المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413526
يتصفح الموقع حاليا : 261

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى تأويل ابن عباس - رضي الله عنه - لقوله تعالى {الله نور السموات والأرض}

زعم الأشعريان أن ابن عباس - رضي الله عنه - تأول وصف الله تعالى بالنور.

فقالا (ص 234): (جاء في تفسير الطبري ما نصه: عن ابن عباس قوله {الله نور السموات والأرض} النور35، يقول: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض) اهـ.

والجواب: أن يقال:

أولاً: أن هذا الأثر مداره على علي بن أبي طلحة.

فقد رواه ابن أبي حاتم (8/ 2593) وابن جرير (18/ 135) وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات (ص102) واللالكائي (2/ 201) في شرح أصول أهل السنة كلهم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنه - به.

وهذا إسناد منقطع، لأن علي ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.

قال دحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال ابن حبان: روى عن ابن عباس ولم يره.

وقد اختلف أيضاً في حاله، فقواه بعضهم كأبي داود والنسائي وابن حبان، وضعفه آخرون، فقال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث، منكر ليس محمود المذهب (1). ولخص ابن حجر القول فيه فقال في التقريب: صدوق قد يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: قال أحمد: له أشياء منكرات.

ثانياً: إن صح هذا الأثر فإنه ليس من التأويل الذي يزعمانه، لأن تفسيره بالهادي لا يمنع من كون الله تبارك وتعالى نوراً، فإن من معاني كونه تبارك وتعالى نوراً هدايته لخلقه، فهما إذاً متلازمان. وابن عباس وغيره لم ينفوا ما سوى ذلك.

ولذلك قال تعالى بعده: {مثل نوره} أي في قلب العبد المؤمن.

ومن عادة السلف أن يذكروا بعض صفات اللفظ المُفسّر، أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية أنواعه وأوصافه، بل قد يكونان متلازمين.

ومثال ذلك قول بعضهم في: {الصراط المستقيم} الفاتحة6، أنه: الإسلام، وقال آخرون: إنه القرآن، وقال آخرون: إنه السنة والجماعة، وقال بعضهم: إنه طريق العبودية،


(1) انظر تهذيب التهذيب (7/ 393 - 341)

وهذه كلها صفات متلازمة للصراط المستقيم، ليست متباينة.

ثالثاً: أنه قد ثبت وصف الله تبارك وتعالى بالنور.

قال تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} الزمر69.

وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات، فقال: (إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية أبي بكر النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (1).

وروى أيضاً عن أبي ذر - رضي الله عنه - في حديث المعراج أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) (2).

وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عودته من الطائف بعد دعوته لهم إلى الإسلام: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة .. ) (3) الحديث.


(1) مسلم (179).
(2) مسلم (178)
(3) رواه اابن عدي في الكامل (6/ 2124) والطبراني في الدعاء (ص315) والخطيب في الجامع (2/ 275).

وقوله: (وصلح عليه أمرالدنيا والآخرة) كقول ابن عباس في تفسير نوره تعالى: (هادي أهل السماوات والأرض).

وقد ذكر أبو الحسن الأشعري وصف الله تبارك وتعالى بالنور، فقال في "مقالات الإسلاميين": (وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ... وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35) (1) ا. هـ.

فالنور صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى، ومنه اشتق اسم (النور) الذي هو أحد الأسماء الحسنى لله تعالى.

دعوى تأويل ابن عباس - رضي الله عنه - لنصوص (الوجه):

زعم الأشعريان أن ابن عباس - رضي الله عنه - تأول صفة الوجه لله.


(1) مقالات الإسلاميين (1/ 285).

فقالا (234): (قال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، قال - رضي الله عنه -: الوجه عبارة عنه) ا. هـ.

فالجواب: أن هذا الذي ذكره القرطبي ليس له أصل عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

والثابت عن ابن عباس - رضي الله عنه - إثبات الوجه لله تعالى:

فقد قال - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يونس26: (الزيادة: النظر إلى وجه الله) (1).

وقال - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} القيامة23: (نظرت إلى خالقها) (2).

ً دعوى تأويل ابن عباس - رضي الله عنه - للفظ (الساق):

زعم الأشعريان أن ابن عباس - رضي الله عنه - تأول صفة الساق لله تعالى.

فقالا (234): (قال تعالى: {يوم يكشف عن ساق} القلم42، قال - رضي الله عنه -: عن كرب شديد) اهـ.

والجواب أن يُقال:

أولاً: أن الصحابة متنازعون في هذه الآية، فابن عباس وطائفة يفسرون الآية بالشدة، وأبو سعيد وابن مسعود وطائفة يعدونها من الصفات، وليس هذا تنازعاً في إثبات الصفة، وإنما تنازع في كونها من آيات الصفات؟


(1) اللالكائي (3/ 459) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص133).
(2) وروى الآجري في الشريعة (ص270) وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن المنذر.

