، ومع ذلك فالغالب أن 

تكون على خلاف الظاهر؛ حتى في رؤيا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما قُصَّ من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة؛ ولهذه الأمور اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحُجَّة، وإنما هي تبشير، وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة؛ كما ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج؛ لثبوتها عنده بالكتاب والسنَّة، فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك؛ فاستبشر ابن عباس.

هذا حال الرؤيا، فَقِس عليه حال الكشف إن كان في معناها، فاما إن كان دونها، فالأمر أوضح، وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقًّا، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلًا موافقًا لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيرًا ما يكشف للرجل بما يوافق رأيه حقًّا كان أو باطلًا، ولهذا تجد في المتصوفة من ينتسب إلى قول أهل الحديث، ويزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، وهكذا تجد فيهم الأشعري والمعتزلي والمتفلسف وغيرهم، وكلٌّ يزعم أنه يُكْشَفُ له بصحة مذهبه، ومخالفه منهم لا يُكذِّبُهُ، ولكنه يُكذِّبُ كشفه، وقد يكشف لأحدهم بما يوافق مقالات الفرقة التي ينتسب إليها، وإن لم يكن قد عرف تلك المقالاتِ من قبل؛ كأنه لحسن ظنه بهم، وحرصه على موافقتهم إنما تتجه همته إليهم؛ فيقرأ أفكارهم، وترتسم في مخيلته أحوالهم.

فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى، ويرسخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضله اللَّه -عز وجل-، ولا ريب أن من التمَس الهدى من غيرِ الصِّراط المستقيم مستحق أن يضله اللَّه -عز وجل-، وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علاماتٍ يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنَّة، لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنَّة بالطريق التي كان يفهمها بها السلف الصالح.

فأما ما عُرِفَ عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية، فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل:

أولًا: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة؛ فإذا شهدت ببطلان قولهم، عُلِم أنه باطل.

ثانيًا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع؛ فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع؛ فالكشف شهد لنفسه، فمن يشهد له على تأويله؟ " (2). اهـ.

* * *

 

 


(1) تقدم تخريجه ص (21).

(2) "القائد إلى تصحيح العقائد" ص (66، 67) باختصار.

 

  • الثلاثاء AM 10:38
    2022-08-02
  • 745
Powered by: GateGold