المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413362
يتصفح الموقع حاليا : 238

البحث

البحث

عرض المادة

عدالة الصحابة

عندما نتكلم عن مفهوم (العدالة) في حق صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإننا أمام نوعين من العدالة، لا بد من تأملهما جيداً.

النوع الأول: عدالة الرواية، والثاني: عدالة السيرة.

فأما النوع الأول وهو (عدالة الرواية) فهو المعني عند أهل السنة والجماعة بمصطلح (عدالة الصحابة) لا غيره، وفي هذا يقول اللكنوي رحمه الله: (وقد تُطلق العدالة على التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها، وهذا المعنى هو مراد المحدّثين من قولهم: الصحابة عدول.

فقد قال السخاوي في "فتح المغيث": قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلّف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك. انتهى.

وقال العلامة الدهلوي مؤلف "التحفة الإثنا عشرية" وغيرها: في بعض إفاداته: إنّ ما تقرر في عقائد أهل السنة أنّ الصحابة كلهم عدول قد تكرر ذكره غير مرة، ووقع في البحث والتفتيش عن معناه حضرة الوالد المرحوم (1) فتنقّح بعد البحث أنّ المراد بالعدالة في هذه الجملة ليس معناها المتعارف بل المراد العدالة في رواية الحديث لا غير، وحقيقتها التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها، ولقد تتبعنا سيرة الصحابة كلهم حتى من دخل


(1) ولي الله الدهلوي مؤلف كتاب (حجة الله البالغة).

منهم في الفتنة والمشاجرات، فوجدناهم يعتقدون الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الذنوب، ويحترزون عنه غاية الاحتراز كما لا يخفى على أهل السير) (1).

قال العلامة المعلمي في رسالته "الاستبصار في نقد الأخبار ص16": (وقد كان العرب يتحاشون من الكذب، وتأكد ذلك فيمن أسلم، وكان أحدهم وإن رق دينه لا يبلغ به أن يجترئ على الكذب على الله ورسوله، وكانوا يرون أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، وأنه إن اجترأ أحد على الكذب افتُضح.

ولو قال قائل: إنّ الله تبارك وتعالى منع القوم من تعمد الكذب على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى ضمانه بحفظ دينه ولا سيما مع إخباره بعدالتهم لما أبعد.

ومن تدبر الأحاديث المروية عمن يمكن أن يُتكلم فيه من الطلقاء ونحوهم ظهر له صدق القوم، فإنّ المروي عن هؤلاء قليل، ولا تكاد تجد حديثاً يصح عن أحد منهم إلا وقد صح بلفظه أو معناه عن غيره من المهاجرين والأنصار، وقد كانت بين القوم إحن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو استساغ أحد منهم الكذب لاختلق أحاديث تقتضي ذم خصمه، ولم نجد من هذا شيئاً صحيحاً صريحاً.

وفوق هذا كله فأهل السنة لم يدعوا عصمة القوم، بل غاية ما ادعوه أنه ثبت لهم أصل العدالة ثم لم يثبت ما يزيلها، والمخالف يزعم أنه قد ثبت عنده في حق بعضهم ما يزيل العدالة فانحصر الخلاف في تلك الأمور التي زعمها، فإذا أثبت أهل السنة أنها لم تصح وأنّ ما صح منها لا يقتضي زوال العدالة استتب الأمر.


(1) ظفر الأماني في مختصر الجرجاني للكنوي ص506 - 507.

فأما من ثبتت شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالمغفرة والجنة فقد تضمن ذلك تعديلهم أولاً وآخراً، والله الموفق).

أقول: ولهذا النوع من العدالة شاهد من كلام أهل البيت في كتب الشيعة الإثني عشرية يتجاهله المتجاسرون على الصحابة عن قصد أو جهل لما فيه من الدلالة على ما ذكرناه.

فقد روى الكليني في الكافي عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجبيه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً) (1).

