المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412547
يتصفح الموقع حاليا : 352

البحث

البحث

عرض المادة

نموذجان حَيّان للمزاجية في تفسير النصوص الشرعية

ليس من الإنصاف للحقيقة أن يعطي المرء رأيه في مسألة دون نقاشها أو دراستها، إذ إنّ الحقائق تعرف بالدراسة والبحث لا بالعاطفة والأحاسيس والكشف الصوفي، ولذا آليت على نفسي أن أقرأ أهم ما استدل به الشيعة الإثنا عشرية على ردة الصحابة وانقلابهم على أعقابهم ثم أسطّر بعد ذلك الحقيقة التي خرجت بها من ذلك البحث.

[أ - آية آل عمران]

استدل الشيعة الإثنا عشرية بقول الله تعالى في كتابه العزيز {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ. وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين} (1)

وادّعى التيجاني (2) أنّ هذه الآية صريحة في الدلالة على انقلاب الصحابة بعد رسول الله وعدّ الصحابة المنقلبين على أعقابهم هم الكثرة الغالبة من الصحابة فيما ثبت من الصحابة قلة قليلة وهي الفئة التي ترى الشيعة الإثنا عشرية ثبوتها على الإسلام.

ويطبّق التيجاني ومن سبقه إلى هذا الفهم من علماء الشيعة هذه الآية على ما حصل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة السقيفة بانتخاب أبي بكر خليفة المسلمين!!

ولي مع هذه الدعوى وقفات أقول فيها:


(1) سورة آل عمران آية 143 - 144
(2) ثم اهتديت ص114

أولاً: لقد نصت كتب التفسير عند أهل السنة وكذا كتب التاريخ وبعض كتب الشيعة الإثني عشرية على أنّ هذه الآية قد نزلت في واقعة محددة وهي (غزوة أحد)، فما الذي حوّلها إلى سقيفة بني ساعدة وإلى الصراع السني الشيعي الإثني عشري؟!

وكأنّ التيجاني وكُتّاب الشيعة المعاصرين لم يقرأوا ما قاله المفسر الشيعي محمد جواد مغنية في تفسيره الكاشف من أنّ الآية تشير (إلى واقعة معينة وهي وقعة أحد) (1) أو ما قاله آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل): (سبب النزول أنّ الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أخرى من حوادث معركة أحد، وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أنّ محمداً قد قتل) (2).

وقد كانت لموقعة أحد ظروفها الخاصة وملابساتها ولذلك جاءت الآيات الكريمات في سورة آل عمران وفقاً لتلك الظروف والملابسات، واستخدام الآية الكريمة للاستدلال على وقائع أخرى كحادثة السقيفة أو موقعة الجمل لا يخلو من غرابة ومن مزاجية.

فالاستدلال بها على قضية الإمامة أو حادثة السقيفة أو موقعة الجمل استدلال مزاجي، لا يمتّ للمنهجية العلمية بصلة.

ثانياً: تعتبر هذه الآية من أكبر الدلائل على عظم إيمان أبي بكر وحكمته وتفانيه في الدفاع عن دين الله، فموقفه الثابت يوم أن تُوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير شاهد على ذلك


(1) الكاشف 2/ 169
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 2/ 717

يوم أن وقف وقفته الثابته مخاطباً الناس بعد ما أصابهم الوهن والضعف على فقد رسول الله فقال: (إنّ الله عز وجل يقول {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون} (1) ويقول ({وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين} (2) فمن كان يعبد الله عز وجل، فإنّ الله عز وجل حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات).

وموقفه الصارم من الذين ارتدوا على أعقابهم واستبدلوا الإيمان بالكفر فاتبعوا مسيلمة وسجاح وطليحة بن خويلد والأسود العنسي وأمثالهم، ومن الذين قالوا نصلّي ولا نزكّي فأسقطوا شعائر الإسلام بالهوى لأروع مثال على عظمة أبي بكر والصحابة وعلى حرصهم على الدين.

وقد روى الطوسي في "الأمالي" ما يؤكد هذه الحقيقة:

فعن إبراهيم أنه قال: ارتد الأشعث بن قيس وناس من العرب لما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: نصلّي ولا نؤدي الزكاة، فأبى عليهم أبو بكر ذلك، وقال: لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولا أنقصكم شيئاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأجاهدنكم، ولو منعتموني عقالاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وآله لجاهدتكم عليه ثم قرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل} حتى فرغ من الآية ...) (3).


