المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412357
يتصفح الموقع حاليا : 365

البحث

البحث

عرض المادة

المالكية والمذهب الأشعري

كان الأئمة المتقدمون المعتبرون من أصحاب مالك على عقيدة السلف القائمة على الإثبات كعبد الرحمان بن القاسم (1) وعبد الله بن وهب، وعبد العزيز بن الماجشون (2)، وتلاميذ تلامذته كسحنون (3)،

وأصبغ بن الفرج (4)،


(1) قال ابن القيم في الصواعق (2/ 503 - مختصره): وكذلك ابن القاسم صاحب مالك صرح في رسالته في السنة: إن الله تكلم بصوت، وهذا لفظه، قال: والإيمان بأن الله كلم موسى بن عمران بصوت سمعه موسى من الله تعالى لا من غيره، فمن قال غير هذا أوشك فقد كفر، حكى ذلك ابن شكر في الرد على الجهمية عنه.
(2) روى الذهبي في السير (7/ 311 - 312) عن عبد العزيز بن الماجشون أنه سئل عما جحدت به الجهمية فقال: أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت الجهمية في صفة الرب العظيم، الذي فاتت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدره، فلما تجد العقول مساغا فرجعت خاسئة حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق، وإنما يقال كيف؟ لمن لم يكن مرة، ثم كان، أما من لا يحول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، والدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا يكاد يراه صغرا يحول ويزول، ولا يرى له بصر ولا سمع، فاعرف غناك عن تكليف صفة مالم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، فأما من جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكليفا فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران، ولم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. القيامة فقال: لا يرى يوم القيامة ... وذكر فصلا طويلا في إقرار الصفات وإمرارها وترك التعرض لها.
(3) قال الذهبي في السير (12/ 67) وعن يحيى بن عون قال: دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض فقال: ما هذا القلق؟ قال له: الموت والقدوم على الله. قال له سحنون: ألست مصدقا= =بالرسل والبعث والحساب والجنة والنار؟ وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف وإن جاروا؟ قال: إي والله. فقال: مت إذا شئت، مت إذا شئت ..
(4) وقال أصبغ: وهو مستو على عرشه وبكل مكان علمه وإحاطته. ذكره ابن القيم في "اجتماع الجيوش" (76).

وأتباع مذهبه كأبي عمر ابن عبد البر، وابن أبي زيد القيرواني (1)، وأبي عمر الطلمنكي (2)، وأبي بكر محمد بن موهب (3)، وعبد العزيز بن يحيى الكناني (4)، ورزين بن معاوية صاحب "تجريد الصحاح" (5)، والأصيلي، وأبي الوليد بن الفرضي، وأبي عمرو الداني، ومكي القيسي (6)، وابن أبي زمنين، وغيرهم.

قال الذهبي في السير (17/ 557) عن أبي ذر الهروي: " أخذ الكلام ورأي أبي الحسن (7) عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وبث ذلك بمكة وحمله عنه المغاربة إلى المغرب والأندلس (8)، وقبل ذلك كانت علماء المغرب لا يدخلون في الكلام، بل يتقنون الفقه والحديث أو العربية، ولا يخوضون في المعقولات، وعلى ذلك كان الأصيلي، وأبو الوليد بن الفرضي، وأبو عمر الطلمنكي، ومكي القيسي، وأبو عمرو الداني، وأبو عمر بن عبد البر، والعلماء" (9). انتهى.

وأبو ذر الهروي المالكي مع كونه معروفا بالميل إلى المذهب الأشعري إلا أنه كثير الانتصار لعقائد السلف في أمور كثيرة.

قال الذهبي في السير (17/ 558) في ترجمته: وقد ألف كتابا سماه الإبانة ويقول فيه: فإن قيل فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قال: قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. فأثبت تعالى لنفسه وجها ويدا. إلى أن قال: فإن قيل: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه. إلى أن قال: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضى. فهذا نص كلامه. وقال نحوه في كتاب التمهيد له، وفي كتاب الذب عن الأشعري. وقال: قد بينا دين الأمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير.

