المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412380
يتصفح الموقع حاليا : 362

البحث

البحث

عرض المادة

كلام للصواف في القرآن والرد عليه

وقال الصواف في صفحة 115: ووجدنا إلى أبواب جهنم هم من جلدتنا, ويتكلمون بألسنتنا من أجابهم دعوتهم الضالة, وفتنتهم المضللة قذفوه فيها, وألقوه في الحميم وتركوه في الجحيم.

والجواب أن يقال: أما تخشى - يا صواف - أن تكون من هؤلاء الدعاة إلى أبواب جهنم وأنت لا تشعر, أما علمت أن رسالتك في علم الفلك قد اشتمل أكثر مباحثها على مخالفة الكتاب والسنة والإجماع. وما كان ذلك فهو من أعظم أسباب الضلال الذي يدعو إلى جهنم. وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.

وقال الصواف في صفحة 115: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

والجواب أن يقال: وهل ظننت - أيها الصواف - أن صلاح أول هذه الأمة إنما كان بالاشتغال بعلم الفلك وإنشاء المراصد الذي ألفت كتابك لتأييده وحشوته من تخرصات أعداء الله وظنونهم الكاذبة وأقوالهم الباطلة. وزعمت في أوله أن علم الفلك كان من أول العلوم التي لفتت أنظار العلماء المسلمين, وجلبت اهتمامهم وعنايتهم بها. ثم زعمت في آخره أن الكثير من الشباب اليوم في حاجة ماسة إلى مثل كتابك.

كلا, بل إنما كان صلاح أول هذه الأمة بالتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبذلك ظهورا على الأمم في مشارق الأرض ومغاربها وعلت كلمة الله, وظهر دينه على الدين كله. ولم يكن أحد منهم يشتغل بعلم الفلك أو يلتفت إليه. وإنما ظهر الاشتغال بعلم الفلك في زمن المأمون حين عربت كتب الأوائل ومنطق اليونان, فظهر الضعف في المسلمين منذ ذلك الزمان, وما زال الضعف يزداد فيهم شيئا فشيئا بقدر إعراضهم عن الكتاب والسنة وإقبالهم على العلوم المردية المهلكة حتى آل الأمر بكثير منهم إلى الردة والانسلاخ من دين الإسلام بالكلية, كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في قوله «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا» رواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد تقدم في أول الكتاب كلام شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية في المأمون بسبب ما أدخله على هذه الأمة من العلوم الفلسفية. وكلام الذهبي والمقريزي في ذلك أيضا, فليراجع فإنه حسن جدا.

وإذا علم أن صلاح أول هذه الأمة, إنما كان بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليعلم أن صلاح آخر هذه الأمة إنما يكون بذلك. والله المسؤول المرجو الإجابة أن يصلح أحوال المسلمين, وأن يرزقهم الرجوع إلى ما كان عليه أول هذه الأمة, وأن ينصر دينه, ويعلي كلمته, ويظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

وقال الصواف في صفحة 117 عن القرآن: إنه كتاب أبدي سرمدي أنزل للخلود والبقاء, وليكون دينا أبديا للإنسانية جمعاء.

والجواب أن يقال: أما قوله: إن القرآن أنزل للخلود والبقاء فهو مردود بما رواه ابن ماجة في سننه بإسناد صحيح والحاكم في مستدركه من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة, فلا يبقى في الأرض منه آية» الحديث, قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يسرى على كتاب الله, فيرفع إلى السماء, فلا يبقى في الأرض منه آية» الحديث.

وروى الحاكم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع. قالوا: وكيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا, وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يسرى عليه ليلة, فيذهب ما في قلوبكم, وما في مصاحفكم ثم قرأ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يسرى على كتاب الله, فيرفع إلى السماء, فلا يصبح في الأرض آية من القرآن, ولا من التوراة والإنجيل ولا الزبور, وينتزع من قلوب الرجال, فيصبحون ولا يدرون ما هو). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وهذا الأثر والذي قبله لهما حكم المرفوع.

وأما قوله: وليكون دينا أبديا للإنسانية جمعاء.

فجوابه من وجوه: أحدها: أن يقال: ما زعمه ههنا فهو تخرص مردود بما تقدم عن حذيفة وابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم أن القرآن يسرى عليه في آخر الزمان, ويرفع إلى السماء, فلا يبقى في الأرض منه آية. وإذا رفع القرآن إلى السماء, فأي دين يبقى في الأرض بعد ذلك.

الوجه الثاني: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله» رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه. وفي رواية لأحمد «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله» ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه.

وفي هذا الحديث الصحيح دليل على أن الإنسانية جمعاء تعود إلى الكفر في آخر الزمان حتى أنهم لا يذكرون اسم الله بالكلية. وفي هذا أبلغ رد لما زعمه الصواف من كون القرآن يكون دينا أبديا للإنسانية جمعاء.

