المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408926
يتصفح الموقع حاليا : 359

البحث

البحث

عرض المادة

فما أغنَت عنهم آلهتهم

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

 

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

 

والله مُتم نوره ولو كَرِه الكافرون:

في يومٍ كنت أشعر فيه بإحباط شديد من الحال الذي وصل إليه العالم من الابتعاد عن دين الله والتوجه لغيره في السؤال والطاعة مما لا ينفع ولا يضر، وكنت مسترسلة في تفكيري، حينما قاطعني مدرس اللغة الفرنسية المسلم بسؤاله عن سبب شرودي في التفكير، وكان ذلك الموقف في مركز اللغات بأفريقيا، وقلت له: ما يزعجني ويشد تفكيري هو غفلة الناس عن دين الله وشعوري بالمسؤولية تجاه ذلك، وأود أن تصل كلمة لا إله إلا الله إلى القاصي والداني. قال لي: لا تقلقي يا أختي فالله وعد بحفظ دينه، ولن يُخلف الله وعده. وقد لفت نظري قوة إيمان هذا الشخص، ويقينه بالله، وتذكرت الآية الكريمة: "وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ"[1]، وشعرت حينها براحة كبيرة.

يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون:

إن ما نشاهده اليوم في هذه الأزمة من موتى لا يعرف عنهم أحد، ودور مسنِّين تعج بالجثث الهامدة والتي تبرأ منها كل من حولها، ومن يموت في الطريق لا يدري عنه أحد، ومن لديه المال ينتظر العلاج، وكيف أصبحوا يُضحُّون بالكبير من أجل الصغير، ويتسابق المرضى على أَسِرَّة المستشفيات، وكأن هذا الموقف يعرض مشهدًا شبيهًا بمشاهد يوم القيامة.

فأزمة الكورونا أسقطت من قلوب الناس كثيرًا من الرموز التي كانوا يعلقون عليها أوهامهم، وجعلت آلهتهم الزائفة التي يقدسونها من دون الله تتهاوى واحدًا تلو الآخر، فمن كان يعبد المال لم ينفعه ماله، ومن كان يظن أنه بالعلم المادي وحده يمكن أن ينجو لم ينفعه علمه، ومن كان يتوسل بالحجر والصنم لم يعد يقترب منهما خشية العدوى، وكثيرًا ما نسمع عن قساوسة دعوا أتباعهم إلى اللجوء إلى الله مباشرة وتجنب المجيء إليهم، وأصبحت شمس لا إله إلا الله تتلألأ في العالم.

لا شك أن الموقف يدفع بالإنسان دفعًا للرجوع والإنابة لرب العالمين والاستعانة به، وتتجلى كلمات الحديث الشريف في أجمل معانيها: " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ "[2].

أَذكر كلمات قالها لي عجوز إسباني، قال: نحن في الغرب لا نعبد الله ولا نعبد المسيح، نحن نعبد النساء والمال. ومع أنه قد قال ذلك مازحًا لكن عبارته تحمل كثيرًا من الحقيقة، وتحضرني عبارته الآن وقد قال الجميع في الغرب: اللهم نفسي.

 

أفرأيت من اتَّخذ إلهَه هواه:

كنت قد قرأت مرةً [3]، أن التصميم، الضبط الدقيق، اللغة المشفرة، الذكاء، النية، الأنظمة المعقدة والقوانين المترابطة وما إلى ذلك، هي مصطلحات أرجع الملحدون مصدرها للعشوائية والمصادفة. على الرغم من أنهم لم يعترفوا بذلك أبدًا، يشير العلماء إلى الخالق بأسماء أخرى (الطبيعة الأم، قوانين الكون، الانتخاب الطبيعي "نظرية داروين"، إلخ...)، في محاولات بائسة للهروب من منطق الدين والاعتقاد بوجود خالق.

 

"إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ"[4].

 

إن استخدام أي اسم غير "الله" يسلب بعض صفاته المطلقة ويثير المزيد من الأسئلة. على سبيل المثال:

إنه لتجنب ذكر الله، يُعزى خلق قوانين عالمية وأنظمة معقدة مترابطة إلى الطبيعة العشوائية، ويُرجع بصر الإنسان وذكائه لأصل أعمى وأحمق.

