المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413884
يتصفح الموقع حاليا : 277

البحث

البحث

عرض المادة

قاعدة السلف فيما يُنفى عن الله

من قواعد السلف: أن كل كمال ثبت للمخلوق ليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.

ويقال أيضاً: أن القاعدة أننا في الإثبات نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه لا نتجاوز ذلك، وأما النفي فإننا ننفي عنه سبحانه ثلاثة أمور:

أولاً: ما نفاه عن نفسه.

ثانياً: ننفي عنه التشبيه ومماثلة شيء من خلقه.

ثالثاً: ننفي عنه كل صفة نقص وعيب، كالمرض والعور والعرج والضعف، ونحو ذلك مما يُعلم كونه عيباً على كل حال وجهة.

والقاعدة في هذا: أن النقائص يجب نفيها عن الله مطلقاً، وهي منتفية مع قطع النظر عن التمثيل والتشبيه، وأما صفات الكمال فيجب نفي التمثيل والتشبيه عنها.

[[معنى المكر والاستهزاء والنسيان في حق الله تعالى]]

وليس من ذلك ما ذكره الله عن نفسه من نسيانه لمن نسي أمره، ومن استهزائه بمن يستهزء بأوليائه، ومن مكره بمن مكر بهم.

قال تعالى {نسوا الله فنسيهم} التوبة67.

وقال تعالى: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} البقرة15.

وقال تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} الأنفال30.

فليس المراد بالنسيان في الآية الجهل بالشيء الذي هو ضد الذكر والحفظ، بل هو الترك.

قال في مختار الصحاح: (والنِسْيانُ بكسر النون وسكون السين ضد الذُّكر والحفظ، ورجل نَسْيَانُ بفتح النون كثير النِسيان للشيء، وقد نَسِيَ الشيء بالكسر نِسْيَانا وأَنْسَاهُ الله الشيء وتَنَاسَاهُ أرى من نفسه أنه نسِيه، والنِّسْيَانُ أيضا الترك قال الله تعالى {نسُوا الله فنسِيهم} التوبة67، وقال {ولا تنسَوُا الفضل بينكم} البقرة237) (1) اهـ.

والآية ظاهرة في هذا المعنى، إذ أن النسيان الذي توعدهم الله عليه في قوله {نسوا الله} التوبة67، ليس المراد به ضد الذكر، وإلا لم يؤاخذوا عليه، وإنما هو تركهم لما أمرهم الله عمداً، فصار جزاؤهم أن يترك الله تعالى رحمتهم وحفظهم.

وأما الاستهزاء والمكر فليس مذموماً إلا في حال الأمن، وأما إذا كان في مقابل من يمكر ويستهزئ فإنه يكون ممدوحاً، فالله تعالى إنما يستهزئ ويمكر ويكيد بمن يكيد بدينه وأوليائه.

قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما نحن مستهزئين. الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} البقرة15 - وهو من يزعم الأشعريان أنه أشعري-: (اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين الذين وصف صفتهم.

فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم. قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى} الآية الحديد13، وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} آل عمران178، فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائلي هذا القول ومتأولي هذا التأويل.

وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال إن فلاناً ليهزأ منه اليوم ويسخر منه، يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم .... فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية.

وقال آخرون: قوله {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم} البقرة9، على الجواب، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} آل عمران54، {والله يستهزئ بهم} البقرة15، على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم.

وقال آخرون: قوله {إنما نحن مستهزؤون. الله يستهزئ بهم} البقرة15، وقوله {يخادعون الله وهو خادعهم} البقرة9، وقوله {فيسخرون منهم سخر الله منهم} التوبة79، و {نسوا الله فنسيهم} التوبة67، وما أشبه ذلك إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان، كما قال جل ثناؤه {وجزاء سيئة سيئة مثلها} الشورى40، ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي على المعصية، فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفاً المعنى، وكذلك قوله {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} البقرة194، فالعدوان الأول ظلم والثاني جزاء لا ظلم بل هو عدل لأنه عقوبة للظالم على ظلمه وإن وافق لفظه لفظ الأول، وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم وما أشبه ذلك.

وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم صدقنا بمحمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون،

يعنون إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة كما أظهروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.

والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب إظهار المستهزئ للمستهزيء به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهراً وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطناً، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر،

وإذ كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله المدخل لهم في عداد من يشمله اسم الإسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين من أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم مع علم الله عز وجل بكذبهم واطلاعه على خبث اعتقادهم وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم، والله جل جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقتهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه وتفريقه بينهم وبينهم معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعد منه لأعدى أعدائه وأشر عباده حتى ميز بينهم وبين أوليائه فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل

كان معلوماً أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم وإن كان جزاء لهم على أفعالهم وعدلاً ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن ميز بينهم وبينهم مستهزئاً وساخراً ولهم خادعاً، وبهم ماكراً، إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.

وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس - رضي الله عنه - حدثنا أبو كريب قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله {الله يستهزئ بهم} قال: يسخر بهم للنقمة منهم.

وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره {الله يستهزئ بهم} إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها، وسواء قال قائل لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.

ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه، فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكر به أخبر أنه قد مكر به.

ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئاً إلا ألزم في الآخر مثله، فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن الله عز وجل منفي.

قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: الله يستهزئ بهم، وسخر الله منهم، ومكر الله بهم، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية، فإن قال: لا، كذب بالقرآن وخرج عن ملة الإسلام، وإن قال: بلى، قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت الله يستهزئ بهم، وسخر الله منهم، يلعب الله بهم، ويعبث، ولا لعب من الله ولا عبث، فإن قال: نعم، وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه، وإن قال: لا أقول يلعب الله به، ولا يعبث، وقد أقول: يستهزئ بهم، ويسخر منهم، قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث والهزء والسخرية والمكر والخديعة،

ومن الوجه الذي جاز قيل هذا، ولم يجز قيل هذا، افترق معنياهما، فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.

وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .. ) (2) اهـ.

فتأمل كيف أثبت ابن جرير رحمه الله صفة المكر والاستهزاء لله تعالى على الوجه اللائق به، وأبطل قول جميع من تأولها وأخرجها عن ظاهرها.

وبهذا يتبين جهل الأشعريين حيث جمعا بين نفي المرض ونفي المكر والنسيان والاستهزاء.

فقالا (ص242): (أتراهم يثبتون ظواهرها .... فيقولون: نثبت لله نسياناً حقيقياً ومكراً حقيقياً وخداعاً حقيقياً واستهزاءاً حقيقياً ومرضاً حقيقة ... كل ذلك على الحقيقة وكما يعهده البشر من لغاتهم. معاذ الله؟!!) اهـ.

فالجواب: إي لعمري، نثبت لله ما أثبته لنفسه، فنثبت أنه يستهزئ بالمستهزئين، ويمكر بالماكرين، ويخادع الخادعين، وينسى التاركين لدينه، وأما المرض فالله تبارك وتعالى منزه عنه، فأين ما أثبته الله لنفسه مما لم يثبته، وأين صفة الكمال من صفة النقص.!!

الأمر الثاني: أن قول العبد "كيف أعودك؟ " ونحوها، إنما هو استفسار عن كيفية أمر من فعل العبد نفسه، وهو عيادته لربه وإطعامه ونحوه، ولم يكن سؤاله عن صفة ربه تعالى.

فأين هذا المثال؟ من صفة الرب تبارك وتعالى التي تعرّف بها إلى عباده كحبه، وضحكه، واستوائه، ونزوله، ويديه، ووجهه، ونحو ذلك من كمالاته، وعظيم فعاله، وجميل نعوته وصفاته تبارك وتعالى.

[فرع في منشأ ضلال الأشاعرة في هذا الباب]

ومنشأ فتنة الأشاعرة في هذا الباب وضلالهم بما ادعوه من التفويض، ظنهم أن آيات الصفات من المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، وأنه لا يُفهم معناه.

مستندين إلى قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}.

وقد ترتب على إدخال آيات الصفات في المتشابه عند الأشاعرة، أن يكون بيان معانيها هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، للآية. وهذا منهم مبني على تعيّن الوقف التام عند قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}.