فهذه شهادة صريحة تنقلها كتب الإمامية عن الإمام جعفر الصادق، ينص فيها على صدق الصحابة رضي الله عنهم وانتفاء الكذب عنهم، فمن ادّعى الانتساب إلى مذهب هذا الإمام فلا بد له أن يُذعن لشهادته هذه وإلا كانت دعواه الانتساب لمذهبه كذباً محضاً.

والحقيقة أنه لم ينقل عن الإمام جعفر الصادق – في كتب الإمامية- في الشهادة بعدالة الصحابة هذه الرواية فحسب، فمن الروايات الحاكمة بعدالة صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ما رواه ابن بابويه القمي عن إلإمام جعفر الصادق أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بمنى في حجة الوداع في مسجد الخيف فحمد الله وأثنى


(1) الكافي- كتاب فضل العلم - (باب اختلاف الحديث) – حديث رقم (3).

عليه، ثم قال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلّغها إلى من لم يسمعها فرُبّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم (1).

فإن لم يكن الصحابة عدولاً، فكيف يأتمنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تبليغ كلامه إلى من لم يسمعه؟!

إنّ الشهادة لا يصلح لها إلا العدل، وإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد لصحابته بهذا النص بأنهم أهل للنقل عنه دون قيد أو شرط.

هذا ما يخص (عدالة الرواية)، وبقي الحديث عن النوع الثاني من العدالة وهو (عدالة السيرة) (2) فإنه يتطلب منا بعض الوقفات الهامة التي من شأنها أن توصل القارئ الكريم إلى حقيقة الأمر.


(1) الخصال ص149 - 150 (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم) حديث رقم (182).
(2) إنّ أعدل الأقوال في تعريف العدالة وأنسبها هو القول بأنها (عدم الفسق) وقد سألت العلامة محمد الحسن ولد ددو الشنقيطي عن أصح تعاريف العدالة فأكد لي أنّ أصحها هو ما ذكرته آنفاً.
وإليه ذهب الإمام الشافعى حيث يقول: (لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً، ولكن العدل من اجتنب الكبائر؛ وكانت محاسنه أكثر من مساويه) "الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم" لابن الوزير اليمانى 1/ 28
وقريب منه تعريف الشيخ المفيد للعدالة الذي يقول في "المقنعة ص725": (العدل من كان معروفاً بالدين والورع عن محارم الله تعالى).

الوقفة الأولى:

إنّ الإيمان بأصالة عدالة الصحابة بمفهومها الثاني (عدالة السيرة) مرده إلى ثناء الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم على الصحابة الكرام.

فقد قال الله تعالى فيهم {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (1).

وقال عز من قائل {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (2).

وقال فيهم أيضاً {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون} (3).

وبمثل هذا الثناء العطر جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.


(1) سورة التوبة آية 100
(2) سورة الفتح آية 29
(3) سورة الحجرات آية 7

فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا، فقال: ما زلتم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) (1).

وورد الحديث ذاته من طريق الشيعة عن الإمام موسى الكاظم عن آبائه (ع) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا أمنة لأصحابي، فإذا قبضت دنا من أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا قبض أصحابي دنا من أمتي ما يوعدون، ولا يزال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من قد رآني) (2).

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته) (3).


(1) رواه مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب (بيان أنّ بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمان لأصحابه وبقاء أصحابه أمان للأمة) – حديث رقم (2531).
(2) بحار الأنوار للمجلسي 22/ 309 - 310 عن (نوادر الراوندي ص23).
(3) رواه البخاري – كتاب الأيمان والنذور – باب (إذا قال: أشهد بالله أو شهدت بالله) – حديث (6658) ورواه مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب (فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) – حديث رقم (2533) واللفظ لمسلم.

وبسبب ما تضمنته هذه الآيات والأحاديث وغيرها من الثناء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، تظافرت الروايات عن أئمة أهل البيت في الثناء على الصحابة بما هم أهل له.

