المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412490
يتصفح الموقع حاليا : 374

البحث

البحث

عرض المادة

إقامة العدل وشهادة حق

بقلم: فاتن صبري
Www.fatensabri.com 
من كتاب: دين عالمي

إن العلاقة بين الدين والدولة في القرون الوسطى (476 -1453م) كانت علاقة مصالح، يقوم فيها السياسي بالحصول على شرعية حكمه من رجل الدين، بينما يرخص السياسي سلطة رجل الدين الدينية والهيمنة على قلوب أتباعه، ويضمن استمرارية مؤسسته الدينية عبر الهبات والأموال.

وبمجيء الإسلام، فكك الإسلام هذه العلاقة، معطيًا مساحة أكبر للفكر والمنطق، معتمدًا على مباديء الحرية الدينية، وتوفير البراهين في تحديد دور الدين في الحياة العامة، خاصة في جانبها السياسي.

فعلى سبيل المثال:

وصية أبى بكر الصديق لجنود الإسلام قبل فتح بلاد الشام (12 هجرية):

"يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا أو شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئًا فاذكروا اسم الله عليها …".

قبل تدوين اتفاقيات جنيف بأكثر من ألف عام، كانت معظم النقاط الأساسية للحماية التي توفرها تلك الاتفاقيات موجودة بالفعل في مضمونها الأساسي في التعاليم الإسلامية.

وفي الواقع، فإن العديد من القيود التي تفرضها الشريعة الإسلامية على المقاتلين تفوق بعظمتها ما هو مطلوب بموجب القانون الدولي الإنساني، وخاصة في ساحة الصراع المسلح غير الدولي.

وعندما نظمت هيومان رايتس ووتش لقاءات مع قادة المجتمع المدني في العالم الإسلامي لمناقشة حماية المدنيين، شهدت بالحق قائلةً:

"لم نواجه حججًا تدعي أن الشريعة الإسلامية تتبع معايير مختلفة".

كما قال جو ستورك، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة: "بل كان الناس يؤكدون التطابق بين القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية، وربما كانوا يبالغون في التعبير عن هذا التطابق".

 لا تعددية في الحق

قال لي أحدهم يومًا:

إن الحروب في الإسلام كانت لإجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وأن الذين اعتنقوا الإسلام دخلوا فيه بالإكراه والقهر، لا عن اقتناع وتسليم.

قلت له:

من أجبر التتار على دخول الإسلام، وهم المنتصرون في المعركة؟

هل يعتنق المنتصر دين المغلوب مجبرًا؟

ألم يرحب أقباط مصر بالمسلمين واعتبروهم محررين لهم من اضطهاد الرومان؟

بل وساعدوهم على دخول البلاد للتخلص من سيطرة الرومان.

أليس الصحابي عمرو بن العاص  هو من أعاد إلى بطريرك القبط في بلاد مصر كنائسه ورفع الظلم عنه بإعادته إلى مزاولة عمله، عندما كان مضطهدًا من الرومان وهاربًا من بطشهم؟

قال السائل:

لكن المسلمون قد قاموا بفرض الجزية على الأقباط.

قلت له:

وإن فرضوا الجزية على المقاتل فقط وليس على جميع أفراد المجتمع من الأقباط مقابل الحماية واعفائه من خوض الحروب معهم، لكنها تبقى مبلغًا ضيئلاً جدًا في واقعه وقياسًا على مبلغ الجزية الذي كانوا يدفعونه عن كل أفراد الأسرة وبمبالغ باهظة للدولة الرومانية.

وهي ما يشبه الضريبة التي أقرها القانون العالمي اليوم مقابل توفير الخدمات والحماية من الدولة لمواطنيها.

قال المؤرخ الهولندي "رينهاردت دوزي"[1]:

"لقد كان غالبية النصارى في الشرق ينتمون إلى مذاهب متعددة، كانت قد لقِيت من اضطهاد حكومة القسطنطينية وإعناتها ما أرهق أصحابها إرهاقًا، فلما جاء الإسلام – ومن طبيعته التسامح والإخاء – ترك لهم الحرية التامة في البقاء على دينهم، وظَلَّلهم بحمايته، وساوى بينهم في الحقوق على اختلاف مَذاهبهم، وبما أنهم كانوا مضطرين إلى دفع ضرائب فادحة للإمبراطور الروماني، فقد أعفاهم الإسلام منها، ولم يفرض عليهم إلا جزية معتدلة لا ترهق أحدًا".

