المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412256
يتصفح الموقع حاليا : 342

البحث

البحث

عرض المادة

بيان حقيقة الخلاف بين الإمام أحمد وابن كلاب وأنه كان جوهريا حقيقيا

لقد استمات الأشعريان في ادعاء أن عبد الله بن سعيد بن كلاب كان من أئمة السنة، وأنه على عقيدة الإمام أحمد والسلف، وأن ما ثبت من الخلاف بينهما كان خلافاً لفظياً لا حقيقياً، كل ذلك لإثبات أن الأشاعرة من أهل السنة، لكون الأشاعرة من الكلابية في الجملة، لأن أبا الحسن الأشعري الذي تنتسب إليه الأشعرية سار على طريق ابن كلاب بعد تركه لطريق المعتزلة.

قال الأشعريان (ص47): (نسلم أولاً أن الإمام الأشعري بعد تركه الاعتزال كان على طريق عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهذا أمر يوافقنا عليه أصحاب الدعوى -أي من ينكرون كون الأشاعرة من أهل السنة والجماعة- ولكنهم يخالفوننا في أن طريق ابن كلاب وطريق السلف هما في حقيقة الأمر طريق واحد، لأن ابن كلاب كان من أئمة أهل السنة والجماعة السائرين على طريق السلف الصالح) اهـ.

ولقد صور الأشعريان أن الخلاف بين الإمام أحمد وبين ابن كلاب وأصحابه كالمحاسبي والأشعري، إنما كان يدور حول مسألة اللفظ، وهي مقولة (القرآن كلام الله غير مخلوق، ولفظي به مخلوق). وأن الإمام أحمد بدّع من قال بذلك لئلا يُتذرع بها إلى القول بأن القرآن مخلوق، وأن ابن كلاب وأصحابه صرحوا باللفظ وميزوا بين القرآن وأنه كلام الله، وبين أفعال التالين للقرآن وأنها مخلوقة.

ولم يكتفيا بذلك حتى جمعا مع ابن كلاب فيما زعماه: البخاري ومسلم والطبري، فنقلا عن ابن عبد البر قوله: (وكان الكرابيسي وعبد الله بن كلاب وأبو ثور وداود بن علي وطبقاتهم يقولون: إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته .... وأنه حكاية عن كلام الله ... ) ثم زادا على من ذكرهم ابن عبد البر ولبّسا.

فقالا (52 - 53): (وعلى أية حال هذا القول الذي بُدّع عبد الله بن كلاب بسببه لا يقتضي وصفه بالبدعة أو أنه على غير طريق السلف، لا سيما أن مسألة اللفظ بالقرآن كان يقول بها ثلة من أكابر أمة الإسلام مثل الذين ذكرهم ابن عبد البر، وممن كان يقول بذلك أيضاً الإمام البخاري والإمام مسلم والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم .. ) اهـ.

ولا ريب أن هذا تلبيس على القارئ إن لم يكن كذباً صريحاً، فإن الذي اخترعه ابن كلاب والمحاسبي والأشعري وداود بن علي في القرآن لم يكن مسألة اللفظ بالقرآن، مع اعتقاد أن القرآن كلام الله تعالى لفظه ومعناه غير مخلوق، وأنه كلام الله حروفه ومعانيه، ليس هو المعنى دون اللفظ ولا اللفظ دون المعنى، وأنه حرف وصوت، وهو نفس كلام الله الذي تكلم به فسمعه منه جبريل عليه السلام، فبلغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

إذ أن ابن كلاب اخترع الكلام النفسي، وأنكر أن يكون الله تعالى يتكلم بحرف وصوت مسموع، أو أنه تعالى يتكلم بمشيئته.

قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته: (قال عبد الله بن كلاب: إن الله سبحانه لم يزل متكلماً ... وأن الكلام ليس بحروف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، وأنه معنى واحد بالله عز وجل ... وزعم عبد الله بن كلاب أن ما نسمع التالين يتلونه هو عبارة عن كلام الله عز وجل، وأن موسى عليه السلام سمع الله متكلماً بكلامه، وأن معنى قوله: " فأجره حتى يسمع كلام الله " معناه حتى يفهم كلام الله .. ) (1) اهـ.

وقال الشهرستاني في "الملل والنحل": (وكلامه واحد هو: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، ووعد، ووعيد؛ وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه، لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات ....... والكلام عند الأشعري: معنى قائم بالنفس سوى العبارة، والعبارة دلالة عليه من الإنسان؛ فالمتكلم عنده من قام بالكلام، وعند المعتزلة من فعل الكلام؛ غير أن العبارة تسمى كلاماً: إما بالمجاز، وإما باشتراك اللفظ) (2) اهـ.

وهذا الذي اخترعاه وابتدعاه لم يسبقا إليه، ولم يقل به أحد من الخلق قبلهما. قال الذهبي في ترجمة ابن كلاب: (وكان يقول بأن القرآن قائم بالذات بلا قدرة ولا مشيئة، وهذا ما سبق إليه أبداً) (3) اهـ.