(1) سورة الزمر آية 30
(2) سورة آل عمران آية 144
(3) أمالي الطوسي ص262 حديث رقم (480) وبحار الأنوار 28/ 11

علّق المجلسي على هذه الرواية قائلاً: (قال ابن طاووس: ذكر العباس بن عبد الرحيم المروزي في تاريخه (لم يلبث الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طوائف العرب إلا في أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف، وارتد ساير الناس ثم قال: ارتدت بنو تميم والرباب واجتمعوا على مالك بن نويرة اليربوعي وارتدت ربيعة كلها وكانت لهم ثلاثة عساكر: عسكر باليمامة مع مسيلمة الكذّاب، وعسكر مع معرور الشيباني، وفيه بنو شيبان وعامة بكر بن وائل، وعسكر مع الحطيم العبدي، وارتد أهل اليمن، ارتد الأشعث بن قيس في كندة، وارتد أهل مأرب مع الأسود العنسي، وارتدت بنو عامر إلا علقمة ابن علاثة) (1).

فقد (ارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس، قوم ارتدوا عن الدين بالكلية وقوم ارتدوا عن بعضه، فقالوا: لا نصلّي ولا نزّكي، وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذّابين كمسيلمة الكذّاب وطليحة الأسدي وغيرهما، فقام إلى جهادهم الشاكرون الذين ثبتوا على الدين، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار والطلقاء والأعراب ومن اتبعهم بإحسان، الذين قال الله عز وجل فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} (2) هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئاً.

وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم، وسيعمل بها آخرون، فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين، الذين يحبهم الله – عز وجل – ورسوله، فإنه يجاهد المنقلبين على


(1) بحار الأنوار 28/ 12
(2) سورة المائدة آية 54

أعقابهم، الذين يخرجون عن الدين، ويأخذون بعضه ويدعون بعضه كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين، الذين خرجوا على أهل الإسلام، وتكلم بعضهم بالشهادتين، وتسمّى بالإسلام من غير التزام شريعته) (1).

لكن ما حيلتنا مع من يجادل عن بعض أصناف أهل الردة ويتأول لهم قائلاً بأنّ اتفاقهم على منع الزكاة لا يعني ردتهم في حين لا يجد أي حرج في توجيه السهام إلى أبي بكر والصحابة الذين انتصروا للإسلام وثبتوا على دين الله بعد خذلان أكثر الناس له والطعن فيهم والقول بردتهم وانقلابهم على أعقابهم من أجل عدم إعطائهم الخلافة لعلي!

إنّ هؤلاء العاذرين لا يجهلون عظم فريضة الزكاة التي قرنها الله بالصلاة مراراً في القرآن بل يجهلون حتى أحاديث أهل البيت التي بينت بكل وضوح أنّ ما فعله أبو بكر تجاه مانعي الزكاة هو عين الصواب، وأنّ فعله ذاك علامة فقهه رضي الله عنه.

روى الكليني في الكافي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله عز وجل {رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَاءِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} (2) وفي رواية (لا تقبل له صلاة) (3).

وعنه أيضاً عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً (4).


(1) مجموع الفتاوى 14/ 227 و28/ 227
(2) سورة المؤمنون آية 99 - 100
(3) الكافي- كتاب الزكاة- (باب منع الزكاة) - حديث رقم (3).
(4) المصدر نفسه – حديث رقم (14).

وعنه أيضاً عن الإمام محمد الباقر أنه قال: (إنّ الله عز وجل قرن الزكاة بالصلاة، فقال {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاة} (1) فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يُقم الصلاة) (2).

فأين هذه الأحاديث الواضحة وكذا فعل الإمام علي الذي وقف جنباً إلى جنب مع الخليفة الراشد أبي بكر الصديق في تلك المحنة من التيجاني وشرف الدين الموسوي وفلان وفلان من أئمة وعلماء الشيعة الإثني عشرية الذين ما زالوا يدندون حول قضية قتال مانعي الزكاة محاولين تبرئة ساحتهم ورمي أبي بكر والصحابة بالمقابل بالأباطيل والردة!

أبو بكر ... ذاك الرجل الذي عاش قضية الإسلام فكانت شغله الشاغل، والذي يذكر ابن شهرآشوب في كتابه (متشابه القرآن) في تفسير قول الله عز وجل {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (فهذا عام في جميع المواضع ويدخل فيه سجدة الشكر بعد الصلاة، وقد سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أُتي برأس أبي جهل، وسجد علي لما وجدوا ذا الثدية، وسجد أبو بكر لما بلغه فتح اليمامة وقتل مسيلمة (3).

رجل يسجد شكراً لله وفرحاً بانتصار الإسلام وهلاك مدّعي النبوة مسيلمة، ومع ذلك يُتهم بالردة والانقلاب على عقبيه! ... يُتهم في عرضه وفي دينه وفي كل شيء!

أما الشعار الإيماني الذي قاتل تحت لوائه الصحابة مسيلمة ومن معه فيذكر النوري الطبرسي في "مستدرك الوسائل 11/ 113" عن الإمام علي بن الحسين أنه قال: كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مسيلمة (يا أصحاب سورة البقرة).