فهذا الإمام علي بن أبي طالب يذكر الصحابة فيثني عليهم قائلاً: «لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى أحدًا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثًا غبراً وقد باتوا سجدًا وقيامًا، يراوحون بين جباههم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأنّ بين أعينهم ركب المعزى (1) من طول سجودهم، إذا ذُكِر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفًا من العقاب ورجاء للثواب» (2).

وهذا هو حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنه يقول عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله – جل ثناؤه وتقدست أسماؤه – خصّ نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (3) قاموا بمعالم الدين وناصحوا


(1) جمع ركبة موصل الساق من الرجل بالفخذ. وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة، أي أنهم لطول سجودهم يطول سهودهم، وكأنّ بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم عن النوم والاستراحة.
(2) نهج البلاغة ص189 - خطبة رقم (97).
(3) سورة الفتح آية 29

الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله، واستقر دينه ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العلياء وكلمة الذين كفروا السفلى فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها) (1).

فهذه الصفات التي وصفهم بها عبد الله بن عباس رضي الله عنه كلها مناقب وثناء حسن يذكرون به في الآخرين وقد كانوا رضي الله عنهم كما وصفهم، فقد خصهم الله تعالى وشرفهم بصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وآثروه بأموالهم وأنفسهم، وأقاموا معالم الدين الإسلامي الحنيف، ونصحوا للأمة واجتهدوا في نشر الإسلام وتثبيت دعائمه حتى استقر في الأرض وأذل الله بهم الشرك وأهله وأزيلت رؤوسه، ومحيت دعائمه وأعلى الله بهم كلمته ودحر بهم كلمة الباطل، وبذلك كانت نفوسهم زكية وأرواحهم طاهرة فكانوا أولياءَ لله في هذه الحياة الدنيا فرضوان الله عليهم أجمعين.

أما الإمام علي بن الحسين فكان يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو لهم في صلاته بالرحمة والمغفرة لنصرتهم سيد الخلق في نشر دعوة التوحيد وتبليغ رسالة الله إلى خلقه فيقول: (فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان، اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا


(1) مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/ 75

بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك، وكانوا من ذلك لك وإليك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ومن كثرة في اعتزاز دينك إلى أقله، اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا جهتهم، لو مضوا إلى شاكلتهم لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم مكانفين ومؤازرين لهم يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم) (1).

وأما الإمام زيد بن علي بن الحسين، فقد ذكر الإمام (المنصور بالله) عبد الله بن حمزة –وهو من أئمة الزيدية الكبار – في كتاب له اسمه (جواب المسائل التهامية) نظرته للصحابة فقال: (فإنه عليه السلام أثنى عليهم على الإجمال وعدّد مزاياهم على غيرهم) ثم قال: (فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده فرضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيراً، ثم قال: فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة ولم نكتم سواه تقية، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن ونحن إلى الله – سبحانه – من فعله براء، وهذا ما يفضي به علم آبائنا منا إلى علي عليه السلام) إلى قوله: (وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة ش والبراء منهم، فيبرأ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم وأنشد: ... وإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي (2) (3)


(1) الصحيفة الكاملة للإمام زين العابدين ص39 وأعيان الشيعة 1/ 645
(2) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، والمنكب: العضو الرابط بين كتف الإنسان ويده.
(3) الرياض المستطابة ص300

وأما الإمام جعفر الصادق فقد نقل عنه ابن بابويه القمي أنه وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم يُر فيهم قدريّ ولا مرجي ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير) (1).

فإذا لم يكن في الصحابة مرجيء ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، فكيف يكون فيهم من هو أشد من هذا وذاك (المنافق!) كما يدّعي المتطرفون؟!

إنّ ما يحكيه الإمام الصادق في هذه الرواية هو عين التزكية القرآنية التي جاءت لتمدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبشرهم برضا الله عليهم وبجنان الخلد، فأين هذا كله من الروايات السقيمة التي تدّعي ارتداد صحابة رسول الله إلا بضعة رجال لا يتجاوزن عدد أصابع اليدين العشرة!