قلت (أي الذهبي): فهذا المنهج هو طريقة السلف وهو الذي أوضحه أبو الحسن وأصحابه، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسنة، وبه قال ابن الباقلاني وابن فورك والكبار إلى زمن أبي المعالي، ثم زمن الشيخ أبي حامد، فوقع اختلاف وألوان، نسأل الله العفو. انتهى.

 

 


(1) كما هو واضح من خلال مقدمته للرسالة، خلافا لأكثر شارحيها كزروق، وابن ناجي وغيرهما.
(2) له كتاب " الوصول إلى معرفة الأصول" ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأقوال مالك وأئمة أصحابه، كما في " الصواعق المرسلة لابن القيم" (2/ 357)، وانظر السير (17/ 560)، والفتاوى (3/ 219).
(3) له شرح على الرسالة، قرر فيه عقيدة السلف، كما في "الصواعق المرسلة" (2/ 358).
(4) له كتاب "الرد على الجهمية والزنادقة"، كما في "الصواعق" (2/ 380).
(5) قال ابن القيم: هو أعلم أهل زمانه بالسنن والآثار، وهو من المالكية، اختصر تفسير ابن جرير الطبري، "الصواعق" (2/ 326).
(6) كما في السير (17/ 557).
(7) أي الأشعري.
(8) كأبي الوليد الباجي المتوفي سنة (474).

(9) انظر موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 503)، وأحال على التطور المذهبي بالمغرب (25 - 30).

ومن أشهر المالكية معارضة لمذاهب الأشاعرة: الحافظ الكبير والإمام بدون منازع: أبو عمر بن عبد البر، وكلامه في إثبات الصفات التي ينفيها الأشعرية مشهور (1)، اقتصر منه على نقل واحد، قال رحمه الله في كتاب التمهيد (7/ 145): أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. اهـ

وهذا الاعتقاد الذي نقله ابن عبد البر يخالف عقائد الأشعرية جملة وتفصيلا، فقد اتفق جميع الأشعرية على حمل نصوص الصفات على المجاز لا على الحقيقة، إلا صفات سبع، يؤول أمرها عند التحقيق إلى المجاز كذلك، بل عند كثير منهم مَن حمل نصوص الصفات على الحقيقة كفر، وقال آخرون: فسق فقط.

وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 117): حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن ثنا إبراهيم بن بكر، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خويزمنداد المصري المالكي في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف: قال مالك: لا تجوز الإجارات في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتبا ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك، قال: وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك.

وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها.

قال أبو عمر: ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه.


(1) وانظر في تفصيل ذلك: "فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر" للشيخ محمد المغراوي.

فتأمل كيف يحكي هذا الإمام عن ابن خويزمنداد المصري المالكي أن أهل الكلام أهل بدع، وأن الأشعرية منهم (1)، وقد ساق ابن عبد البر هذا الكلام ولم يرده بشيء، ولو كان لا يرتضيه لرده وأبطله.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (7/ 129): وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش. والدليل على صحة ما قالوه أهل الحق في ذلك قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة:4]. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11]. وقوله: وذكر آيات كثيرة دالة على العلو.

إلى أن قال (7/ 131): وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز. إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {اسْتَوَى} قال: علا. قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي: انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.

قال أبو عمر: الاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل. وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]. وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:28] ... إلى آخر كلامه.

قلت: وهذا المذهب الذي أبطله ابن عبد البر أي: تأويل استوى باستولى، هو مذهب أكثر الأشعرية. وقد أكثر الأشعرية من الاحتجاج لهذا التأويل، والرد على من خالفه.

إلى أن قال (7/ 134): ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى. وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للأَمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة. فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه. انتهى.

فأثبت رحمه الله علو الله على خلقه، خلافا لأكثر الأشعرية، بل صرح بعضهم بأن من موجبات الكفر اعتقاد جهة العلو! كما ستقف على ذلك في رسالتي: "عقائد الأشاعرة". وهي على وشك التمام إن شاء الله.

ومن المالكية المشهورين بإثبات عقيدة السلف أبو عمر الطلمنكي، قال في كتابه "الأصول": أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: (هو معكم أينما كنتم) ونحو ذلك من القرآن بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه، كيف شاء. ذكره ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (76) وابن تيمية في "الفتاوى" (3/ 219).