إن بعض أتباع داروين الذين يعتبرون الانتقاء الطبيعي (عملية فيزيائية غير عقلانية) قوة إبداعية فريدة تحل جميع المشاكل التطورية الصعبة دون أي أساس تجريبي حقيقي، كانوا قد اكتشفوا فيما بعد تعقيد التصميم في بنية ووظيفة الخلايا البكتيرية، فبدأوا باستخدام عبارات مثل البكتيريا "الذكية"، "الذكاء الميكروبي"، "صُنع القرار" و" البكتيريا لحل المشاكل". وبالتالي تحولت البكتيريا إلى إلهَهم الجديد.

الإنسان في الإسلام خليفة في الأرض وفي الحضارة الغربية حيوان متطور:

في حواري مع زائر فرنسي كان قد تطرق لموضوع أصل وجود الإنسان على الأرض، وقال: إن الغرب يتبنى نظرية تشارلز داروين، وأننا بشر متطورون عن قرود.

قلت له: فلماذا لم تتطور بقية القرود الآن لتصبح من بقية البشر؟

قلت له أيضًا: النظرية هي مجموعة من الفرضيات، وتأتي هذه الفرضيات عن طريق مشاهدة أو ملاحظة ظاهرة ما، وتتطلب هذه الفرضيات لإثباتها القيام بتجارب ناجحة، أو المشاهدة المباشرة التي تبرهن على صحة الفرضية، فإذا كانت إحدى الفرضيات التي تنتمي إلى النظرية لا يمكن إثباتها لا عن طريق التجربة ولا عن طريق المشاهدة المباشرة فيعاد النظر في النظرية بالكامل.

فأعطني أرجوك مثال عن كائن حي تطور عن آخر.

قال: أعطيكِ مثال منذ أكثر من 60000 عام.

قلت له: إذا لم تشاهده أنت أو تلاحظه فلا مجال لقبول حجتك.

قال: لا، لقد لوحظ في عهد قريب أن مناقير الطيور قد تغير شكلها في بعض الأنواع.

قلت له: لكنها بقيت طيورًا، وبناءً على نظريتك يجب أن تتطور الطيور إلى نوع آخر. وبالتالي فالنظرية ليس لها معنى.

قال: لا، لا، أنا أؤمن بالعلم وأقرأ كتب كثيرة في هذا المجال وأصدقها.

قلت له: فما الفرق بينك وبين المؤمن بالله والمؤمن بكتاب الله؟ أنت تعتبر المؤمن بوجود خالق للكون إنسانًا متخلفًا لأنه قد آمن بشيء لم يره، مع أن المؤمن يؤمن بما يرفع من شأنه ويُعلي مقامه، وأنت تؤمن بما يُحقِّرك ويُدني من شأنك.

الحقيقة أن فكرة أن الإنسان أصله قرد أو تطور عن قرد لم تكن من أفكار دارون أبدًا، لكنه يقول: بأن الإنسان والقرد يعودان إلى أصل واحد مشترك ومجهول سمَّاه (الحلقة المفقودة) والتي حدث لها تطور خاص وتحولت إلى إنسان، ومع أننا كمسلمين نرفض كلام داروين تمامًا، لكنه في كل الأحوال لم يقل كما يظن البعض: إن القرد هو جد الإنسان.

وقد ثبت أن دارون آمن بوجود إله[5]، لكن فكرة أن يكون الإنسان من أصل حيوان جاءت من أتباع دارون في المستقبل عندما أضافوها لنظريته وهم أصلاً من الملحدين، وبالطبع نحن كمسلمين نعلم علم اليقين أن الله كرَّم آدم وجعله خليفة في الأرض ولا يليق بمقام هذا الخليفة أن يكون من أصل حيوان أو ما شابه.

 

عصر من الجنون:

من الحوارات الشيقة التي قمت فيها كانت مع أمريكي كان قد بذل أقصى جهده لإقناعي بنظرية داروين.

قلت له: هل التطور البيولوجي حقيقة علمية أم نظرية، وهل مفهوم التطور يعني بالضرورة إنكار وجود الإله، أم يمكن الجمع بين المنظورين؟

قال لي: إن لم تؤمني في الدارونية الحديثة، فإنكِ إنسان متخلف جاهل أو مجنون.

واستطرد قائلاً: طبعًا الداروينية الحديثة لا مجال لقبول خالق للكون فيها.

قلت له: أنا لا أدري من هو المجنون حقًا!