ولهذا كان من الوصايا التي حفظها الإمام الصادق عن آبائه عن الإمام علي قوله: «أوصيكم بأصحاب نبيكم لا تسبوهم، الذين لم يحدثوا بعده حدثًا، ولم يؤووا محدثًا؛ فإنّ رسول الله أوصى بهم الخير» (2).

أما حفيده الإمام العسكري فموقفه تجاه الصحابة لا يختلف عن موقف سائر أهل البيت فهو القائل: «لما بعث الله تعالى موسى بن عمران واصطفاه نجيًا، وفلق له البحر، ونجَّى بني إسرائيل، وأعطاه التوراة والألواح رأى مكانه من ربه تعالى، فقال موسى: يا رب، فإن كان


(1) الخصال ص638 - 639 (كان أصحاب رسول الله اثني عشر ألف رجل) - حديث رقم (15).
(2) بحار الأنوار 22/ 305 - 306

آل محمد كذلك، فهل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله تعالى: يا موسى، أما علمت أنّ فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين، وكفضل محمد على جميع النبيين، فقال موسى: يا رب، ليتني كنت أراهم! فأوحى الله إليه: يا موسى، إنك لن تراهم، فليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنات -جنات عدن والفردوس- بحضرة محمد، في نعيمها يتقلبون، وفي خيراتها يتبحبحون» (1).

الوقفة الثانية:

إنّ القول بعدالة سيرة الصحابة رضوان الله عليهم لا يعني أنهم معصومون من المعاصي والمخالفات، أو أنهم لا يخطئون ولا يغلطون، بل هم كسائر الناس من بني آدم في الطبائع والنقص البشري.

فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح مسلم: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) (2).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في قوله تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَم} (3): (إن تغفر اللهم، تغفر جمّاً، وأي عبد لك لا ألمّا) (4).


(1) تأويل الآيات 1/ 418 والمحتضر للحلي ص273 - 274 وتفسير الإمام العسكري ص31 - 32 وبحار الأنوار 13/ 340 - 341 و89/ 246
(2) رواه مسلم – كتاب التوبة – باب (سقوط الذنوب بالاستغفار والتوبة) – حديث رقم (2749).
(3) سورة النجم آية 32
(4) رواه الترمذي – كتاب تفسير القرآن – باب (ومن سورة والنجم) – حديث رقم (3284).

والواقع يصدّق ما قلناه في الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم قد صدرت منهم معاصي لا تضر بعدالتهم ومن ورد في حقه منهم ارتكابه لكبيرة من الكبائر فإنه قد ورد عنه أيضاً إتباعها بتوبة صادقة أو بحد دنيوي مكفّر للذنب كالغامدية التي زنت ورجمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكالرجل الذي كان يشرب الخمر ويؤتى به إلى رسول الله فأقام عليه الحد مراراً، والمخزومية التي سرقت، وحاطب بن أبي بلتعة الذي أخبر قريشاً بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتحاً، وهؤلاء جميعاً تابوا إلى الله عز وجل إما باستغفار وإنابة إلى الله عز وجل أو بإقامة حد دنيوي، والحدود كفارات كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن أصاب شيئاً من ذلك (أي من الزنا أو السرقة أو قتل النفس بغير حق) فعوقب فهو كفارة له) (1)، ولذلك فالحديث عنهم بسوء أو استغلال هذه المعاصي التي تابوا منها لا في القدح فيهم فحسب بل لنقض عدالة غيرهم هو من الظلم البيّن بل من التجني!

يقول الألوسي – رحمه الله – في "الأجوبة العراقية ص 23 - 24": " ليس مرادنا من كون الصحابة – رضي الله عنهم – جميعهم عدولاً: أنهم لم يصدر عن واحد منهم مفسَّق أصلاً، ولا ارتكب ذنباً قط، فإن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فقد كانت تصدر منهم الهفوات .... " إلى أن قال: " ثم إنّ مما تجدر الإشارة إليه، وأن يكون الإنسان على علم منه: هو أنّ الذين قارفوا إثماً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم حُدّوا هم قلة نادرة


(1) نص الحديث كالتالي: (عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه) والحديث في صحيح مسلم – كتاب الحدود – باب الحدود كفارات لأهلها – حديث رقم (1709).