ولا ريب أن ظاهر الآية لا يدل على أنها من الصفات، لأن الساق فيها جاءت نكرة في سياق الإثبات، لم يضفها سبحانه لنفسه، فلم يقل (ساقه)، فلما لم يعرّفها بالإضافة، لم تكن دالة على صفة لله، ولذلك لم يعدها ابن عباس من آيات الصفات.

والذين جعلوها من آيات الصفات، إنما عدوها للحديث الذي في الصحيحين، لا لظاهر الآية. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.

وعلى هذا فلا يصح أن يقال أن ابن عباس تأول الآية!

ثانياً: أن صفة الساق لله تعالى ثابتة في السنة:

فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً) (1).

 دعوى تأويل ابن عباس - رضي الله عنه - للفظ (الجنب):

زعم الأشعريان أن ابن عباس - رضي الله عنه - تأول قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، فقال: تركت من طاعة الله وأمر الله وثوابه.

وكذلك ورد مثله عن مجاهد والسدي والحسن.

والجواب أن يقال: أن هذا الكلام يدل على جهل كبير، إذ لا يمكن دعوى التأويل هنا حتى يثبت عن السلف أنهم جعلوا (الجنب) صفة لله تعالى، فعندها يمكن دعوى تأويل ابن عباس ومن وافقه.

ولم يقل أحد من السلف قط أن الجنب في الآية صفة لله تعالى.

وهذا من الخطأ الذي يقع فيه الناس، فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية.

قال الدارمي في رده على المريسي: (وادعى المعارض زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} الزمر56، قال: يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه.

فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك. فإن كنت صادقاً في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فَلِمَ تشّنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك، ومن إمامك؟ إنما تفسيرها عندهم، تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفر والسخرية


(1) رواه البخاري (4/ 1871) واللفظ له، ومسلم (183).

بأولياء الله، فسماهم الساخرين، فهذا تفسير الجنب عندهم. فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم، وقد قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - "الكذب مجانب للإيمان" وقال ابن مسعود: "لا يجوز من الكذب جد ولا هزل" وقال الشعبي "من كان كذابا فهو منافق") (1) ا. هـ.

والآية يقول الله تعالى فيها: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين. بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} الزمر (56 - 59).

وهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الظالمة لنفسها، ومعلوم أن عامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جنباً، ولا تقر بذلك، كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك.

وقوله تعالى: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} إخبار عن تحسرهم على التفريط في جنب الله، والتفريط إما فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله، لا في جنب ولا في غيره، بل يكون


(1) الرد على المريسي (2/ 807).

منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، فظاهر االآية لا يدل على أن قول القائل: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله وذاته.

وإنما المراد بجنب الله، طاعة الله، وأمر الله، وحق الله، كما يقال (سبيل الله). ومنه ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل دون ماله مظلوما فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون جاره فهو شهيد، ومن قتل في جنب الله فهو شهيد) (1).

وكما في قول إبي الدرداء - رضي الله عنه -: (إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس) (2).

وفي قول خالد بن معدان: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فتكون هي أحقر حاقر) (3).

قال ابن منظور في اللسان (مادة جنب): (قال الفراء: الجنب القرب، وقوله عز وجل: {على ما فرطت في جنب الله} أي: في


(1) رواه الحارث في مسنده كما في المطالب العالية لابن حجر (9/ 200).
(2) رواه أحمد في الزهد (ص134) وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 110) والخطابي في العزلة (ص61).
(3) رواه ابن المبارك في الزهد (ص99)

قرب الله وجواره، والجنب معظم الشيء وأكثره، ومنه قولهم: هذا قليل في جنب مودتك. وقال ابن الأعرابي في قوله عز وجل: {في جنب الله} في قرب الله من الجنة. وقال الزجاج: معناه على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه، وهو توحيد الله والإقرار بنبوة رسوله، وهو محمد وقولهم: اتق الله في جنب أخيك ولا تقدح في ساقه، معناه: لا تقتله ولا تفتنه) (1) اهـ.

 دعوى تأويل مجاهد والضحاك والشافعي والبخاري للفظ (الوجه):

زعم الأشعريان أن مجاهداً والضحاك والشافعي أولوا صفة الوجه لله تعالى. فقالوا في قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} البقرة115، قال مجاهد: قبلة الله، وقال الشافعي: فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه.

والجواب: أن هذه الآية مما اختلف السلف في كونها من آيات الصفات؟.

وأكثر السلف على أنها ليست من آيات الصفات، ففسروها بما ذُكر.


(1) لسان العرب / مادة "جنب".

لأن الوجه قد يراد به الجهة في لغة العرب، وهذا كثير مشهور، وظاهر الآية يدل على أن المراد بالوجه الجهة لا الصفة. ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف.