وقال أصبغ: وهو مستو على عرشه وبكل مكان علمه وإحاطته. ذكره ابن القيم في "اجتماع الجيوش" (76).

ومنهم كذلك: ابن أبي زيد القيرواني قال في مقدمة الرسالة (10): وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه.

قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 12): قلت: وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأول.

وقال ابن القيم في اجتماع الجيوش (82) عن ابن أبي زيد القيرواني: وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه، وذكر في كتابه المفرد في السنة تقرير العلو واستواء الرب تعالى على عرشه بذاته أتم تقرير.

ثم نقل عنه كلاما طويلا الشاهد منه قوله: وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه ... إلى أن قال، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك، فمنه منصوص من قوله، ومنه معلوم من مذهبه.

ومنهم كذلك: ابن أبي زمنين أبو عبد الله محمد بن عبد الله المالكي المتوفى سنة (399 هـ) له كتاب "أصول السنة" قرر فيه عقيدة السلف، ومما قال فيه (88): ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء. انتهى.

وإثبات العلو والاستواء ينافي المعتقد الأشعري من كل الوجوه، بل عد بعضهم إثباته من أصول الكفر.

وقال أبو القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي المالكي في الجزء الأول من كتاب الاهتداء لأهل الحق والاقتداء من تصنيفه من شرح الملخص للشيخ أبي الحسن القابسي رحمه الله تعالى في شرح حديث النزول: في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سماوات من غير مماسة ولا تكييف كما قال أهل العلم. ثم سرد نصوصا تدل على ذلك، وأبطل تأويل استوى باستولى. كذا في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (89).

ومن متأخري أصحاب مالك ممن أثبت لله الاستواء وفسره بالعلو، ورد من فسره بالاستيلاء: أبو الوليد بن رشد في "البيان والتحصيل" (16/ 368 - 369).

وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة (357 - مختصره): الوجه الرابع عشر: إن الجهمية لما قالوا: إن الاستواء مجاز، صرح أهل السنة بأنه مستو بذاته على عرشه، وأكثر من صرح بذلك أئمة المالكية, فصرح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه، أشهرها الرسالة, وفي كتاب جامع النوادر, وفي كتاب الآداب, فمن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه.

وصرح بذلك القاضي عبد الوهاب، وقال: إنه استوى بالذات على العرش.

وصرح به القاضي أبو بكر الباقلاني، وكان مالكيا، حكاه عنه القاضي عبد الوهاب أيضا.

وصرح به عبد الله القرطبي في كتاب شرح أسماء الله الحسنى، فقال: ذكر أبو بكر الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير وأبي محمد بن أبي زيد جماعة من شيوخ الفقه والحديث, وهو ظاهر كتاب القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري, وحكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر نصا, وهو أنه سبحانه مستو على عرشه بذاته, وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه, قال: وهذا قول القاضي أبي بكر في تمهيد الأوائل له وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين, وقول الخطابي في شعار الدين.

وقال أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد قوله: (إنه فوق عرشه المجيد بذاته) ... فتبين أن علوه على عرشه وفوقه إنما هو بذاته، إلا أنه باين من جميع خلقه بلا كيف، وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته ... انتهى.


(1) وإن كان هذا الإطلاق فيه نظر، والمسألة تحتاج إلى تفصيل، لكن قصدي نقل موقف بعض المغاربة من المذهب الأشعري، علما أن جماهير المغاربة المتأخرين أشعرية.

ومن المغاربة الذين اشتهروا بالانتصار لمذهب السلف ومعارضة مذهب الأشاعرة: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي الفاسي (ت 1136 هـ) ألف "جهد المقل القاصر في نصرة الشيخ عبد القادر" (1).

وقد اطلعت على نسخة الخزانة العامة، وقد قرر فيه عقيدة السلف، ورد على الأشاعرة والسبكي.

ومن علماء المغرب المتأخرين الذين عرفوا بمعارضة المذهب الأشعري: السلطان العلوي محمد بن عبد الله، وكان أحد العلماء المصنفين، وقد طبعت له عدة كتب، ولازالت أخرى في عداد المخطوطات.

