المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409004
يتصفح الموقع حاليا : 335

البحث

البحث

عرض المادة

آية {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}

لا يكاد يُطرح موضوع الإمامة في كتب الشيعة الإمامية عادة إلا مقروناً بالاستدلال بقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} (1).

وتأتي بعد ذلك النظرية الإمامية للآية لتحاول من خلالها إثبات إمامة الأئمة الإثني عشر وبطلان إمامة من سواهم.

قد تتساءل كيف؟ ومن حقك أن تتساءل طالما لم تر في النص ما يدل على إمامة الإثني عشر من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن النظرية الإمامية صاغت استدلالها بالآية من خلال الجزئية الأخيرة منها (لا ينال عهدي الظالمين).

تقول النظرية: إنه لا ينال الإمامة ظالم، والذنب ظلم، وما دام الأمر كذلك فيتعين أن يكون خليفة المسلمين معصوماً عن اقتراف الذنوب والخطايا حتى ينال عهد الله (الإمامة) بل ينبغي لإمام المسلمين فوق هذا كله أن لا يخطئ ولا يسهو ولا ينسى، ولا يتحقق هذا إلا في الأئمة الإثنى عشر.

قال الطبرسي في تفسيره "مجمع البيان": (واستدل أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح، لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه، وإما لغيره) (2).


(1) سورة البقرة آية 124
(2) تفسير مجمع البيان 1/ 377

وفي تقرير مسألة عصمة الإمام وتحديد مفهوم الإمامة في الآية الكريمة يقول الشيخ جعفر السبحاني: (والاستدلال بالآية على عصمة الامام، يتوقّف على تحديد مفهوم الإمامة الواردة في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في أُخريات عمره غير هذه وتلك، لأنّه كان نبياً ورسولا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو المعنى الثالث، قوله سبحانه {أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً}. فالإمامة الّتي أنعم بها الله سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة، وراء النبوّة والرسالة، وانّما هو قيادة حكيمة، وحكومة إلهية، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة (1).

وقد فات الشيخ السبحاني أنّ ابراهيم عليه السلام نفسه لم يكن ملكاً في يوم من الأيام كبعض آله عليهم السلام!

فإنّ يوسف عليه السلام قد نال الملك العظيم كما قال الله تعالى في كتابه المجيد {رَبِّ قَدْ اَتَيْتَنِى مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأويلِ الأحاديث} (2).


(1) الملل والنحل 6/ 294
(2) سورة يوسف آية 101

وإنّ داود عليه السلام قد نال الملك العظيم كما في قوله تعالى {وَآتاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشآء} (1) ويقول سبحانه {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَاب} (2).

وإنّ سليمان عليه السلام قد نال أعظم ملكاً لم ينله أحد من بعده كما حكى الله تعالى عن سليمان أنّه قال {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَد مِنْ بَعْدِى إنَّكَ أنْتَ الوَهَّاب} (3).

فإن كان تفسير الآية كما يدّعي السبحاني فإنّ أولى الناس بنيل هذا الملك العظيم نصاً وعقلاً وواقعاً هو إبراهيم عليه السلام نفسه الذي جعله الله بنص الآية إماماً للناس لكن أبى الله تعالى إلا أن يخيب آمال أرباب النظرية الإمامية الإثنى عشرية.

فإنهم يعجزون عن إثبات نيل إبراهيم عليه السلام الإمامة التي يدّعونها ويحاولون إثباتها من هذه الآية، ولن يستطيعوا إثباتها حتى ولو اجتمعت الإنس والجن لذلك وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً.

ولنا في نقد استدلالهم بهذه الآية على الإمامة النصية بل وجعلها مرتبة أعلى وأجل من النبوة والرسالة عدة وقفات:

الوقفة الأولى: لا يصلح الاستدلال بالمتشابهات في إثبات العقائد!

فإنّ الآية الكريمة ليست محكمة وقطعية بحيث لا يختلف فيها إثنان بل وقع في كل جزئية منها خلاف كبير دوّنته كتب التفسير على اختلافها واختلاف مشارب واتجاهات كاتبيها.


(1) سورة البقرة آية 251
(2) سورة ص آية 20
(3) سورة ص آية 35

وقد عرّف الطوسي المحكم والمتشابه بقوله: (فالمحكم هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه، نحو قوله {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} وقوله {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة} لأنه لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل. والمتشابه: ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه. نحو قوله {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} فإنه يفارق قوله {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيّ} لأنّ إضلال السامري قبيح، وإضلال الله بمعنى حكمه بأنّ العبد ضال ليس قبيح بل هو حسن) (1).