دارون نفسه المؤسس لهذه النظرية يقول: "لنفترض أنه من الممكن أن تكون العين بكل ما فيها من أجهزه دقيقة تضبط الطول البؤري للمسافات المختلفة وتسمح بدخول كميات مختلفة من الضوء، قد تَكونت عن طريق الانتقاء الطبيعي، فإن ذلك يبدو وأنا أعترف بأنه شيء منافي للعقل إلى أعلى درجة"[6].

قلت له: دارون كان يؤمن بأن الخلية الحية الأولى وراءها خالق عظيم، ثم تولت الطبيعة تطويرها الى ما نشهده الآن من تنوع الكائنات، انظر ماذا فعلتم أنتم وأتباعه حتى اعتبرتموه رمزًا للإلحاد.

واستطردت قائلة:

إن نظرية داروين التي تقول: أننا جئنا إلى هذا الكون نتيجة طفرات عشوائية وليس من خالق عظيم، هي مجرد نظرية ولم تُثبت بعد، وقد ثبت أن داروين نفسه واضع هذه النظرية كان لديه شكوك عديدة، وقد كتب رسائل عديدة إلى زملائه يُعبر عن شكوكه وعن أسفه، وقال:" إنه من الصعب جدًا بل من المستحيل أن نتصور أن كونًا هائلاً ككوننا وبه مخلوق يتمتع بقدراتنا الإنسانية الهائلة قد نشأ في البداية بمحض الصدفة العمياء أو لأن الحاجة أم الاختراع. وعندما أبحث حولي عن السبب الأول وراء هذا الوجود أجدني مدفوعًا إلى القول بوجود عقل ذكي، ومن ثم فإني أؤمن بوجود الإله"[7].

ولقد أثبتت نظرية الفوضى أنه ليس هناك وجود حقيقي للصدفة، بل إن كل ما يحدث مهما صغر في الكون تكمن وراءه قوانين دقيقة للغاية لا ندركها.

نظريه داروين هي منظومة من ثلاث عناصر:

  • الأصل المشترك، ويعني أن جميع الكائنات الحية حيوانية ونباتية تطورت عن أصل واحد، وهو الكائن وحيد الخلية. وهنا وقعوا في ورطة فقدان الكائنات الانتقالية، وهي الحلقات التي ينبغي أن توجد نتيجة للانتقال من كائن الى آخر، فدارون لم يضع يده على سلسلة تطورية واحدة في سجل الحفريات تحوي ما يكفي من الكائنات الانتقالية.

وضع دارون تصور يمثل الخلية الأولى فيه الأصل المشترك، وهو عبارة عن جذع شجره وتمثل فروعها الكائنات التي تطورت من هذه الخلية، وسماها شجره الحياة، لكن في دراسة لجمس فالنتين لهذه النظرية أو التصور الذي وضعه داروين، قال: إن الكثير من فروع شجره الحياة التي تبناها دارون مقطوعة الأصل، أي لا يمكن العثور على أسلاف لكائناتها.

  • الطفرات العشوائية، وتشير الى الترقي من كائن الى آخر أكثر تعقيدًا حدث نتيجة لتغيرات عشوائية في الشفرة الوراثية للكائن، وينبغي أن يكون شديد البطيء، بل ويضيف أنه بدون هذه الصفة تصبح نظريته غير مقبولة.

وقد فاجأ العالِم التطوري ستيفن جولد أتباع دارون بنتائج أبحاثه المستفيضة التي أظهرت أن سجل الحفريات لا يكشف تطورًا شديد البطء، لكنه يتسم بصفتين أساسيتين كانتا قد هدمتا النظرية:

  • الظهور المكتمل المفاجئ.
  • الثبات والركود.
  • الانتخاب الطبيعي، وهو آليه تنتقل من الطفرات العشوائية المفيدة الى الأجيال الثانية ومن ثم يتم المحافظة عليها. وهذه فرضية تفتقد الدليل، فالعِلم لا يستطيع أن يُثبت عشوائية الطفرات، ومن ثم يصبح القول بالعشوائية مفهومًا فلسفيًا وليس علميًا[8].

يقدم العلم الأدلة المقنعة على مفهوم التطور عن أصل مشترك، وهو ما ذكره القرآن الكريم.

"... وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"[9].

