المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409037
يتصفح الموقع حاليا : 299

البحث

البحث

عرض المادة

العِلم والإيمان

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

 

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

 

لا غالب إلا الله:

في زيارة لنا لقصر الحمراء في غرناطة وعند دخولنا القصر، رأينا عبارة "لا غالِبَ إلا الله" منقوشة على الجدران، وفاضت عيناي بالدموع، فقد كانت نسمات الماضي المشرِّف للمسلمين تهب في كل مكان.

وذهبت بأفكاري إلى أمجاد الماضي، عندما كان علماء المسلمون يعلمون العالَم العربي والغربي الطب والصيدلة والهندسة والفلك والشِّعر، وأَنشأ المسلمون أَوَّل جامعة تعرفها أرض أوروبا في إسبانيا، وإلى زمن عبد الرحمن الداخل الذي طوَّق جيشه إيطاليا وفرنسا، وإلى زمن المعتصم عندما عبث رومي بعباءة امرأة فصاحت وآ معتصماه، فجهَّز المعتصم جيشًا للدفاع عنها. فتعجَّبت من الادعاء الذي يتبناه الكثيرون من أن اتباع تعاليم الدين هو سبب تخلف المسلمين اليوم!

وكان قد قطع شرودي بالتفكير المرشد السياحي الإسباني وهو يقول: العبارة المنقوشة في الأعلى تعني بالعربية " لا غالِبَ إلا الله "، إن كان معنا عرب هنا فليقولوا نعم بصوت عالي إن كنت على صواب، فقلت فورًا: نعم، نعم، "لا غالِبَ إلا الله" وابتهجت نفسي فرحًا.

وشهد شاهد من أهلها:

الكاتبة الألمانية الشهيرة سيجريد هونكه، صاحبة كتاب "شمس الله تشرق على الغرب"، الذي صدر عام 1960 ميلادي، قد نقلت فيه نصًا طريفًا ومهمًا يتحدث عن موقفًا مشابهًا تمامًا لما يعيشه كثير من المسلمين اليوم.

المتحدث هو أُسقف قرطبة "ألقاروا" في زمن تفوق الحضارة الإسلامية، وكان يشتكي بقوله: "إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطير العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين، ليس ليدحضوا وإنما ليتعلموا اللغة العربية ويحسنون التوسل بها حسب التعبير القويم والذوق السليم، وأين النصراني اليوم من غير المتخصصين الذي يقرأ التفاسير اللاتينية للإنجيل؟ بل من ذا الذي يدرس منهم حتى الأناجيل الأربعة؟  وآحسرتاه! إن شباب النصارى جميعهم اليوم لا يعرفون سوى لغة العرب والأدب العربي! إنهم يتعمقون بدراسة المراجع العربية باذلين في قراءتها ودراستها كل ما في وسعهم من طاقة، منفقين المبالغ الطائلة في اقتناء الكتب العربية وإنشاء مكتبات ضخمة، ويذيعون جهرًا في كل مكان أن ذلك الأدب العربي جدير بالإكبار والإعجاب! ولئن حاول أحد إقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف ذاكرين أن تلك الكتب لا تحظى باهتمامهم، وآمصيبتاه! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحدًا في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة، بينما العكس تعبيرًا وكتابةً وتحبيرًا، بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية، حتى قد حذقوه ونافسوا في ذلك العرب أَنفسهم."

لقد كانت اكتشافات العلماء المسلمين هي المعتمدة خلال العصور الوسطى، وقد كان العلماء المسلمون يتعبدون إلى الله بعلمهم، ويتقربون به إليه دون أن يظهر أي تعارض بين العِلم المادي والدين، بل كثيرًا ما كان من العلماء المسلمين فقهاء في علوم الدين، ورجال عِلم في نفس الوقت.

ولقد وضع علماء الإسلام منهجًا تجريبيًّا حسيًّا وعقليًّا في البحث، وقد كان مختلفًا تمامًا عن المنهج اليوناني، كما وضعوا نظريات علمية مستقلة للمعرفة. وحتى في العصر الحديث، هناك علماء كبار قد حازوا على جوائز نوبل في الطب والفيزياء دون أن يروا تعارضًا بين العِلم التجريبي والدين.

إن فكرة النزاع بين الدين والعِلم التجريبي لم تظهر عبر التاريخ حتى في اليهودية، فإنه على مدى عصور كثيرة كانت السيطرة للدين، وكان التطور العلمي بطيئًا ويدور في فلك الضرورات، أو كان ممزوجًا بالوثنيات والأساطير؛ ولكن ظهر هذا الصراع في عصر سيطرة الكنيسة بعد ظهور النصرانية بأكثر من تسعة قرون.