قلت له مسترسلة: ألم يرفض عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة بعد سيطرته الكاملة على مدينة القدس حتى لا يظن المسلمون أنها رخصة بتحويل الكنيسة إلى مسجد؟

أليس مفتاح كنيسة القيامة في عهدة عائلة مسلمة حتى يومنا هذا[2]؟

يقول فرد من أفراد هذه الأسرة:

"تشرفت عائلتى بهذه المهمة المقدسة، منذ عام ١١٨٧، حيث قام القائد الفاتح صلاح الدين، بعد تحرير القدس من أيدى الصليبيين باتباع خطى الخليفة عمر بن الخطاب الذي خط بيده العهدة العمرية والتى تظهر سماحة الدين الإسلامى الذي أعطى النصارى عهدًا يضمن السماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية في بيت المقدس".

وممارسة شعائر غير المسلمين وفقًا للعهدة العمرية كانت بشروط من بينها:

عدم ايواء الجواسيس في كنائسهم أو منازلهم، وعدم غش المسلمين، وأن لا يضربوا بنواقيسهم إلا ضربًا خفيفًا في جوف كنائسهم، ولا يظهروا عليها الصليب، ولا يرفعوا أصواتهم في الصلاة ولا القراءة في كنائسهم. وغيرها من الشروط[3].
قال السائل: أليس ما فعله المسلمون هو استبدال استعمار باستعمار؟

قلت له: حكم الدولة الإسلامية في ذلك الوقت كان ليس استعمارًا، فقد تحولت جماعة الفاتحين المسلمين لجماعة ضامنة لحقوق أهل الذمة، بمعنى أن الوضع المثالي كان يقتضي رقابة المسلمين جميعًا على أحوال أهل الذمة وحمايتهم، مع منحهم المواطنة الكاملة بمفهومها المعاصر.

وهذا بمقياس العصور الوسطى تقدم كبير للغاية.

إن الأمم غير العربية التي دخلها الإسلام ما زالت تحتفل بأعياد المسلمين لتمسكها الشديد بدين الإسلام، أما الأمم التي دخلها الاستعمار فإنها تجعل من فراق المستعمرين عيدًا قوميًا (أعياد الاستقلال في دول الوطن العزبي والعالم الإسلامي).

علينا أن نفهم أن الاستعمار بجميع أشكاله هو استغلال اقتصادي واستراتيجي لصالح الدولة المستعمرة، ولهذا نرى البلاد المستعمِرة نهضت على حساب الأراضي المستعمرة.

ثم أن الشعوب لم يسبق أن ثارت على الفاتحين المسلمين، الذين جاءوا بهدف رفع الظلم عن هذه الشعوب، كما ثارت على المستعمرين الذين قد أدركت هذه الشعوب أهدافهم من الظلم ونهب الثروات.

فهناك فرق كبير بين الاستعمار والفتح الإسلامي، فنلاحظ ردة فعل الشعوب بعد نهاية الحقبة الاستعمارية ، على سبيل المثال، (فرنسا والجزائر مثلاً، بريطانيا و مصر،  بريطانيا والهند…وهكذا).

أما المسلمون فأساس فتوحاتهم هو ضم الآخرين معهم ومشاركتهم لهم في حياتهم (لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من حقوق وواجبات)، مع تباين في التطبيق الذي تعتريه العيوب، والذي أخذ بعض الأحيان في عصور لاحقة طابعًا سياسيًا بسبب الضعف البشري.

فلا بوجد تشابه بين الفتوحات اﻹسلامية وما فعله اﻹستعمار الغربي على سبيل المثال، في المئتين سنة الماضية. المدن التي فتحها المسلمون كانت من أعظم المراكز العلمية والحضارية لعقود من الزمن: بغداد، سمرقند، القاهرة، الخ. أما التي احتلها الغرب فقد أصبحت خرابا.