جداً، لا ينبغي أن يُغَلَّب شأنهم وحالهم على الألوف المؤلفة من الصحابة - رضي الله عنهم - الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم، وحفظهم الله - تبارك وتعالى - من المآثم والمعاصي، ما كبُر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا".

وقد صرّح المجلسي في "بحار الأنوار" بما يؤكد كلامنا السابق من أنّ العدالة إذا زالت بارتكاب كبيرة فإنها تعود إلى صاحبها بعد تطبيق الحد الشرعي عليه أو توبته.

يقول المجلسي: (وإذا زالت العدالة بارتكاب ما يقدح فيها فتعود بالتوبة بغير خلاف ظاهراً، وكذلك من حُدّ في معصية ثم تاب رجعت عدالته وقُبلت شهادته، ونقل بعض الأصحاب إجماع الفرقة على ذلك) (1).

وما دامت المسألة كذلك، فلماذا يستمر مسلسل الطعن في عدالة الصحابة ويُعرض هؤلاء الصحابة كمثال للفساق - عياذاً بالله- وقد تاب الله عليهم؟!

[محمد حسين فضل الله ومفهوم العدالة]

مَنْ يتمسك ببعض الروايات المتضمنة لخطأ صحابي أو ذنب اقترفه يغالط نفسه ... إذ كل عدل يذنب وإلا كان معصوماً!

هذا بعد افتراض أنّ هذا الصحابي قد تعمد اقتراف الذنب مع معرفته بحكمه، وإلا فبعضهم اقترف بعض الذنوب لعدم بلوغه دليل التحريم أو بلغه لكنه تأوله على غير تأويله الصحيح ظناً منه بأنه المراد.


(1) بحار الأنوار 85/ 30 - 31

ولهذا أقول: لا يبحث عن زلات الصحابة أو عامة المؤمنين إلا من في قلبه مرض، إذ ليس من أخلاق المؤمنين الصادقين تتبع عثرات أهل الإيمان، فمن ذا الذي ما ساء قط، ومن ذا الذي له الحسنى فقط!

لقد شكى أحد مقلدي آية الله العظمى محمد حسين فضل الله له تشدد بعض العامة في عدالة إمام الجماعة بقوله: (يتوهم بعض الناس أنّ العدالة من الأمور التي يصعب إدراكها والتعرف عليها، وكثيراً ما يطلب الناس في إمام الجماعة صفات تقرّب من العصمة، فكيف نتثبت من عدالة الإمام، وهل يكفي ذكر أهل بلده له بالخير وكمال الدين ... رغم أنّ المخبرين ليسوا عدولاً؟

أجاب فضل الله: (العدالة ليست العصمة ... فقد يعصي المؤمن العادل ثم يتوب بعد انتباهه لذلك، على هدى قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون} (1) أما كيف تثبت العدالة، فذلك بحسن الظاهر في سلوكه العام في المجتمع، بحيث يرى الناس فيه الإنسان المستقيم في دينه وفي أخلاقه الفردية أو الاجتماعية المرتبطة بالحدود الشرعية، كما تثبت بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان وبخبر الثقة بعدالته ولا قيمة لخبر الفاسق في العدالة سلباً أو إيجاباً) (2).

وهذا ما يقوله أهل السنة في صحابة رسول الله ... فإنهم لا يقولون بعصمتهم بل يقولون بأنهم مؤمنون يذنبون ويتوبون ... فلماذا تُعطى قضية عدالة الصحابة أكبر من حجمها الطبيعي؟


(1) سورة الأعراف آية 201
(2) المسائل الفقهية ص174 الجزء الثاني

  • الاثنين AM 03:12
    2022-05-23
  • 1306
Powered by: GateGold