وقد ظهرت قضية الصدام بين الدين والعِلم التجريبي في عصر النهضة الأوربية، وبداية الوقوف بحزم من رجال العلم ضد سيطرة الكنيسة، وتطور الإلحاد عند البشر بصور مختلفة، ولكنه ظهر عند أصحاب الكتب السماوية السابقة بصورة واضحة بسبب المفهوم المعقد والمحرف عن الإله في تلك الكتب، والذي ينافي المفهوم البسيط الذي فطره الله في قلوب البشر. ومن الأسباب الأخرى التي دفعت الناس إلى الإلحاد والمطالبة باستبدال الدين بالعلم كانت بسبب مطالب وأوامر رجال الدين والمؤسسات الدينية غير المقبولة، والتي كانت بهدف مكاسب دنيوية وسياسية. وقد عانى العالَم من الصراع بين الدين والعِلم المادي الكثير من التدنِّي في الأخلاقيات، القِيم البشرية والفكر الإنساني.

العلم في القرآن:

لقد ذكر الله آيات كثيرة في القرآن الكريم في الدعوة لتحفيز العقل البشري وإيقاظ الحواس والتأمل والتفكر.

 

"أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخرة ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "[1].

 

" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [2].

أول آيات القرآن الكريم نزولاً تحدثت عن العلم بشكل عام وعن خلق الإنسان بشكل خاص، وهذا المزج الرائع في التكامل بين العلم والإيمان تتجلى صوره في كثير من الآيات.

"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ"[3].

ونجد هنا أن الآيات الكريمة أشارت إلى النظر والتدبر في إنزال المطر والألوان المختلفة من الثمرات والجبال والناس والدواب، وفي هذا إشارة واضحة لشمولية العِلم والمعرفة بكافة تخصصاتها، مما جعل الدين والعِلم جزأين متكاملين.

 

 " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ "[4].

 

ما الحاجة للدّين؟

يقول "هانز شفارتز" أستاذ علم اللاهوت:" إنه مع أهمية العلم إلا أنه يمكن أن يستخدم للهدم تمامًا كما يمكن أن يستخدم في التعمير، وهنا يأتي الدور الأهم للإيمان، وأن التجربة العملية لا يمكن أن تأتي بكل الإجابات ".

وقال: "يحتاج الإيمان والمعرفة بعضهما البعض، ويجب على العلماء أن يعترفوا بأنهم أحيانًا ما يستخدمون الإيمان ليتمكنوا من فهم العلاقات العميقة بين مظاهر الطبيعة التي يلاحظونها".

ويرى شفارتز أن العلماء لا يمتلكون الحقائق والإجابات كما يدَّعون، ويجد في التساؤلات التي يواجهها العلماء يوميًا أكبر دليل على هذا الأمر، وخاصةً العلماء الذين يبحثون في أصل الحياة، فكلما توصلوا لاستنتاج ناقضه اكتشاف جديد في اليوم التالي.

والسؤال عن مصدر حياتنا والمغزى منها والذي لا يمكن للعِلم المادي الإجابة عليه أعطى الدور للميتافيزيقا أو علم ما وراء الطبيعة للإجابة عليه، وكانت حادثة هيروشيما وغيرها من الكوارث التي حدثت بسبب الاختراعات العلمية قد أفقدت العِلم براءته، وأطلق الفيلسوف "كارل جاسبرز" وغيره على العِلم المادي مُسمَّى الخرافة.

ونستنتج من ذلك أنه من غير الممكن الإجابة على أسئلة أصل الحياة وهدفها والأخلاقيات مع استمرار المحافظة على التطور العلمي؛ إلا من خلال التوفيق والتكامل بين العِلم والدين.

إِلحاد الفجوات وليس إله الفجوات: 

في حوار لي مع ملحد روسي كان قد طرح كثيرًا من الأسئلة ومنها أنه قال: هل يستطيع الخالق خلق صخرة كبيرة لا يستطيع حملها؟

والمقصود بهذا النوع من الأسئلة أن إجابتي سواء كانت بنعم أو بلا فإنها تُظهِر وكأن الخالق ليس كُلِّي القدرة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.

وقد أدهشني سؤاله جدًا، لأنني كنت قد قرأت لأول مرة عن طرح الملحدين لهذا النوع من الأسئلة في اليوم السابق فقط لحواري معه[5]، فكانت صدفة غريبة، ولقد استفدت من قراءتي لهذا الكتاب في الإجابة عن هذا السؤال وأسئلة أخرى كان قد طرحها هذا الملحد خلال الحوار.