فالخوض في المتشابهات زلة ومهلكة، وأداة للخلاف يتسع بها إلى حيث يشاء الله، (فإنّ أكثر الاختلافات الواقعة في الفروع (2) إنما نشأت من الخوض في المتشابهات التي يضطر الناظر فيها إلى الاستمداد بالرأي المتلون السيال الذي لا يقف على حد ولا على حال) على حد قول الشيخ عبد الله الجزائري في التحفة السنية ص6.

وإنما سبيل المؤمن البصير في التعامل مع الآيات المتشابهات أن يسلك فيها القاعدة الشرعية الأصيلة القائلة: (إنّ الآيات المتشابهات إذا وردت وجب ردها إلى الآيات المحكمات) (3).

{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا


(1) التبيان 2/ 394 - 395
(2) إذا كان هذا حال الفروع وأثرها أقل بكثير من أصول الدين فكيف بالأصول والعقائد؟!
(3) حقائق التأويل للشريف الرضي ص277

الألْبَاب} (1)، (فإنه يُعلم منها: أنّ المتشابهات مستمسك أهل الفتنة، دون أهل الفهم والعلم والمعارف والمحققين مثلاً) (2).

فإن عاند معاند وشاغب مشاغب، زاعماً أنّ الآية صريحة وقطعية في الدلالة على الإمامة التي اصطلحت عليها الشيعة الإثنا عشرية مخالفة بذلك جميع طوائف المسلمين ألزمناه باحدى الاحتمالات التفسيرية القوية للإمامة المذكورة في الآية، والتي لن يجد في دفعها وإثبات بطلانها مستنداً سوى الهذيان والافتراضات الواهية!

فإنّ تفسير الإمامة المذكورة في الآية بكونها إمامة النبوة لا يُقارن أبداً بدعوى الشيعة الإثنى عشرية الظنية، وإليك بيان هذه الأدلة:

أولاً: إنّ دعوى نيل نبي الإمامة بعد أن لم تكن عنده دعوى فاسدة كاسدة لا تليق بالأنبياء، فالأنبياء هم أئمة لأقوامهم يأتمون بهم في كل ما يأمرون به وينهون عنه، ومن المحال أن يُراد بالإمامة هنا وجوب الاتباع لأنّ كل نبي لا بد أن يكون مطاعاً كما قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} (3).

فكل رسول إمام ولا بد – وإلا كيف كان رسولاً؟ - وليس كل إمام رسولاً.

فالإمام وصف لازم للرسالة وليست شيئاً خارجاً عنها حتى يصح القول بأنّ الرسول يمكن أن يتدرج به الحال فيكون رسولاً أول الأمر ثم يكون من بعد إماماً أو لا يكون. إذ بمجرد أن يكون العبد رسولاً يكون إماماً لأنّ الإمامة من الأوصاف اللازمة للرسالة.


(1) سورة آل عمران آية 7
(2) تحريرات في الأصول لمصطفى الخميني 6/ 332
(3) سورة النساء آية 64

وذلك كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (1).

فإنّ الشاهد والمبشر والنذير والداعي والسراج المنير ليست مناصب مستقلة عن النبوة وإنما هي أوصاف لازمة لكل رسول، فإذا كان النبي كذلك كان إماماً ولا بد.

ولذلك فرّق الله تعالى بين داود وإبراهيم عليهما السلام في الخطاب.

فقال لداود عليه السلام {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه} (2) بينما قال لإبراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، لأنّ داود عليه السلام كان خليفة وحاكماً متصرفاً، وإبراهيم عليه السلام لم يكن كذلك.

ولا بأس بالاستئناس بكلام للمحقق الأردبيلي - وهو من كبار علماء الشيعة الإثني عشرية - في شرحه لقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} يذهب فيه إلى أنّ الإمامة المذكورة لغوية لا اصطلاحية حيث يقول: (والإمام: المقتدى به في أفعاله وأقواله، وهو أحد معنيي الإمام في مجمع البيان وفي الكشاف هو اسم لمن يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به، يعني يأتمون بك في دينهم) (3).

وبهذا يكون قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} جملة مفسرة للجملة السابقة وهي قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ} فتكون إمامة النبوة هي احدى تلك


(1) سورة الأحزاب آية 45 - 46
(2) سورة ص آية 26
(3) زبدة البيان ص44

الابتلاءات التي ابتلي بها ثم تتابعت بقية الابتلاءات كبناء البيت العتيق وذبح ولده والصبر على إلقاءه بالنار وغيرها.

ولا عجب في هذا، فإنّ الابتلاء كما يكون بالضراء فإنه يكون بالسراء كذلك.

ثانياً: أنّ الله تعالى قد قال في كتابه الكريم واصفاً الإمامة التي نالها إبراهيم عليه السلام وذريته من بعده {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} (1) ولم يقل (الإمامة والكتاب)، وهذه قرينة قوية قد تصلح لتفسير الآية.