[[بيان أن خلاف الكرابيسي مع الإمام أحمد يختلف عن اختلاف ابن كلاب معه]]

وقال الذهبي أيضاً في بيان المسألة وذكر الفرق بين ما نسب إلى البخاري وما قاله ابن كلاب: (والذي ظهر من محمد -أي: البخاري- أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن، وتسمى مسألة أفعال التالين، فجمهور الأئمة والسلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وبهذا ندين الله تعالى، وبدّعوا من خالف ذلك.

وذهبت الجهمية والمعتزلة والمأمون وأحمد بن أبي داود القاضي وخلق من المتكلمين والرافضة إلى أن القرآن كلام الله المنزل مخلوق، وقالوا: الله خالق كل شيء والقرآن شيء، وقالوا: تعالى الله أن يوصف بأنه متكلم، وجرت محنة القرآن، وعظم البلاء، وضُرب أحمد بن حنبل بالسياط ليقول ذلك، نسأل الله السلامة في الدين.

ثم نشأت طائفة فقالوا: كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، يعنون تلفظهم وأصواتهم به وكتابتهم له، ونحو ذلك وهو حسين الكرابيسي ومن تبعه، فأنكر ذلك الإمام أحمد وأئمة الحديث، وبالغ الإمام أحمد في الحط عليهم، وثبت عنه أن قال: اللفظية جهمية، وقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، وسد باب الخوض في هذا، وقال أيضاً: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي.

وقالت طائفة: القرآن محدث، كداود الظاهري ومن تبعه، فبدعهم الإمام أحمد، وأنكر ذلك، وثبت على الجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه من علم الله، وكفّر من قال بخلقه، وبدع من قال بحدوثه، وبدّع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولم يأت عنه ولا عن السلف القول: بأن القرآن قديم، ما تفوه أحد منهم بهذا، فقولنا "قديم" من العبارات المحدثة المبتدعة، كما أن قولنا: هو محدث بدعة.

وأما البخاري فكان من كبار الأئمة الأذكياء، فقال: ما قلت ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وإنما حركاتهم وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلو الملفوظ المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق، وصنف في ذلك كتاب "أفعال العباد" مجلد فأنكر عليه طائفة وما فهموا مرامه، كالذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي بكر الأعين وغيرهم.

ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلابية والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنما هذا المنزل حكايته وعبارته، ودال عليه، وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب، ولا التعدد، بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة، واتسع المقال في ذلك، ولزم منه أمور وألوان، تركها والله من حسن الإيمان وبالله نتأيد) (4) اهـ.


(1) مقالات الإسلاميين (2/ 257 - 258).
(2) الملل والنحل (1/ 83)
(3) سير أعلام النبلاء (11/ 175).

(4) المرجع السابق (11/ 510).

وقد سبق نقل كلام السجزي في أن ما قاله ابن كلاب ومن تبعه في الكلام النفسي مخالف لإجماع الأمة بل وكل العقلاء.

وأما قول داود بن علي الأصبهاني فقد روى اللالكائي في شرح أصول أهل السنة عن أبي عبد الله الوارق جوازا قال: (كنت أورّق على داود الأصبهاني، فكنت عنده يوماً في دهليزه مع جماعة من الغرباء، فسئل عن القرآن فقال: القرآن الذي قاله الله {لا يمسه إلا المطهرون} الواقعة79، وقال: {في كتاب مكنون} غير مخلوق. وأما ما بين أظهرنا يمسه الجنب والحائض فهو مخلوق. قال القاضي أحمد بن كامل: وهذا مذهب الناشئ، وهو كفر بالله العظيم) (1) اهـ.

وقال الأشعري في المقالات: (وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: أن الله لم يزل متكلماً، بمعنى أنه لم يزل قادراً على الكلام، ويقول: أن كلام الله محدث غير مخلوق، وهذا قول داود الأصبهاني) (2) اهـ.

وبهذا يتبين بأن خلاف ابن كلاب للإمام أحمد مغايرٌ تماماً لخلاف الكرابيسي معه في مسألة اللفظ.


(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (2/ 360).
(2) مقالات الإسلاميين (2/ 256).

[[الكلام حول الكرابيسي وحقيقة خلافه مع الإمام أحمد]]

مع أن الكرابيسي قد اختُلف في قوله في هذه المسألة، فذكر الذهبي وابن كثير أنه يقول: أن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات وأن لفظي بالقرآن مخلوق. ومراده باللفظ أفعال التالين للقرآن، لا الملفوظ المقروء. وهذا هو الذي حمل الذهبي وابن كثير ومن نقل عنهم الأشعريان على القول بأن الخلاف بين الإمام أحمد والكرابيسي كان خلافاً لفظياً، وأن الإمام أحمد أنكر مقولته وعدها من أقوال الجهمية، وأن الكرابيسي لم يرد ما أراده الجهمية من القول بخلق القرآن والتذرع بمقولة: (لفظي بالقرآن مخلوق) ويعنون به المقروء وهو القرآن لا أفعال التالين.