فقلت له: حسنًا هل تستطيع أن ترسم لي مثلثًا دائري الشكل؟

فقال لي مباشرة: أنتِ تتلاعبين بالكلام.

قلت له: أنت الذي تلاعبت في الكلام ليس أنا، فسؤالك ليس له معنى وليس فيه منطق. الخالق الإله الواحد الأحد جل جلاله لا يفعل ما لا يليق بجلاله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا، وأعطيته مثالاً بسيطًا لتقريب الفكرة فقط، حيث قلت له: أي قسيس أو إنسان لديه منزله دينية رفيعة لا يخرج الى الشارع العام عاري الجسد على الرغم من استطاعته فعل ذلك، لكنه لا يمكن أن يخرج للملأ بهذه الصورة؛ لأن هذا التصرف لا يليق بمكانته الدينية.

ولله تعالى المثل الأعلى، فالله قادر على كل شيء، لكنه لا يفعل ما لا يليق بمقامه جل جلاله.

قال: الإله غير موجود، العِلم هو الطريق الوحيد للحقيقة.

قلت له: هذه العبارة ليس بيانًا علميًا قائمًا على الأدلة والملاحظات التجريبية، وبالتالي لا يمكن قبولها كحقيقة. الحقيقة أننا نعلم أن الأشياء لا تظهر بدون سبب، ناهيك عن هذا الكون المادي المأهول الضخم وما فيه من مخلوقات تمتلك وعيًا غير ملموس وتطيع قوانين الرياضيات غير المادية.

قال: أنتم المؤمنون تتبنَّون مبدأ "إله الفجوات"[6]. عندما تعجزون عن تفســير شيء بأســلوب علمي، فإنكم تطرحون الإله كستار لجهلكم ولخمولكم العقلي، وفــى نفس الوقت تســتدلون بهــذا الجهل على وجــود إلهكم، أي كلما وجــدتم ثغرة في العِلم نســبتم إلى الإلــه القيام بها.

قلت له: هل الرجوع إلى صانع الطائرة عند عدم فهمنا لآلية عمل محرك الطائرة يعتبر فجوة في تفكيرنا؟ بالرغم من أن صانع الطائرة لا وجود له في أي خطوة من آلية عمل المحرك لكنه مســؤول عن وجود الآليــات التي نعرفها.

إن العِلم المادي يقول إن الكون قد نشأ من العدم، بينما يخبرنا العِلم نفسه أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، مما أوقع العلماء في حيرة، فبما أن المادة لا تُستحدث من عدم فكيف نشأ الكون من عدم؟ الآن يأتي دور الدين لتفســير ما أقــر العِلــم بعجزه عن تفسيره. إن إلهنا ليس إلهًا لسد ثغرات منشــأها الجهل، لكنه السبب الأول وراء كل الآليات التي يكتشفها العِلم.

قلت له مسترسلة: أنتم من تتبنَّون مبدأ إلحاد الفجوات، فأنتم تستخدمون عدم قدرتكم أو عدم رغبتكم في إدراك مصدر قوانين الكون كدليل على أن هذا المصدر لا وجود له، وهذا في الواقع أكبر فجوة في الإدراك والمنطق، أليس هذا "إلحاد الفجوات"؟

قلت له مسترسلة: إنه لشرح وجود كون مادي محدود نحتاج إلى مصدر مستقل، غير مادي وأبدي. يمكن للعِلم أن يدرس فقط الأشياء التي يمكن الشعور بها أو رؤيتها، وهو ما يعني الأشياء ذات الخصائص الفيزيائية المحدودة، لذلك لا يمكننا أبدًا تفسير وجود الكون بالعِلم المادي وحده.

إن الطبيعة بكل قوانينها ما هي إلا حقيقة من حقائق الكون، وليست تفسيرًا لسبب وجود الكون، وما يُكتشف من قوانين ليست نفيًا لوجود الصانع، بل هي بيانًا لخلق الله.

فعلى سبيل المثال، من يُودِع في مؤسسة ادخار كل شهر مبلغًا من المال ويأتي في نهاية العام ليستلم المال الذي ادَّخره مع الأرباح من المؤسسة ليقول له المحاسب: إن قانون الضرب الذي استخدمناه في حساب المبلغ هو الذي أوجد لك النقود. هل هذا من المنطق في شيء؟

في الواقع بدون ما قام به الشخص من إيداع للنقود ســيظل رصيده صفرًا، ومِـن ثم، فــإن ادعاء أن قوانيــن الطبيعة هي التي أوجــدت الكون هو السَّفه بعينه. النظريــات والقوانيــن تصف مســار الأمور بدقة لكنهــا لا توجد شيئًا من العدم.