ومن غير المعقول أن يكون لدى هؤلاء الأنبياء ما هو أعظم من النبوة (أي الإمامة في المنظور الشيعي الإثنى عشري) ثم لا يذكرون بها.

وقد ذكر الشيخ عبد الله دشتي – وهو من علماء الشيعة المعاصرين - في كتابه (الإمامة في جذورها القرآنية) ما يؤكد المعنى الذي ذهبنا له في تفسير الإمامة بإمامة النبوة من دون أن يشعر بذلك إذ يقول: (ومن الآيات التي صرحت في اختيار الله الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين} ومثله قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون}. والواضح أنّ الذين أوتوا الكتاب هم من المحسنين من ذريته. وأما المنطلق الذي يذكره القرآن لانتقال تلك الإمامة إلى ذرية إبراهيم عليه السلام فتتضح من قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي


(1) سورة العنكبوت آية 27

الظَّالِمِين} (1) حيث دعا إبراهيم ربه لتكون الإمامة في عقبه وذريته، وقد قبل الله تعالى ذلك وبيّن له اختصاصها بغير الظالمين منهم، وقد صرّح القرآن بانقسام ذريته إلى محسن وظالم في قوله تعالى {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِين} (2) بل إنّ الله تعالى قد صرّح بأنّ الأمر باقٍ في عقبه بقوله {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِه} (3) (4).

فلاحظ هذا النسيج المترابط بين دعوة إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل أن تكون الإمامة في ذريته وإجابة الله تعالى له بأنه لن ينالها الظالمون من ذريته وإنما سينالهم المستحقون لها ثم إشارة الله تعالى إلى مباركته على إبراهيم عليه السلام واصطفاه جملة من ذريته بالنبوة والكتاب.

ولاحظ هذا التجانس العجيب بين قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} وبين قوله عن ذريته {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} فالجعل في الآيتين واحد والإجابة على طلب إبراهيم عليه السلام في جعل الإمامة في ذريته كان بالنبوة!

قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب}: (فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه) (5).


(1) سورة البقرة آية 124
(2) سورة الصافات آية 112 - 113
(3) سورة الزخرف آية 28
(4) الإمامة في جذورها القرآنية ص50 - 51
(5) تفسير القرآن العظيم 1/ 227

بل تأمل وصف الله تعالى لإسحاق ويعقوب عليهما السلام بالإمامة في قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين} (1) وتكراره الحديث عنهم في سورة مريم باستبدال كلمة (الإمامة) بكلمة (النبوة) حيث يقول عزّ من قائل {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} (2) فإنه مُشعِرٌ بأنّ الإمامة المذكورة هي إمامة النبوة، فهناك نصّ على أنهم أئمة يُوحي إليهم وهنا نصّ على كونهم أنبياء.

ومما يزيد هذا كله بياناً ما ورد في سورة الأنعام في ذِكر إبراهيم عليه السلام وذريته حيث ترى بجلاء أنّ الإمامة التي جُعلت في ذرية إبراهيم هي إمامة النبوة حيث يقول تعالى {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين} (3).


(1) سورة الأنبياء آية 72 - 73
(2) سورة مريم آية 49
(3) سورة الأنعام آية 83 - 89

فقد ختم الله تعالى الحديث عنهم بقوله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ولو كانت الإمامة مرتبة فوق النبوة وقد نالها إبراهيم عليه السلام وذريته المعصومين من بعده (1) لذُكِروا بهذا الوصف، فإنّ الأسماء المذكورة في الآية كلها أسماء أنبياء معصومين!

وإزاء ذلك لم يجد عالماً كبيراً من علماء الشيعة الإثنى عشرية كآية الله العظمى محمد باقر الصدر سوى الاعتراف بأنّ الإمامة المذكورة في حق الأنبياء في الآيات هي إمامة النبوة.

يقول محمد باقر الصدر في كتابه "الإسلام يقود الحياة": (والإمامة ظاهرة ربانية ثابتة على مر التاريخ وقد اتخذت شكلين ربانيين: أحدهما شكل النبوة التابعة لرسالة النبي القائد فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين يكلفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها. وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمة بمعنى أنهم أوصياء على الرسالة وليسوا أصحاب رسالة {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون} (2) والشكل الآخر هو الوصاية بدون نبوة وهذا هو الشكل الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله تعالى فعين أوصياءه الإثني عشر ...) (3).