يا له من شعار ... ويا لعظمة أولئك الرجال.

أيها القارئ ... إنّ النصوص التي ذكرتها لك ودلت بمجموعها على تفاني هؤلاء الرجال في نصرة هذا الدين وعلى رأسهم الخليفة الراشد أبي بكر الصدّيق، إنما هي حقائق سطّرتها كتب الشيعة الإثني عشرية الذين احترفوا لعن هؤلاء الأخيار ووصفهم بالنفاق والردة وأبشع الأوصاف!

وإنّ المرء ليعجب من أولئك الذين يدّعون اتباع أئمة أهل البيت والتمسك بهديهم، أين هم عن مثل هذه الروايات؟ وأين أخلاقهم عن هذه الأخلاق الرفيعة التي تمثلها أهل البيت؟

لقد ضرب لنا الإمام أبو جعفر (محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب) أروع الأمثلة في سلامة الصدر من الحقد على المؤمنين الصادقين حين يمتدح أبا بكر الصدّيق ويُسمّيه بـ (الصدّيق) كما ذكر ذلك الأربلي في "كشف الغمة في معرفة الأئمة 2/ 360" عن عروة أنه قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف، فقال: لا بأس به، قد حلّى أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه سيفه، قلت: فتقول الصدّيق؟! قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة وقال: نعم، الصدّيق نعم، الصدّيق نعم، فمن لم يقل له الصدّيق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة).

فرحم الله الإمام أبا جعفر ... ورحم الله كلماته التي طوتها صحف الأمس ولم تنطق بها ضمائر اليوم.

ثالثاً: قد يجد من يريد الطعن في الصحابة أنّ حجته في تطبيق الآية الكريمة على مبايعة الناس أبا بكر على الخلافة غير منطقية، فيأتي للنص ليستخدمه كمطعن في أبي بكر والصحابة من خلال غزوة أحد نفسها.

 


(1) سورة البقرة آية 43
(2) الكافي- كتاب الزكاة- (باب منع الزكاة) – حديث رقم (23).
(3) متشابه القرآن 2/ 173

ولذلك أقول بياناً لأحداث تلك الغزوة: في إطار الحديث عن غزوة أحد التي نزلت بسببها تلك الآيات، أُشيع بعد هزيمة المسلمين التي كان السبب الجوهري فيها ترك الرماة لمواقعهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل.

فانقسم الناس بسبب هذه الصدمة المفاجئة إلى ثلاثة أقسام: قسم استمر على ما هو عليه كأبي بكر الصدّيق (1) وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وأبي دجانة والزبير بن العوام ورجال من المهاجرين والأنصار.

فحين توجهت السهام تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جهة من أرض القتال وأشيع في الجهات الآخرى مقتله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يدركوا ما كان يواجه رسول الله ومن معه في تلك الجهة، قام خمسة من الأنصار فقاتلوا دون رسول الله رجلاً رجلاً يُقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة بن زياد بن السّكن، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئة حتى أجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادنوه مني فأدنوه منه فوسّد قدمه، فمات وخدّه على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترّس دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثرت فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال


(1) يقول ابن أبي الحديد المعتزلي (الشيعي الغالي سابقاً) في "شرح نهج البلاغة 15/ 21": (ولم يختلف الرواة من أهل الحديث في أنّ أبا بكرلم يفر يومئذ وأنه ثبت فيمن ثبت، وإن لم يكن نُقل عنه قتل أو قتال، والثبوت جهاد وفيه وحده كفاية).

سعد: فلقد رأيته يناولني ويقول: ارم فداك أبي وأمي .. حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصل فيقول: ارم به! (1)

فأما طلحة بن عبيد الله فيكفيه شرفاً أن شُلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول قيس بن أبي حازم رضي الله عنه: (رأيت يد طلحة شلاّء، وقى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد). (2)

ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد وولّى الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية في اثني عشر رجلاً من الأنصار وفيهم طلحة بن عبيد الله فأدركهم المشركون، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من للقوم؟)، فقال طلحة: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال: أنت، فقاتل حتى قُتِل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا، فقال: أنت، فقاتل حتى قُتل، ثمّ لم يزل يقول ذلك ويخرج إليهم رجل من الأنصار فيُقاتل قِتال من قبله حتى يُقتل حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلحة بن عبيد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قِتال الأحد عشر حتى ضُربت يده فقُطعت أصابعه فقال: حسّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو قلت بِسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون) ثم ردّ الله المشركين) (3).


(1) تاريخ الطبري 2/ 66
(2) رواه البخاري-كتاب المغازي- باب {إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما} - حديث (4063).
(3) رواه النسائي- كتاب الجهاد - باب (ما يقول من يطعنه العدو) - حديث رقم (3151).