وخالفهما ابن عبد البر فذكر أن الكرابيسي كان يقول بأن القرآن حكاية عن كلام الله، وأنه موافق لابن كلاب والمحاسبي وداود في هذا.

فقال: (وكان الكرابيسي وعبد الله بن كلاب وأبو ثور وداود بن علي وطبقاتهم يقولون: إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته لا يجوز عليه الخلق، وأن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق، وأنه حكاية عن كلام الله، وليس هو القرآن الذي تكلم الله به) (1) اهـ.

وهذا الذي ذكره ابن عبد البر عن الكرابيسي هو الذي ذكره أبو حاتم الرازي عنه حيث عده ممن يقول بالحكاية.

فقال: (من كلام جهم بن صفوان، وحسين الكرابيسي، وداود بن علي: أن لفظهم بالقرآن مخلوق، وأن القرآن المنزل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - مما جاء به جبريل الأمين حكاية القرآن، فجهمهم أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، وتابعه على تجهيمهم علماء الأمصار طرّاً أجمعون، لا خلاف بين أهل الأثر في ذلك) (2) اهـ.

وسيأتي مزيد من كلام أبي حاتم مما يؤكد هذا.

وهذا يبين لنا تلبيس الأشعريين في هذه المسألة، وأن ما قالاه دعوى مجردة مجانبة للحقيقة والواقع، فإن خلاف ابن كلاب مع الإمام أحمد وأئمة أهل السنة والجماعة كان خلافاً جوهرياً عقدياً حقيقياً، لا صورياً لفظياً، ولذلك اشتد نكير الإمام أحمد على الكلابية وعلى الحارث المحاسبي الذي كان متبعاً لابن كلاب، وكذلك أئمة السنة في وقت الإمام أحمد وبعد وقته ينكرون على الكلابية مجانبتهم لطريق أهل السنة، ويبينون مخالفتهم لهم، وقد كثرت الردود على ما خالفوا به الكتاب والسنة، مبينة انحراف معتقدهم، وخروجهم بما ابتدعوه عن أهل السنة والجماعة.

وقد بين الأشعري في مقالات الإسلاميين أن الكلابية فرقة مباينة لأهل الحديث، إلا أنهم أقرب إلى أهل الحديث من سائر الفرق كالمعتزلة والجهمية وغيرهم.

 


(1) الانتقاء (ص165).

(2) رواه أبو القاسم التيمي في الحجة في بيان المحجة (2/ 192).

فقال في بيان انقسام المسلمين: (اختلف المسلمون عشرة أصناف: الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية أصحاب عبد الله بن كلاب القطان) (1) اهـ.

فبين أنهم فرقة مباينة لأهل الحديث.

ولما عقد فصلاً في اعتقاد أهل الحديث قال: (فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير.

فأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة) (2) اهـ.

وهذا يؤكد كون الكلابية ليسوا من أهل الحديث، وإن كانوا أقرب إليهم من غيرهم. وتأمل قوله عن الكلابية "أنهم يقولون بأكثر ما يقول به أهل السنة"، لا بكله.

وخلاف الكلابية والأشعرية لأهل السنة والجماعة وللإمام أحمد لم يكن فقط في مسألة الكلام النفسي، بل في كثير من


(1) مقالات الإسلاميين (1/ 65).
(2) المرجع السابق (1/ 345 - 350).

الصفات مثل الصفات الفعلية الاختيارية كالنزول والمجيء ونحوها، إذ أن ابن كلاب كان يؤول الصفات الاختيارية لله تعالى ويحملها على المجاز، لامتناع وصف الله بها في أصل مقالته، لكونها تستلزم الحدوث عنده، ويسميها حوادث، ويزعم أن الحوادث لا تقوم إلا بحادث، ويجعل هذا الأصل هو الطريق الذي يثبت به وجود الله تبارك وتعالى، وهي مسألة محدثة مشهورة عند المتكلمين، لم تُعرف عن الأنبياء ولا عن السلف والأئمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يقل أحد منهم: أن القرآن قديم، وأول من شهر عنه أنه قال ذلك هو ابن كلاب، وكان الإمام أحمد يحذر من الكلابية، وأمر بهجر الحارث المحاسبي لكونه كان منهم، وقد قيل عن الحارث أنه رجع في القرآن عن قول ابن كلاب، وأنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت، وممن ذكر ذلك عنه الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف) (1) اهـ.

وقال أيضاً: (والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب -وهو الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة والصفات الاختيارية كالنزول والاستواء، وأن الرب يقوم به الأول دون الثانى- ويحذرون عن أصحابه، وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية، ... ولما ظهر هؤلاء، ظهر حينئذ من المنتسبين إلى إثبات الصفات من يقول: إن الله لم يتكلم بصوت، فأنكر أحمد ذلك، وجهّم من يقوله، وقال: هؤلاء الزنادقة إنما يدورون على التعطيل، وروى الآثار في أن الله يتكلم بصوت) (2) اهـ.


(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (5/ 533).,

(2) المرجع السابق (12/ 367).

  • الخميس AM 07:52
    2022-06-02
  • 3984
Powered by: GateGold