الله سبحانه وتعالى خلق الكائنات الحية ذكية ومفطورة على أن تتلاءم مع البيئة المحيطة بها، ويمكن أن تتطور في الحجم أو الشكل أو الطول، فمثلاً الخراف في البلاد الباردة لها شكل معيَّن وجلود تحميها من البرد، ويزداد الصوف أو ينقص حسب حرارة الجو، وبلاد أخرى خلاف ذلك، فالأشكال والأنواع تختلف باختلاف البيئة، وحتى البشر يختلفون بألوانهم وصفاتهم وألسنتهم وأشكالهم، حيث أنه لا يوجد إنسان يشبه الآخر، غير أنهم يبقوا بشرًا لا يتغيرون إلى نوع آخر من الحيوانات. وقد قال سبحانه وتعالى:

" وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ"[10].

"وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[11].

فنظرية التطور التي يراد بها إنكار وجود خالق، تنص على الأصل المشترك في نشأة جميع الكائنات الحية الحيوانية والنباتية، وأنها تطورت عن أصل واحد وهو كائن وحيد الخلية، وأن تشكيل الخلية الأولى كان نتيجة تجمع للأحماض الأمينية في الماء والتي بدورها شكلت البنية الأولى لحمض النووي DNA والذي يحمل الصفات الوراثية للكائن الحي. وبتجمع هذه الأحماض الأمينية شُكلت البنية الأولى للخلية الحية. ونتيجة لعوامل بيئية وخارجية مختلفة أدت لتكاثر هذه الخلايا والتي شكلت النطفة الأولى ومن ثم تطورت لعَلقة ومن ثم تطورت لمضغة.

وكما نلاحظ هنا، هذه المراحل شبيهة جدًا بمراحل خلق الإنسان في رحم الأم. غير أن الكائنات الحية يتوقف عندها النمو، ويتشكل الكائن الحي حسب صفاته الوراثية المحمولة على حمض DNA.  فمثلاً الضفادع يكتمل نموها وتبقى ضفادع. وكذلك كل كائن حي يكتمل نموه حسب صفاته الوراثية.

حتى لو أدخلنا موضوع الطفرات الجينية وأثرها على الصفات الوراثية في نشأة كائنات حية جديدة، فهذا لا يدحض قدرة الخالق ومشيئته. غير أن الملحدون يقولون: إن هذا يتم بصورة عشوائية. في حين أننا نرى أن النظرية تؤكد أنه لا يمكن لمراحل التطور هذه أن تتم وتسير إلا بقصد وتدبير من خبير عليم.  فبالتالي من الممكن تَبنّي مفهوم التطور الموجه، أو التطوير الإلهي الذي يقول بالتطور البيولوجي ويرفض العشوائية، وبأنه لابد من أن يكون وراء التطور عالم حكيم قادر، أي أننا ممكن أن نقبل التطور لكننا نرفض الداروينية تمامًا. ويقول عالم الحفريات والبيولوجي الكبير ستيفن جول: "إما أن أحد نصفي زملائي أغبياء بشدة أو أن الداروينية مليئة بالمفاهيم التي تتماشى مع الدين".

 

القرآن الكريم يُصحِّح مفهوم التطور من خلال سرد قصة خلق آدم:

 

لم يكن الإنسان شيئًا مذكورا:

"هَلْ أَتَىٰ عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا"[12].

خلْق آدم كان بداية من طين:

"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ"[13].

" الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ"[14].

" إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"[15].

تكريم آدم أبو البشر:

" قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ"[16].

فتكريم آدم أبو البشر لم يكن فقط أنه خُلق مستقلاً من طين، بل أنه خُلق مباشرةً بيديّ رب العالمين، كما هو مشار إليه في الآية الكريمة، وطلبه تعالى من الملائكة السجود لآدم طاعة لله.

" وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"[17].

خلْق ذرية آدم:

" ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ"[18].

" ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"[19].

" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا"[20].

تكريم ذرية آدم:

 

" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"[21].

نلاحظ هنا التشابه في مراحل نشأة نسل آدم (ماء مهين، نُطفة، عَلقة، مُضغة،...) ومع ما ورد في نظرية التطور في نشأة الكائنات الحية وطرق تكاثرها.

" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"[22].

ولقد جعل الله نسل آدم بداية من ماء مَهين للدلالة على وحدة مصدر الخلق ووحدانية الخالق، وأنه ميَّز آدم عن سائر المخلوقات بخلقه مستقلاً تكريمًا للإنسان ولتحقيق حكمة رب العالمين في جعله خليفة في الأرض. وأن خلق آدم من غير أب ولا أم هو أيضًا للدلالة على طلاقة القدرة، وضرب مثلاً آخر في خلق عيسى عليه السلام (المسيح) من غير أب لتكون معجزة على طلاقة القدرة وآية للناس.

" إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"[23].

وأن ما يحاول الملحدون إنكاره بنظرية التطور هو دليل ضدهم.

البقاء للأصلح:

في حواري مع أحد من مؤيدي نظرية داروين ومن أشد المدافعين عنها، وكان من أشد المدافعين عن المثلية الجنسية أيضًا، فقلت له : أنت من المدافعين عن المثلية و من أنصار داروين، و نظرية داروين تقول بالانتخاب الطبيعي، والانتخاب الطبيعي هو عباره عن آلية تنتقل بها الطفرات العشوائية المفيدة إلى الأجيال التالية، ومن ثم يتم المحافظة عليها، أما الكائنات التي تحتوي على فطريات غير مفيدة فتموت وتندثر وتفنى، نظرية داروين تقول أن  البقاء للأصلح للحياة، وطبعًا كما نعرف أن زواج الذكر والأنثى هو من الأشياء المفيدة للحياة، لأنهم ينتجون أجيالًا قادمة لبناء وتعمير الأرض. وأنت تقول: إن وجود المثليين على وجه الأرض شيء طبيعي وأنها رغبات طبيعية وميول طبيعي، وهم ليسوا شواذًا وإنما هم يمارسون شيئًا طبيعيًا، قلت له: أليس هذا مخالف لنظرية دارون، حيث أن نظرية دارون تقول: أن بالانتخاب الطبيعي الطفرات العشوائية المفيدة والصالحة للبقاء هي التي تبقي، فما المفيد من تصرفات المثليين؟

فطبعًا لم أجد منه إجابة!

دين الفطرة:

هناك قصة جميلة حدثت معي من خلال لقائي بزائرين من المكسيك، وقد كانا في منظر مخيف، الوشوم على جسديهما وعلى أيديهما، أقراط في أُذنيهما وفي أنحاء كثيرة من وجهيهما، كدت ألا أقبل أن أكلمهما عن الإسلام، ولكن قبلت اصطحابهما لأنهما لا يتكلمان الإنجليزية، لكن برفقة بعض الزملاء، وقد كنت أنوي أن أنهي هذه الجولة بسرعة.

بدأت حديثي عن أن المسلمون يؤمنون بإله واحد، الإله الخالق، إله موسى والمسيح عيسى وإبراهيم، بناءً على علمي المسبق أنهم من المكسيك، وافترضت أن الأغلبية من أهل هذه البلد هم من المسيحيين (النصارى) الذين يعرفون المسيح عيسى وموسى وابراهيم عليهم السلام.

قلت لهما: إن الإله الخالق واحد أحد ليس له ولد، وليس كمثله شيء، خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق المسيح نبي الله بلا أب، وأرسل رسالة واحده مع الأنبياء، وإن الرسالة الواحدة تقول: أن هناك خالق واحد يجب أن نعبده كما عبد الأنبياء هذا الخالق.

قوم نوح مثلاً عبدوا الأصنام وكانت هذه الأصنام رموز لأشخاص صالحين، غير أنهم رفعوا من شأن هذه الرموز ومقامهم حتى عبدوهم، وقوم المسيح عيسى عليه السلام عبدوه ورفعوا قدره إلى مقام الألوهية. ولهذا كان الله سبحانه وتعالى يرسل الأنبياء من فترة إلى أخرى ليذكرهم بعبادة الله وحده والرجوع إلى الصواب.

فمثلاً في زمن إبراهيم عليه السلام، أتباع ابراهيم عليه السلام كان دائمًا عليهم عبادة الله وحده وشهادة أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله. وبعث الله موسى عليه السلام لتصديق رسالة إبراهيم، أتباع إبراهيم عليه السلام كان عليهم قبول النبي الجديد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن موسى وإبراهيم رسل الله.

وعندما جاء المسيح عليه السلام لتصديق رسالة موسى عليه السلام، كان على أتباع موسى تصديق المسيح واتباعه عليه السلام، وشهادة أن لا إله الا الله وأن المسيح، موسى وإبراهيم رسل الله.

وعندما جاء محمد عليه الصلاة والسلام لتصديق رسالة من قبله من الأنبياء، كان على أتباع المسيح وموسى عليهم السلام قبول النبي الجديد وشهادة أن لا إله الا الله، وأن محمد، المسيح، موسى وإبراهيم رسل الله.