وجميع من نُقل عنهم تفسير هذه الآية بغير الصفة، كمجاهد وغيره، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في هذا الموضع فقط دون غيره من المواضع التي فيها ذكر الوجه لله تعالى كقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، ونحوها من الآيات. ولم ينف أحد منهم أن يكون الله متصفاً بالوجه حقيقة.

وقد روى الدارقطني في الرؤية (رقم 243/ص162) عن الضحاك قال: (الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل) (1).

وقال اللالكائي في شرح أصول أهل السنة (3/ 454): (سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عزوجل على أن المؤمنين يرون الله عزوجل يوم القيامة بأبصارهم:

قال الله عزوجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من تفسيره أنه النظر إلى الله عزوجل.

وروى ذلك من الصحابة: عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن


(1) الرؤية للدارقطني (ص162)

اليمان وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس.

ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن المسبب والحسن وعكرمة وعامر بن سعد البجلي وأبي اسحاق السبيعي ومجاهد وعبد الرحمن بن سابط وقتادة والضحاك وأبو سنان ... -ثم ساقها بأسانيدها،

ثم أسند عن مجاهد من طريق ابن أبي حاتم أنه قال: ({للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يونس26، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الرب) (1) اهـ.

وعن مجاهد في قول الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، قال: (إلا ما أريد به وجهه) (2).

والآثار في إثبات وجه الله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين متواترة. ولا يخلو كتاب من كتب السنة من باب في إثبات الوجه لله تعالى. وصنف الدارقطني كتاب "الرؤية".

وأما ما ذكراه عن الضحاك وأبي عبيدة والبخاري في قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، فقالا: قال الضحاك وأبو عبيدة: إي إلا هو. وقال البخاري: إلا ما أريد به وجهه.

فهذا ليس من التأويل في شيء، لأن الشيء قد يعبر عنه ببعض صفاته، فقوله {إلا وجهه} المراد به ذاته تعالى المتصفة بالصفات ومنها الوجه، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، إذ لا يفنى منه شيء تعالى الله عن ذلك، وإنما عبر الله عن ذلك بذكر صفة من صفاته وهي وجهه تعالى.

فتفسير الضحاك وأبو عبيدة ليس نفياً لصفة الوجه بل إثبات لها، لأن الوجه المذكور في الآية لو لم يكن صفة له سبحانه، لما دل على بقاءه، ولَكان داخلاً في قوله {كل شيء هالك} تعالى الله عن ذلك.

ويؤكد هذا أن البخاري رحمه الله قد عقد باباً في صحيحه في إثبات الوجه لله تعالى مستدلاً بهذه الآية، فقال في كتاب التوحيد:

(باب قول الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88:

حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله قال لما نزلت هذه الآية {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} الأنعام65، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بوجهك، فقال: {أو من تحت أرجلكم} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بوجهك، قال: {أو يلبسكم شيعا} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا أيسر) ا. هـ

فجعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعوذ بوجهك) تفسيراً لقوله تعالى: {إلا وجهه}، وكلاهما دليل على إثبات صفة الوجه لله تعالى.

وبهذا يتبين بأن ما ذكره البخاري في تفسيرها، لا ينافي إثبات صفة الوجه لله تعالى، بل يثبته، ولذلك استدل بها.

قال ابن كثير في تفسيره: (وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وجهه} القصص88، إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي: إلا إياه.

وقد ثبت في الصحيح، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ".

وقال مجاهد والثوري في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له. قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر: أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ العبَاد، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ ...

وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات


(1) اللالكائي (3/ 454 - 463).
(2) رواه ابن أبي حاتم (9/ 3028).

فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.) (1) ا. هـ

ويحسن هنا ذكر قاعدة مفيدة ذكرها ابن القيم قائلاً: (وها هنا قاعدة يجب التنبيه عليها، وهي: أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما شيء في موارد النزاع، لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية، أو الحديث، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات وأحاديث، مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} النجم13، فقال ابن عباس: رأى ربه، وقالت عائشة: بل رأى جبرائيل، وكتنازع ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} الدخان10، فقال ابن مسعود: هو ما أصاب قريشاً من الجوع، حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، وقال ابن عباس: هو دخان يجيء يوم القيامة، وهذا هو الصحيح، ونظائر ذلك، فالحجة هي التي تفصل بين الناس) (2) اهـ

وقال ابن تيمية: (تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول، لأنهم سمعوه من الرسول، وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه، وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف) (3) اهـ.


(1) تفسير ابن كثير (3/ 404).
(2) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 262).

(3) نقض التأسيس (مخطوط 2/ 220) نقلاً عن الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد (1/ 296).

  • الخميس AM 07:22
    2022-06-02
  • 1277
Powered by: GateGold