المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413282
يتصفح الموقع حاليا : 347

البحث

البحث

عرض المادة

المغاربة والتصوف

تباينت مواقف المالكية كغيرهم في باقي المذاهب من التصوف، فأبطله قوم وأجازه آخرون، وقد اشتهر جماعة من علماء المغرب بالرد على الصوفية أو الرد على بدعهم المخالفة للسنة:

ومن أشدهم على المتصوفة العلامة الإمام والمفسر الكبير أبو عبد الله القرطبي، الذي يعد أشهر مفسري القرآن على مدى التاريخ الإسلامي الطويل.

قال العلامة أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (7/ 400): وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون ويصعقون، وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. انتهى.

قلت: وقد أجمع الصوفية الأوائل على ذم الرقص والصعق، وأما أهل زماننا كالدرقاويين والبوتشيشين والتيجانيين فدينهم هو الرقص والشطح باسم الذكر.

وقال القرطبي (10/ 366): قال ابن عطية: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقوله: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:14] قلت: وهذا تعلق غير صحيح! هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء، أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام! وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان هيهات! بينهما والله ما بين الأرض والسماء، وثم هذا حرام عند جماعة العلماء على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى، وقد تقدم في (سبحان) عند قوله:

{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء:37] ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي (1) وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل على ما يأتي.

وقال القرطبي كذلك (11/ 13): قوله تعالى: {آتِنَا غَدَاءنَا} [الكهف62] فيه مسألة واحدة وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض، قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه وتوكله على رب العباد.

وقال القرطبي كذلك (11/ 237): وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وأعلم - حرس الله مدته- أنه اجتمع جماعة من الرجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين وهذا القول الذي يذكرونه:

يا شيخ كف عن الذنوب ... قبل التفرق والزلل

واعمل لنفسك صالحا ... ما دام ينفعك العمل

أما الشباب فقد مضى ... ومشيب رأسك قد نزل

وفي مثل هذا ونحوه.

الجواب: - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار. فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق. انتهى.

فتأمل ما أشد هذه الكلمات على المتصوفة، وتأمل كيف يجزم بضلالهم، ويحث السلطان على منعهم من دخول المسجد.

وقال (14/ 54): فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام. انتهى.

ومن أكثر مواقف المغاربة شهرة في الإنكار على المتصوفة: ردودهم على كتاب إحياء علوم الدين للغزالي وإقدامهم على حرقه. وذلك في عهد علي بن يوسف بن تاشفين.

 


(1) في المطبوع: الطرسوسي. وهو خطأ.

وكتاب إحياء علوم الدين من أهم الكتب الصوفية، والغزالي من أئمة الصوفية المجمع عليه بينهم.

وقد اشتهر العلماء المغاربة بكثرة ردودهم عليه ولهم في ذلك مصنفات عديدة، فُقِد بعضها ولا زالت أخرى على قيد الوجود.

فألف أبو بكر الطرطوشي محمد بن الوليد الفهري الأندلسي المالكي المتوفى سنة (520): "الأسرار والعبر في الرد على الإحياء". (1)

وللطرطوشي كذلك رسالة صغيرة إلى عبد الله بن المظفر مذكورة في المعيار (12/ 186 - 187)، ونشرها كذلك سعيد غراب، كما ذكر المنوني في حضارة الموحدين (196). وذكر بعضها الذهبي في سير أعلام النبلاء (19/ 339).

ونصها كما في المعيار:

ومما كتب به الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الوليد الطرطوشي إلى عبد الله بن المظفر: أما ما ذكرت من أمر الغزالي فرأيت الرجل وكلمته، فوجدته رجلا جليلا من أهل العلم، قد نهضت به فضائله, واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول عمره. وكان على ذلك معظم زمانه.

ثم بدا له عن طريق العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصرف بمحيّر العلوم وأهلها, ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووسواس الشيطان, ثم شابها برأي الفلاسفة ورموز الحلاج, وجعل ينحو على الفقهاء والمتكلمين, ولقد كاد أن ينسلخ من الدين.

فلما عمل كتابه سماه: "إحياء علوم الدين" عمد يتكلم في علوم الأحوال ومراقي الصوفية, وكان غير دري بها ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه, فلا في علماء المسلمين قَرَّ, ولا في أحوال الزاهدين استقر.

شحن كتابه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض في مبلغ علمي أكثر كذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه.

سبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا, وهم قوم يرون النبوءة اكتسابا، وليس النبي في زعمهم أكثر من شخص فاضل تخلق بمحاسن الأخلاق وجانب سفسافها, وساس نفسه حتى ملك قيادها, فلا تغلبه شهواته, ولا يقهره سوء أخلاقه. ثم ساس الخلق بتلك الأخلاق. وأنكروا أن يكون الله تعالى من أقر منهم بالصانع يبعث إلى الخلق رسولا ويؤيده بالمعجزات حيل ومخاريق.

ولقد شرف الله الإسلام وأوضح حجته، وأقام برهانه، وقطع عذر الخلائق بحججه الواضحة, وأدلته القاطعة الدامغة. وما من ينصر دين الإسلام بمذاهب الفلاسفة وآراء المنطقية إلا كمن يغسل الماء بالبول.

ثم يسوق الكلام سوقا يُرعد فيه ويُبرق, ويمني ويشوّق, حتى إذا تشوفت له النفوس, قال: هذا من علم المعاملة، وما وراءه من علم المكاشفة, ولايجوز

 


(1) يوجد السفر الأول منه مخطوطا بخزانة خاصة بمراكش.
والظاهر أنها بالخزانة الملكية الخاصة بالقصر الملكي بمراكش.
انظر حضارة الموحدين للمنوني (176).

تسطيره (1) في الكتاب, أو يقول: وهذا من سر القدر الذي نهينا عن إفشائه. وهذا فعل الباطنية وأهل الدغل والدخل في دين الله يستغل الموجود, ويكلف النفوس بالمفقود, فهو تشويش لعقائد القلوب, وتوهين لما عليه كلمة الجماعة.

فإن كان الرجل يعتقد ما سطره في كتابه لم يبعد تكفيره, وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله!

وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب بالنار، فإنه إن تُرك انتشر بين ظهور الخلق ومن لا معرفة له بسمومه القاتلة، وخِيف عليهم أن يعتقدوا صحة ما سُطر فيه مما هو ضلال، فيُحرق قياسا على ما أحرقته الصحابة رضي الله عنهم من صحائف المصحف التي كان فيها اختلاف ألفاظ ونقص آي.

ألا ترى أنهم لو لم يحرقوا تلك الصحائف وانتشرت في الخلق لَحَفِظَ كل إنسان ما وقع منها إليه؟، وأوشك أن يختلفوا فيتقاتلوا ويتقاطعوا.

وإني لعلى عزم أن أنفرد له فأستخرج جميع هفواته، وأوضح سقطاته، وأبينها حرفا حرفا (2)، وفي دونه من الكتب غنية وكفاية لإخواننا المسلمين وطبقات الصالحين.

ومعظم من وقع في عشق هذا الكتاب رجال صالحون لا معرفة لهم بما يلزم العقل وأصول الديانات، ولا يفهمون الإلهيات، ولا يعلمون حقائق الصفات، ولا يخبرون شياطين الإنس الذين انتدبوا للطعن في الدين وتوهين عمود الإسلام وتعطيل الصانع وإفساد المعجزات، فمن لم يكن عنده تمييز لهذه الأبواب من الذب عن دين الله تعالى ونصرة شريعته لم ينبغ له أن يقفو ما ليس له به علم، بمدح على غير علم، ويذم على غير علم، والسلام.

وللإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري المالكي (المتوفى سنة 536) رد على "الإحياء" سماه: الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء.

ومما قال فيه كما في السير للذهبي (19/ 330): ... وفيه كثير من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل ...

إلى أن قال: هو بالفقه أعرف منه بأصوله، وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين، فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فن الاصول، فأكسبته الفلسفة جرأة على المعاني، وتسهلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها، لا يزعها شرع، وعرفني صاحب له أنه كان له

 


(1) في المطبوع: تسطير. ولعل الصواب ما ذكرت.
(2) وقد فعل رحمه الله. وصنف كتابه الأسرار والعبر الذي تقدم ذكره.

عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ألفها من قد خاض في علم الشرع والنقل، وفي الحكمة، فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا ملأ الدنيا تصانيف، أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده، حتى تم له ما لم يتم لغيره، وقد رأيت جملا من دواوينه، ووجدت أبا حامد يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من علوم الفلسفة.

وأما مذاهب الصوفية، فلا أدري على من عول فيها، لكني رأيت فيما علق بعض أصحابه أنه ذكر كتب ابن سينا وما فيها، وذكر بعد ذلك كتب أبي حيان التوحيدي، وعندي أنه عليه عول في مذهب التصوف، وأخبرت أن أبا حيان ألف ديوانا عظيما في هذا الفن، وفي " الإحياء " من الواهيات كثير ... ويستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له ... إلى آخر كلامه. سير أعلام النبلاء للذهبي (19/ 341).

وانتقده تلميذه أبو بكر بن العربي المعافري المالكي (المتوفى سنة 543) في كتابه العواصم من القواصم (2/ 101) (1)، ومما قال: كان أبو حامد تاجا في هامة الليالي وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج على الحقيقة وحاد في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتساق، فواحسرتي عليه، أي شخص أفسد من ذاته وأي علم خلط منه مفرداته.

وقال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم، فما استطاع. سير أعلام النبلاء (19/ 327).

وتعرض له كذلك في قانون التأويل. انظر: حضارة الموحدين للمنوني (196 - 197).

وانتقده كذلك من علماء المغرب: ابن الإلبيري: محمد بن خلف بن موسى الأنصاري الأوسي القرطبي (ت 537) له كتاب: " الأمالي في النقض على الغزالي"، ذكره ابن الأبار في التكملة (607). كما في حضارة الموحدين للمنوني (196).

وممن أكثر التشنيع على الغزالي من علماء المغرب كذلك: قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي (المتوفى سنة 508) كما في سير أعلام النبلاء (19/ 333).

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (19/ 422) في ترجمة ابن حمدين: وكان يحط على الامام أبي حامد في طريقة التصوف، وألف في الرد عليه.

ومنهم: القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المالكي

(ت 544هـ)، حيث قال في معجم أبي علي الصدفي: والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أُخذ عليه فيها

 


(1) هكذا في جهود علماء المغرب في الدفاع عن عقيدة أهل السنة (440). ولم أر هذا الكلام في نسختي من العواصم.

مواضع، وساءت به ظنون أمة، وال?هـ ?علم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتثل ذلك. سير أعلام النبلاء (19/ 327).

ومنهم كذلك: أبو محمد عبد الله بن موسى الفشتالي (من علماء القرن 7):

فقد قال تلميذه أبو الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي (ت 675) في كتاب "الحلال والحرام" أنه سمعه يقول: إن التائب إذا اقتصر على ما عند علماء الظاهر أولى وأسلم، بل لا يجوز اليوم اتخاذ شيخ لسلوك طريق المتصوفة أصلا، لأنهم يخوضون في فروعها ويهملون شروط صحتها، وهو باب التوبة، إذ لا يصح بناء فرع قبل تأسيس أصله.

قال: وسمعته يقول: لو وجدت تآليف القشيري لجمعتها وألقيتها في البحر. قال: وكذلك كتب الغزالي.

قال: وسمعته يقول: إني لأتمنى على الله أن أكون يوم الحشر مع محمد بن أبي زيد (1) لا مع الغزالي، بل مع أبي محمد يسكر (2)، فذلك أكثر أمنا على نفسي (3). انتهى.

فهؤلاء جميعا ردوا على الغزالي وعلى كتابه إحياء علوم الدين، ففي ذلك أبلغ عبرة وأعظم دليل على أن علماء المغرب لا زالوا مناهضين لبدع المتصوفة، رادين أباطيلهم، مبطلين خرافاتهم، ولو كان المتصوف أحد كبار العلماء والفقهاء. كما هو الحال بالنسبة للغزالي.

ولا يغرنك كثرة المتصوفة المغاربة في العصور المتأخرة، لأن عصور الانحطاط لا عبرة بها في ميزان النقد والاعتبار. والله أعلم.

ولو ظفرت بمن شئت من المغاربة المتأخرين ممن أثنوا على الغزالي وعلى كتابه لم يعشروا معشار مثل أبي بكر الطرطوشي وأبي عبد الله المازري وأبي بكر بن العربي المعافري والقاضي عياض بن موسى اليحصبي، فهؤلاء عِلية القوم، وجِلة المالكية في ذلك العصر، علما أن منهم من تتلمذ على يديه وعرفه عن قرب كما هو الحال بالنسبة للطرطوشي وأبي بكر بن العربي.

ومن علماء المغرب المالكية الذي أكثروا التشنيع على المتصوفة ومحدثاتهم: الأستاذ أبو عبد الله الحفار.

نقل الونشريسي في المعيار المعرب (7/ 99 - 100 - 101) عنه قوله: ثم هاهنا أمر زائد في السؤال أن تلك الليلة تقام على طريقة الفقراء، وطريقة الفقراء في هذه الأوقات شنيعة من شنع الدين، لأن عهدهم في الاجتماع إنما هو الغناء والشطح، ويقررون لعوام المسلمين أن ذلك من أعظم القربات في هذه الأوقات وأنها طريقة أولياء الله، وهم قوم جهلة لا يحسن أحدهم أحكام ما يجب عليه في يومه وليلته، بل هو ممن استخلفه الشيطان على إضلال عوام المسلمين، ويزينون لهم الباطل ويضيفون إلى دين الله تعالى ما ليس منه، لأن الغناء والشطح من باب اللهو واللعب وهم يضيفونه إلى أولياء الله، وهم يكذبون في ذلك عليهم ليتوصلوا إلى أكل أموال الناس بالباطل، فصار التحبيس عليهم ليقيموا بذلك طريقتهم تحبيسا على ما لا يجوز تعاطيه، فيبطل ما حبس في هذا الباب على غير طريقته، ويستحب للمحبس أن يصرف هذا الأصل من التوت إلى باب آخر من أبواب القربات الشرعية، وإن لم يقدر على ذلك فينقله لنفسه، والله تعالى يمن علينا باتباع هدي نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، واتباع السلف الصالح الذين في اتباعهم النجاة، والسلام على من يقف عليه. من محمد الحفار.

وممن أكثر التشنيع على الصوفية من فحول المالكية: العلامة الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الاعتصام، ولا تكاد تمر به مسألة لها تعلق بهم إلا تعرض لهم بالنقد والتبكيت، وأقتصر في هذا المقام على بعضها طلبا للاختصار، فقد شنع على الصوفية في اجتماعهم على الذكر تشنيعا عظيما، ومما قال (2/ 85): وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية، فيجتمعون في بعض الليالي، ويأخذون في الذكر الجهري على صوت واحد، ثم في الغناء والرقص، إلى آخر الليل، ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء، يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق، هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لا؟

فوقع الجواب: بأن ذلك كله من البدع المحدثات، المخالفة طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان، فنفع الله بذلك من شاء من خلقه.

إلى أن قال (2/ 92 - 93): فهذه مجالس الذكر على الحقيقة، وهي التي حرمها الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف، فقلما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن، فضلاً عن غيرها، ولا يعرف كيف يتعبد، ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة. وكيف يعلمون ذلك وهم قد حُرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة، وتنزل فيها السكينة، وتحف بها الملائكة.

فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا، فاقتدوا بجهال أمثالهم، وأخذوا يقرؤون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم، لا على ما قال أهل العلم فيها. فخرجوا عن الصراط المستقيم، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئاً من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم، ثم يقولون: تعالوا نذكر الله، فيرفعون أصواتهم، ويُمشون ذلك الذكر مداولة، طائفة في جهة، وطائفة في جهة أخرى، على صوت واحد يشبه الغناء، ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها.

وكذبوا، فإنه لو كان حقاً لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به؟ وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهرا عاليا؟ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55].

والمعتدون في التفسير هم الرافعون أصواتهم بالدعاء ...

إلى أن قال: وقد جاء عن السلف أيضاً النهي عن الاجتماع على الذكر، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون. انتهى كلام الشاطبي.

وقال (2/ 322): وأما العادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان، فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا، إذ هما كالمتضادين عادة.