وهذا يقودنا إلى أهمية التمييز بين دين الإسلام المثالي والمسلمون الغير مثاليون.

وقد عاش اليهود والنصارى بكنف اﻹسلام يتمتعون بحقوقهم. وهذا ما ينادي بها العالم اليوم، الدين اﻹسلامي الذي جعل لغير المسلم حقوقًا عنده، وعرَّف البشرية كلها المعنى الحقيقي للتعايش السلمي، ولكن دون اﻹعتراف بصحة دين غير المسلم، فالدين الصحيح دين واحد لا تعددية فيه.

فلا تعددية في الحق.

وذلك بالتمسك بحقيقة مطلقة لا حياد عنها، وهي أن الدين الصحيح هو دين واحد فقط، وهو الإيمان بالخالق الواحد الأحد الذي ليس له شريك ولا ولد، فهو يخلق ولا يلد، وعبادته مباشرة دون تدخل قديس ولا قسيس ولا أي وسيط.

أوضح الله تعالى الدين الحق في هذه الآية من سورة البقرة:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285).

فدين الإسلام يقوم على فكرة عدم التفريق بين أنبياء ورسل الله من آدم إلى محمد بما فيهم موسى والمسيح عليهم الصلاة والسلام.

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  (136).

 

 

سماحة اﻹسلام: شهادة واقع

 

اعتبر يهود من أصول أندلسية (السفارديم) حصولهم على حق العيش في الدولة العثمانية بعد نفيهم من الأندلس عام 1492، مكسبًا حقيقيًا منحهم الحياة وفرصة الحفاظ على قيمهم الدينية، ووفر فرصة انتقال التقاليد والثقافة الأندلسية إلى الأراضي التركية.

وقال موريس ليفي، عضو مجلس الجمعيات الوقفية وممثل المؤسسات الوقفية للأقليات الدينية في الجمهورية التركية:

"إن إسبانيا نفت اليهود عام 1492 إلى الدولة العثمانية، التي منحتهم حق العيش على أراضيها".

وأضاف ليفي للأناضول، بمناسبة الذكرى السنوية الـ527 لنفي اليهود من الأندلس إلى الأراضي العثمانية:

"أن منح العثمانيين لليهود حق العيش على أراضيهم شكل فرصة مهمة للموسويين استطاعوا عبرها الحفاظ على قيمهم الدينية".

وأشار ليفي أن اليهود واجهوا صعوبات كبيرة هددت حياتهم ووجودهم إبان الامتداد المسيحي باتجاه الأندلس في العصور الوسطى، وأن بقائهم في إسبانيا خلال تلك الحقبة، كان سيعرضهم للقتل أو إجبارهم على تغيير دينهم.

وأضاف:

"عاش اليهود بأمان في الأندلس لعدة قرون في ظل الدولة الأموية، حتى سقوط الأندلس بيد الإسبان وتعرضهم لحملات إبادة دفعهم نحو الهروب إلى الدولة العثمانية التي شيدت أركانها وفق المنظور الحضاري الإسلامي".

وتابع قائلاً: "كان اليهود منفتحون على العمل في ظل التنوع الثقافي، ويتقنون مهنا مختلفة، ويتعايشون بشكل جيد مع المسيحيين والمسلمين، وكذلك يتعاونون مع الحرفيين والجنود والفنانين والمزارعين، كل هذا أكسبهم أهمية داخل مجتمع الدولة العثمانية الطامحة للتطور".

ولفت إلى أن الدولة العثمانية أيضًا لم تصدر أي قانون ولم تقم بأي ممارسة تستهدف اليهود وإيذائهم، وأن اليهود بدورهم عملوا على تطوير أنفسهم ليكونوا رعايا مفيدين للدولة[4].

أليست هذه المعاملة نابعة من تعاليم نبيلة جاء بها الإسلام؟

===========================

[1]  كتاب نظرات في تاريخ الإسلام.

[2]https://www.almasryalyoum.com/news/details/1392598

[3] http://iswy.co/e140ib    

[4] https://arabicpost.net/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/2019/08/02/%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AF%D9%84%D8%B3-%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%85/

  • السبت PM 03:10
    2022-06-04
  • 1064
Powered by: GateGold