الوجه الثالث: أن يقال: ليست الإنسانية باقية على الأبد حتى يكون لها دين أبدي يبقى على الدوام بل لا بد لها ولجميع من على وجه الأرض من الفناء؛ قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}.

ومن زعم أن الإنسانية تبقى على الأبد, فليس عنده إيمان بقيام الساعة وإماتة الخلائق كلهم وبعثهم بعد ذلك ليوم الفصل والقضاء. وليس للإنسانية في ذلك اليوم دين تعمل به, وإنما هو الحساب والجزاء على الأعمال؛ إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.

وقد ذكر الصواف في صفحة 55 أنه بعد 432 مليون سنة ينقص دوران الأرض بمقدار ساعة, وعندئذ يصبح مجموع ساعات الليل والنهار 25 ساعة, قال: وهكذا يتولى النقص, ويطرد طول الليل والنهار. وعلى هذا الأساس يقول العلماء: إن الأرض لا بد أن تقف يوما. وعند وقوفها يصبح الوجه المقابل للشمس نهارا دائما, والوجه البعيد عنها ليلا دائما. انتهى.

وهذا القول الباطل يقتضي أن الإنسانية لا تزال باقية على الأبد, وأنه ليس هناك قيامة ولا بعث ولا آخرة.

وقال الصواف في صفحة 117 ما نصه:

ومن هذا المنطلق وجدت نفسي مضطر إلى توسيع هذا الكتاب إلى الحد الذي وصل إليه لعلي أساهم بجهد المقل في بث الوعي الإسلامي بإلقاء شيء من الأضواء على علم خطير من العلوم التي اشتغل بها علماؤنا الأعلام رضي الله عنهم وأرضاهم حتى كانوا أئمة فيه. ألا وهو علم الفلك.

والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: إن بث الوعي الإسلامي إنما يكون بنشر علوم الكتاب والسنة لا بنشر الأباطيل والجهالات والضلالات التي هي من وحي الشياطين إلى أوليائهم.

وكتاب الصواف من هذا القسم المذموم؛ لأنه مملوء من تخرصات الإفرنج, وظنونهم الكاذبة. وما كان كذلك فليس فيه إعانة على بث الوعي الإسلامي بوجه من الوجوه, وإنما فيه إعانة على بث الباطل وإظهاره.

الوجه الثاني: أن الصواف ليس عنده تمييز بين الحق والباطل, فلهذا زعم أنه يساهم بالأباطيل التي جمعها في بث الوعي الإسلامي, وهذا من عجيب أمره حيث قلب الحقيقة وعكس القضية؛ لأنه على الحقيقة إنما ساهم في بث الباطل وادحاض الحق كما لا يخفى على من نور الله قلبه بنور العلم والإيمان.

الوجه الثالث: أن يقال: ليس في كتاب الصواف شيء من أضواء العلم النافع, وإنما هو مملوء من التخرصات والظنون الكاذبة التي هي في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض, وقد ذكرت قريبا نماذج مما فيه من السخافات والأقوال البشعة, فلتراجع.

الوجه الرابع: أن علم الفلك ليس بعلم خطير, كما زعمه الصواف, ولو كان خطيرا لما أهمله الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين, فإنهم كانوا أسبق إلى الخير والعلوم النافعة ممن جاء بعدهم. وكذلك التابعون وتابعوهم بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم, فإنهم كانوا أحرص على تحصيل العلوم النافعة ممن كان بعدهم. ولكنه علم لا يخلو في الغالب من تعاطي علم الغيب, وما كان كذلك, فهو علم مرد مهلك. وما سلم منه من تعاطى علم الغيب؛ فهو علم كثير العناء قليل الجدوى.

ومن زعم أن علم الفلك علم خطير, فهو من أجهل الناس وأقلهم تمييزا بين العلوم النافعة وغير النافعة.

الوجه الخامس: أن العلماء الأعلام من المسلمين لم يكونوا يشتغلون بعلم الفلك كما زعمه الصواف, وإنما كان يشتغل به الفلاسفة والمنجمون الذين هم من أبعد الناس عن العلوم الشرعية النافعة. وهذا كان في الأزمان السابعة, فأما في الأزمان الأخيرة, فأكثر من يعتني به ويشتغل فيه فلاسفة الإفرنج. وأقوالهم فيه وتخرصاتهم وظنونهم الكاذبة هي التي أودعها الصواف في كتابه وزعم أنه يساهم بها في بث الوعي الإسلامي. فهم علماء الصواف وأعلامه الذين سأل الله أن يرضى عنهم ويرضيهم.

وقال الصواف في صفحة 117 - 118 ما نصه:

وهذا العلم - يعني علم الفلك - يبعث الإيمان ويزيده, ويدعو إلى تعميق جذوره في قلب الإنسان. وقديما قد قيل أن أشد الناس إيمانا بالله هم علماء الطب وعلماء الفلك, لأنهم يرون من عجائب صنع الله ما لا يراه غيرهم.

والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: إن علم الفلك لا يخلو في الغالب من تعاطي علم الغيب كما يفعله المنجمون في قديم الدهر وحديثه وكما هو شأن أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم من فلاسفة الإفرنج المتأخرين, فإن غالب أقوالهم في الأجرام العلوية من اتباع الظن والرجم بالغيب. وما كان كذلك فهو مما يبعث على الإيمان بالجبت والطاغوت ويزيده ويدعو إلى تعميق جذوره في قلوب المفتونين به. وكتاب الصواف في علم الفلك من هذا القبيل, لأنه مملوء من تعاطي علم الغيب فهو مما يبعث على الإيمان بالجبت والطاغوت ويزيده ويدعو إلى تعميق جذوره في قلوب الجهال. وما كان من علم الفلك خاليا من تعاطي علم الغيب, فهو قليل الجدوى يصد المشتغل به عما هو أهم منه من العلوم النافعة.

الوجه الثاني: أن يقال: إن العلم الذي يبعث على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما وعد الله به أولياءه من جزيل الثواب, وما توعد به أعداءه من وبيل العذاب هو علم الكتاب والسنة, فهو العلم النافع على الحقيقة قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى:

{فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.

وفي الحديث الصحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه, قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد, ألا أيها الناس, فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب, وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه» الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم.

وفي رواية لمسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل».

وفي رواية له أخرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا وأني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة».

وروى مسلم أيضا وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم عرفة: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله» ورواه الترمذي بنحوه مختصرا.

وروى مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله».

وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع - فذكر الحديث وفيه أنه قال: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه» صححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنة نبيه, ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض».

وروى الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه عن أي: شريح الخزاعي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا» قال المنذري: إسناد الطبراني جيد. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

وروى الطبراني أيضا في الكبير والصغير, والبزار من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.

وروى أبو عبيد القاسم بن سلام وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه» ورواه الطبراني والبغوي بنحوه موقوفا

وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله هو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم» الحديث قال الترمذي: غريب.

وإذا علم ما ذكرنا من الآيات والأحاديث, فلا يعرض عن علم الكتاب والسنة ويشتغل بعلم الفلك, ويزعم أنه يبعث الإيمان ويزيده ويدعو إلى تعميق جذوره في قلب الإنسان إلا من هو من أجهل الناس, وأبعدهم عن تحصيل العلم النافع, ومعرفة الفرق بينه وبين الجهالات والضلالات الضارة.

الوجه الثالث: أن يقال لو كان ما زعمه الصواف ههنا صحيحا لكان أطباء اليونان والإفرنج وفلاسفتهم الفلكيون من أعظم الناس إيمانا بالله. والواقع شاهد ببطلان هذا القول وكذب من قاله لما عليه أطباء اليونان والإفرنج وفلاسفتهم من الكفر العظيم. وكذلك الأطباء والفلكيون من سائر أمم الكفر والضلال.

الوجه الرابع: أن يقال: لو كان علم الفلك يبعث الإيمان ويزيده ويدعو إلى تعميق جذوره في قلب الإنسان لكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص عليه من غيرهم, فإنهم كانوا أحرص على الخير, وتحصيل العلم النافع ممن كان بعدهم. وقد كان بعضهم يسافر مسيرة الشهر وأكثر من ذلك في طلب الحديث الواحد, وكذلك التابعون وتابعوهم بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم, فإنهم كانوا يسافرون إلى الأقطار البعيدة في طلب العلوم النافعة ومع هذا لم يكونوا يشتغلون بعلم الفلك ولا ينظرون فيه. ولو كان فيه أدنى منفعة لما كان الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان يهملونه.

وأما قوله: وقديما قد قيل: إن أشد الناس إيمانا بالله هم علماء الطب وعلماء الفلك.

فجوابه أن يقال: لقد أخطأ من قال: هذا القول الباطل خطأ كبيرا وأخطأ من أورده في كتابه مقررا له {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.

وهذا القول الباطل لا يصدر من رجل يعلم ما يقول؛ لأنه يقتضي تفضيل الأطباء والفلكيين على النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهذا خلاف الكتاب والسنة وخلاف ما عليه المسلمون كافة. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ولو كان الأمر على ما زعمه الصواف لكان يجعل المطيعين لله والرسول مع الأطباء والفلكيين.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} والصديقون هم أعظم أتباع الرسل إيمانا بالله. ولو كان الأمر على ما زعمه الصواف لقال والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الأطباء والفلكيون.

وقال تعالى في سورة الأنعام بعد ما ذكر جملة من الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ولو كان الأمر على ما زعمه الصواف لكان يأمر بالاقتداء بالأطباء والفلكيين.

وروى الإمام أحمد عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله, شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه».

وروى الإمام أحمد أيضا عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ألئك رفيقا إن شاء الله».

وروى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين الشهداء» قال الترمذي: هذا حديث حسن.

ولو كان الأمر على ما زعمه الصواف, لقال عن هؤلاء المذكورين في هذه الأحاديث: إنهم يكونون يوم القيامة مع الأطباء والفلكيين.

