المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412317
يتصفح الموقع حاليا : 294

البحث

البحث

عرض المادة

بطلان دعوى التفويض عن السلف وأنه يعود إلى التأويل

بيان مخالفة الأشاعرة للسلف في هذا الباب والرد على شبهاتهم فيه

خلاصة الفصل

أولاً: بعد تقرير هذا الأصل المهم من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكلام سلف الأمة وأئمتها، تبين لنا أن السلف رحمهم الله لم يجهلوا معاني صفات الله تعالى، بل كانوا يعلمون معانيها ويثبتونها لله تعالى على الوجه اللائق به، من غير أن يمثلوها بصفات المخلوقين، ولا يحرفوها تحريف المعطلين.

ثانياً: موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في هذا الأصل العظيم، مما يستلزم أن يوافقه كل من انتسب إليه، وإلا كان انتسابهم إليه دعوى مجردة.

[[بطلان دعوى التفويض عن السلف وأنه يعود إلى التأويل]]

ثالثاً: وتبين لنا كذلك بطلان دعوى الأشعريّيْن في أن التفويض هو مذهب السلف في الصفات، ويعنيان به تفويض المعنى لا الكيفية.

قال الأشعريان بعد تعريفهما للتفويض والتأويل (ص144 - 145): (وهذان المذهبان كما أسلفنا هما المذهبان المعتبران المأثوران عن أهل السنة والجماعة في أبواب المتشابه، ولا اعتبار لمن جنح إلى التعطيل أو التشبيه من المذاهب الأخرى التي رفضتها الأمة ولفظتها ... ) إلى أن قالا: (حمل الكلام على الظاهر والحقيقة يفضي قطعاً إلى التشبيه، لأن حقائق وظواهر هذه الألفاظ أجسام وكيفيات مخلوقة ... ) إلى أن قالا: (بقي القسم الأخير وهو صرف الكلام عن الحقيقة والظاهر، ثم بعد صرفه عن الظاهر إما أن يُتوقف عن التماس معنى له ويوكل العلم به إلى الله، وهذا هو التفويض الذي عليه جماهير السلف الصالح، أو يلتمس له معنى لائق بالله تعالى حسب مناحي الكلام عند العرب وما تسيغه لغتهم، وهذا هو التأويل الذي عليه خلف الأمة وجماعات من سلفها الصالح) اهـ.

وبناءاً عليه فإن مذهب التفويض الذي ينسبه الأشعريان إلى السلف يعود إلى التأويل، بمعنى أن الفريقين -أهل التفويض وأهل التأويل- قد اتفقا على أن هذا الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله تعالى، وأنه ليست على ظاهرها، ولا يراد به الحقيقة، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها ولم يحددوا المعنى المجازي المراد منها، والخلف رأوا المصلحة في تأويلها والتصريح بالمعنى المجازي لمسيس الحاجة إلى ذلك، وأن الفرق بين الطريقين أن أهل التأويل قد يعينون المراد بالتأويل، وأهل التفويض لا يعينون لجواز أن يُراد به غيره.

ولا ريب أن هذا الكلام افتراء عظيم على السلف، وجهل كبير بمذهبهم:

أمّا في كثير من الصفات فقطعاً: مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم، والذي سنأتي على بعضه في الفصل الأول من الباب الثاني، علم بالاضطرار أن السلف كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف ذلك قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك كما نقلنا شيئاً منه فيما سبق. ولا يُعرف لأحد من السلف كلام يدل على نفي الصفات الخبرية لله تعالى أو غيرها، لا نصاً، ولا ظاهرا، ً ولا بالقرائن، بل كثير من كلامهم يدل إما نصاً، أو ظاهراً، على تقرير جنس الصفات لله تعالى، وأنها على الحقيقة، وأنها معلومة المعنى بما تعرفه العرب من ظاهر لغتها.

[[بيان معنى قول بعض السلف عن الصفات: "بلا معنى"]]

وإنما ينكر السلف التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، ولذلك تراهم يعقبون إثباتهم للصفات بقولهم "بلا كيف"، مع إنكارهم أيضاً على من ينفي الصفات، أو يحرفها عن ظاهرها إلى مجازات الكلام فيخرجها عن حقيقتها، فربما قالوا "ويكلون علمها إلى قائلها" أو "بلا معنى" أي: المعاني الباطلة التي يصرف بها المعطلة صفات الله عن ظواهرها، فيعطلون المعنى الصحيح ويستبدلونه بالمعاني المجازية.

والسلف أثبتوا الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه فكانوا فيها وسط بين فريقين: المشبهة من جهة، فلذلك قالوا "بلا كيف"، والمعطلة من جهة فلذلك قال بعضهم "بلا معنى" أو "من غير تفسير".