وألف ابن طوير الجنة أحمد بن عمر الوداني (المتوفى سنة 1266 هـ) فيض المنان في الرد على متبدعة الزمان (4).

أنكر فيها عددا من بدع الصوفية كزعمهم رؤية الله ورؤية النبي، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر معهم مجالس الذكر.

وبين أن الكرامات والفراسة التي يدعيها بعض الصوفية لا حقيقة لها. وأن ذلك يقع بين الكافر والمسلم. (30 - 31 فما بعد).

وأبطل الرقص والتواجد حال الذكر، وذكر أن أول من أحدثه السامري (ص38).

 


(1) يقصد القيرواني صاحب الرسالة.
(2) كذا!.
(3) نيل الابتهاج بتطريز الديباج للتنبكتي (179 - 180).

(4) مخطوط بالخزانة العامة (3651 د)، والملكية (406 - 8672).

وألف أحمد بن محمد المرنيسي (ت 1277) تقييدا في إنكار الرقص والطار (1).

أنكر فيه الرقص حال الذكر، كما يفعله أرباب الطرق الصوفية بشتى مشاربها.

وقد رد عليه بعضهم، فتولى الرد عليه العلامة أبو عبد الله الغالي بن محمد الحسني العمراني اللجائي الفاسي (المتوفى سنة: 1289هـ) في "إبطال الشبه ورفع الإلباس في الرد على من صوب في تقييد له خطأ الناس" (2).

أنكر فيه على المتصوفة اجتماعهم على الذكر والرقص.

وعد من البدع: اجتماع الصوفية على الرقص (54ب).

والذكر على صوت واحد (55ب).

وهو ينقل فيه عن الشاطبي، ومن المعيار للونشريسي وغيرها.

ونقل خطبة المولى سليمان الآتي ذكرها.

ومنع من التحبيس على الفقراء لكثرة مخالفتهم وبدعهم.

إلى غير ذلك من البدع التي نص عليها.

ومما قال رحمه الله (92ب- 93 أ): وقد سئل الشيخ الخطيب البليغ سيدي محمد بن جلال رحمه الله عن حكم الله فيما أحدثه بعض من ينسب إلى الفقر من ذكر الششتري وغيره على طريق الغناء والألحان المرجعة، وانضم إلى ذلك الكف وغيره، مما وقع النهي عنه، فهل ذلك حرام بدعة أم لا؟ وما حكم الله في الطعام الذي يصنع لهم، فهل هو مما أهل به لغير الله فيحرم أكله أم لا؟ وما حكم من اعتقد أن ذلك عبادة فهل تجب عليه التوبة من ذلك الاعتقاد أم لا؟ وإن قلنا بوجوبها فأبى، فهل ذلك كفر وردة يستتاب؟ فإن تاب وإلا قتل.

فأجاب بقوله: ما يفعله الفقراء المذكورون على الوجه المذكور بدعة محرمة قال ابن حجر (3): قال القرطبي بعد كلام له في قول عائشة رضي الله عنها (وليستا بمغنيتين): وأما ما ابتدعه المتصوفة فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غفلت عن كثير مما ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعالات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة لتقطيعات متلاصقة، وانتهى التواقح بأقوام إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، فبهذا على التحقيق من آخر الزندقة وعمل أهل المخرقة.

وأما الطعام المذكور على الوجه المذكور فسحت وحرام، ومن اعتقد القربة فيما ذكر وزعم أن ذلك مما يثير سنن الأحوال، فزعمه باطل وفعله بدعة ضلالة، إذ لم يرد شيء من ذلك عن السلف الصالح، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فتجب التوبة على من فعل ذلك، واعتقد أنه قربة فإن لم يتب قتل، ولذا قال أبو الحسن العامري فيما نقله عنه صاحب المعيار في نوازله ممن ظن أن القيام والشطح عبادة فهو جاهل، بل تجب عليه التوبة من ذلك، فإن ناظر على ذلك، وقال: إنه عبادة فقد خالف الإجماع، ومخالفة الإجماع كفر، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وكيف يعتقد أن الله يعبد بشطح، وهو لهو ولعب اهـ. منه بلفظه.

ومر أيضا جواب أبي عبد الله السرقسطي بأن الرقص والغناء بدعة محدثة لم تكن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اهـ بلفظه.

ومر جواب العلامة ابن لب بأن رقص الفقراء في المساجد يجب أن تنزه المساجد عنه لأنها بيوت الله في أرضه أسست على التقوى ...

إلى أن قال: وسلف جواب الحفار بأن الحبس على فقراء الوقت منكر ... (93).

فرحم الله علماءنا المالكية ما أشدهم على بدع المتصوفة، فليس الشطح والرقص باسم الذكر من دين الإسلام في شيء، بل هو ضلالة ومنكر، يستحي العاقل أن ينسبه إلى دين اليهود والنصارى، فما بالك بالدين الطاهر الصافي من كل شائبة.


(1) مخطوط في الخزانة العامة رقم: 2744 د- 237ك.
(2) مخطوط في الخزانة الحسنية (11482).
وهو يقع في 564 صفحة.

(3) الفتح (2/ 442).

وقال عبد الله بن محمد بن موسى العبدوسي (ت849) في رسالته "جواب في الرقص والشطح عند الذكر" (1): الشطح والرقص والصياح ولطم الصدور وهز الرؤوس بالعنق حالة الذكر حرام وفاعله ظالم ءاثم عاص لله ورسوله، ومن لم يتب من ذلك فلا تجوز إمامته ولا شهادته، وكل من حضر هذا المشهود فهم منهم، وإن لم يعمل مثل عملهم.

وقال الشيخ الطرطوشي رحمه الله: إن ذلك بدعة وضلالة. انتهى.

ومن علماء المغرب كذلك الذين ألفوا في إنكار بعض بدع الصوفية: أبو عبد الله محمد بن المدني كنون، (المتوفى سنة: 1302هـ): الزجر والإقماع بزواجر الشرع المطاع لمن يومن بالله ورسوله ويوم الاجتماع عن آلات اللهو والسماع (2).

وهو في إبطال الذكر الصوفي والرقص، والذكر جماعة، وغير ذلك من البدع.

وتكلم العلامة المؤرخ أحمد بن خالد الناصري، (المتوفى سنة 1315هـ) في كتابه "تعظيم المنة في نصرة السنة" (3) على عدد من بدع الصوفية، منها:

رقص الفقراء حول الميت بعد تغسيله (49 ب).

والشطح والرقص الصوفي (146) - (240).

واتخاذ الشيخ للتربية (175).

والذكر الجماعي (198).

والذكر بالاسم المفرد (216).

وذكر من مصطلحاتهم الحادثة: الفناء والبقاء والغوث والأقطاب والأبدال (238).

ومما قال (241): والحاصل أن جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم يعلمون ويتيقنون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا يحلقون على السماع والرقص فضلا عن أن يعدوا ذلك من القربات التي يتقرب العبد بها إلى ربه، وأما من أضاف إلى الرقص الضرب بالأكف والنقر على الطسوت والأطبال والمزاهر كما شاع وذاع في هذه الأزمنة الفاسدة حتى أنه في بعض الأحيان يدخل عليهم وقت صلاة المغرب وهم بزاويتهم، والمحراب أمامهم، وهم عنه معرضون، فهؤلاء قد تمكن الشيطان منهم غاية التمكن ولعب بهم كيف شاء، فهم ضحكة بلا ريب.

إلى أن قال (ص 247): والحاصل أنه لا أجرأ ولا أوقح وأبهت وأصفق وجها ممن يريد أن يجعل الرقص والسماع من الدين، وينسب ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان في الدين كما يزعمه المبتدع لكان مبوبا له في كتب الحديث والفقه (4).