وحينما استعصى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صعود صخرة قعد طلحة ليصعد رسول الله عليه فيعتلي الصخرة، فعن الزبير رضي الله عنه أنه قال: (كان على النبي يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير: فسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أوجب طلحة) (1).

وقد أنزل الله عز وجل خلال تلك الفترة النعاس على المؤمنين وأبقى في قلوب المنافقين الرعب، يقول أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يمييد تحت حَجَفتِهِ من النعاس، فذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً}) (2).

ويتحدث عن الطائفة التي لم يغشها النعاس قائلاً: (والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق) (3).

وفي رواية ابن حبان (والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، أهل شك وريبة في أمر الله) (4).


(1) أخرجه الترمذي- كتاب الجهاد - باب (ما جاء في الدرع) - حديث رقم (1692) وأحمد في المسند 1/ 165 حديث رقم (1417) بسند حسن.
(2) أخرجه الترمذي- كتاب تفسير القرآن – باب (ومن سورة آل عمران) - حديث رقم (3007) وهو صحيح على شرط مسلم (راجع كتاب الصحيح المسند للوادعي- حديث رقم 366).
(3) أخرجه الترمذي-كتاب تفسير القرآن- باب (ومن سورة آل عمران) -حديث رقم (3008) بسند صحيح.
(4) صحيح ابن حبان - ذِكر أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه – حديث رقم (7180).

يقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" في تفسيره لقوله تعالى {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} (1): (يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ويقولون الأقاويل).

وقد كان الزبير بن العوام ممن غشيهم النعاس أمنة من الله وفضلاً، يقول الزبير رضي الله عنه: (لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اشتد الخوف علينا، فأرسل الله علينا النوم، فما منّا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم (لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا) فحفظتها، وفي ذلك أنزل الله {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب) (2).

أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن الثابت في التاريخ أنه كان يقاتل في أحد، فلما دارت الدائرة على المسلمين وأُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض المعركة حتى رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد روى الطبري بسنده عن ابن إسحاق أنه قال: (فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: (قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم) كعب بن مالك أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين: أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليّ رسول الله أن أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب معه علي بن


(1) سورة آل عمران آية 154
(2) أخرجه ابن إسحاق في (المغازي) – ومن طريقه الطبري في (جامع البيان 4/ 94) وإسحاق بن راهويه في (مسنده) كما في (تخريج أحاديث الكشاف) للزيلعي 1/ 233 رقم 242 وغيرهم، والسند حسن.

أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة في رهط من المسلمين.

قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدُن فظاهر بين درعين فلما ذهب لينهض فلم يستطع، جلس تحته طلحة بن عبيدالله فنهض حتى استوى عليها.

ثم إنّ أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إنّ الحرب سجال، يوم بيوم بدر، (اعل هبل) أي: أظهر دينك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: قم فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان، قال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر) (1).

وفي رواية البخاري (فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قُحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم


(1) رواه الطبري في تفسيره لقوله تعالى {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} من سورة آل عمران، والرواية صححها الألباني في تحقيقه لكتاب (فقه السيرة) للغزالي - حديث رقم (258).

ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما ملك عُمرُ نفسه، فقال: كذبت والله يا عدو الله! إنّ الذين عدَدْت لأحياءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحربُ سِجال، إنكم ستجدون في القوم مُثْلةً لم آمر بها ولم تسُؤْني، ثم أخذ يرتجِزُ: اُعْلُ هُبَلْ، اُعْلُ هُبَلْ.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تجيبوه؟، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، قال: إنّ لنا العزى ولا عُزّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تجيبوه؟ قال: قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) (1).

وعند أحمد بسند حسن (فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل (اعل هبل) مرتين - يعني آلهته-، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله، ألا أجيبه؟ قال: بلى، قال: فلما قال (اعل هبل) قال عمر: الله أعلى وأجل، قال: فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب، إنه قد أنعمت عينها، فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر، قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول وإنّ الحرب سجال قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) (2).

هذا هو عمر الذي ينسبون له الردة والانقلاب على عقبيه يوم أحد!


(1) رواه البخاري-كتاب الجهاد والسير- باب (ما يُكره من التنازع والاختلاف في الحرب) - حديث رقم (3039).
(2) مسند أحمد - حديث (2609)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

غير أنّ الأمانة العلمية تدعوني إلى عدم إغفال رواية القاسم بن عبد الرحمن بن رافع وفيها: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله (1) في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل محمد رسول الله (2) قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا كراماً على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..) (3) لكن توقف هؤلاء الصحب هذه اللحظات لا يعني أنهم لم يوفقوا إلى مواقف مشرفة في هذه الغزوة، ينصرون بها دين الله عز وجل.