قوانين الحركة تستطيع أن تصف مســار كــرة السَّلة، لكن يد اللاعب هي التي تحرك الكرة، وهكذا فإن القوانين تحتاج إلى موجود تؤثر فيه قوة محددة، في مكانٍ ما وزمانٍ ما، وبدون هذه العناصر لا عمل لهذه القوانين، بل لن تكون موجودة أصلاً.

يعطينا الدين ما لا يعطينا العِلم:

يستطيع الإنسان بالعِلم المادي أن يصنع صاروخًا، لكن لا يستطيع بهذا العِلم أن يحكم على جمال لوحة فنية مثلاً، ولا تقدير قيمة الأشياء، ولا يُعرفنا الخير والشر. بالعِلم المادي نعلم أن الرصاصة تقتل، ولا نعلم أنه من الخطأ أن نستخدمها لقتل الغير.

يقول ألبرت آينشتين عالم الفيزياء الشهير:" لا يمكن أن يكون العِلم مصدرًا للأخلاق، لا شك أن هناك أُسسًا أخلاقية للعِلم، لكننا لا نستطيع أن نتحدث عن أسس علمية للأخلاق، لقد فشلت وستفشل كل المحاولات لإخضاع الأخلاق لقوانين العِلم ومعادلاته".

ويقول إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني الشهير: "إن البرهان الأخلاقي لوجود الإله أقيم وفق ما تقتضيه العدالة، لأن الإنسان الخيِّر يجب أن يُكافأ والإنسان الشرير يجب أن يعاقَب، وهذا لن يحدث إلا في ظل وجود مصدر أسمى يحاسِب كل إنسان على ما فعل، كما أن البرهان قائم على وفق ما تقتضيه إمكانية الجمع بين الفضيلة والسعادة، إذ لا يمكن الجمع بينهما إلا في ظل وجود ما هو فوق الطبيعة، وهو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، وهذا المصدر الأسمى والموجود ما فوق الطبيعة يُمثل الإله".

وكان الملحد الروسي قد سأل مجددًا: حسنًا، لكن في اعتقادي، إن وجود تحقيق منافع وراء فكرة الإله جعلت الإنسان يتوهم بوجود الإله لتحصيل هذه المنافع.

قال الملحد مسترسلاً: إذا كان قوس قزح هو انعكاس الأشعة الشمسية على المطر، فمن الخطأ القول: إن منفعتنا في الاستمتاع بمنظر قوس قزح تدفعنا للاعتقاد بوجود خالق، فباكتشاف العِلم للآلية التي أظهرت ألوان قوس قزح فقد نفى بالقطعية وجود الخالق.

قلت له: إذا كنت تسير في الطريق وضاع منك هاتفك المحمول، ووجدت كابينة هاتف عمومي وأردت الاستفادة منها والاتصال بزوجتك، هل استفادتك من وجود هذا الهاتف واكتشافك لآلية عمله دليل على عدم وجود صانع أصلاً لهذا الهاتف؟ أم أن الهاتف العمومي وجود حقيقي وله صانع؟ إن تحقيق المنفعة من الشيء لا ينفي وجود صانع للشيء بل يؤيده.

في الواقع، إن استمتاع البشر بمنظر قوس قزح الجميل واكتشاف العِلم للآلية التي أظهرت القوس لا ينفي وجود خالق الشمس ومُنزل المطر.

قال: الملحد لا يؤذي الآخرين، ولا يمكن أن يدفع إنسانًا لفعل تصرفات سيئة كما يفعل بعض المتدينين باسم الدين.

قلت له: يدعو الدين إلى الأخلاق الحميدة وتجنب الأفعال السيئة، وبالتالي فإن السلوك السيئ لبعض المسلمين يرجع إلى عاداتهم الثقافية أو جهلهم بدينهم وابتعادهم عن الدين الصحيح. ألم تسمع عن محاولات إقامة الشيوعية في العالم التي تسببت بمقتل الملايين من المسلمين والمسيحيين، كيف تقول إذًا إن إنكار الإنسان للإله لا يمكن أن يدفعه لفعل تصرفات سيئة؟

يقول أحد الفلاسفة الشيوعيين: "كنا نظن أنه يمكن أن نكون أفضل دون إله، وأن نحافظ على إنسانية الإنسان، كم كنا مخطئين، لقد حطمنا الإله والإنسان سويًا".