وقال العلامة الونشريسي المالكي في المعيار المعرب (1/ 160) وسئل القاضي أبو عمرو بن منظور عن إمام قرية يؤم الناس وهو يحب طريقة الفقراء، وفي القرية زاوية يجتمعون فيها بعض من أصحاب القرية ليلة الجمعة وليلة الاثنين والإمام المذكور معهم، يستفتحون بعشر من القرآن ويبدؤون بالذكر الموصوف لهم، فإذا فرغوا منه يستفتح المداح وأصحابه دائرون عليه يضربون الكف ويقولون معه، والإمام المذكور يمدح مع المداحين، ويضرب الكف معهم ويرقص مع الذي رقص منهم، فإذا كان ليلة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي الإمام معهم إلى قرية أخرى بنحو عشرين ميلا من قريتهم ويبقى المسجد بلا خطبة ولا إمام ولا آذان حتى يرجعون، وتكون غيبتهم أربعة أيام أو ثلاثة أيام. فقيل: إن الإمام الذي يعمل هذا لا تجوز إمامته، والذي يسمع العريف خير من الفقراء، والإمام المذكور يعلم أن طريقة الفقراء بدعة لم تكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد التابعين بعده، ويعلم أن أفضل الذكر ما خفي، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لكن حمله على هذا محبته في الذكر وفي مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته في مجامعة الإخوان، هل يلزم من اغتاب هذه الطريقة شيء أم لا؟

فأجاب: تأملت السؤال بمحوله، وقد سئل عن مثله العلماء الفقهاء الذين يقتدى بهم ويعمل على قولهم، والكل منعوا تلك الطريقة وقالوا: بتبديع مرتكبها، والسنة بخلاف ذلك، والرقص لا يجوز، وهو تلاعب بالدين، وليس من أفعال عباد الله المهتدين. وإمامة من يرى هذا المذهب ويسلك طريقهم لا تجوز، لا سيما وقد انضاف إليه مع عمله هذا تعطيل المسجد وتركه دون مؤذن ولا إمام.

ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها.

وهذا يدخل تحت الوعيد.

وقول من قال أن من يسمع العريف خير من الفقراء فهذا يظهر أنه صحيح، ووجه أن الذي يسمع العريف عاص ويعلم أنه على غير شيء. وهذا الذي يشطح ويرقص يعتقد أنه على شيء، وهو على غير شيء أو متلاعب، وما خلقنا للعب، وهو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ويكون للإمام حظه من هذه الطريقة حضوره كاف في منع إمامته، لأنه مكثر سوادهم، ومن كثر سواد نوع عد منهم. وأما محبة الرسول والصحابة فيتوصل إليها بغير هذا، وهي ساكنة في القلب، والإكثار من الصلاة والسلام عليه والرضى عن أصحابه في نفسه وفي بيته هو وجه العبادة.

والطاعن في هذا الإمام وإن كان من قرية أخرى قام على وجه الحسبة وتغيير المنكر، فلا عتاب عليه إن شاء الله تعالى.

فهذا وجه الجواب عن السؤال بمحوله.

وأجاب الشيخ أبو الحسن العامري: الاجتماع على الذكر إذا كان يذكر كل واحد وحده، وأما على صوت واحد فكرهه مالك.

وأما القيام والشطح فمن ظن أنه عبادة فهو جاهل تجب عليه التوبة من ذلك، فإن ناظر على ذلك وقال إنه عبادة فقد خالف الإجماع، ومخالفة الإجماع كفر فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكيف يعتقد أن يعبد الله بشطح وهو لهو ولعب؟

وأجاب سيدي أبو عبد الله السرقسطي عن نظيرتها بما نصه: جواب السؤال بمحوله أن طريقة الفقراء في الذكر الجهري على صوت واحد والرقص والغناء بدعة محدثة لم تكن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فمن أراد اتباع السنة واجتناب البدعة في ذكر الله والصلاة على رسوله فليفعل ذلك منفردا بنفسه غير قارن ذكره بذكر غيره، وليخف ذكره فهو أفضل له، وخير الذكر الخفي، وعمل السر يفضل عمل العلانية في النوافل بسبعين ضعفا. انتهى.

ولو أن هذه الفتاوى جردت من أسماء قائليها لظن من يقرؤها أنها لأحد علماء الدعوة الوهابية في هذا الزمان، وأنت ترى أنها في كتاب مالكي قديم قبل ظهور الوهابية بأزمان.

أمَا آن للقوم أن يصحوا من غفوتهم، وأن يفيقوا من غفلتهم، لماذا إذا أفتى بعض حملة السنة في زماننا بمثل هذه الفتوى قيل: إنه وهابي، جاء بمذهب غريب عن بلدنا؟ وأنت ترى أن الفتاوى المتقدمة لعلماء مغاربة مالكية.

ومن أشد علماء المغرب على الصوفية وعلى عقائدهم وأباطيلهم: الشيخ العلامة عبد الرحمان محمد النتيفي الجعفري الزياني (المتوفى سنة 1385هـ) الذي كان يحضر المجالس العلمية للسلطان محمد الخامس رحمه الله، فقد ألف كتبا عديدة في إنكار بدع الصوفية.

منها: كتاب حكم السنة والكتاب في وجوب هدم الزوايا والقباب.

وتنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال.

والذكر الملحوظ في نفي قراءة اللوح المحفوظ.

والإرشاد والسداد في فضل ليلة القدر على ليلة الميلاد.

والقول الفائز في عدم التهليل وراء الجنائز.

والقول الجلي في عدم تطور الولي.

الميزان العزيز في الرد على كتاب الإبريز.

تحفة الأماني في الرد على أصحاب التيجاني.

الزهرة في الرد على غلو البردة.

الحجج العلمية في رد غلو الهمزية.

أصفى الموارد في الرد على غلو المطربين المادحين لرسول الله وأهل الموائد.

الدلائل البينات في البحث في دلائل الخيرات وشرحه مطالع المسرات.

كل هذه الكتب وغيرها كثير جدا لازالت مخطوطة عند أحد طلبته بمدينة تارودانت.

وكذلك من أشد علماء المغرب على الصوفية الشيخ تقي الدين الهلالي.

وله كتاب: الهدية الهادية للطائفة التيجانية.

في رد أباطيل التيجانيين وغيرهم من المتصوفين. وكان رحمه الله مشهورا بمعادات المتصوفة، معروفا بانحرافه عنهم.

وممن ألف في الرد على التيجانيين كذلك: السلطان العلوي المولى عبد الحفيظ، له كتاب: "كشف القناع عن اعتقاد طوائف الابتداع المتقولين الذين حادوا عن منهاج السنة وأحدثوا اعتقادات لم ترد عمن شرح الدين والسنة".

طبع على الحجر بفاس سنة 1909.

ومما ألف في الرد على التجانيين كذلك: فتوى لعلماء القرويين بإدانة كتاب صلاة الفاتح لمحمد الفاطمي التيجاني.

فقد قام العلامة مولاي العربي العلوي برفع طلب لمجلس من علماء القرويين حول الكتاب المذكور، فصدرت فتوى بتاريخ 24 - فبراير- 1925 بإدانة مؤلفه وإحراق كتابه. راجع "الطريقة التيجانية بين التقليد والتجديد" لعبد الملك الرياحي (329 - مرقون).

وممن ألف في الرد على التجانيين كذلك: العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي له: "معضلات العصر"، وهو مقال له في الرد على التيجانيين، وقد طبع بتعليقات علامة الجزائر ابن باديس، وسماه الجواب الصريح في بيان مضادة الطريقة التيجانية للإسلام الصحيح. مجلة الشهاب الجزائرية (الجزء 7 من المجلد4 - رجب 1357).

وممن ألف مناهضا لبدع المتصوفة أحد علماء المغرب المشهورين، وأحد أشهر المفسرين في هذا العصر، وهو الشيخ محمد المكي الناصري المفسر المعروف ووزير الأوقاف سابقا، له رسالة قيمة في الرد على الصوفية، طبعت قديما سنة: 1343/ 1925، سماها: إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة، وقد حققتها، وستصدر قريبا إن شاء الله.

ومما قال في كتابه (21): ومنهم جماعات اتخذوا دين الله لهوا ولعبا، فجعلوا منه القيام والرقص حالة الذكر الجهري، ظانين أن ما يفعلونه من الرقص حالة الذكر عبادة، مع أن من ظن ذلك تجب عليه التوبة، فإن ظل على ذلك، وقال: إنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى يخالف الإجماع فيكون عاصيا آثما إن لم يكن كافرا، بناءا على القول بتكفير مخالف الإجماع.

وكيف يعتقد من أودع الله فيه نور العقل أن الشطح وما شابهه مما يعبد الله به، مع تيقنه أن ذلك مجرد لهو ولعب ...

 


(1) مخطوط في الخزانة الحسنية (12212) (ص106 - 107) وهي رسالة صغيرة في ثلاث صفحات ونصف.
(2) وهو يقع في أزيد من 240 صفحة، وقد طبع طبعة حجرية، عندي منها نسخة.
ومنه نسخة بالخزانة الملكية (10035).
(3) منه عدة نسخ مخطوطة بالخزانة العامة، رقم (66 - 530 د) والصبيحية، رقم (346)، وبخزانة أبي خبزة.