فيظهر من هذه الرواية أنّ قسماً من الصحابة فاجأته الصدمة فلم يعد يعرف ماذا يفعل فاكتأب وتوقف عن القتال مع إيمانه برسول الله وحسرته على موته المفاجئ، فتوقف عن القتال


(1) والحديث ضعيف لأمور متعلقة بالسند وبالمتن كذلك:
فأما التي في السند فإنّ ابن حميد: هو يعقوب بن حميد بن كاسب؛ ضعفه أبو حاتم وغيره، ووثقه بعضهم وأمره لا يخلو من الضعف.
وسلمة: هو ابن رجاء التميمي، وفيه ضعف أيضاً مقارب لسابقه.
والقاسم بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج لا يعرف وروايته هذه منقطعة.
وأما المتن فلأنّ من الثابت بأسانيد صحيحة عند السنة والشيعة أنّ طلحة بن عبيد الله كان ممن يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين انهزم المسلمون وأنّ يده شُلت بسبب ذلك بينما تذكر هذه الرواية الضعيفة أنه ممن ألقى السلاح، فلو أنّ هذه الرواية صحت وخالفت غيرها من الروايات الصحيحة الثابتة لكفانا ذلك تضعيفاً لها، فكيف وإسنادها ضعيف؟
(2) في هذا رد على من يريد الطعن في هؤلاء الصحابة ويدّعي ردتهم، فإنهم بقوا على الإيمان وعلى شهادة أنّ محمداً رسول الله لكن صدمة الإشاعة جعلتهم يحتارون ماذا يفعلون، ولو كانوا مرتدين لما قالوا (قُتل محمد رسول الله!) وإنما (قُتل محمد) ولقالوا مثل ما قاله المنافقون (لنلحق بعبد الله بن أُبي سلول) أو غيره.
(3) تاريخ الطبري 2/ 66

حينها لكنه لم يرتد أو يلحق بعبد الله بن أبي سلول أو بجيش الكفار، وإنما كان أسير الصدمة الكبيرة.

فلعل عمر بن الخطاب وبعض الصحابة توقفوا حينها بعد سماعهم لنبأ مقتل رسول الله، ثم لما حفزّهم أنس بن النضر دب الحماس في نفوسهم إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنان الخلد فقاموا وقاتلوا من جديد.

هذا إن صحت الرواية وإلا فهي كما ذكرنا ضعيفة الإسناد.

وهناك قسم بقي على الإيمان كمن سبقه ولكنه انسحب من القتال وهم عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان (رجلان من الأنصار) (1) وغيرهم، وهؤلاء الصحابة قد تجاوز الله عنهم زلتهم في كتابه الكريم بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيم} (2) فبيّن الله أنه قد عفا عن جميع من تولى يوم أحد، فدخل فيهم من هو دون عثمان في الفضل والسابقة، فكيف بعثمان الذي قدّم للإسلام الكثير؟

روى البخاري أنّ رجلاً حج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء، أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أنّ عثمان بن عفان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال: فتعلمه تغيّب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلّف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟


(1) تاريخ الطبري 2/ 69
(2) سورة آل عمران آية 155

قال: نعم، قال: فكبّر، قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبيّن لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله عفا عنه.

وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه).

وأما تغيّبه عن بيعة الرضوان فإنّه لو كان أحد أعز ببطن مكّة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عُثمان إلى مكّة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده اليمنى: (هذه يد عثمان، فضَرَبَ بها على يَدِهِ، فقال: هذه لِعُثْمان، اذْهَبْ بِهذا الآن مَعَك) (1).

أما القسم الأخير وهم الذين ارتدوا على أعقابهم فلم أجد في حقهم رواية معتبرة يمكن الركون إليها، فقد رويت في شأنهم روايات ضعيفة جداً لا ترتقي إلى مستوى الاستدلال.

ولعلهم بعض المغترين بعبد الله بن أبيّ بن سلول كما يظهر من مجموع الروايات.

فأين هذه الحقائق ممن يمزجون الحق بالباطل فيجعلون أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وغالب أصحاب رسول الله من أهل الردة؟!

ولا يجعلون من الآية دليلاً على ردة هؤلاء في غزوة أحد فحسب بل على ردتهم بعد موت رسول الله في انتخابهم أبي بكر خليفة للمسلمين! أي إنصاف هذا؟ وأي ضمير يرتضي هذا التجني؟!


(1) رواه البخاري-كتاب المغازي- باب (قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان} - حديث رقم (4066).

[ب - حديث المذادة عن الحوض]

ولعل من أبرز ما استدل به الشيعة الإثنا عشرية على ردة الصحابة وانقلابهم على أعقابهم حديث المذادة عن الحوض والذي روي بأكثر من لفظ عند أهل السنة والشيعة الإثني عشرية.

فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليرِدنّ عليّ ناسٌ من أُصيحابي الحوض حتى إذا عرفْتُهُمُ اخْتُلِجوا دوني فأقول: أصحابي، فيقول: لا تَدْري ما أحدثوا بعدك) (1).

وعن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إني فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم)، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهَدُ على أبي سعيد الخدري لسمعتُهُ وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم مني، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي) (2).

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي على الحوض حتى أنظر من يرِد عليّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ دوني، فأقول: يا ربّ منّي ومن


(1) رواه البخاري - كتاب الرقاق - باب (في الحوض) - حديث رقم (6582).
(2) المصدر نفسه - حديث رقم (6583).

أُمتي؟، فيُقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما بَرِحوا يرجعون على أعقابهم. فكان ابن أبي مُليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نُفتن عن ديننا) (1).

وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه (وليُرفَعَنّ رِجال منكم) وفي أخرى (يرد عليّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيُجلون عن الحوض) وفي ثالثة (فإذا زُمرةٌ حتى إذا عرفتهم) (2).

وفي رواية ابن المُسَيّب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَرِد على الحوض رجال من أصحابي فيُجلون عنه) (3).

المناقشة:

لقد أغمض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عينيه عن رجال من أصحابه كانوا على الإيمان فزلزل الله عز وجل من في قلبه مرض فارتد عن الإسلام واتبع مسيلمة الكذّاب وطليحة بن خويلد والأسود العنسي وسجاح.

يقول المؤرخ الشيعي سعد القمي في "المقالات والفرق": (وارتد قوم فرجعوا عن الإسلام، ودعت بنو حنيفة إلى نبوة مسيلمة وقد كان ادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث أبو بكر إليهم الخيول عليها خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقاتلهم وقُتل من قُتل ورجع من رجع منهم إلى أبي بكر فسمّوا أهل الردة) (4).


(1) رواه البخاري – كتاب الرقاق – باب (في الحوض) – حديث رقم (6593).
(2) المصدر نفسه – حديث رقم (6576) و (6585) و (6587).
(3) المصدر نفسه – حديث رقم (6586).
(4) المقالات والفرق ص4

ويقول الإمام علي عن إمساكه عن بيعة الخليفة الراشد أبي بكر في بادئ الأمر ثم مبايعته لأبي بكر ومؤازرته له وللصحابة في دحر المرتدين:

(فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل ..) (1).

ويقول: (فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسّر وسدد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً) (2).

ولذلك وجد الشيخ محمد كاشف آل الغطاء نفسه مضطراً للاعتراف بهذه الحقيقة فقال عن الإمام علي: (وحين رأى أنّ الخليفتين – أعني الخليفة الأول والثاني – بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا، بايع وسالم) (3).

أقول: وحديث الحوض يشير إشارة واضحة إلى هؤلاء النفر (أي بني حنيفة وأمثالهم) الذين مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على الإيمان فانقلبوا على أعقابهم واستبدلوا الإيمان بالكفر فسلّط الله عليهم جند الإيمان الأذلة على المؤمنين، الأعزة على الكافرين، فمات من هؤلاء المرتدين من مات ليلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيُذاد


(1) نهج البلاغة – (ومن كتاب له (ع) إلى أهل مصر) - رقم (62).
(2) الغارات للثقفي 1/ 306 - 307
(3) أصل الشيعة الإثني عشرية وأصولها ص123 - 124

به عن الحوض ورجع إلى الإيمان من رجع و (إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (1).

لكن ماذا يريد علماء الشيعة الإثني عشرية من إثارة هذا الحديث أمام البسطاء من الناس؟

لعلك أدركت أيها القارئ أنّ علماء الشيعة الإثني عشرية أرادوا الطعن في كبار صحابة رسول الله (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة والزبير وطلحة وغيرهم) والحديث بالنسبة لهم صيد ثمين، إذ يُمكن لهم أن يجعلوا هؤلاء الصحب ممن أحدثوا بعد رسول الله فيستحقون البوار والخسران يوم القيامة، هكذا بكل سهولة!

ولذا تجد أنّ علماء الشيعة الإثني عشرية قد اجتهدوا في عدّ وحصر ما يرونه إحداثاً في دين الله من قبل هؤلاء الصحب وألّفوا في ذلك المصنفات لإقناع الناس بصحة ما يدّعونه في صحابة رسول الله، لكن ماذا يفعل هؤلاء الحماسيون لو أنّ حماسهم ورغبتهم في التشفي من أصحاب رسول الله قابله حماس آخر من أباضي أو ناصبي حاقد على الإمام علي ففعل مع الإمام علي ما يفعله هؤلاء مع باقي الصحابة؟

فالظلم والبهتان لا يُعرف له صاحب، ولا يظنن أحدٌ أنّ الظلم يقع على أناس دون آخرين، وأنّ سهامه التي يوجهها لصحابة رسول الله ستصيب قوماً وتستثني آخرين.