وإذا علم ما ذكرنا من الآيات والأحاديث, فليعلم أيضا أنه لا خلاف بين المسلمين أن أعظم الناس إيمانا بالله الأنبياء ثم الصديقون ثم الناس بعد ذلك متفاوتون في كثرة الإيمان وقلته. والأطباء والفلكيون المنتسبون إلى الإسلام هم من أقل الناس حظا من الإيمان كما لا يخفى على من تتبع أخبارهم وسبر أحوالهم. وأما الأطباء والفلكيون من غير المسلمين فهم من أكفر الناس. أما أطباء اليونان وفلاسفتهم الفلكيون في قديم الدهر فكانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب. وأما أطباء الإفرنج وفلاسفتهم الفلكيون فهم ما بين دهري وعابد صليب. فأي إيمان بالله عند هؤلاء الإفرنج وأولئك اليونان فضلا عن شدة الإيمان التي تفوق إيمان الرسل فضلا عن غيرهم من الناس؟ وأنه ليصدق على الصواف قول القائل:

لقد كان في الأعراض ستر جهالة ... غدوت بها من أشهر الناس في البلد

والغالب على الفلكيين من فلاسفة الإفرنج الإيمان بالجبت والطاغوت لما في كثير من كلامهم من التحكم على الغيب وتصديق من يدي علم المغيبات من الأجرام العلوية وغيرها, وقد ذكر الصواف في رسالته شيئا كثيرا من دعاويهم الكاذبة في ذلك, وقد نبهت عليها في مواضعها, ولله الحمد والمنة. ومن كانوا كذلك فالمطابق لأحوالهم على الحقيقة أن يوصفوا بشدة الإيمان بالجبت والطاغوت, لا بشدة الإيمان بالله.

وأما قوله: لأنهم يرون من عجائب صنع الله ما لا يراه غيرهم.

فجوابه أن يقال: إن رؤية أعداء الله من الأطباء والفلكيين وغيرهم من الكفار لعجائب صنع الله لم تنفعهم شيئا, كما قال الله تعالى فيهم وفي أشباههم: {وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

وأما الأطباء والفلكيون المنتسبون إلى الإسلام فانتفاعهم بما يرونه من عجائب صنع الله أقل من انتفاع غيرهم من المسلمين. ويدل على ذلك ما هم عليه من التهاون ببعض المأمورات, ولاسيما الصلاة وارتكاب كثير من المنهيات, ولو كان إيمانهم قويا لكانوا يحافظون على فعل المأمورات. ويبعدون عن فعل المنهيات.

وقد انبرى أبو الأعلى المودودي وعلي الطنطاوي لمؤازرة الصواف, وتأييد ما نشره من الأقوال الباطلة, فصارا شريكين له في كل ما نشره في كتابه مما هو مخالف لمدلول الكتاب والسنة والإجماع.

وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}

وفي المسند وصحيح مسلم والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

قال النووي: سواء كان ذلك الهدي أو الضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقاً إليه. انتهى.

وروى الطبراني وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعان ظالما بباطل ليدحض به حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله».

ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر

وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور

فطن لكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر

فأما المودودي فقد ابتدأ كلامه بإطراء الصواف, ومجاوزة الحد في مدحه, وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على المداحين, وأمر أن يُحثى في وجوههم الترابُ. وقد ذكرت الأحاديث في ذلك قريبا عند ذكر مدح المحاسني للصواف, فلتراجع.

وفي كلامه أيضاً أخطاء كثيرة سأذكرها, واتبعها بالرد إن شاء الله تعالى.

فمن أخطائه قوله في رسالة الصواف: إنها قيمة.

والجواب أن يقال: هذا كلام لا يصدر إلا من رجل قد التبست عليه الحقائق حتى صار يرى الباطل في صورة الحق. وكيف تكون رسالة الصواف قيمة, وهو قد حشاها بتخرصات الإفرنج وظنونهم الكاذبة ورجمهم بالغيب عما لا يعلمونه. وفيها أيضا الشيء الكثير من القول على الله, وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين بغير علم. وفيها أيضا تعظيم أعداء الله تعالى من الكفرة الفجرة والمبالغة في الثناء عليهم والدعاء لهم بالرحمة والرضا. فهي بلا شك رسالة تهور وجهل وضلال. ومن استحسنها ورأى أنها رسالة قيمة فأحسن الله عزاءه في علمه وعقله. ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

وأحسن من هذا وأبلغ قول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}.

ومن أخطائه أيضا قوله في الصواف: إنه أقام بمكة؛ ليبلغ رسالة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.

والجواب أن يقال: ليس الأمر, كما زعمه المودودي, فإن الصواف لم يقم بمكة؛ ليبلغ رسالة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها, وإنما أقام بها؛ ليأخذ المرتبات الضخمة لا غير.