(1) لا عن الشرك والظلم والكبائر والصغائر فحسب بل أيضاً منزهون في معتقد الشيعة الإثنى عشرية عن الخطأ البشري والسهو والنسيان، ومع ذلك لم يُذكر في حقهم أنهم نالوا مرتبة فوق النبوة وفقاً لنظرة الشيعة الإثنى عشرية لقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}.
(2) سورة السجدة آية 24
(3) الإسلام يقود الحياة ص196 - 197

وهو اعتراف صريح من هذا العالم الشيعي الكبير بأنّ الإمامة في الآيات محمولة على معنى النبوة، فالأنبياء الذين نص الله تعالى على إمامتهم هم أنبياء يحرسون رسالة من سبقهم ويدعون إليها، وأنّ الإمامة بالمعنى الذي يفهمه الشيعة الإثنى عشرية خاصة بأئمة أهل البيت الإثنى عشر لا غيرهم.

وقد سبقه إلى هذا مير علي الحائري الطهراني في تفسيره لقوله تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين} (1) إذ يقول: (والمراد بهذه الإمامة النبوة) (2).

ثالثاً: هناك من علماء الشيعة الإثني عشرية من أذعن للحق فصدع به مبيناً أنّ الإمامة في الآية الكريمة هي النبوة أو الرسالة صراحة أو ضمناً، ومن هؤلاء:

*المحقق الحلي حيث يقول في كتابه "المسلك في أصول الدين" عن عصمة النبي: (وأما قبل النبوة فهو معصوم عن تعمّد المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ويدلّ عليه من القرآن قوله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}).

ويقول في "الرسالة الماتعية": (وإذا عرفت أنّ الأنبياء نصبوا لإرشاد الخلق، وجب أن يكونوا معصومين من الذنوب كبيرها وصغيرها لأنهم قدوة الخلق، فلو جاز وقوع الخطأ منهم لحمل ذلك على اتّباعهم فيه. ويدل على ذلك من القرآن قوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}) (3).


(1) سورة الأنبياء آية 72 - 73
(2) مقتنيات الدرر 7/ 172
(3) المسلك في أصول الدين ص155 وتليه الرسالة الماتعية ص303 - 304

رابعاً: أنّ دعوى تقدّم الابتلاء على الإمامة وأنها حصلت كجزاء على النجاح في الابتلاء لا يستقيم لغة، فإنه لو كان الأمر كذلك لقال الله عز وجل (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ فقال إني جاعلك للناس إماماً) فيؤتى بالفاء كرابطة ليكون ما قبلها (وهو الابتلاء) سبباً لما بعدها (وهي الإمامة)، وبعدم وجود (الفاء) يترجح كون العبارة تفسيراً وليس جزاءً لما قبلها.

ومما يؤيد ذلك أنّ الجملة إذا جاءت جزاءاً لجملة تقدمت عليها، ولم تتأخر عنها.

أما إذا تأخرت عنها فهي سبب أو تفسير لما قبلها.

فالجملة المتأخرة التفسيرية كقوله تعالى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} (1) فجملة (أخرج) تفسير لجملة (دحاها).

وأما السببية فكقوله تعالى {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} (2)

فجملة {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} سبب لما قبلها من قوله {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ..} فالجملة الجزائية تتقدم على الجملة السببية.

فتأخير قوله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} مع انعدام حرف (الفاء) يضعف كونها جزاءاً لما قبلها، وأنّ ما قبلها سبب لها (3).


(1) سورة النازعات آية 30 - 31
(2) سورة الحاقة آية 30 - 34
(3) المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل ص245

خامساً: إنَّ تفسيرنا للإمامة في الآية بأنها النبوة لا يتعارض مع كون إبراهيم عليه السلام نبياً قبل هذا البلاغ، لاحتمالين اثنين لا يخرج الحق منهما إن شاء الله تعالى:

الاحتمال الأول: أن يكون المراد أنه عليه السلام كان نبياً مكلّماً يدعو إلى الله تعالى لكنه لم يكن مأموراً إذ ذاك بالبلاغ العام كحال نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} (1) فكان إخبار الله تعالى بأنه سيجعله إماماً للناس يأتمون به في أمر دينهم ودنياهم كنحو أمر الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار قومه وبالتصدي للدعوة جهرة بعد كانت خفية مرهونة بأشخاص محددين.

الاحتمال الثاني: أن يُقال إنه عليه السلام كان نبياً مكلّماً يأتم به قومه الذين بُعث فيهم فوسّع الله تعالى دائرة إمامته بهذا الخطاب بحيث شملت من بُعث فيهم ومن آمن برسالته إلى يوم القيامة، فنال عليه السلام شرف الإمامة لمن بعده في مسائل عدة كالتوحيد (2) والولاء البراء (3) وإمامة الحج (4) وبعض السنن النبوية التي شرعها لقومه ولجميع من جاء بعده كسنن


(1) سورة الشعراء آية 214
(2) سيأتي الحديث عنه في (الوقفة الثانية)
(3) كما قال تعالى في سورة الممتحنة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}.
(4) كما قال تعالى في سورة الحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق} فلا يُذكر الحج إلا ويُذكر إبراهيم عليه السلام فهو الرافع لقواعد بيت الله والمؤذن للحج ليأتم الناس كلهم به في مناسكهم فكان أول من ائتم به هو ابنه إسماعيل عليه السلام ثم الناس جميعاً كما قال تعالى في= = سورة البقرة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} وسورة إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء. الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}.