قال أبو بكر الخلال: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال: (سألت أبا عبد الله -أي الإمام أحمد- عن الأحاديث التي تُروى "إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا" و "أن الله يرى" و"إن الله يضع قدمه" وما أشبهه؟ فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف، ولا معنى، ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله بلا حد ولا غاية {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعث) (1) اهـ.

فقول الإمام أحمد: "ولا كيف"، رد على المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه، أو يكيفونها في أذهانهم.

وقوله: "ولا معنى"، رد على المعطلة الذين ينفون عن الله تعالى حقائق الصفات، ويحرفونها عن معانيها إلى معان مجازية باطلة.

فصار كلامه موافقاً للسلف جامعاً بين الإثبات بلا تشبيه، والتنزيه بلا تعطيل.

ويؤكد ذلك تتمة كلامه الذي قرر فيه إثبات الصفات لله تعالى ونفي التشبيه والتعطيل.

وقوله: "ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعث" ظاهر في إثبات معنى الصفات لله تعالى، وأنها ثابتة لله لا تُزال عنه لأجل شناعة المعطلة الذين يلزمونها لوازم صفات المخلوق، ويزعمون أن إثباتها يستلزم التشبيه.

بل كل كلام الإمام أحمد المنقول عنه في هذا الباب مما نقلنا بعضه صريح في إثبات معاني الصفات، وإبطال التفويض المزعوم، وقد كان يرد وينكر تأويلات المعطلة الذين يتأولون صفات الله تعالى ويصرفونها عن ظاهرها إلى معان باطلة، وصنف كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله" فأنكر عليهم تأويل القرآن على غير مراد الله ورسوله، وهم إذا تأولوه يقولون: معنى هذه الآية كذا.

وأهل التكييف يثبتون لصفاته تعالى كيفية معينة. فنفى الإمام أحمد قول هؤلاء، وقول هؤلاء. قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية، وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون: معناه كذا وكذا.

وقول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" وفي لفظ "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول" موافق لقول الباقين من الأئمة والمعروف عن السلف من قولهم عن آيات الصفات (أمروها كما جاءت بلا كيف). فإنهم إنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كانوا قد آمنوا باللفظ المجرد فقط من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قال الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فان الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم.

ومن المعلوم أيضاً أنه لا يُحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا لم يُفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، فإن نفي الأخص يستلزم إثبات الأعم، فلو قال قائل: ما فهمت كلام زيد، لفُهم منه أن القائل قد سمع كلاماً لزيد، لكنه لم يفهمه، فإن الفهم أخص من السمع، فلما نُفي الأخص، دل على ثبوت الأعم. والكيفية أخص من المعنى، فلما نفى السلف الكيفية، دل ذلك على علمهم بالمعنى. وإلا فإن من ينفى الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول "بلا كيف"، فمن يقول: إن الله لا ينزل، أو أن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفى الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف.

[[معنى قول السلف عن أخبار الصفات "أمروها كما جاءت بلا كيف"]]

وقولهم "أمروها كما جاءت" يقتضى إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال "أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد" أو "أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة" وحينئذ فلا تكون قد أُمِرَّت كما جاءت، ولا يقال حينئذ "بلا كيف" إذ نفى الكيف عما ليس بثابت لغوٌ من القول.

وقد سبق أن بينا أن الأمر بإمرار الأحاديث كما جاءت، قد قاله السلف في كثير من الأحاديث المعلومة المعنى في غير الصفات.

[[بطلان دعوى أن نفي الكيفية هو نفي للمعنى]]

وبهذا يتبين خطأ الأشعريين حين ذكرا أن مراد السلف بقولهم في الصفات "بلا كيف"، نفي المعنى، وأن الكيفية يعبر بها عن المعنى.

فقالا (ص148): (وقوله -أي الترمذي- "ولا يقال كيف" أي: بلا استفسار عن معانيها، أو تعيين المراد منها، وبه يفارقون أهل التشبيه) اهـ.

وقالا أيضاً (ص151): ("بلا كيف" عبارة المقصود منها زجر السائل عن البحث والتقصي، لا إثبات المعنى الحقيقي وتفويض الكيف!!) اهـ.

وقالا (ص152): (من هنا يتبين مراد السلف بقولهم "بلا كيف"، ومنه تعلم أن من ينسب إلى السلف إثبات المعاني الحقيقية لهذه الألفاظ والتفويض في كيفياتها ينسب إليهم التشبيه من حيث لا يدري) اهـ.

فالذي استنكراه هنا واستبعداه هو عين مذهب السلف كما قررناه في هذا الفصل، وهو إثباتهم لمعاني الصفات وتفويضهم لكيفياتها، وأما على ما ذكراه فيكون جميع السلف مشبهة في حكم الأشعريّيْن ابتداءاً من الصحابة وإلى يومنا هذا!!