قال السلطان محمد بن عبد الله في طبق الأرطاب (ص 41 - القرويين - 748): وأنا في نفسي أتبع الأئمة الأربعة في أبواب العبادة، ولا نفرق بين واحد منهم فيها ... وأما في غير أبواب العبادة كالنكاح والطلاق والبيوع


(1) منه نسخة بالخزانة العامة (579ع) وأخرى بالقرويين (2/ 1530).

والحبس والهبة والعتق وغير ذلك، فلا أتبع إلا مذهب مالك رحمه الله، لأني مالكي المذهب حنبلي الاعتقاد، مع أني أومن بأن الإمام أحمد على اعتقاد الأئمة الثلاثة، وأنهم كلهم على هدى من ربهم (1).

وكان من عادة السلطان محمد بن عبد الله افتتاح كتبه بقوله: المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا (2).

وعقد فصلين في أواخر كثير من كتبه لبيان مقصوده بذلك.

فقال في كتابه الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من ستة مسانيد (3) (92): فصل في بيان قولي في الترجمة: المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا.

والأئمة رضي الله عنهم اعتقادهم واحد، فأردت أن أشرح قولي المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا، وأبين المقصود بذلك والمراد، لئلا يفهمه بعض الناس على غير وجهه.

وذلك أن الإمام أحمد، ثبت الله المسلمين بثبوته، سد طريق الخوض في علم الكلام، وقال: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا ترى أحدا ينظر في علم الكلام (إلا) وفي قلبه مرض، وهجر الإمام أبا عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري، وكان ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن، وذلك لتصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك، ألست تحكي بدعتهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث.

فاختفى المحاسبي، فلما مات لم يصل عليه إلا أربعة.

وإلى ذلك ذهب الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأهل الحديث قاطبة حتى قال الشافعي - رضي الله عنه -: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام.

فلزم الناس السكوت عن الخوض في علم الكلام إلى أن نبغ الإمام الأشعري فاشتغل يرد على المعتزلة أقوالهم الفاسدة وآراءهم، ويجيب عن آرائهم الواهية.

فاتبعه المالكية على ذلك، وسموه ناصر السنة، وهو ومن اتبعه على صواب، موافقين في اعتقادهم للسنة والكتاب لا في الخوض مع الخائضين، والتصدي لذكر شبه المبطلين وتخليدها في الأوراق إلى يوم الدين.

وأما الحنابلة فأنكروا ذلك عليه وفوقوا سهام الانتقاد إليه، وقالوا له كان ينبغي لك أن تسكت كما سكت الأئمة قبلك من السلف الصالح المهتدين الذين يرون أن الخوض في علم الكلام من البدع المحدثة في الدين، أما لك فيهم أسوة؟ أفلا وسعك ما وسعهم من السكوت على تلك الهفوة؟

في الاعتقاد سهلة المرام منزهة عن التخيلات والأوهام

موافقة لاعتقاد الأئمة كما سبق مع الصالح من الأنام أعاشنا الله على ملتهم ما عاشوا عليه، وأماتنا على ما ماتوا عليه بجاه النبي وآله وصحبه.

ثم عقد فصلا ثانيا لبيان أن اعتقاد الأئمة الأربعة واحد.

وقال الناصري في الاستقصا (3/ 68): وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله، ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل.


(1) الحركة الفقهية (206/ 1).
(2) انظر مثلا الجامع الصحيح الأسانيد (ص 3)، وبغية ذوي البصائر والألباب (ص82) مخطوطة الملكية (7307).
(3) مخطوط بالخزانة الملكية (5866).

وقال المشرفي في الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية (1) (ص159): وكان أيضا ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية (ض)، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل.

وقال محمد بن عبد الله في فاتحة كتاب له غير مسمى (2): اعلم أرشدنا الله وإياك أنه يجب على معلم صبيان المسلمين، لأنه خليفة آبائهم عليهم، أن يقتصر لمن أتاه منهم على حفظه لحزب سبح، فإن صعب عليه فليقتصر على ربعه الأخير من (والعاديات)، فإذا حفظه، فليعلمه عقيدة ابن أبي زيد، حتى يحفظها وترسخ في ذهنه فهي الأصل الأصيل.


(1) مخطوط بالخزانة العامة رقم: 1463 د.
(2) مخطوط بالخزانة الملكية رقم: 7307 ص 142 - 143.