فالحديث عام لا يستثني عمار بن ياسر ولا المقداد بن الأسود ولا أبا ذر ولا سلمان الفارسي ممن يجلهم الشيعة الإثنا عشرية بل لا يستثني الحديث علياً نفسه!

وكل من في قلبه غل على صحابي يستطيع وفقاً لميزانه الأعوج أن يجعله ممن انقلبوا على أعقابهم!

ولتقرأ معي ما سيقوله الناصبي الحاقد بتمعن وإنصاف لترى كيف يُمكن للنظرية الشيعية أن تنسف نفسها بنفسها!

على أني منذ البداية أبرأ إلى الله من الطعن في الإمام علي صراحة أو ضمناً، فالإمام علي إمام هدى، وله من المكانة والتقدير في قلوبنا ما يستحقه أمثاله من أرباب المناقب والمآثر العظيمة إلى جانب قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا نرتضي فيه طعناً أو انتقاصاً كما لا نرتضي ذلك في باقي الصحابة.

لكني أريدك أيها القارئ الكريم أن تستشعر معي ظلم الشيعة الإثنى عشرية لأبي بكر وعمر وعثمان وباقي الصحابة، وتتلمس كيف يُمكن أن ينقلب هذا الظلم ظلماً لعلي بن أبي طالب كذلك حينما تكون الكلمة للناصبي والعدو المستهدف هو علي بن أبي طالب.

يقول الناصبي: لقد رأيت في علي بن أبي طالب مثالاً للإحداث بعد رسول الله! ولهذا أبغضته وتبرأت منه!

ترك الإمامة وهي أعظم أركان الدين والتي وردت فيها روايات شيعية كثيرة في بيان منزلتها وكونها أصلاً للدين لا يقوم إلا به!

وتخلى عن الزهراء عليها السلام يوم أن ضُربت وصُبّت عليها المصائب!

ولم يقدّم تجاه قضية فدك المغصوبة أي شيء فلم ينتصر لبنت رسول الله!

وحكّم الرجال في كتاب الله وكل من شارك في التحكيم كافر (علي وأبو موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص).

وحجتي في الحديث ظاهرة، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في نص الحديث: (فأقول: يا رب مني ومن أمتي؟).

وفي هذا دلالة قاطعة على أنّ المراد بالحديث هو علي بن أبي طالب!

 


(1) مسند أحمد - حديث رقم (6160)، قال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

فإنكم تروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في علي بن أبي طالب: (علي مني وأنا من علي)، تلك قرينة!

وقرينة أخرى أستدل بها على أنّ المراد بالحديث (علي بن أبي طالب) هي إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المبدّلين من بعده بقوله: (أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض) (1) وقد غشي علي بن أبي طالب الظلمة أبا بكر وعمر وعثمان (2) وكان مستشاراً ووزيراً لهم كما تشهد بذلك كتب الشيعة الإثني عشرية من أولها إلى آخرها.

وقد توعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث بسحب المنزلة التي أُعطيت له بقوله (فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض) لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعلم بما سيحدثه من بعده من الركون للظلمة وحب الدنيا والأُعطيات والامتيازات.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (فإذا جئتم قال الرجل: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان فأقول أما النسب فقد عرفته ولكنكم أخذتم بعدي ذات الشمال وارتددتم على أعقابكم القهقرى) (3) يؤكد تماماً أنّ المراد بالحديث هو علي بن أبي طالب لا غيره!!

فالرجل الذي أتى رسول الله لم يقل له (أنا فلان بن فلان) لتعريف النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صرّح بالحديث ذاته بمعرفته له ولمن


(1) جامع الترمذي-كتاب الزكاة - باب (ما ذُكر في فضل الصلاة) - حديث رقم (614)، قال الألباني: حديث صحيح.
(2) وفقاً لرؤية الشيعة الإثني عشرية.
(3) سيأتي تخريجه.

معه فقال: (أما النسب فقد عرفته) وقال: (أعرفهم ويعرفوني) لكن الرجل أراد الإشارة إلى نسبه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظناً أنّ ذلك سيشفع له فيجيبه الرسول بقوله (أما النسب فقد عرفته) أي أنّ النسب والقرابة لها مقامها لكن ليس مع الإحداث من بعدي، وهذا ما حصل حين تركت ابنتي تُضرب ولم تفعل شيئاً وحين فعلت كذا وكذا.

ويقول الناصبي: وما يؤكد أنّ ذاك الرجل هو علي بن أبي طالب هو صدر حديث المذادة عن الحوض حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تزعمون أنّ قرابتي لا تنفع قومي والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، إذا كان يوم القيامة يُرفع لي قوم يُؤمر بهم ذات اليسار، فيقول الرجل: يا محمد، أنا فلان بن فلان، ويقول الآخر: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب قد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم على أعقابكم القهقرى) (1).