فوجئت بالزائرين يبكيان بكاءً شديدًا، رجلان بضخامة وعضلات وطول، وكم كنت على خوف شديد منهما في البداية، وفجأة رأيت منظرًا مهولاً، فسألتهما مباشرة عن سبب بكائهم، فأجاباني، ومن شغفهما وحماسهما الشديدين كانا يتكلمان بنفس الوقت كالأطفال ويشتكيان بمرارة.

قالا: إننا كنا منذ الصغر على يقين كبير بأن الخالق واحدٌ أحد، وأنه ليس له ولد، وأننا لم نقبل بالمسيح إلهًا أبدًا ولا ابن إله، والتثليث كان بالنسبة لنا بلا معنى ولا مغزى ولا تفسير، وكانا قد رفضاه، ورفضا كل نظريات الإلحاد والتطور البيولوجي العشوائي، وقد أدمن كل منهما على المخدرات وقاما بتصرفات فظيعة مع إيمانهم الداخلي العميق بوجود إله.

وقالا: إننا لم نكن نعتقد بوجود دين على وجه الأرض يقول بلا إله إلا الله. فقد اعتقدنا أن المسلمون يعبدون محمدًا، وأن المسيحيون (النصارى) يعبدون المسيح، وأن البوذيون يعبدون بوذا، واعتقدنا أننا مجانين وغير طبيعيين، فما نجده من ديانات على وجه الأرض لا يطابق ما في قلوبنا فلجأنا إلى النوادي الليلية. وقالا إنهما عاشا حياةً تعيسةً للغاية، ولم يستمتعا بهذه الحياة الفارغة أبدًا.

قلت لهما: طبعًا هذا الدين موجود، وهذا هو أصل الديانات، وهذا هو الدين الحق، وهو الدين الواحد للجميع، أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وقلت لهما: أن كل مسلم عليه أن يشهد: بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن المسيح رسول الله.

وقد دخل وقت صلاة الظهر، وبدأ مؤذن المسجد بالآذان بصوت جميل جدًا، فبكيا أكثر وزاد بكائهما مع صوت الآذان، وتوقفتُ عن الحديث لسماع الأذان. وما إن انتهى المؤذن من أداء الآذان حتى قلت لهما: أتدريان ماذا قال؟

قالا: لا.

قلت لهما: لقد قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونقول دائمًا أن محمدًا خاتم رسل الله، فبذلك نكون قد قبلنا المسيح وموسى وجميع أنبياء الله.

قالا: أنستطيع أن نقول كما قال؟

قلت لهما: إن قلتما فسوف تكون الخطوة الأولى في قبول هذا الدين.

قالا: نعم نحن قبلنا.

ونطقا الشهادة وسط أجواء رائعة من الدموع والفرح، وأنا شخصيًا بكيت. وكان هذا أكبر دليل على الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

قال ابن تيمية: " إنَّ حقيقة التوحيد أن نَعبد الله وحدَه، فلا يُدعى إلاّ هو، ولا يُخشى إلاّ هو، ولا يُتَّقى إلاّ هو، ولا يُتوكَّل إلاّ عليه ولا يكون الدين إلاّ له، لا لأحدٍ من الخَلق".

===========================

[1](الصف:8).

[2] (الترمذي).

[3]Atheism a giant leap of faith. Dr. Raida Jarrar.

[4] (النجم:23).

[5] السيرة الذاتية لداروين - طبعة لندن: كولنز 1958 - ص 92، 93.

[6] ."Chapter 7: Oller and Omdahl." Moreland, J. P. The Creation Hypothesis: Scientific

[7] السيرة الذاتية لداروين - طبعة لندن: كولنز 1958 - ص 92، 93.

[8] مقتبس من كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.

[9] (الأنبياء :30).

[10]  (الروم :22).

[11] (النور:45).

[12] (الإنسان:1).

[13] (المؤمنون: 12).

[14] (السجدة: 7).

[15] (أل عمران: 59).

[16] (ص: 75).

[17] (البقرة: 34).

[18] (السجدة: 8).

[19] (المؤمنون 13-14).

[20] (الفرقان 54).

[21] (الإسراء: 70).

[22] (الشورى: 11).

[23] (أل عمران: 59).

  • الجمعة AM 08:54
    2022-06-03
  • 890
Powered by: GateGold