(4) انظر هذه النقول وغيرها مجموعة في: المختار من تعظيم المنة والمعيار في بدع العبادات والعادات والطرقية لإسماعيل الخطيب. طبعة الهداية تطوان.

إلى أن قال: ومما يزيد الطين بلة، والطنبور نغمة أنهم يخللون ذكر الله وقتئذ بإنشاد مدائح أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه سيد المتواضعين حتى لنفسه الشريفة فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ولكن قولوا عبد الله ورسوله» (1).

ولا تسأل عن تغاليهم في الاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوهم إلى الكفر والزندقة والمروق من الدين، لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش هي قولهم: لبيك لاشريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك (2).

وهي كما ترى أخف شركا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادا بأصوات عالية مجتمعة، وقلوب محترقة خاشعة.

ومنهم أقوام كثيرون اصطلحوا على جعل يوم من السنة مخصوصا بفضيلة أكل اللحوم النيئة والطواف في الأسواق، ودق الطبول والنفخ في الأبواق، وتلطيخ الثياب بالدماء المسفوحة طول يومهم الذي يكونون فيه قرناء الشيطان، مع أكل الزجاج والشوك والحيات والعقارب وشرب القطران.

ويزيدهم قبحا وبشاعة وتمكنا من الهمجية ما يتمثلون به من الحيوانات البهيمية، ويتشبهون به من الوحوش الضارية، فيشخصون للإنسان كل ما امتازت به تلك الحيوانات بغاية البراعة والإتقان، ويستميلون نفوس الرائين ويسترعون أسماعهم بما يحسنون به تلك الأدوار من أنواع المهايتات والصياح.

ويجوزون الشوارع الواسعة ذات الأطراف الشاسعة على هذه الحالة البشيعة المنظر، مختلطين بالنساء حاملين الرايات الشيطانية، جاعلين أبناء شيوخهم وسطهم، راكبين على عتاق الخيل، لابسين أحسن ما عندهم من الثياب محفوفين بالعز والتأييد والمهابة والإقبال، منظورين بعين التعظيم والإجلال.

وذلك ليستمطروا بهم سحائب فضلات الجهال، من النساء والرجال، الذين يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم (حسب زعمهم) في ذلك اليوم المشهود عند الشياطين، المحبوب عند أعداء الأمة والدين، ولينالوا بركة أولئك الأوباش الطغام الذين ينزل عليهم من الإعانات الشيطانية والإمدادات الجارية لحق الأهواء النفسانية ما لا يحصى بعَدٍّ ولا يقف عند حَد.

ومثل هؤلاء الرعاع قوم آخرون أبشع منهم منظرا وأقبح حالة، يطوفون بالأسواق ويضربون الطبول وينفخون في الأبواق مثل سابقيهم، إلا أن هؤلاء يشدخون رؤوسهم أثناء تطوفهم ويضربونها ويسيلون دماءها بالأسلحة والفؤوس والقلال وغيرها من أنواع الآلات المحددة التي لا أقدر على وصفها مما يتخذونه قصدا للقيام بهذا الأمر الفظيع.

ويستعينون على كل ما ذكر بشرب المسكرات، واستعمال المرقدات والمخدرات، وهم سواء مع ما ذكرناهم سابقا وقدمنا وصفهم في هذا الفعل القبيح والعمل السمج.

ولكن مع هذا كله فقد حصلوا على مراكز عظمى في القلوب ... إلى آخر كلامه.

وقال بعد أن ذكر ما كان عليه الصوفية الأوائل من التزام السنة ومجانبة البدع: إذا عرفت الطريق التي كان عليها الصوفية الصادقون، وما عليه متصوفة العصر المبطلون، وتحققت أن كل ما أصابنا من أنواع الانحطاط والجمود والفشل والافتراق، والتنازع والتباغض والتحاسد والشقاق، إنما هو من نتائج بدع المتصوفة المبطلين التي اتبعناهم فيها واعتكفنا معهم على إقامتها وسرت في نفوسنا سريان الدم في العروق، فلا شك أن النفس الحية الثائرة على الأكاذيب والأباطيل، تشمئز من ذلك وتسعى بجد واجتهاد في مقاومته وتستعمل جميع الوسائل لحسم مادته وإزالته، وتميل كل الميل إلى معرفة العلاج الناجع والدواء النافع.

وقال بعد هذا:

فعلينا معشر الناطقين بالضاد أن نعتني بتهذيب الأخلاق وتطهيرها من شوائب النقائص والتعجيل برتق فتقنا وعلاج ضرنا.

وليس ذلك إلا باتباع الكتاب والسنة وعدم الخروج عنهما والحذر من الوقوع في مهاوي البدع، والقبض على الشريعة بيد من حديد، والعض عليها بالنواجذ، والمحافظة على قوميتنا وجنسيتنا، والاهتمام بشأن جامعتنا، والاعتناء بحفظ هيأتنا، والتعاون على إصلاح ما أفسده الدخلاء الخراصون القصاصون القناصون من ديننا.

وتبيين حقيقته لإخواننا، ونشر المقالات العلمية في بين محاسنه التي لا تخفى إلا على من عجنت طينته بوابل الوبال. وصار محبولا بحبال الخذلان والخبال.


(1) رواه البخاري (3/ 3261).

(2) رواه مسلم (2/ 1185) عن ابن عباس. 

واستعمال الخطب الحية في محاربة البدع والمنكرات، ودفع ما يتوجه على الدين بسببها من الانتقادات والاعتراضات لنبرهن على أننا خير أمة أخرجت للناس، وأن ديننا خير الأديان.

وبهذا تخالط بشاشة الدين الإسلامي القلوب، وتحل الحقائق محل الخرافات، وتقوم المحاسن مقام المساوي، وتنطبع صور الأخلاق الجميلة في مرآة الناشئة الصقيلة.

وكذلك من أشد علماء المغرب على الصوفية العلامة الأديب أبو عبد الله محمد بن اليمني الناصري الجعفري الرباطي، (المتوفى سنة: 1391هـ) (1) له: "ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار".

ذكرت في تحقيقي لإظهار الحقيقة وعلاج الخليقة للشيخ محمد المكي الناصري أن بعض المتصوفة رد على الناصري، فتولى الرد عليه أخوه العلامة أبو عبد الله محمد بن اليمني الناصري في كتابه هذا.

وقد طبع في حياته، وقرظه له (15) عالما وكاتبا وشاعرا، وقدم له العلامة عبد الكبير الفاسي، وأثنى عليه، وعندي منه نسخة مصورة.

وهو كتاب صاعقة على المتصوفة، والأهم فيه أنه قرظه (15) عالما وأديبا وشاعرا مغربيا وأثنوا عليه غاية الثناء، وقدم له العلامة الشيخ عبد الكبير الفاسي، وأثنى على مؤلفه وتأليفه ثناء عطرا.

فهذا مما يؤكد أن أكثر علماء المغرب كان موقفهم واضحا من البدع والتصوف، فليخسأ الخراصون.

وهذه بعض النقول التي انتقيتها من الكتاب:

قال رحمه الله (ص66 - 67 - 68) متحدثا عن فرق المعتزلة والخوارج وغيرهم مقارنا بينها وبين فرق الصوفية: على أن تلك الفرق الضالة قد ذهب جلها، إن لم نقل كلها بما له وما عليه، ولم تكن في نظري ونظر ذوي النظر الصائب ممن مارس التاريخ وزاوله، إلا أتقى وأنقى بكثير وأبعد نظرا، وأبهى مخبرا ومنظرا من بعض الفرق الموجودة الآن، إذ ليس منهم من كان يفضل كلام المخلوق العاجز الضعيف الحادث على كلام الخالق القادر القوي القديم سبحانه، ولا من يتخذ ضرائح الأولياء والصلحاء ملجأ وكعبة وقبلة يتوجهون إليها، كما يتوجهون إلى الله تعالى، ويتطوفون بها، ويتمسحون بجدرانها، ويقبلون درابيزها وكساها كما يقبلون الحجر الأسود، ويركعون أمامها بجوارحهم وجوانحهم، ويسجدون لها بكيفية أرقى من السجود لله، معفرين خدودهم على ترابها، بل لم يكن فيهم من يتلبس بالمنكرات وهو يعتقد أنها عبادة تقربه من الله زلفى، ولا من يبيع دينه بدنيا غيره مؤخرا الصلاة عن وقتها لخدمة شيخ من المشايخ أو حضور حضرته، ولا من يتخذ طبلا ولا مزمارا ولا آلة لهو وطرب في المعابد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

ولا ... ولا ... من المنكرات التي يتلبس بها كثير من هذه الفرق المسماة بالطوائف التي في تسميتها بالطوائف ولو كانت متبصرة، ولآداب دينها حافظة مستحضرة، نهاية الاعتبار وغاية الحجة.