قال: صفي لي الخالق؟

 

قلت له: سوف أُعطيك مثالاً للتقريب فقط، صف لي أنت أولاً شيئًا غير مادي مثل "الفكرة". أعطني وزنها بالجرامات، وطولها بالسنتيمترات وتركيبها الكيميائي ولونها وضغطها وشكلها وصورتها[7].

قال: طبعًا غير ممكن.

قلت له: إننا لكي نصف أمرًا ليس ماديًا فإن علينا استخدام مصطلحات وأوصاف أخرى تختلف اختلافًا كبيرًا عن المصطلحات التي نستخدمها في دائرة العلوم، فما بالك في وصف خالق الكون وما يحتويه.

قال: أنا أشعر أن فكرة الإيمان كقصص الأطفال المسلية أو رؤى المنام الجميلة التي تُسلي الإنسان عن همومه، ولكن ليس أكثر.

قلت له: هذه الرؤى الجميلة أفضل من كابوس الإلحاد الذي تعيشونه. الإلحاد ما هو إلا إعلان فشل صريح في التوصل إلى الحقيقة. كن مع خالقك الواحد الأحد المحيي المميت ولا تُبال.

قال: الطبيب أيضًا يُحيي ويُميت حين يقرر علاج مريضه أو يتخلى عنه، والقاتل حين يتراجع عن قتل ضحيته فكأنه أحياها.

فذكرت له هذه الآية:

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"[8] .

قلت له معقبة: أتدري ما كان عقاب الله لهذا الرجل؟  لقد أرسل الله عليه مخلوقًا من أضعف مخلوقاته، وهي بعوضة، دخلت في أنفه ووصلت لدماغه حتى مات، ليُثبت الله أن الإنسان مهما أُوتي من قوة وجبروت يبقى عاجزا عن حماية نفسه من أصغر مخلوقات الله.

استطرد الملحد الروسي: لكن الخالق كان عليه أن يأخذ رأيي قبل أن يخلقني! كيف يُجبر الخالق شخص على حياة هو لا يريد أن يعيشها؟

قلت له: إذا أراد الله أن يأخذ رأي خلقه في الخلق فيجب أن يتحقق وجودهم بدايةً. فكيف يمكن أن يكون للبشر رأي وهم في العدم؟ المسألة هنا مسألة وجود وعدم. إن تعلق الإنسان بالحياة وخوفه عليها لهو أكبر دليل على رضاه عن هذه النعمة.

إن نعمة الحياة هي امتحان للبشر ليميز الانسان الطيب الراضي عن ربه عن الانسان الخبيث الساخط عليه. فحكمة رب العالمين من الخلق اقتضت لاستخلاص هؤلاء الراضين عنه ليحوزوا على دار كرامته في الآخرة.

قال: أنت تقولين: إن في بداية خلق الإنسان تم عقد ميثاق بين الإنسان وخالقه، حيث شهد له بالوحدانية والربوبية، لكنني لا أتذكر ذلك.

قلت له: ألا تنظر عيناك إلى السماء رغمًا عنك عند تعرضك لخوف شديد؟ ألا ترتفع يداك دون أن تدري لطلب العون من القوة الخفية التي في السماء؟

قال: بلى. - وكنت قد بدأت أشعر بنبرة حزن في صوته - قلت له: إذًا فأنت تتذكر ولكن في الضراء، فأنت في الواقع مؤمن، ولكن عليك أن تتذكر الخالق في السراء والضراء ليكتمل إيمانك.

كان قد فاجأني هذا الملحد الروسي بحركة غريبة عندما أخبرته أنني سوف أذهب إلى مكتبي وأُحضر له نسخة من كتابي المفهوم الحقيقي للإله لكي يبحث في هذا الكتاب عن أجوبة للأسئلة التي لا زالت في ذهنه، حيث أنه أخبرني بضرورة مغادرته المسجد حالاً نظرًا لانتهاء الوقت المحدد له لزيارة المسجد وفقًا لبرنامج  مكتب السياحة الذي جاء عن طريقه، وقد كان المرشد  السياحي ينتظره في قاعة المسجد لكن في زاوية بعيدة، وعندما ذهبت لإحضار الكتاب وعدت ثانيةً، دخلت القاعة ولم أجد الملحد الروسي في  المكان الذي كنا نتحدث فيه، فأخذت أبحث عنه في كل مكان، وقد أخبرني المرشد أنه في زاوية أخرى، فنظرت حيث أشار لي المرشد، فوجدته قد أتم سجود المسلمين رافعًا رأسه من السجود وهو يبكي بشدة، فأدهشني المنظر، وقال لي المرشد السياحي مازحًا: ماذا فعلت بالرجل؟ قلت له: لم أفعل شيئًا، كان قد سألني أسئلة كثيرة وقد أجبت عليها، فقال المرشد لي: إن الزائر أخبرني في غيابك أنه متأثر جدًا، وأنه لطالما أحبَّ أن يكون مؤمنًا، لكنه لم يجد أجوبة على أسئلة كثيرة تدور في ذهنه، والآن وجدها، فقلت للمرشد: الحمد لله، هذا من فضل الله وتوفيقه، والله يعلم علم اليقين أن هذا الشخص فيه خيرًا كثيرا، وهو يبحث عن الحقيقة، ولهذا فقد يَسَّر له الطريق إلى هذا المكان.