وبهاتين المقدمتين الباطلتين تبلور مذهب التفويض، وهو الذي يسمونه طريقة السلف: فصار عبارةً عن مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أمانى}، أي لا يفقهون من الكتاب إلا التلاوة المجردة.

[لا يُعلم عن أحد من السلف أنه جعل آيات الصفات من المتشابهات]

ولا يُعلم عن أحد من السلف، ولا من الأئمة أنه جعل أسماء الله وصفاته من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه كالكلام الأعجمي، وكالحروف المقطعة في أوائل السور، بل نصوصهم صريحة في أنهم يقرون النصوص على ما دلت عليه، ويفهمون المراد منها، وينكرون تأويلات الجهمية والمعطلة، ويبطلونها. هذا هو المعروف عن السلف.

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره اختلاف السلف في تحديد الآيات المتشابهات على خمسة أقوال، ليس منها آيات الصفات:

فقال: (وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} آل عمران7، وما المحكم من آي الكتاب وما المتشابه منه؟

فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن المعمول بهن وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام، والمتشابهات من آيه المتروك العمل بهن المنسوخات ...

وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه ...

وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجهاً ...

وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته، والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ...

وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك فإن ذلك لا يعلمه أحد ...

فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا فكل ما عداه فمحكم ..

- ثم قال مرجحاً القول الأخير: وهذا القول ... أشبه بتأويل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسول الله فإنما أنزله عليه بياناً له ولأمته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل .. .. ) (3) اهـ.

وساق أيضاً في تفسيره كثيراً من الآثار عن السلف، ولم يذكر أن أحداً منهم قال: أن من المتشابه أسماء الله وصفاته.

وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية: (وفي المتشابه سبعة أقوال:

أحدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي في آخرين.

والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله.

والثالث: أنه الحروف المقطعة، كقوله {ألم} ونحو ذلك، قاله ابن عباس.

والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد.

والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد.

والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً، وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميز، والمتشابه الذي تعتوره تأويلات.

والسابع: أنه القصص والأمثال ذكره القاضي أبو يعلى) (4) اهـ.

بل وعقد أبو الحسن الأشعري فصلاً في حكاية أقاويل الناس في المحكم والمتشابه، ولم يذكر في أي منها أنها آيات الصفات (5).

وجميع كتب السنة التي نقلت آثار السلف في المعتقد، كالسنة للخلال ولابن أبي عاصم ولعبد الله، والرد على الجهمية للإمام أحمد وللدارمي ولابن منده، وغيرها كثير، لم يُنقل في أي منها أن أحداً من السلف جعل آيات الصفات من المتشابه.

وعلى هذا فإطلاق القول بأن معاني صفات الله تعالى من المتشابه، باطلٌ، لم يقل به أحد من السلف.

قال ابن قتيبة: (ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل الله شيئاً من القرآن إلا لينفع به عباده ويدل به على معنى أراده، فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، وتعلق علينا بعلة، وهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف المتشابه؟ ...

وبعد، فإنا لم نر المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كله على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور .. ) (6) اهـ.

وقال الألوسي: (ثم اعلم أن كثيراً من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف والأشعرى رحمه الله تعالى من أعيانهم، كما أبانت عن حاله الإبانة - أي أبان عن قوله في كتاب الإبانة -، أنها صفات ثابتة وراء العقل، ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه) (7) اهـ.

وبعد هذا التقرير والتقعيد كان من المناسب أن نلحق هذا الفصل بما يؤكده ويزيده قوة ووضوحاً، ونبين ما يدل على أن السلف كانوا يجرون نصوص الصفات على ظاهرها المفهوم في لغة العرب، وأنها ثابتة على الوجه اللائق بالله تعالى من غير أن تستلزم التشبيه والتمثيل.


(1) مختار الصحاح/ مادة "نسو".

(2) تفسير ابن جرير (1/ 132 - 134).

(3) تفسير ابن جرير (3/ 172 - 175).

(4) زاد المسير (1/ 351).
(5) مقالات الإسلاميين (1/ 293).

(6) تأويل مشكل القرآن (ص98 - 100).

(7) روح المعاني (2/ 85).

 

  • السبت PM 05:52
    2022-05-28
  • 910
Powered by: GateGold