وقال الأستاذ إبراهيم حركات في التيارات السياسية والفكرية بالمغرب (117 - مطبعة الدار البيضاء): ومن جهة ثانية ظهرت الدعوة السلفية من قمة الحكم على يد السلطان محمد الثالث.

وقال الأستاذ حسن العبادي في الملك الصالح (99 - مؤسسة بنشرة- البيضاء): ولم يقتصر سيدي محمد بن عبد الله على إعلان رأيه هذا وكفى، بل نشره في الأمة المغربية محاولا بذلك إصلاح عقيدتها بإرجاعها إلى العقيدة السلفية، فكان ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة عل القواعد الكلامية المحررة على المذهب الأشعري، ويحض الناس ويحملهم على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، ولذلك افتتح جميع مؤلفاته الحديثية والفقهية بعقيدة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني كمثال للعقيدة السلفية التي رضيها واستمسك بها (1) ... ونص في المرسوم الذي أصدره لإصلاح حالة التعليم على أن العقيدة يجب أن يكتفى فيها بعقيدة ابن أبي زيد، ومن أراد دراسة علم الكلام فليتعاطاه في داره لا في المسجد.

وقال الأستاذ أحمد العمراني في الحركة الفقهية (1/ 312 - نشر وزارة الأوقاف المغربية): فهو أول ملك علوي بل مغربي بعد سقوط الدولة الموحدية دعا إلى العودة للعقيدة السلفية التي اعتنقها المغاربة منذ الفتح الإسلامي إلى نهاية عصر المرابطين مخالفا الاتجاه العقدي الذي ركزه الموحدون، وهو العقيدة الأشعرية.

ومن علماء المغرب المتأخرين الذين عرفوا باعتقاد عقيدة السلف ونبذ ما خالفها من العقائد: العلامة الفقيه عبد الله بن إدريس السنوسي الفاسي (ت 1350هـ).

قال عبد الحفيظ الفاسي في رياض الجنة في ترجمته (2/ 81): نزيل طنجة الآن العالم العلامة المحدث الأثري السلفي الرحالة المعمر أبو سالم.

وقال كذلك (2/ 82): سلفي العقيدة أثري المذهب عاملا بظاهر الكتاب والسنة، نابذا لما سواهما من الآراء والفروع المستنبطة، منفرا من التقليد، متظاهرا بمذهبه قائما بنصرته داعيا إليه، مجاهرا بذلك على الرؤوس، لا يهاب فيه ذا سلطة، شديدا على خصمائه من العلماء الجامدين، وعلى المتبدعة والمتصوفة الكاذبين، مقرعا لهم، مسفها أحلامهم، مبطلا آراءهم، مبالغا في تقريعهم، ولم يرجع عن ذلك منذ اعتقده، ولا قل من عزمه كثرة معاداتهم له، وتلك عادة من ذاق حلاوة العمل بظاهر الكتاب والسنة.

وقال (2/ 84 - 85) بعد أن ذكر أن عبد الله السنوسي كان يحضر مجلس السلطان مولاي الحسن: وكان يحضر فيه جمع من أعيان علماء فاس كشيخنا العلامة المحقق أبي العباس أحمد بن الطالب بن سودة، وشيخنا العلامة الحافظ أبي سالم عبد الله الكامل الأمراني الحسني، فأعلن في ذلك الجمع بما تحمله في الشرق عن شيوخه الأعلام من الرجوع إلى الكتاب والسنة والعمل بهما دون الأقيسة والآراء والفروع المستنبطة، ومن رفض التأويل في آيات وأحاديث الصفات والمتشابهات وإبقائها على ظاهرها كما وردت، ورد علم المراد بها إلى الله تعالى مع اعتقاد التنزيه، كما كان عليه سلف الأمة وغير ذلك من المسائل، فقام بينه وبين أولئك العلماء خلاف كبير من أجل ذلك، وتناظروا في مجلس السلطان، ولمزوه بالاعتزال، والتمذهب بعقائد أهل البدع والأهواء، وإنكار الولاية والكرامات، وألف فيه بعضهم المؤلفات المحشوة بالسب والسخافات الخارجة عن الأدب، مع لمزه بنزعة الاعتزال، ونقل ما قال الناس في المعتزلة والخوارج وما طعنوا به من الأقوال البعيدة عن الإنصاف في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، إلا أن مولاي الحسن لم يكن متعصبا ولا ذا أذن، فيسمع الوشايات فلم ينحز لفريق منهما، بل ألقى حبلهما على غاربهما، ولعل ذلك كان يريده باطنا ليظهر كل فريق ما عنده من العلم ويتمحص المحق من المبطل والجاهل من العالم ...