الفطرة المعروفة (1).

الوقفة الثانية: لقد عَدَّدَ آية الله العظمى المنتظري في كتابه (نظام الحكم في الإسلام ص109) الشروط الواجب توفرها بالخليفة فذكر ثمانية اتفق الفقهاء عليها وستة أخرى اختلفوا فيها.

لكن الملفت للنظر هو استشهاد هذا المرجع الشيعي الكبير بقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} على اشتراط (العدالة) في إمام المسلمين، بينما تكلم عن اشتراط (العصمة) في الإمام دون استشهاد ولا إشارة إلى هذه الآية الكريمة مكتفياً ببعض الروايات الشيعية الدالة على اشتراط العصمة!

يقول المنتظري: (3 - العدالة، فلا ولاية للظالم والفاسق على المسلمين، ويدل عليه مضافاً إلى حكم العقل، الآيات والروايات الكثيرة:


(1) فقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس من الفطرة: الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب) وهي سنن إبراهيم عليه السلام العتيقة التي سنها للناس.

1 – قال تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} فكل ما يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم فكل فاسق ظالم، وكل منحرف عن الحق كذلك) (1).

وغير خافٍ عنك أنّ استشهاد المنتظري بهذه الآية على شرط العدالة دون العصمة دالٌ على اعتقاده بأنّ الآية ليست بدالة على اشتراط العصمة في إمام المسلمين، وكفى بذلك إلزاماً للمتعصبين.

أما آية الله الشيخ محمد آصف المحسني فقد أعلن بكل صراحة أنّ الشرط الذي تضمنته الآية بيقين هو العدالة وليس العصمة فيقول في كتابه "صراط الحق في أصول الدين" عند كلامه عن الآية: (لكن القدر المتيقن من دلالة الآية الكريمة هو اشتراط العدالة في الإمام من أول عمره إلى آخره، إذ العدالة تكفي لأن يصدق عليه أنه غير ظالم، ولذا لا يصدق على الأخيار وأفاضل العلماء الأبرار أنهم ظالمون صدقاً عرفياً، وكلام الله أيضاً منزل على فهمهم) (2).

الوقفة الثالثة: الآية ذكرت منقبة لإبراهيم عليه السلام فقلبها الشيعة الإثنا عشرية إلى منقصة!

لقد ادّعى الشيعة الإثنا عشرية بأنّ في الآية دلالة صريحة على كون الإمامة أعظم من النبوة.


(1) نظام الحكم في الإسلام ص109
(2) صراط الحق في أصول الدين 3/ 97

وفي هذا يقول آية الله العظمى كاظم الحائري في كتابه "الإمامة وقيادة المجتمع": (إنّ الذي يبدو من الروايات أنّ مقام الإمامة فوق المقامات الاُخرى - ما عدا مقام الربوبية طبعاً التي يمكن أن يصل إليها إنسان) ويقول في موضع آخر: (فمقام الإمامة - إذن - فوق مقام النبوة) (1).

وهو ما يؤكده آية الله ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره "الأمثل" بقوله: (فمنزلة الإمامة أفضل مما ذُكر، بل أسمى من النبوة والرسالة!) (2).

ومما يزيده هذه التقريرات بياناً ما رواه الكليني في الكافي عن الإمام جعفر بن محمد أنه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً فلما جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} قال: لا يكون السفيه إمام التقي) (3).

وهنا إشكال لطيف يرِد على دعوى الشيعة الإثنى عشرية أنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً ثم ارتقى فصار رسولاً ثم ارتقى فصار إماماً، وهو إشكال لا يتنبه له إلا من فتح الله تعالى على قلبه وبصره (4).


(1) الإمامة وقيادة المجتمع ص26و29
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 1/ 372
(3) الكافي – كتاب الحجة – باب (طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام) – رواية رقم (2).
(4) حدثني عنه الأخ الفاضل عبد الملك الشافعي في احدى لقاءاتي معه.

فبتأمل الفرق بين الإمام والنبي والرسول والذي ورد بروايات شيعية عن الأئمة المعصومين في معتقد الإمامية، نلحظ مفارقة عظيمة بين الارتقاء المزعوم في حق إبراهيم عليه السلام وبين ما ينص عليه الأئمة المعصومين!

فقد روى الكليني عن إسماعيل بن مرّار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (ع): جعلت فداك، أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص (1).