ويقال أيضا: إن الصواف لم يبلغ رسالة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها, وإنما بلغ فيها ما يخالف الكتاب والسنة والإجماع من تخرصات فيثاغورس اليوناني وتخرصات أتباعه من فلاسفة الإفرنج المتأخرين وظنونهم الكاذبة ورجمهم بالغيب عن السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم, فهذا هو الذي نشره الصواف وبثه في مشارق الأرض ومغاربها وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}.

ومن أخطائه أيضا قوله: إن الذي ورد في كتاب الله تعالى في بعض آياته عن الأمور الكونية لم يرد ليعلم الإنسان علم الطبيعة. وإنما ورد ليلفت نظر الإنسان إلى ما في آيات الله الكونية من دلائل قاطعة وحجج دامغة على توحيد الله تعالى والبعث بعد الموت.

والجواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق العالم كله علويه وسفليه وأودع فيه من عجائب قدرته وبديع إتقانه ما أودع, وليس شيء من ذلك من فعل الطبيعة كما يزعمه أهل الجهل بالله. وإذا لم يكن شيء من ذلك من فعل الطبيعة, فأي بعلم يتعلق بها أو ينسب إليها.

والذي ورد في كتاب الله تعالى عن الأمور الكونية كله حق يجب الإيمان به واعتقاد أنه هو الحق وما خالفه فهو باطل.

وبما ورد في كتاب الله تعالى عن الأمور الكونية يستدل المسلم على عظمة الخالق جل جلاله وعظيم إنعامه على خلقه حيث سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. ومن ذلك تسخيره للشمس والقمر يجريان دائبين لقيام معايش العباد ومصالحهم.

وقد جعل المودودي هذه المقدمة التي ذكرنا عنه تمهيداً لمنع الاستدلال على جريان الشمس ودورانها حول الأرض بالآيات التي فيها النص على جريانها وطلوعها ودلوكها وتزاورها وغروبها, وأن الله يأتي بها من المشرق, وأنها تجري لمستقرها الذي أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه؛ لمنع الاستدلال أيضا على سكون الأرض وثباتها بما أخبر الله به من إلقاء الرواسي فيها, وجعلها أوتادا لها, وهذا خطأ كبير. وكيف يترك الاستدلال بكلام الله تعالى على جريان الشمس حول الأرض ويستدل بتخرصات أعداء الله وظنونهم الكاذبة على سكونها وثباتها أو ما يزعمه بعضهم من دورانها على محورها.

وكيف يترك الاستدلال على سكون الأرض, وثباتها بما أخبر الله به من إلقاء الرواسي فيها, وجعلها أوتاداً لها, وجعلها قرارا للمخلوقات. ويستدل على دورانها حول نفسها وحول الشمس بتخرصات أعداء الله وظنونهم الكاذبة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}.

ولا يعرض عن كلام الله والاستدلال به على ما أخبر الله به عن الأمور الكونية, ويرى أن الحق فيما زعمه أعداء الله من تخرصاتهم وظنونهم الكاذبة إلا من هو مصاب في دينه وعقله. اللهم إنا نعوذ بك من زيغ القلوب وانتكاسها.

ومن أخطائه أيضا قوله: إن القرآن لم ينتهج لذكره أسلوبا يصطدم مع علوم الإنسان في عصر من العصور اصطداماً صريحا يحول بين الإنسان, وبين إيمانه بالله تعالى وبكتابه ولأجل ذلك لم يصرح القرآن بصورة قاطعة من آية من آياته بدوران الأرض وثبوت الشمس أو ثبوت الأرض وجريان الشمس حولها.

والجواب أن يقال: أما العلوم الصحيحة من علوم الإنسان, فإن القرآن لا يصادمها وإنما يصادم الأقوال الباطلة والتخرصات والظنون الكاذبة.

ومن الأقوال الباطلة والتخرصات والظنون الكاذبة التي يصادمها القرآن ويشهد ببطلانها ما زعمه فيثاغورس اليوناني وتبعه عليه أهل الهيئة الجديدة من فلاسفة الإفرنج المتأخرين وما تخرصوه في قولهم: إن الشمس ثابتة وأن الأرض تدور حولها.

والسنة أيضا تصادم هذا القول الباطل وتشهد ببطلانه.

وقد ذكرت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على ثبات الأرض وجريان الشمس حولها في أول الصواعق الشديدة, فلتراجع هناك. وذكرت أيضا إجماع المسلمين, وأهل الكتاب على القول بوقوف الأرض وسكونها, فليراجع أيضا.

ومن الأقوال الباطلة التي يصادمها القرآن والسنة إنكار أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم من العصريين وجود السموات السبع وزعمهم أن سعة الجو غير متناهية. وزعمهم تعدد الشموس والأقمار إلى غير ذلك من أقوالهم الباطلة التي يصادمها القرآن والسنة. وقد ذكرت في الصواعق الشديدة تسعة عشر مثالا منها, فلتراجع هناك.