وقال (2/ 95): ولازمته مدة إقامته بفاس وتمكنت الرابطة بيني وبينه وأدركت عنده منزلة عظيمة لما كان يرى من حرصي على سماع الحديث وروايته ...

وبسبب هذا الاتصال أمكن لي أن أحقق كل ما نسب إليه من الاعتزال والبدع والأهواء، فوجدته مباينا للمعتزلة في كل شيء وبريئا من كل ما نسب إليه، بل عقيدته سالمة، على أن ما خالف فيه الفقهاء من الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ التأويل في آيات الصفات شيء لم يبتكره، ولا اختص به من دون سائر الناس، بل ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ومن بعدهم من الهداة المهتدين، وأما اتهامه بإنكار الولاية والكرامات، فمعاذ الله أن يصدر منه ذلك، وإنما هو من مفترياتهم إلا أنه ينكر على المدعين الذين جعلوا التصوف حبالا وشباكا يصطادون بها أموال الناس ويدعون المقامات العالية كذبا وزورا، ويبشرون من أخذ عنهم بفضائل وأجور تغنيهم عن تحمل أعباء العبادات والعزائم الشرعية. اهـ.

وقال عنه العلامة أبو جعفر النتيفي في نظر الأكياس (6 - مخطوط): وكان رحمه الله سلفي المذهب.

وانتصر الشيخ عبد الحفيظ الفاسي في الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات (15) لعقيدة السلف بكلام طويل، حاصله أن إثبات الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف وعليه إجماع العلماء وأنه لا يستلزم التجسيم والتشبيه كما يزعم المؤولة.

ثم ذكر كلاما طويلا في أن أهل المغرب كانوا على عقيدة السلف كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب بالمهدي في صدر المائة السادسة فانتصر للعقائد الأشعرية ثم صار العلماء بعد الموحدين يحكون المذهبين مع ترجيح مذهب الأشعرية.

إلى أن قال: واستمر الحال على ذلك إلى هذا القرن حيث انتشرت مؤلفات السلف ومستقلي الفكر وزعماء الإصلاح الديني من الخلف وأهل العصر بسبب كثرة المطابع، وكثر اختلاط أهل المغرب بأهل المشرق بسبب تسهيل المواصلات البرية والبحرية، وظهرت هذه النهضة الدينية المباركة الميمونة، واستقلت الأفكار وطمحت إلى الإصلاح الديني في كافة الممالك الإسلامية فأخذ المغرب حظه منها, وقامت اليوم فئة من علمائه ناصرة لمذهب السلف ومؤيدة له، وداعية إليه في مؤلفاتها ودروسها يلقنونه بحججه الناصعة وأدلته القاطعة وصار حديث الناس في أنديتهم ومحافلهم وظعنهم وإقامتهم مما يبشر بمستقبل زاهر بحول الله.


(1) انظر مثلا بغية ذوي البصائر والألباب ص 83، مخطوط بالخزانة الملكية رقم 7307. وكتاب آخر له غير مسمى في نفس المجموع ص 147.

وقال في أواخر كتابه الآيات البينات (301 - 302): ذكرنا في مبحث سير مذهب السلف في العقائد في المغرب عند الكلام على حديث الأولية أن الموحدين كانوا حملوا الناس بالسيف على مذهب المؤولة وأن الناس بعد ذهاب دولتهم، رجعوا لمذهب السلف مع تمسكهم بالمذهب الثاني، وأن العلماء صاروا يحكون القولين، وأن الحال استمر على ذلك إلى هذا القرن حسبما كل ذلك مبين في ص 15 - 16، وفاتنا أن نبين هناك أن الإمام أبا عبد الله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي ثم الفاسي من علماء القرن الحادي عشر والثاني (1) قام بنصرة مذهب السلف وألف كتابه: جهد المقل القاصر في نصرة الشيخ عبد القادر (2)، لطعن الناس في عقيدته الحنبلية وتتبع ما قيل فيه وفي شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصرهما بما يعلم بالوقوف على تألفيه المذكور.

ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب.

وصرح في أول كتابه الفتوحات الكبرى بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة، وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة لكونها على مذهب السلف، وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة، ونصره، ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية.

وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول فنزل عن كرسيه، وقال: كنزولي هذا.

ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية.

ولما أفضت الخلافة إلى ولده أبي الربيع سليمان نهج منهجه في ذلك، واتصلت المكاتبة بينه وبين الأمير سعود ناصر المذهب الوهابي الحنبلي حين افتتح الحجاز، وطهره مما كان فيه من البدع، وأرسل وفدا مؤلفا من أولاده وبعض علماء حضرته، ووجه له قصيدة من إنشاء شاعر حضرته العلامة المحدث الصوفي الأديب أبي الفيض حمدون بن الحاج مجيبا له عن كتابه ومادحا له، ولمذهبهم السني السلفي، ولم يقتصر على ذلك بل تعداه إلى إنكار ما أدخله أرباب الزوايا في التصوف من البدع مع أنه كان ناصري الطريقة.

وأمر بقطع المواسم التي هي كعبة المبتدعة والفاسقين، وكتب رسالته المشهورة وأمر سائر خطباء إيالته بالخطبة بها على سائر المنابر، إرشادا للناس لاتباع السنن ومجانبة البدع.

ولولا مقاومة مشايخ الزوايا من أهل عصره له وبثهم الفتنة في كافة المغرب، وتعضيد من خرج عليه من قرابته وغيرهم، واشتغاله بمقابلتهم، وانكساره أمامهم، لولا كل ذلك لعمت دعوته الإصلاحية كافة المغرب، ولكن بوجودهم ذهبت مساعيه أدراج الرياح، فذهبت فكرة الإصلاح ونصرة مذهب السلف بموته.

ولما حج شيخنا أبو سالم عبد الله بن إدريس السنوسي، ورجع إلى المغرب محدثا بما تحمله عمن لقي من أهل الحديث والأثر كمحمد نذير حسين الهندي المحدث الأثري المشهور وأضرابه، ووفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى قربه وأدناه وأمره بحضور مجالسه الحديثية، فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد، واشتد الجدال بينه وبين من كان يحضر من العلماء في ذلك المجلس، كل فريق يؤيد مذهبه ومعتقده.

إلا أن السلطان لم يكن يعمل بأقوال العلماء فيه، ككونه معتزليا وخارجيا وبدعيا، بل كان في الحقيقة ناصرا له بما كان يخصه به من العطايا والصلات زيادة على سهمه معهم في جوائزه المعتادة.

وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته، فنشره في كافة أنحاء المغرب وتلقاه عنه كثير من مستقلي الأفكار منذ أوائل هذا القرن، إلى أن توفي منتصفه رحمه الله تعالى، حسبما استوفينا الكلام على ذلك في ترجمته من المعجم (ص 71 ج 2).

هكذا تقلب هذا المذهب في المغرب وهو اليوم شائع منصور بفضل القائمين به وتأييده بالأدلة الصحيحة، وسيزداد اليوم ظهورا. انتهى.

ورجح مذهب السلف في الصفات في الآيات البينات (173) وضعف تأويلهم لصفة القَدَم، ومما قال:

ولا يخفى أن كل ذلك تكلف وتقدم بين يدي الله ورسوله وغفلة عن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله، مع فصاحته وبيانه وإرشاده للأمة ونصحه في تبليغه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره أو يخاطب الأمة بما يوقعها في التشبيه، وهو ما بعثه الله تعالى إلا للتوحيد وهداية البشر من الشرك.

إلى أن قال: وإذا كان الأمر كما ذكر فلا حاجة إلى تأويل شيء من المتشابهات مما ورد في القرآن والسنة الصحيحة، بل يؤمن بها كما وردت، ويرد علم المراد منها إلى الله تعالى.

 


(1) توفي سنة (1136).
(2) وقد تقدم الحديث عنه.

 

  • الخميس AM 05:07
    2022-07-14
  • 1202
Powered by: GateGold