كيف لا، والله سبحانه علمنا في فاتحة كتابه، التي أوجب علينا قراءتها وتدبرها في كل ركعة من الركعات، أن نسأله الهداية إلى صراط واحد، هو الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، حتى لا نميل عنه يمنة أو يسرة بقوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.

ولو كان المجال واسعا للمقايسة بين أعمال المعتزلة ومن في معناهم وأعمال هذه الفرق والمقابلة بينها لشفينا الغليل، ولأبرأنا بحول الله وقوته كل عليل، ولأَبَنَّا لكل متعصب البون الشاسع والفرق الواضح كالفرق بين هذه الفرق وتلك، حتى تتجلى لكل منصف على منصة البيان حقائق تجعل كثيرا من فرقنا اليوم أضل سبيلا، وأكذب قيلا.

بالله عليك أتقدر بعد هذا أن تقر ما أنكره صاحب الإظهار من أعمال العيساويين والحمدوشيين ومن في معناهم من الشطاحين النطاحين الرقاصين القصاصين القناصين الخراصين، وتأتي ولو بدليل واحد من ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جواز أعمالهم وإباحتها وموافقتها لروح ديننا الطاهر.

مالك ملت إلى الإجمال، ولم تفصل في التدليل والاستدلال، ولم تحسن المنافحة عن الفرق المغمورة بالجهل والضلال.

إننا نقترح عليك بمقتضى كوننا جهلاء بالحقيقة في نظرك: أن تجرد أقلامك وترهفها للكتابة في الموضوع ثانيا، وتفصل وتفصل من غير همهمة ولا إجمال، فإن نهاية الانكسار الذي ما أفادنا إلا انكسار قلمك في تحرير اللغة العربية، وتحبير القواعد العلمية والأدبية، لم يبرد لنا غليلا، ولم يبر منا عليلا، ولم يهدنا سواء السبيل، وهل إلى ذلك من سبيل؟ ... ياأيها المؤلف النزيه النبيه النبيل، المنتسب إلى خير قبيل.

وقال (ص100) فانظروا يا إخواننا العوام إلى قوله في هذا الحديث «ستكون فتن» (2) وتأملوه فإنكم إن أمعنتم النظر استنتجتم أنه لا فتنة أضر عليكم في دينكم من فتن الطرق، فإنها حولتكم عن الوجهة التي وجه الشارع إليها وجوهكم ونبهكم إلى طلب الهداية إليها بقوله: اهدنا الصراط المستقيم. وبقوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101]. وهو أدرى بمصالحكم منكم وإن كان هناك فتن أخرى فإنها في نظر ذي الفهم الصحيح أدون وأهون من تلك الفتنة التي تسلب الإنسان المسلم من أعز عزيز لديه، وهو إخلاص التوحيد لله وتخصيصه بالإعطاء والمنع والضر والنفع ونذر النذور واليمين والسجود ونحوها من خواص الربوبية، وتبث في نفسه الخضوع والاستكانة والتذلل والاستخذاء.

وقال (ص75): وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم فمن ذهب بعد لهذه المواسم، أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسه، وجر الوبال عليه وعلى أبناء جنسه، وتله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

وقال (ص76) عن قيام المولى سليمان بإصدار مرسومه ضد الطرق والمواسم: لا غرو ولا عجب في قيام هذا الأمير الجليل بهذا الأمر الجلل، وحمله رعيته على نبذ الطرق وبدع المواسم وزخرفة المساجد وبناء القباب على صالحي هذه الأمة المحمدية، وغير ذلك من المناكر، التي تأباها أصول ديننا الحنيف وقواعده المتينة، فإنه فرع تلك الدوحة النبوية، التي تفيأ ظلال أمانها الأنام، وهو الذي يقدر العمل بسنة جده صاحب الشريعة الإسلامية حق قدره، ويرى أن قيامه بالحض على ذلك غاية مجده وفخره.

ويتحقق أنه لا حياة لرعيته إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لأن لكل أمة من الأمم روحا تجتمع عليها، وتستمد منها قوة نهوضها وأنوار حياتها المقرونة بالسعادة الحقيقية. وإن روح حياة هذه الأمة المحمدية هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالله يجزيه عن انتصاره لشريعة جده عليه الصلاة والسلام خير الجزاء، ويمده من مدد رضاه بأوفى وأوفر الإجزاء في دار الجزاء. آمين.


(1) راجع ترجمته في دعوة الحق، العدد 7 السنة 23، عام: 1982، لأحمد معنينو.

(2) رواه الشيخان.

وقال (ص101): فهل كتاب الإبريز وكتاب جواهر المعاني أو كتاب المقصد الأحمد وما في معناها من كتب المناقب، التي ترجعون إليها، وتتشبعون بما فيها تقوم مقام كتاب الله سبحانه؟

وهل بقي لقائل أن يقول: إن هذه الطرق ليست بفتن، وهي تصرفنا عن الاشتغال بكتاب الله ودراسته وتدبره بمناقب وأذكار وأوراد ملفقة، لم تأت عن الشارع، ذات خواص ومزايا وفتوحات وبركات وشفاعات، وتتركنا نتخبط في ليل أليل من الجهل بما أنزله الله وأمرنا بالاعتصام به. بالله عليكم، تأملوا في قوله في هذا الحديث: «ومن ابتغى الهدى في غيره أضله

الله» (1) أنبتغي الهدى في كتاب من كتب مناقب الطرقيين المحشوة بالخرافات والأكاذيب وغيرها.

وقال (ص83): إننا اجتمعنا بكثير من متصوفة العصر وداخلناهم وخالطناهم، مخالطة مستطلع باحث عن أسرارهم وخصائصهم ومميزاتهم، فوجدناهم يقدس بعضهم بعضا، ويركع بعضهم أمام بعض، متجاوزين في ذلك الحد الذي يجب الوقوف عنده، قاصدين بذلك نشر دعاويهم الكاذبة وتأييدها لإغراق الدهماء، في أوهام وأضاليل أبعد عمقا من الداماء. حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يخمد جمرهم، ولا يترك شطحهم وزمرهم ...

فما هم إلا كالشعراء المبتلين بداء الانحطاط النفسي، المتجاوزين قدر الممدوح فوق ما يستحقه، حتى أفضى ذلك بكثير منهم إلى الكفر والزندقة، والاقتصار على البرقشة والشقشقة.

والداعي الوحيد الذي دعاهم إلى ذلك هو خوف الافتضاح والوقوف على ما هم عليه من الخوض في ظلمات التضليل. ونصب حبائل الشيطنة والتدجيل، لإيقاع الجهلة فيها.

ففضحهم حملة السنة وخَدَمتها وأوسعوهم تقريعا وتسفيها، ولم يبق ينفعهم ما اصطلحوا عليه من المصطلحات، التي تقضي ببقاء أمرهم مستورا في غياهب البطون ودياجير الكتمان. من بناء طريقهم على الصفح والتجاوز وعدم إقامة الميزان، حتى أفضى بهم توقع ذلك إلى نهي أتباعهم عن مطالعة مثل المدخل لابن الحاج وفتاوي ابن تيمية وتآليف ابن القيم وكتب الحافظ ابن حجر وكتب أبي إسحاق الشاطبي وكتب أبي بكر بن العربي وتلبيس إبليس للحافظ أبي الفرج بن الجوزي وأمثالهم من أكابر علماء الإسلام وأعاظم المصلحين والمجددين.

وممن اشتهر من علماء المغرب بمعاداة المتصوفة: العلامة الفقيه عبد الله بن إدريس السنوسي الفاسي (ت 1350هـ).