وروى محمد بن الحسن الصفار عن بريد العجلي قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن الرسول والنبي والمحدث، قال: الرسول الذى تأتيه الملائكة ويعاينهم وتبلغه عن الله تبارك وتعالى والنبي الذي يرى في منامه فهو كما رأى، والمحدّث الذي يسمع كلام الملائكة وينقر في أذنه وينكت في قلبه).

وعنه عن زرارة قال: سألتُ أبا جعفر (ع) عن قول الله عزوجل {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} قلت: ما هو الرسول من النبي؟ قال: النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول يعاين الملك ويكلمه، قلت: فالإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولايرى ولا يعاين ...) (2) والروايات في هذا كثيرة (3).


(1) الكافي 1/ 176 – كتاب الحجة - (باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث) – حديث رقم (2).
(2) الروايتان من بصائر الدرجات للصفار –باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة– رواية رقم (1) و (2).
(3) انظر: الكافي 1/ 176 وبحار الأنوار وغيرها.

فوفقاً لهذه الروايات فإنّ الفرق بين الرسول والنبي والإمام أنّ الرسول يرى المَلَك ويكلمه وربما رأى في منامه أحياناً وأنّ النبي يسمع صوت المَلَك لكنه لا يراه في أغلب الأحوال (1) وربما رأى في منامه أحياناً أما الإمام فإنه يسمع صوت المَلَك لكنه لا يراه ولا يعاينه أبداً!

فعلى دعوى الشيعة الإثني عشرية بأنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً رسولاً ثم صار إماماً فإنّ ذلك يعني أنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً يرى في منامه ويسمع كلام الملك، ثم ارتقى إلى منصب أعلى وأسمى وهو الرسالة فصار يرى في منامه ويسمع كلام الملك ويراه عياناً، ثم ارتقى إلى منصب أعلى وأسمى -على دعوى الشيعة بأنّ الإمامة أعلى وأسمى من النبوة والرسالة- فصار يسمع كلام الملك ولا يرى في منامه ولا يرى الملك!!

فهل كانت الإمامة بالنسبة لإبراهيم عليه السلام ارتقاء – كما يزعم الشيعة الإثنا عشرية- أم أنها صارت انحداراً إلى مرتبة فقد بسببها إبراهيم عليه السلام مزيتين في الفضل كانتا له وهما (رؤية المَلَك عياناً والرؤية في المنام) كما نصت على ذلك الروايات الشيعية؟!

إنّ هذا التساؤل المحيّر الذي لا يعرف له العقلاء جواباً، قد حيّر أيضاً آية الله الشيخ محمد آصف مُحسني إذ يُصرّح في كتابه "مشرعة بحار الأنوار 1/ 271" في معرض حديثه عن إمامة إبراهيم عليه السلام بهذا قائلاً: (... لكن في الروايات الواردة في حق الإمام أنه يسمع الصوت ولا يرى الشخص، والرسول يرى الشخص، فإعطاء الإمامة بهذا المعنى لا يمكن للرسول. وهذا السؤال ذكرناه في الجزء الثالث من صراط الحق الذي ألّفناه في أيام شبابنا في النجف الأشرف ولم أفز على جوابه لحد الآن، وما أوتينا من العلم إلا أقل من القليل).


(1) ففي رواية الكافي المذكورة آنفاً أنّ النبي (ربما رأى الشخص ولم يسمع).

الوقفة الرابعة: لقد ادّعى الشيعة الإثنا عشرية أنّ الإمامة التي هي (قيادة المجتمع) هي منزلة أعظم من النبوة، ونسبوا إلى الإمام الصادق قوله: (إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي}) (1)، وهم لأجل هذه الإمامة المعظّمة والمصروفة عن آل البيت قد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وكفّروا لأجل ذلك الصحابة ومن والاهم (2)، بينما نجد أنّ الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه يشبه الإمامة التي يفضلونها على النبوة بـ (النعال) كما في الخطبة رقم (33) من "نهج البلاغة" والتي يقول فيها عبد الله بن عباس: (دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (ع): والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).

بل شبهها بـ (عفطة عنز!) إذ يقول في الخطبة الشقشقية في معرض تحسره على الخلافة (3):


(1) تقدم تخريجه
(2) كما سبق بيانه تحت عنوان (المرجعيات ولغة التكفير) فراجعه.
(3) إنّ "نهج البلاغة" بما فيه من خطب وأقوال منسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه يفتقد إلى الإسناد المتصل إليه، فجامعه (الشيخ الرضّي) من أعلام القرن الرابع الهجري، وبينه وبين الإمام علي مفاوز، ومع هذا قبله الشيعة على ما فيه من العلل لعِدم عنايتهم بالإسناد الصحيح، ولقد بذل الشيخ عبد الزهراء الحسيني جهداً مضنياً فيما يبدو في كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) لإعطاء "النهج" نوعاً من المصداقية لكنه لم يفلح فإنّ أغلب الكتب التي اعتمد عليها في إثبات صحة ما يُنسب إلى الإمام علي في "النهج" هي كتب مُلَح وأدب ليس لها سند أصلاً!