وقد ذكر الصواف في رسالته التي وافقه المودودي عليها شيئا كثيراً من تخرصات أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم في الأرض والسموات والشمس والقمر والنجوم, وزعم أن ذلك من علوم المسلمين في الفلك. وكلها أقوال باطلة يصادمها القرآن والسنة. وقد نبهت على كل جملة منها في موضعها من هذا الرد, ولله الحمد والمنة. وفي كل موضع من تلك المواضع رد على المودودي في زعمه أن القرآن لم ينتهج لذكره أسلوبا يصطدم مع علوم الإنسان في عصر من العصور.

وأما قوله: إن القرآن لم يصرح بصورة قاطعة من آية من آياته بدوران الأرض وثبوت الشمس.

فجوابه أن يقال: هذا صحيح فليس في القرآن ما يدل على دوران الأرض وثبات الشمس البتة.

وقد استدل الصواف وغيره من العصريين على ما زعموه من دوران الأرض بآيات زعموا أنها تدل على ذلك, ولا دليل في شيء منها على دوران الأرض ولكنهم تأولوها على غير تأويلها وذلك من الإلحاد في آيات الله تعالى وتحريف الكم عن مواضعه. وقد ذكرت ما استدلوا به من الآيات والرد عليهم في الصواعق الشديدة, فليراجع هناك.

وأما زعمه أن القرآن لم يصرح بصورة قاطعة من آية من آياته بثبوت الأرض, وجريان الشمس حولها.

فجوابه أن يقال: هذا خطأ وقول بلا علم, فقد جاء التصريح بجريان الشمس في خمسة مواضع من القرآن. وصرح في الآية من سورة يس أن الشمس تجري لمستقر لها. وسيأتي تفسير ذلك بما في الحديث الصحيح إن شاء الله تعالى. وصرح في آيتين أنها تسبح في الفلك.

قال الراغب الأصفهاني السبح المر السريع في الماء وفي الهواء يقال: سبح سبحا وسباحة واستعير لمر النجوم في الفلك نحو: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ولجري الفرس نحو: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} ولسرعة الذهاب في العمل نحو: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} انتهى.

وروى ابن أبي حاتم عن الضحاك: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: الفلك السرعة والجري في الاستدارة, ويسبحون يعملون.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: يريد أن لفظ الفلك يدل على الاستدارة, وعلى سرعة الحركة, كما في دوران فلكة المغزل ودوران الرحى.

وقال الشيخ أيضا: ولفظ الفلك في لغة العرب يدل على الاستدارة. قال الجوهري: فلكة المغزل سميت بذلك لاستدارتها والفلكة قطعة من الأرض أو الرمل تستدير وترتفع على ما حولها والجمع فلك. وقال: ومنه قيل: فلك ثدي الجارية تفليكا وتفلك استدار.

قال الشيخ: قلت: والسباحة تتضمن الجري بسرعة, كما ذكر ذلك أهل اللغة. انتهى.

وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} قال أهل اللغة: الدأب إدامة السير والمبالغة فيه.

وفي هذه الآية أوضح دليل على أن الشمس تجري وتدور على الأرض لقيام معايش العباد ومصالحهم.

وقال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَاتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

وفي هذه الآية أوضح دليل على سير الشمس ودورانها على الأرض.

ونص تبارك وتعالى على طلوعها وغروبها في عدة آيات من القرآن.

ونص أيضا على دلوكها وهو زوالها عن وسط السماء وعلى تزاورها. وفي كل آية من هذه الآيات التي أشرت إليها أوضح دليل على جريان الشمس ودورانها على الأرض. وقد ذكرت هذه الآيات وغيرها من الآيات الدالة على سير الشمس ودورانها على الأرض في أول الصواعق الشديدة, فلتراجع هناك.

وذكرت أيضا الآيات التي تدل على ثبات الأرض واستقرارها, فلتراجع أيضا ففي كل ما ذكرته هناك أبلغ رد على المودودي في زعمه أن القرآن لم يصرح بصورة قاطعة من آية من آياته بثبوت الأرض وجريان الشمس حولها.

وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة تدل على سير الشمس ودورانها على الأرض. وأحاديث أخرى تدل على ثبات الأرض واستقرارها, وقد ذكرتها في الصواعق الشديدة, فلتراجع أيضا ففيها أبلغ رد على المودودي في زعمه أن القرآن لم يصرح بصورة قاطعة بثبوت الأرض وجريان الشمس حولها.

وما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما صرح به القرآن قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

وقد ذكرت في الصواعق الشديدة أيضا إجماع المسلمين على القول بوقوف الأرض وسكونها, وإجماع المسلمين حجة قاطعة, لقول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

ومن أخطائه أيضا قوله: أما قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} فليس معنى ذلك أن الشمس تدور حول الأرض بل معناه أن الشمس سارية إلى مستقرها الذي لا يعلمه الإنسان، وهذا المدلول لا يعارضه علم الهيئة في العصر الحاضر.

والجواب أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فسر هذه الآية الكريمة في الحديث الصحيح فلم يدع لقائل مقالا.

فروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود الطيالسي والترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: «تدري أين تذهب» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد, فلا يقبل منها وتستأذن, فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}» هذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم قال: ثم قرأ في قراءة عبد الله. وذلك مستقر لها. وللترمذي نحوه وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وفي رواية لمسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوما: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت, فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش, فيقال لها: ارجعي ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون متى ذاكم. ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً».

وفي هذا الحديث الصحيح أوضح دليل على أن الشمس تجري وتدور على الأرض, وفيه التصريح بأنها تنتهي إلى مستقرها تحت العرش كل ليلة فتسجد حينئذ وتستأذن في الطلوع فيؤذن لها حتى إذا كان في آخر الزمان أمرت بالطلوع من مغربها.

وفيه رد على المودودي حيث زعم أن الشمس سارية إلى مستقرها الذي لا يعلمه الإنسان. يعني أنها لا تزال سارية إلى مستقرها ولم تصل إليه بعد. وكأنه والله أعلم قد اعتمد على كلام العصريين المفتونين بتخرصات الإفرنج وظنونهم الكاذبة, فقد نقل الصواف في صفحة 63 عن قطب أنه قال: والله يقول: إنها تجري لمستقر لها. هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه ألا هو سبحانه ويعلم موعده سواه انتهى.

فكلام المودودي شبيه بكلام قطب وهما ومن قال بقولهما من العصريين كلهم عيال على فلاسفة الافرنج المتأخرين. فقد ذكر الصواف عنهم في صفحة 38 أنهم قالوا: إن النظام الشمس ينهب الفضاء نهباً متجهاً نحو برج هر كيوليس.

وذكر أيضا في صفحة 43 عن الفلكي الجاهل (سيمون) أنه قال: إن الشمس والكواكب السيارة وأقمارها تجري في الفضاء نحو برج النسر بسرعة غير معهودة لنا على الأرض يكفي لتصويرها أننا لو سرنا بسرعة مليون ميل يوميا, فلن تصل مجموعتنا الشمسية إلى هذا البرج إلا بعد مليون ونصف مليون سنة من وقتنا الحاضر. انتهى هذيانه.

وهذه التخرصات والظنون الكاذبة مردودة بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من انتهاء الشمس إلى مستقرها تحت العرش كل ليلة وسجودها حين تنتهي إليه, واستئذانها في الطلوع وأنه يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت, فتصبح طالعة من مطلعها إلى آخر الحديث الذي تقدم ذكره.

وقد تقدم في أول الكتاب الجواب عما لعله يورده بعض الناس على هذا الحديث من كون الشمس لا تزال طالعة على الأرض, فليراجع مع الكلام على ما زعمه الصواف من حركة الأرض.

وأما قول المودودي أن مستقر الشمس لا يعلمه الإنسان.

فجوابه أن: يقال قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم التي تقدم ذكرها أن مستقرها تحت العرش وأنها تنتهي إليه كل ليلة, فتسجد حينئذ, وتستأذن في الطلوع.

وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}. قال: «مستقرها تحت العرش»

وأما قوله وهذا المدلول لا يعارضه علم الهيئة في العصر الحاضر.

فجوابه أن يقال: أما تأويله للآية على ما يوافق تخرصات سيمون وأمثاله من فلاسفة الإفرنج الذي نقل عنهم الصواف في صفحة 38 و 43 ما نقل فهو كما قال لا يعارض جل الهيئة في العصر الحاضر بل يوافقه. وأما على التأويل التصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي ذر رضي الله عنه فمدلول الآية يعارض جهل أهل الهيئة في العصر الحاضر ويرده).

وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آياته محرف للكلم عن مواضعه. انتهى.

وإذا كان المخالف لتفسير الصحابة والتابعين متصفا بهذه الصفات الذميمة؛ فالمخالف لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى وأحرى أن يكون متصفا بها.

ومن أخطائه أيضا قوله: إن القرآن لم يصرح في آية من آياته بكون الأرض ثابتة ساكنة وكون الشمس دائرة حولها.

والجواب عن هذا الخطأ قد تقدم قريبا, فليراجع.

ومن أكبر أخطائه أيضا قوله: إن الإنسان في القرون الماضية كان يفسر الرواسي والأوتاد في نطاق معرفته وحسب علمه بالأمور الكونية آنذاك.

ويحق له أن يفسرها اليوم في ضوء ما اكتشفه من الأمور الكونية.

والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال أن العلماء في القرون الماضية كانوا أعلم بالأمور الكونية من جهلة العصريين المفتونين بتقليد فلاسفة الإفرنج والعض على تخرصاتهم وظنونهم الكاذبة بالنواجذ.

وتفسر العلماء في القرون الماضية للرواسي والأوتاد بما يقتضي وقوف الأرض وثباتها هو التفسير الصحيح, كما تدل على ذلك لغة العرب. وهم إنما يعتمدون في تفاسيرهم على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. ثم على ما جاء عن التابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم. ثم على لغة العرب التي نزل القرآن بها. وأما العصريون فكثير منهم قد جعلوا القرآن ملعبة لهم يتأولونه على غير تأويله ويحملونه على ما يوافق تخرصات الإفرنج وظنونهم الكاذبة.