قال عبد الحفيظ الفاسي في رياض الجنة في ترجمته (2/ 81): نزيل طنجة الآن العالم العلامة المحدث الأثري السلفي الرحالة المعمر أبو سالم.

وقال كذلك (2/ 82): سلفي العقيدة أثري المذهب عاملا بظاهر الكتاب والسنة، نابذا لما سواهما من الآراء والفروع المستنبطة، منفرا من التقليد، متظاهرا بمذهبه قائما بنصرته داعيا إليه، مجاهرا بذلك على الرؤوس، لا يهاب فيه ذا سلطة، شديدا على خصمائه من العلماء الجامدين، وعلى المبتدعة والمتصوفة الكاذبين، مقرعا لهم، مسفها أحلامهم، مبطلا آراءهم، مبالغا في تقريعهم، ولم يرجع عن ذلك منذ اعتقده، ولا قَلَّ من عزمه كثرة معاداتهم له، وتلك عادة من ذاق حلاوة العمل بظاهر الكتاب والسنة.

وقال كذلك في ترجمته (2/ 95): ولازمته مدة إقامته بفاس وتمكنت الرابطة بيني وبينه وأدركت عنده منزلة عظيمة لما كان يرى من حرصي على سماع الحديث وروايته ...

وبسبب هذا الاتصال أمكن لي أن أحقق كل ما نسب إليه من الاعتزال والبدع والأهواء، فوجدته مباينا للمعتزلة في كل شيء وبريئا من كل ما نسب إليه، بل عقيدته سالمة، على أن ما خالف فيه الفقهاء من الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ التأويل في آيات الصفات شيء لم يبتكره، ولا اختص به من دون سائر الناس، بل ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ومن بعدهم من الهداة المهتدين، وأما اتهامه بإنكار الولاية والكرامات، فمعاذ الله أن يصدر منه ذلك، وإنما هو من مفترياتهم إلا أنه ينكر على المدعين الذين جعلوا التصوف حبالا وشباكا يصطادون بها أموال الناس ويدعون المقامات العالية كذبا وزورا، ويبشرون من أخذ عنهم بفضائل وأجور تغنيهم عن تحمل أعباء العبادات والعزائم الشرعية. اهـ.

ومنهم العلامة عبد الحفيظ بن محمد الفاسي الفهري (المتوفى سنة 1383هـ)، وقد أكثر من التشنيع في كتابه رياض الجنة على تقي الدين النبهاني أحد أقطاب الصوفية.

ومما قال عن كتب النبهاني في رياض الجنة (2/ 163): وهي وإن كانت له فيها حسنات، فهي لا تقابل ماله فيها من السيئات، وذلك لما خلط بها من الخرافات، ونسبة المقامات العظيمة لمن لا قدم له فيها من الطغام، وادعاء الكرامات حتى لمن عرفوا بعدم التمسك بالتقوى, ولا مستند له فيها, إلا مجرد التقول والدعوى أو نقل فلان عن فلان, ولو كان هيان بن بيان, أو الاغترار بظواهر الأحوال وعدم البحث عن حقائق الرجال، وبعكس ذلك عمد إلى علماء الإسلام الذي خدموا السنة والدين خدمة لم يشاركهم فيها غيرهم في عصرهم بشهادة الموافق والمخالف لهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم, فحمل عليهما حملة شعواء في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق ,كما حمل بعد ذلك في رائيته الصغرى في ذم البدعة وأهلها ومدح السنة الغراء على الإمام الألوسي المفسر الكبير وأبنائه الأعلام ... ثم ذكر حمله على الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.

إلى أن قال: وليقابل بينهما وبين مؤلفات النبهاني ليتضح له البعد الشاسع بينهما فقد ملأها النبهاني بتأييد البدع, ورصعها بخرافات وأوهام,

دنس بها صحيفته ووجه الدين الإسلامي النقي الطاهر, وأبقاها حجة ووسيلة يتذرع ويحتج بها الطاعنون في الإسلام والثالبون لتعاليمه الصحيحة الحقة, على أن الإمام المصلح الشهير السيد محمود شكري الألوسي البغدادي قد ألف كتابه غاية الأماني في الرد النبهاني, وكتابه الآية الكبرى على ضلاله في رائيته الصغرى رادا في الأول ما جاء في كتابه شواهد الحق من الجهالات والنقول الكاذبة والآراء السخيفة والدلائل المقلوبة، وما تعدى به طوره من سب أئمة العلم وأنصار السنة، ورادا في الثاني على ما في رائيته الصغرى، كما ألف غيره الداهية الكبرى على الرائية الصغرى.

وسيناقش الحساب على كل ذلك يوم تبلى السرائر. اهـ

ومن إنكاره على المتصوفة قوله في أواخر كتابه الآيات البينات (186): ... فما عسى أن يقال فيما يشيعه أرباب الزوايا من أن من قرأ صلاة الشيخ الفلاني تغفر له سائر الذنوب أو تقوم مقام عبادة السنين العديدة، فذلك من باب أولى وأحرى، لكون ذلك يجر إلى تعطيل الكلف الشرعية ومشاق العبادات، وقد كان الصوفية الصادقون رضي الله عنهم متباعدين عن أمثال هذا، وما كان التصوف إلا تمسكا بالسنة وحمل النفس على المجاهدة والتقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض قبل النوافل والتخلي عن الرذائل والهوى، وغير هذا إنما هو زندقة وإلحاد في الدين وتغرير للعوام الجاهلين وشبكة لاصطياد أموال الغافلين وأكل للسحت باسم الدين.

ومن أقدم المصنفات المغربية في الرد على الصوفية: رسالة لأبي الحسن الصُّغَيِّر المكناسي السوسي، وقد حققتها على أربع نسخ خطية.

وهي تحت الطبع بتحقيقي.

وقد رد عليه أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي صاحب العقائد المشهورة بكتاب سماه: "نُصرة الفُقَيِّر في الرد على أبي الحسن الصغير" طبعته وزارة الأوقاف المغربية، بتحقيق حسن حافظي علوي.

والرسالة في أغلبها إبطال للبدع التي أحدثها المتصوفة كالذكر جماعة والشطح واتخاذ الشيخ في التربية والتسابيح وإحداث الطرق الصوفية.

وقد قسم المصنف رسالته إلى بابين تتقدمهما مقدمة في بيان سبب التأليف.

الباب الأول في ضابط البدعة وخطرها والنصوص الشرعية والآثار السلفية الدالة على ذلك.

الباب الثاني في الرد على أهل البدع وذكر صفاتهم.

ومما قال رحمه الله في هذه الرسالة: فإن قيل: لم أنكرتم التوبة بالاجتماع والوليمة عليها وحلق الرأس واتخاذ الشيخ في ذلك.

فالجواب أن تقول: إنما أنكرنا ذلك على تلك الصفة لأنها من المحدثات التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم يرو عنه ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا العلماء الذين يجب الاقتداء بهم.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: كل ما أحدث بعد الصحابة مما جاوز القدر والضرورة والحاجة فهو من اللعب واللهو.

فإن قيل: لأي شيء لا تنكر المعصية من المعاصي والمبتدع تنكرون عليه.

فالجواب أن تقول: العلماء اتفقوا على أن العاصي أحسن حالا من المبتدع، لأن العاصي يزعم أنه عاص ويرجو من الله التوبة، والمبتدع يزعم أنه على الحق حتى يموت على بدعته، ومن مات مبتدعا وجد قبره حفرة من النار.

فإن قيل: هذه بدعة مستحسنة.

فالجواب أن تقول: بل تلك بدعة مستخشنة، وإنما البدعة المستحسنة ما استحسنه الصحابة وعلماء الأمة جميعا.

وقال: فإن قيل: فالشطح والاهتزاز مما يحرك الخشوع ويهيج الوجد أيضا فلم أنكرتموه؟

فالجواب أن تقول: الرقص والتواجد أول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حوله ويغنون وهو دين الكفار وعبدة العجل، وقد تقدم حديث العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وعظ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، ولم يقل صرخنا ولا زعقنا ولا ضربنا على رؤوسنا ولا رقصنا، كما يفعل الكثير من الجهال يصرخون عند المصيبة ويزعقون ويتعانقون، هذا كله من الشيطان لعنه الله يلعب بهم، وهذا كله بدعة، يقال لِمَ لَمْ يفعل هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناس موعظة، وأنصح الناس لأمته وأرق قلبا، وأصحابه أرق الناس قلوبا وخيار الناس ممن جاء بعدهم ما صرخوا عند موعظته وما رقصوا ولا زعقوا ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس أن يفعلوه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه بدعة وباطل ومنكر.