العلَّة الفاعلة والعلَّة الغائيَّة[9]:

يصف أبو حامد الغزالي رحمه الله أن لكل موجود (كتابًا مثلاً)، عِللاً أربــع.

العِلَّة المادية: وهي الأصباغ والــورق الذي صُنع منها الكتاب.

العِلَّة الظاهــرة: وهــي الهيئة التي شُكَّل عليها الكتــاب.

العِلَّة الفاعلة: هي المؤلف، صانع الورق وعامل الطباعــة.

العِلَّة الغائية: وهي الغــرض الذي من أجله كَتب الكاتب الكتــاب.

ولقد تجاهل الملحدون العِلَّة الغائية باعتبارها خارج نطاق العلم، لأنه لن يُخبِر بالغاية من الصنعة إلا صانعها، واعتبــروا التصديق بها ضد العلم، وصــار على الجميع التصديق بأن الكون وما فيه لا غاية من ورائه.

في الواقع، أن كل ما يقوم به الإنسان من نشــاطات وما يجري في الكون من أحداث يجمع بين الآلية والغائية، فنحن على سبيل المثال، نتناول كوب الماء بأيدينا بآلية الحمل لنشرب ونروي ظمأنا، وكذلك نستخدم الطائرة بآلية الركوب للوصول إلى مكانٍ معين[10].

قال لي ملحدٌ يومًا: إن الاعتراف بوجود الخالق يعطـل العقل والمنطق.

قلت له: إن دور العقل هو الحكم على الأمور والتصديق عليها، فعجز العقل عن التوصل للغاية من وجود الإنسان مثلاً، لا يلغي دوره، بل يعطي الفرصة للدين ليخبره بما عجز عن إدراكه، فيخبره الدين عن خالقه ومصدر وجوده والغاية من وجوده، فيقوم هو بالفهم والحكم والتصديق على هذه المعلومات، فبذلــك يكون الاعتراف بوجود الخالق لم يعطـل العقل ولا المنطق.

يقول ابن طفيل في قصة حي بن يقظان:

"إن العقل يستطيع بما لديه من الأفكار الفطرية الأولى أن يُدرك الحق فيما يتعلق بالمبادئ الأولى، ويدرك منها وجود الله، وأما ما وراء ذلك من أسرار الوجود والخلق والخالق المحجوبة عنا بحُجب الغيب، فهو أعجز من أن يدرك كُنهها وأحقيتها؛ لأن الحواس لا تُدرِك غايات الأشياء، ونحن نرى أن العقل قادر على إدراك القوانين واستنباط الكليات والوعي بالعلل لو أنه تحرر من ضغوط المكابرة والعناد الإلحادي، وما لا يستطيع العقل فعله هو الوصول للتفاصيل والجزئيات التي يأتي بها الدين، وتُعتبر حقائق الدرجة الثانية، ومن المفروض أن تُقبل تبعًا للحقائق الكبرى، كما أن العقل أيضًا وإن كان قادرًا على إدراك وجود الله، فهو عاجز عن إدراك كُنه الله، ولا أعتقد أنه من البحث العلمي في شيء الإصرار على البحث في كُنه الله، " لَيس كَمثله شَيْءٌ " [11]. وهذا ليس لأنه لا يدرَك بالحواس فحسب، بل لأنه لا يوجد عالِم طبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلاً عن أن يعرف كُنه ذات الله، فهل يرجو الإنسان الذي لا يعرف المادة، ولا يعرف كيف يعرف، ولا يدرِك كيف يدرِك، أن يدرِك حقيقة الله".