(أما والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر. وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم. لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها. ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).

يقول المرتضى في "الرسائل 2/ 113": (والعرب تقول: عفطت الناقة تعفط عفطاً وعفيطاً وعفطاناً فهي عافطة، وهو نثرها بأنفها كما ينثر الحمار. ويقال: عفطت ضرطت. وكلا من المعنيين تحتملهما اللفظة في هذا الموضع)!

فكيف عظمت الإمامة في عين إبراهيم عليه السلام وحقرت في عين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟!

وكيف تكون المنزلة التي هي أدنى من النعل أو عفطة العنز هي تلك المنزلة التي يراها الإمامية أنها أعظم من النبوة؟!

الوقفة الخامسة: ما المراد بالظلم في الآية الكريمة؟ وهل الخطيئة مانعة من نيل الإمامة؟

لقد اشترط أرباب الشيعة الإثني عشرية للإمامة أن لا يقع من الإنسان ذنب ولو لبرهة من حياته وإن تاب وأصلح!

وجعلوا الذنب والخطأ مانعاً من الإمامة، وبتدبر يسير للكتاب والسنة النبوية نلاحظ أنّ الحق بخلاف ما ذهبوا إليه.

فهذا آدم عليه السلام قد وقع في الخطيئة كما قال الله تعالى {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين} (1).


(1) سورة البقرة آية 35

فالأكل من الشجرة يجعل الآكل من الظالمين كما نصت على ذلك الآية وكما نص الله تعالى على ذلك بقوله {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (1) وقد أكل آدم عليه السلام منها ولذلك اعترف هو وحواء بوقوع الظلم منهما قائلين {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) فكيف على قواعد الإمامية يستقيم هذا مع إمامته والنص على خلافته بقوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة} (3)؟!

فإنّ كل خليفة منصوص عليه شرعاً هو إمام شرعي واجب الاتباع ولا بد.

لقد نال آدم عليه السلام العهد لما تاب وأناب كما قال الله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} (4) فهو ليس من الظالمين الذين لا ينالهم عهد الله وإن صدرت منه خطيئة أعقبتها توبة.

ولذلك اصطفاه الله تعالى كما اصطفى غيره من الأنبياء والمرسلين لإمامة الناس فقال عز من قائل {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} (5).

وكذلك داود عليه السلام الذي صرّح الله تعالى بـ (جعله) خليفة في قوله {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْض} (6) جاءت هذه الآية فيه بعد أن ذكر الله تعالى عنه ارتكاب الخطيئة.


(1) سورة طه آية 121
(2) سورة الأعراف آية 23
(3) سورة البقرة آية 30
(4) سورة البقرة آية 37
(5) سورة آل عمران آية 33
(6) سورة ص آية 26

فقد تحدثت الآيات عن قصة الخصمين اللذين تسورا عليه المحراب، وانتهت بقول الله تعالى {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب} (1).

قال الطوسي: (قال أصحابنا: كان موضع الخطيئة أنه قال للخصم {لقد ظلمك} من غير أن يسأل خصمه عن دعواه، وفي آداب القضاء ألا يحكم بشيء ولا يقول حتى يسأل خصمه عن دعوى خصمه) (2).

وكذلك سليمان عليه السلام، قال الله تعالى عنه {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} (3) وقبلها ذكر الله تعالى قصة انشغاله بالخيل حتى فاتته صلاة العصر، وروي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (إنّ سليمان بن داود عليه السلام عُرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردوا الشمس عليّ حتى أصلي صلاتي في وقتها) (4).

فالتوبة بعد الخطيئة لا تحرم العبد من الفضل أو الفضيلة بل ترتفع فيه فيكون أقرب من الله تعالى الذي {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} ولولا الذنب لما حصلت التوبة والتطهير الذي به ينال العبد حب الرب.


(1) سورة ص آية 24 - 25
(2) تفسير التبيان 8/ 553
(3) سورة ص آية 34 - 35
(4) من لا يحضره الفقيه 1/ 129وراجع إن شئت أيضاً: تفسير التبيان للطوسي 8/ 560 وتفسير الصافي للفيض الكاشاني 4/ 298 وتفسير كنز الدقائق للعلامة المشهدي 11/ 231 - 234 وتفسير القمي 2/ 234

(ومن المعلوم أنه قد يكون التائب من الظلم أفضل ممن لم يقع منه، ومن اعتقد أنّ كل من لم يكفر ولم يُذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وتاب بعد ذنوبه، فهو مخالف لما عُلم بالاضطرار من دين الإسلام، فمن المعلوم أنّ السابقين أفضل من أولادهم (1) وهل يُشبّه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل؟!) (2).