وفي رواية المفيد والطوسي في (أماليهما) عن أبي سعيد الخدري قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول على المنبر: ما بال أقوام يقولون: إنّ رحم رسول الله لا ينفع يوم القيامة؟ بلى والله إنّ رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرطكم يوم القيامة على الحوض، فإذا جئتم قال الرجل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفته، لكنكم أخذتم بعدي ذات الشمال، وارتددتم على أعقابكم القهقرى) (2)


(1) مسند أحمد - حديث رقم (11154) وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، ورواه المجلسي في بحار الأنوار 7/ 239 نقلاً عن أمالي الطوسي.
(2) الأمالي للمفيد (المجلس الثامن والثلاثون) ص327 - 328 حديث رقم (11) والأمالي للطوسي ص94 حديث رقم (144).

فالرجل قد جاء متصوراً أنّ رحمه وقرابته ونسبه سيشفعان له إحداثه وتبديله لدين المصطفى، فقرر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرواية الشيعية أنّ القرابة شافعة لكنها لن تنفع من أحدث وارتد على عقبيه.

ومما يؤكد أنّ المراد هنا علي بن أبي طالب هو ما ورد في كتب الشيعة الإثني عشرية من أحاديث كثيرة تفيد أنّ الناس يُدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم (1)، لكن الرجل الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو من رحم رسول الله، وقد أخبر الرسول الكريم بكل صراحة أنّ هذا الرجل سيقول (أنا فلان بن فلان) لا (فلان بن فلانة).

ويكمل الناصبي كلامه قائلاً:

فإن حاولت الدفاع عن علي بن أبي طالب واستشهدت بحديث لعمار أو سلمان أو المقداد فأخبرك منذ البداية أنهم ممن انقلبوا على أعقابهم مع علي بن أبي طالب والحديث يشملهم فارتضاؤهم له وتزكيتهم له وقبولهم لإمامته كافٍ لاستحقاقهم المصير ذاته، فإن قلت: وأين الأحاديث التي وردت في فضل علي وعمار وفلان وفلان أجبتك بأنّ فضائل أبي بكر وعمر وفلان وفلان لم تشفع لهم عندكم بل قلتم بانقلابهم على أعقابهم وشككتم بتلك الفضائل وكذلك الحال في علي بن أبي طالب ولا فرق!

هذا بعض ما يُمكن أن يقوله الناصبي في الإمام علي بن أبي طالب والمقربين منه.

أقول مخاطباً أرباب الضمائر الحية:

هكذا تنسف النظرية الشيعية نفسها بنفسها .. ولن يستطيع الرد على هذا الناصبي الحاقد إلا أهل السنة، الذين عرفوا لصحابة رسول الله حقهم وفضائلهم وأدركوا أبعاد أحداث الفتنة وأسبابها، وقالوا للناصبي وللشيعي الإمامي: على رسلكما ... إنّ الذين أحدثوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فئة ارتدت عن الإسلام ... قاتلها أبو بكر وعلي والصحابة ... فلقي حتفه من تلك الفئة من لقي وهو على الكفر، ليذاد يوم القيامة عن الحوض والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أصحابي أصحابي) والملائكة تجيبه (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).

ما أجمل الإنصاف وأندره ... وما أجمل أن يدرك المرء المعاني الجليلة التي يذكرها هذا الحديث ... لكن ماذا تفعل مع التعصب وأهله؟!

 


(1) روى الحر العاملي في "الفصول المهمة في أصول الأئمة 1/ 348" – حديث رقم (435) والمفيد في "الأمالي ص311 (المجلس السابع والثلاثون) " وفي "الإرشاد 1/ 43" (الأخبار الدالة على أنّ ولايته علم على طيب المولد) والأربلي في "كشف الغمة 1/ 140" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي (ع): ألا أبشرك ألا أمنحك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فإني خلقت أنا وأنت من طينة واحدة ففضلت منها فضلة فخلق منها شيعتنا، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس بأمهاتهم إلا شيعتك فإنهم يدعون بآبائهم لطيب مولدهم.
وفي كتاب "صفات الشيعة ص16" عن محمد بن يحيى بن سدير قال: قال أبو عبد الله (ع): إذا كان يوم القيامة دعي الخلائق بأمهاتهم ما خلانا وشيعتنا فإنا لا سفاح بيننا.
ومن أراد المزيد فليراجع "الفصول المهمة" للحر العاملي الذي ذكر جملة من الروايات في هذا الشأن ثم أعقبها بقوله: (والأحاديث في ذلك كثيرة جداً)!!

  • الاثنين AM 03:54
    2022-05-23
  • 919
Powered by: GateGold