وأتذكر هنا تعليق لملحد يومًا، أنه قال: لقد توصَّل العِلم المادي إلى أن جهاز الحاسوب يشبه عقل الإنسان، والسبب:

أولاً: كل الماديات ذات الأشكال والنُّظم يمكن تقليدها.
ثانياً: المخ عبارة عن مادة ونظام.
ثالثاً: إذًا المخ يمكن تقليده.
رابعاً: إذًا المخ هو حاسوب.

قلت له: أنت كمن يقول إن جهاز الحاسوب يُدرك ما يحتوي من معلومات! أو كمن يقول إن جهاز التلفاز يُدرك ما يَعرض من برامج، إن الفارق بينهما هو إدراك عقل الإنسان وشعوره بما يفعل.

 

من عبادة الكون لعبادة رب الكون:   

إن من مظاهر النزاع الذي قام بين الدين والعلم المادي في بلاد اليونان القديمة أن حرَّمت الشرائع اليونانية دراسة علم الفلك، مما أعاق التطور العلمي بسبب عبادة موجودات الكون. ولقد عجَّل فشل نظام دول المدائن في اليونان القديمة تدهور الدين القديم؛ ذلك لتزايد اليقين لديهم بأن آلهة المدينة عاجزة عن حمايتهم، فتزعزع إيمان الناس بهذه الآلهة واختلط أهلها بالتجار الأجانب الذين بدورهم نشروا الشكوك واللهو بين المواطنين، وقد بقيت أساطير الآلهة المحلية القديمة بين الفلاحين والسُذَّج من سكان المدن، وانتشرت الخرافات والأوهام، في الوقت الذي بلغ فيه العلم المادي أوجه، وبذلك لم يتقدم العلم في اليونان القديم إلا بعد أن توقف بعض مفكريه عن تقديس موجودات الكون. لكــن الخطأ الفادح الذي وقعوا فيه هو عندما اعتبروا أن الإلحاد ضروري لممارسة العِلم الحقيقي.

وقصة إبراهيم عليه السلام في القرآن تعلمنا أن التخلي عن عبادة موجودات الكون لا تعني دحض وجود خالق للكون؛ بل هي دعوة لعبادة رب الكون[12].

 

"وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"[13].

 

لماذا تخلَّفنا؟

إن الحضارة الإسلامية قد نجحت في إظهار حرية العقل والفكر، وكان دين الإسلام نفسه مسؤولاً، ليس فقط عن إنشاء حضارة عالمية شارك فيها أناس من خلفيات عرقية مختلفة، لكنه لعب دورًا رئيسًا في تطوير الحياة الفكرية والثقافية على نطاق لم يسبق له مثيل من قبل. منذ حوالي ثمانمائة عام كانت اللغة العربية هي اللغة الفكرية والعلمية الرئيسة في العالم، فلماذا تخلفنا الآن إذًا؟

في حوار لي مع صديقة مسلمة كانت ابنتها قد رسبت في امتحان الثانوية العامة، البنت معروفة بإهمالها في الدراسة وعدم جديتها، وكان ذلك تزامنًا مع مرض أم صديقتي الشديد، وكانت صديقتي بِحُكم عملها لا تستطيع البقاء مع والدتها في المنزل لرعاية شؤونها، وكان رسوب البنت يستدعي إعادة دراسة مناهج السنة الدراسية من المنزل، فكانت بالطبع فرصة لأن تكون برفقة جدتها هذه المدة، حيث أنه لن يتسنَّ لها الالتحاق بالجامعة هذا العام.

كنت قد تفاجأت أن صديقتي بدأت تُحدث الناس بأن الله قد تسبب في رسوب ابنتها لتتمكن من الجلوس مع أمها ورعايتها.

قلت لها: عجيب! الله الذي قد تسبب في رسوب ابنتك أم إهمالها في دراستها؟

قالت: أما رأيتِ هذا التيسير والتوقيت المناسب لرسوب بنتي تزامنًا مع مرض أمي؟

قلت لها: "ولا يَظلِم رَبُّك أحدا"[14]، الله لن يظلم ابنتكِ ليوفر سبل الراحة لكِ، الله عَلم بعلمه المسبق أن ابنتك مهمِلة ولن تنجح في الاختبار، لكنه لم يجبرها على الرسوب، ولو كانت ابنتك متفوقة لهيَّأ الله أسبابًا أخرى لرعاية أمك.

وتذكرت حينها قصة من القصص التي روتها لي أمي عند صغري ولا أدري ما مصدرها، ولكن فيها الكثير من الحقيقة.