الوجه الثاني: أن يقال: إن تفسير العلماء في القرون الماضية للرواسي والأوتاد بأنها وضعت على الأرض لإرسائها وتثبيتها ينافي تفسير العصريين من أتباع أهل الهيئة الجديدة وقولهم: إنها إنما وضعت على الأرض لتحفظ عليها توازنها مع دورانها على نفسها وعلى الشمس.

والذي يظهر من كلام المودودي أنه كان يذهب إلى تغليط الذين فسروا الرواسي والأوتاد بأنها وضعت على الأرض لإرسائها وتثبيتها ويرى أن الصواب في قول العصريين الذين فسروها في ضوء ما اكتشفه لهم فلاسفة الإفرنج المتأخرون من الأمور الكونية. وهذه إحدى الكبر من المودودي لما يلزم على قوله هذا من تغليط النبي صلى الله عليه وسلم وتغليط علي وابن عباس رضي الله عنهم وغير واحد من التابعين وكثير من أئمة المفسرين الذين قرروا في تفاسيرهم وقوف الأرض وثباتها وأنها قد أرسيت بالجبال وجعلت الجبال أوتاداً لها.

وقد ذكرت في الوجه الأول أن هذا هو التفسير الصحيح.

والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تمتد, فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت».

وهذا نص في استقرار الأرض وسكونها. قال في القاموس وشرحه: قر بالمكان يقر بالكسر والفتح قراراً وقروراً وقراً وتقرة ثبت وسكن فهو قار كاستقر وتقار وهو مستقر. انتهى.

وروي ابن جرير عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق علي آدم وذريته يلقون علي نتنهم ويعملون علي الخطايا فأرساها بالجبال فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون).

وروى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن الجبال لتفخر على الأرض بأنها أثبتت بها).

وقال وهب لما خلق الله الأرض جعلت تمر فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال, فلم تدر الملائكة مِمَّ خلقت الجبال.

وروي عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن نحوه.

وروي سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد نحو ذلك أيضا.

وكلام المفسرين في تفسير الرواسي والأوتاد بأنها وضعت على الأرض لإرسائها وتثبيتها كثير موجود في تفاسيرهم. وقد ذكرت جملة من ذلك في أول الصواعق الشديدة, فلتراجع هناك.

وإذا علم ما ذكرنا فالمودودي بين خطتين لا بد له من إحداهما. إما أن يقول بتغليط النبي صلى الله عليه وسلم حيث نص على استقرار الأرض لما ألقيت الجبال عليها. وتغليط علي وابن عباس رضي الله عنهم ومن ذكر بعدهم من التابعين ومن أشرنا إليهم من أئمة المفسرين الذين قرروا أن الرواسي إنما وضعت على الأرض وجعلت أوتاداً لها لتثبتها وتمنعها من الحركة.

وإما أن يرجع عن قوله: إنه يحق للإنسان أن يفسر الرواسي والأوتاد في ضوء ما اكتشفه من الأمور الكونية. وما قبله من الكلام الذي يفهم منه تجهيل من فسر الرواسي والأوتاد بأنها وضعت على الأرض لإرسائها وتثبيتها وأن نطاق معرفتهم وعلمهم بالأمور الكونية كان قاصرا عن نطاق معرفة أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم ومقلديهم من جهلة العصريين وعلمهم بالأمور الكونية.

الوجه الثالث: أن ما يزعمه فلاسفة الإفرنج من اكتشاف حركة الأرض ودورانها على نفسها وعلى الشمس. وما يزعمونه أيضا من الاكتشافات عن الشمس وثباتها وعن القمر والنجوم فكلها تخرصات وظنون كاذبة {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} وتسميتها ضوءًا من قلب الحقيقة. ومن قال: إنه يحق للإنسان أن يفسر شيئا من القرآن على ما يوافقها فقد فتح للملحدين باب الإلحاد في آيات الله وأغرى المحرفين للكلم عن مواضعه على التحريف.

وليعلم أن القول في القرآن بمجرد الرأي حرام شديد التحريم وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار» هذا لفظ ابن جرير وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وروى الترمذي أيضا أبو داود وابن جرير والبغوي عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» قال الترمذي: هذا حديث غريب. قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم. وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم. وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم.

ثم روى بإسناده عن قتادة أنه قال: ما في القرآن آية ألا وقد سمعت فيها شيئا. وروي أيضا بإسناده عن مجاهد أنه قال: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. انتهى كلام الترمذي.

وقال البغوي: قال شيخنا الإمام: قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن براية وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئاً من غير علم. قال: وأما التفسير وهو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها, فلا يجوز إلا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل. انتهى.

وقد تقدم قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين, فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه. انتهى.

 

 

  • الاربعاء PM 10:36
    2022-05-25
  • 841
Powered by: GateGold