وليت الأشعريّيْن وقفا عند هذا الحد، ولكنهما تجاوزاه إلى أمر لا ينقضي منه العجب، فزعما أن السؤال عن الكيف لغةً: هو السؤال عن المعنى.

قالا (ص152): (فيقول أنهم -أي السلف- يثبتون المعنى الحقيقي ويفوضون الكيف، وقائل هذا لا يدري ما يقول، فإن حقائق هذه الألفاظ كيفيات، فكيف يزعم إثبات معانيها وتفويض كيفياتها؟! .... ) إلى أن قالا: (فعندما يقال في جواب السائل "بلا كيف" يفهم منه أنه "بلا معنى" لأن لفظ الـ"كيف" هنا مستفهم به عن المعنى) اهـ.

ولا ريب أن هذا كذب على اللغة والشرع والعقل:

أما كونه كذباً على اللغة: فلأن الاستفهام بـ "كيف" استفهام عن الحال والكيفية والماهية.

قال في مختار الصحاح في معنى "كيف": (وهو للاستفهام عن الأَحوال، وقد يقع بمعنى التعجب) (2).

وأما الاستفهام عن المعنى فيكون بـ "ما" فيقال: ما معنى كذا؟ أو ما المراد بكذا؟ ونحو ذلك.

فليت شعري بأي لغة وجدوا أن الاستفهام بـ "كيف" استفهام عن المعنى.

أما كونه كذباً على الشرع فلأمور:

أولها: أن نصوص الكتاب والسنة وعبارات السلف صريحة في إثبات معاني الصفات، وأنها مفهومة معلومة كما سبق نقل بعض كلامهم في هذا. ومن أشهرها تفسيرهم لمعنى الاستواء لله تعالى، وتصريحهم بفوقية الله تعالى على خلقه.

الأمر الثاني: أن هذا القول يستلزم استجهال النبي - صلى الله عليه وسلم - واستجهال سلف الأمة، وكونهم لا يعلمون معاني ما أنزل الله عز وجل عليهم، وأمرهم بتدبره وتعقله، وتعرّف إليهم به، وحينئذ يكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه، لا يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه، ولا الصحابة، ولا من بعدهم.

ولا ريب أن هذا قدح في القرآن أولاً حيث لم يكن تبياناً لكل شيء، ولم يكن هدىً للناس، ولا بلاغاً مبيناً. وقد قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} إبراهيم4.

وقدح في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثانياً حيث لم يكن عالماً بأشرف ما في كتاب الله تعالى من الإخبار عن الرب وعن صفاته وأفعاله.

وبناءاً عليه فيكون الهدى في هذا الباب لا يؤخذ لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الصحابة وسلف الأمة، ولكنه يؤخذ من أفواه المتأخرين الحيارى المتناقضين في أسماء الله وصفاته. سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولما رأى الأشعريان أن هذا لازم لقولهما لا محالة، راما الخروج منه بطرق ملتوية عادت بهم إلى نفس الطريق الذين ابتدأوا منه.

فقالا في الجمع بين النقيضين (ص153): (يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تعارضاً بين إدراك معاني هذه النصوص، وبين إمرارها الذي هو عدم العلم بالمراد منها، وفي الحقيقة ليس ثمة أي تعارض بين الأمرين، فالمقصود بعدم العلم بالمراد الذي فُسّر به الإمرار هو عدم العلم بالمراد تفصيلاً وعلى سبيل القطع والتحديد، وهذا لا يقتضي عدم علمهم بالمراد إجمالاً) ثم ذكرا مثالاً فقالا: (مثال على هذا قوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} المائدة64، المائدة64،يفهم منه على سبيل الإجمال معنى الكرم والجود ... أما لفظ اليدين المضاف لله تعالى في الآية فبعد استبعاد المعنى الظاهر المتبادر من إطلاقه ... احتمل اللفظ عدة معان مجازية، ولهذا الاحتمال توقف جمهور السلف عن التعيين والقطع بأحدها، وهذا هو معنى عدم علمهم بالمراد) اهـ.

وهذا الجمع المزعوم لا يرفع الإشكال والتناقض، إذ كان من المعلوم أن هذه المعاني المجازية، كما لليد مثلاً، متباينة في نفسها، ومختلفة في معانيها وحقائقها، فقد يراد باليد النعمة، وقد يراد بها القدرة، وقد يراد بها النصرة، وقد يراد بها الملك، وقد يراد بها التصرف، فإذا توقف السلف عن تحديد مراد الله منها مع تباينها، رجع الأمر إلى الجهل بالمعنى على الحقيقة، وعدم الفهم لكلام الله تعالى، وهو عين ما أرادا التنصل منه، والتبرء من لزومه. فتأمل!!