والقصة تقول: أنه في بلاد الأندلس عندما كانت البلاد تحت حكم الإسلام، وأراد أحد الحكام الظلمة أن يحتلها، فأرسل جاسوسًا إليها ليأتيه بأخبار الجيوش ومدى استعدادهم، فما أن دخل بلاد الاندلس، وجد طفلاً صغيرًا في طرف المدينة يجلس تحت شجرة ويبكي لأنه اعتاد على ضرب عصفورين بسهم واحد، واليوم لم يستطع أن يضرب إلا عصفورًا واحدًا بسهم واحد، وكان قد اعتبر هذا الإخفاق بسبب ذنب قد اقترفه، فقال الجاسوس في نفسه: إذا كان هؤلاء هم أطفالهم فكيف بكبارهم، فرجع من طرف المدينة إلي الحاكم وقال له: لا طاقه لك بهؤلاء، ولكن انتظر حتى تدخل عليهم المعاصي والذنوب لتتمكن من دخول تلك البلاد.

 

"…إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا…"[15].

الشاهد هنا، أننا لا نتخلف بالمعاصي فقط، ولكن نتخلف أيضًا بعدم اعترافنا بتقصيرنا وذنوبنا، فالانتصار على الأعداء والنجاح في الحياة لا بد أن يسبقه الانتصار على النفس ومجاهدتها على: تقوية الإيمان، البعد عن المعاصي، حُسن الظن بالله، الأخذ بالأسباب، الاعتراف بالذنب وتجديد التوبة دائمًا، ليأتي النصر ويتحقق المراد.

يقول ابن القيم: "احذر نَفسك فَمَا أَصَابَك بلَاء قطّ إِلَّا مِنْهَا، وَلَا تُهادِنها، فوَاللَّه مَا أكرمها من لم يُهنها، وَلا أعزها من لم يُذلها، وَلَا جبرها من لم يَكسرها، وَلَا أراحها مَن لم يُتعبها، وَلَا أمّنها مَن لم يُخوّفها، وَلَا فرّحها من لم يُحزنها ".

إن في الحضارة الإسلامية لم يظهر ما يُسمى بالنزاع بين العِلم والدين كقضية، بل قد اعتبر بعض علماء الطبيعة والفلك والرياضيات المسلمين أنفسهم في عبادة لله تعالى.

لقد تقدم الغرب بالعلوم والمعارف عندما ترك المعتقدات الخاطئة، والتي كانت تقوم على أساس الدين المشوَّه لديهم، ولذلك نجح عندما ترك هذه البدع وبدأ بالأخذ بأسلوب العلم والمنطق، وترك الخوض في الغيبيات المستقاة من أفكار رجال الدين، ومع توجُّههم للعلم بطريقة سليمة كانوا قد خسروا القيم والأخلاق والغاية من وجودهم بتغاضيهم عن اعتناق الدين الصحيح.

لكن عند العرب كان الوضع على النقيض، فقد تخلَّف العرب عندما تركوا الدين الصحيح وتوجهوا للعلم بأسلوب خاطئ، عندما جروا وراء الأسلوب الغربي في التفكير والتقليد الأعمى.  وإذا ما رغبنا في استرجاع أمجاد الماضي، فلا بد من تصويب الوضع وإعادة ترتيب الأولويات، فالدين عندنا صحيح ومعتقداته سليمة، ويحث ويُحفز على العِلم بأسلوب روحي، عقلي ومنطقي، ويرفض البدع والخرافات، فالأساس عندنا موجود ولا ينقصه إلا البنيان، لإعادة بناء الحضارة من جديد.

==========================================

[1] (العنكبوت: 19-20).

[2] (آل عمران: 190-191).

[3] (العلق: 1-5).

[4] (فاطر: 27-28).

 

[5] كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.

[6] نوع من النقاش في علم اللاهوت والذي يتم من خلاله جعل الفراغات (النقص) في المعرفة العلمية دليلاً على وجود الإله.

 

[7] كتاب الله يتجلى في عصر العلم. مجموعة من العلماء الأمريكيين.

[8] (البقرة: 258).

[9] كتاب تهافت الحكماء في رد مذاهب أهل الأهواء لأبي حامد الغزالي.

[10] مقتبس بتصرف من كتاب وهم الإلحاد. دكتور عمرو شريف.  طبعة الأزهر نوفمبر/ديسمبر 2013.

[11] (الشورى: 11).

[12] مقتبس بتصرف من كتاب وهم الإلحاد. دكتور عمرو شريف.  طبعة الأزهر نوفمبر/ديسمبر 2013.

[13] (الأنعام: 75-79).

[14] (الكهف:49).

[15]  (آل عمران: 155).

 

  • الجمعة AM 11:54
    2022-06-03
  • 914
Powered by: GateGold