وقال: فإن قيل: وكيف ذلك وهم يرون الكرامات والفراسة ويرون بنور الله وتظهر لهم بركات وإشارات يقينا بلا شك ولا ريب، ولا يكون هذا إلا لأهل الاستقامة ومن هو على الصراط المستقيم والمنهج القويم.

فالجواب أن تقول: ظهور الأشياء لا تخلو من أمرين إما أن تظهر على يد متبع فلا شك في صحتها وصحة استقامتها وإخلاصها إن شاء الله، لأن ما يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات جائز للولي من الكرامات.

وإن ظهرت على يد مبتدع فلا شك أنها مكر من الله واستدراج وفتنة لمن علم الله شقاوته وضلالته. قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]. ولا يغتر عاقل بذلك ولو رأيتهم يطيرون في الهواء ويمشون على الماء.

وممن اشتد نكيرهم لسماع الصوفية العلامة محمد كنوني المذكوري مفتي رابطة علماء المغرب.

وهذه الفتوى من العيار الثقيل لأنها من أعلى هيئة علمية بالمغرب، فقال رحمه الله: الجواب عن السؤال الأول: وهو الوجد والسماع الخ.


(1) رواه الترمذي (2906) والدارمي (3332) وابن أبي شيبة (6/ 125) والبزار (836) بسند فيه الحارث الأعور متروك.

الكلام على هذا يستدعي الكلام على التصوف نفسه، الذي هو نابع من مقام الإحسان الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - للسائل: «أن تعبد الله كأنك تراه» (1).

والكلام على التصوف يستدعي الكلام على أصوله وطريقته وأدلته، وقد تكلم الناس في ذلك كثيرا، ولنقتصر نحن هنا على أدلته التي يستمد منها، فهذا في نظرنا أهم عناصره، ولنستدل على ذلك بكلام رجال هذا الفن المتفق على صلاحهم وولايتهم، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يحب الاقتداء بهم فنقول:

قال الشيخ أبو القاسم الجنيد رحمه الله: " الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخير كلها مفتوحة عليه" اهـ (2).

وقال أيضا: " علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة"، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الشأن" اهـ.

وقال الشيخ أبو سعيد الخراز: "كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل".

وقال بعض أئمة الصوفية: " أصولنا ستة: التمسك بكتاب الله تعالى والاقتداء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، وأداء الحقوق".


(1) متفق عليه.
(2) خرجت هذا القول وما بعده في تحقيقي لهذه الفتوى.

والكلام في هذا المقام طويل.

فحينئذ، التصوف الصحيح، موافق لشريعة الإسلام ولا يناقضها، ولا يبتدع في الإسلام مبادئ ليست منه.

وعليه، فما يفعله بعض الناس مما يخالف هذا، يجب رفضه، وما دخل في إطار تعاليم الإسلام قبل.

وليس من المقبول ما وصف السائل به هذا الوجد، والسماع من الغناء والرقص الفظيع، والنطق بتلك الكلمة مع كونهم لا يفقهون معنى لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فهذا خروج عن آداب الصوفية أنفسهم، فخير لهؤلاء الناس، إن أرادوا عبادة الله والتقرب إليه، سبحانه، أن يلجوه من بابه، وبواسطة تعاليم كتابه، فيجتمعون لدراسته، والاستفادة من الاستماع إلى آياته، ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» (1) اهـ.

وفي صحيح مسلم أيضا، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» (2) اهـ.


(1) رواه مسلم (804) وأحمد (5/ 249 - 251 - 254) والبيهقي (2/ 395) والحاكم (2071) وعبد الرزاق (5991) والطبراني في الأوسط (468) والكبير (8/ 118 - 291).
(2) رواه مسلم (817)، وقد اعترض عليه الدارقطني في التتبع (261)، وأجبت عنه في الأحاديث المنتقدة على الصحيحين (رقم 241).

وحديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة» الحديث. (1)

وبعد الاجتماع يكون القارئ للقرآن مرتلا ومجودا وهم ساكتون متأملون، حتى يجد الخشوع إلى قلوبهم سبيلا، فبذلك يحصل السكون والخشوع والخضوع إليه سبحانه والخنوع، ويحسن التفكر في المحبوب، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

أما ما ذكره السائل من ذلك الرقص الفظيع والتلفظ بقولهم "هي الله" فذلك شيء شنيع، فتبا له من تعبير، وتعالى الله عن فحش ذلك الضمير، أفلا يخشى الإنسان من هذا، والله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَاسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65] وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] الخ.


(1) رواه مسلم (2699) وأبو داود (1455) وابن ماجه (225) وأحمد (2/ 252) وغيرهم من أبي هريرة.
وله شاهد عن ابن عباس رواه الدارمي (356) وابن أبي شيبة (6/ 156) بسند حسن.
وانظر الأحاديث المنتقدة (رقم 316).

فكيف إذن يحصل الخشوع الذي يظنه السائل، وهم على الحالة الموصوفة، بل ذلك شيء آخر أصون القلم عن تسطيره، وخير لهم كذلك أن يجتمعوا على ذكر الله تعالى، ولاسيما بالأذكار الواردة عن الرسول عليه السلام، ذكرا يستحضرون فيه قلوبهم، وأرواحهم ليسري فيهم سر الذكر، أما بدون استحضار المعنى ما يتلفظ به كسبحان الله، أو لا إله إلا الله، بحيث كان غافلا مثلا ...

إلى أن قال في بيان بدعية السماع الصوفي: وعلى أي حال، فلم يكن الوجد والسماع المسؤول عنهما في هذا السؤال بالصفة المذكورة والرقص الفظيع وتأنيث الضمير المسند إلى الله تعالى وتنزه، هو مثل الوجد والسماع الذي هو محل الخلاف بين العلماء، بل هذا لا يظهر أن أحدا يجوزه على الصفة المذكورة، فهذا الرقص، وهذا الصياح الفظيعان منهي عنهما بحديث في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري جاء عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه لما سمع أصوات الصحابة يجهرون بالتكبير قال لهم: «أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم». (1)

هذا والله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55].

قال صاحب المنار: أي أدعوا ربكم ومدبر أموركم متضرعين ومبتهلين إليه تارة ومسرين مستخفين تارة أخرى، أي دعاء تضرع وتذلل وابتهال، ودعاء مناجاة وأسرار ووقار الخ.

وقال: إنه لا يحب المعتدين في الدعاء، كما لا يحب ذلك في سائر الأشياء والاعتداء تجاوز الحد فيها، وقد نهى عنه مطلقا ومقيدا، إلا ماكان انتصافا من معتد ظالم بمثل ظلمه، والعفو عنه أفضل الخ، ومنه فقد نص بعض العلماء على أن من بالغ في رفع صوته ربما بطلت صلاته، ومن تعمد المبالغة في الصياح في دعائه أو الصلاة على نبيه كان إلى عبادة الشيطان أقرب منه إلى عبادة الرحمن، ذكره صاحب المنار لدى تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].

ونحن وإن كنا لا نذهب في التشديد إلى هذا الحد، فإننا ننبه من فعل ذلك لما يقال في شأنه ليعدل عن هذه المبالغة وليرجع إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110].

كما أبطل العلامة محمد كنوني المذكوري (116) سماع الصوفيين المعاصرين والوجد والرقص.

وقال الإمام أبو عبد الله المازري: الاجتماع بالذكر بالتطريب والتحنين ورفع الأصوات قد نهى عنه العلماء وأنكروه وعدوه بدعة. المعيار المعرب (12/ 362).

 


(1) رواه البخاري (2830 - 3968 - 6021 - 6236 - 6952) ومسلم (2704) وأبو داود (1526) وأحمد (4/ 394 - 402 - 417) والبيهقي (2/ 184) والنسائي في عمل اليوم والليلة (538) وابن أبي شيبة (2/ 232) وعبد الرزاق (9244) والبزار (2990 - 2994) وأبو يعلى (7252) واللالكائي في شرح السنة (686) وابن أبي عاصم في السنة (618) وغيرهم.

 

  • الخميس AM 05:46
    2022-07-14
  • 1556
Powered by: GateGold