[[الجهل بكيفية الصفة لا يستلزم الجهل بمعناها]]

وأما كونه كذباً على العقل: فلأن إثبات معنى الصفة لا يستلزم العلم بكيفيتها وحقيقة ما هي عليه في الخارج. كما أن الجهل بكيفيتها لا يستلزم الجهل بالمعنى. إذ لا تلازم بين الأمرين.

والعقل يميز بين المعاني المجردة وبين الصور والهيئات الحسية.

فنحن نثبت لله تعالى ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فكذلك كلامه، واستواؤه، ونزوله، وضحكه، ومقته، ثابت في نفس الأمر على الحقيقة، ولا تعلم كيفيته، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف.

ومعلوم أن المخلوق قد تُدرك معاني صفاته، ويوصف بها حقيقة، مع الجهل بكيفيته.

فالروح التي فينا قد وُصفت بصفات ثبوتية وسلبية، فأخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد إلى السماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تُسل الشعرة من العجين، ويتبعها بصر الميت، وهذه أوصاف مفهومة معلومة المعنى، ومع ذلك فنحن لا ندرك كيفية الروح وحقيقة ماهيتها. وجهلنا بالكيفية والماهية لا يستلزم أن لا يكون لها حقيقة، وأن لا تفهم معاني صفاتها، كما لا يستلزم علمنا بحقيقتها ومعاني ما اتصفت به، أن نعلم كيفيتها. إذ المعنى المجرد شيء، والهيئات المحسوسة المرئية شيء آخر.

ومثال ذلك أيضاً ما أخبرنا الله عز وجل به عما في الجنة من المخلوقات من أصناف المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، والمساكن، وما فيها من أنهار اللبن، والخمر، والماء، والعسل، وغير ذلك من نعيمها وحورها وقصورها. ونحن ندرك هذه المعاني ونفهمها، ومع ذلك فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه -:

(ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء) (3).

وفي لفظ: (لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء).

فجهلنا بكيفيات ما في الجنة لا يستلزم جهلنا بمعاني ما وصفت به وإثبات حقيقتها. فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق.

قال ابن عبد البر مؤكداً هذا المعنى: (فإن قال: إنه لا يكون مستوياً على مكان إلا مقروناً بالتكييف، قيل: قد يكون الاستواء واجباً والتكييف مرتفع، وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء، ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل، لأنه لا يكون كائن في لا مكان إلا مقروناً بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحاً في بداننا ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفية على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه) (4) اهـ.

[[بطلان استدلالهم بحديث "عبدي مرضت فلم تعدني"]]

ومن غرائب الأشعريّيْن أنهما استدلا بما هو رد عليهما فقالا (ص152): (وفي حديث فضل عيادة المريض الذي أخرجه مسلم ما يدل على هذا، وذلك حين يقول الله تعالى لعبده: "مرضت فلم تعدني ... استطعمتك فلم تطعمني ... استسقيتك فلم تسقني ... " كل ذلك والعبد يقول: "رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! .. رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! .. رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! " فهو لم يفهم المعنى المراد من اللفظ بعد أن استحالت حقيقته في عقله، فسأل بـ "كيف؟ " عن المعنى المراد، لا أنه أثبت حقيقة المرض والاستطعام والاستسقاء لله تعالى لكنه لم يعلم كيفيتها) اهـ.

وهذا المثال عليهما لا لهما لأمور:

أولها: أن العبد فهم معاني ما خاطبه الله به، ولو لم يفهم الكلام على حقيقته لما استشكله، وهذا يدل على أن الأصل فيما أضافه الله لنفسه أنه على حقيقته، ولكن لما كان نقصاً في حق الرب تبارك وتعالى كالمرض، والجوع، والعطش، كان مشكلاً. فلما كانت هذه الأمور نقصاً وعيباً في ذاتها، لكونها من أمور الضعف والحاجة، وهي نقص في المخلوق، وجب أن يكون الخالق أولى أن يُنزه عنها.

وأما اليد، والوجه، والعين، والحب، والإتيان، والمجيء، والضحك، والفعل، ونحو ذلك، فهي من صفات الكمال مطلقاً، ويكمل بها المخلوق، وهذا يوجب أن يكون الخالق أولى بالاتصاف بها، فهو سبحانه واهب الكمال.


(1) سبق تخريجه حاشية 32.

(2) مختار الصحاح/ مادة "كيف".

(3) رواه هناد بن السري في الزهد (1/ 51) وابن جرير في التفسير (1/ 172).

(4) التمهيد (7/ 137).

 

  • الجمعة AM 06:44
    2022-05-27
  • 1285
Powered by: GateGold