إنّ أول ما يُبطل دعوى مفسري الشيعة الإثني عشرية بأنّ المراد بـ (الظالمين) في الآية الكريمة مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان منه في برهة من عمره ثم تاب وأصلح، أنها دعوى بلا دليل.

إنّ (الظالمين) جمع (ظالم) والظالم اسم للمتلبس بالظلم المقيم عليه أما من تاب وانخلع منه فلا يُسمى ظالماً وإلا لم يدخل أحد من التائبين الجنة لأنهم (ظالمون)، والله تعالى يقول {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين} (3) وتوعدهم بالعذاب فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (4) ومثله في القرآن كثير.

فكيف يصح أن يُقال: (إنّ المراد بالظالمين في هذه الآية مُطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان في برهة من عمره ثم تاب وأصلح)؟! إذن كل المسلمين في النار!

إنّ التائب من الذنب في شرعنا كمن لا ذنب له، والله عز وجل يقول {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ


(1) مع أنّ أولادهم قد وُلدوا على الإسلام وتربوا عليه بينما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كانوا على الشرك ثم اعتنقوا الإسلام.
(2) من كلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.
(3) سورة هود آية 18
(4) سورة الكهف آية 29

وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (1).

إنها ليست سوى محاولة يائسة لإخراج أبي بكر الصديق وغيره من الصحابة من شرف الإمامة واستحقاق الإمامة بدعوى أنهم كانوا مشركين فهم من (الظالمين) وإن تابوا وجاهدوا وضحوا من أجل الإسلام والمسلمين!

ولعله يكفي حجة على من يستدل بآية {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} على الإمامة، أن تذكّره بقول الله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِين} (2).

ففي هذه الآيات الكريمات إجابة واضحة على من يدّعي أنّ المراد من الآية مطلق الذنب!

فإنّ الله عز وجل ذكر في الآيات الكريمات أنه قد بارك على ابراهيم وإسحاق عليهما السلام ثم ذكر بأنّ من ذريتهما من هو محسن ومن هو ظالم لنفسه مبين، فأي عاقل يستطيع الادعاء بأنّ المراد هو أنّ من ذريتهما من هو معصوم ومن هو كباقي الصالحين يعصي ويتوب!

بل المراد هو أنّ منهم من هو صالح عادل، ومنهم من هو طالح ظالم قد بان ظلمه وشركه.

ودلائل ذلك كثيرة في بني إسرائيل الذين وُجد فيهم الصالحون المتقون، ووجد فيهم قتلة الأنبياء ومحرفو الكتب السماوية والمعاندون المكذبون لله ورسله.

فإذا علمت هذا كله، فاعلم أنّ المراد بقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أن لا ينال عهد الله تعالى مشرك.


(1) سورة الفرقان آية 70
(2) سورة الصافات آية 104 - 113

وفي هذا يقول العلامة ابن قيّم الجوزية: (وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك، ولهذا أوصى نبيه محمداً أن يتبع ملة إبراهيم وكان يعلّم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، فملة إبراهيم التوحيد ودين محمد ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله وفطرة الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة) (1).

وهو ما نصت عليه روايات الشيعة الإثني عشرية أيضاً وتصريحات بعض علمائهم.

روى محمد بن الحسن الصفّار في "بصائر الدرجات" عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور الواسطي عنهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: (الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات) إلى أن قال: (وقد كان ابراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال الله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} بأنه يكون في ولده كلهم {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي من عبد صنماً أو وثناً) (2).

وفي كتاب "الاحتجاج" للطبرسي في حديث طويل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: (إذ كان الله قد حظر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله


(1) مدارج السالكين 3/ 481
(2) بصائر الدرجات للصفار ص393 (باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام ومعرفتهم وصفتهم) رواية رقم (20) والكافي للكليني1/ 174 (باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة) رواية رقم (1).

لابراهيم {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي المشركين، لأنه سمّى الظلم شركاً بقوله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} فلما علم ابراهيم عليه السلام أنّ عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالامامة لا ينال عبدة الأصنام، قال {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام}) (1).

وفي الأمالي للطوسي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم. فقلنا: يا رسول الله، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً، فاستخف إبراهيم الفرح، فقال: يا رب، ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عز وجل إليه أن يا إبراهيم، إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به. قال: يا رب، ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك لظالم من ذريتك. قال: يا رب، ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصح أن يكون إماماً. قال إبراهيم {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس}) (2).

وفي هذا يقول ابن شهرآشوب في "مناقب آل أبي طالب 1/ 213" ما نصه: (قوله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فقال ابراهيم من عِظم خطر الإمامة عنده {وَمِن ذُرِّيَّتِي} قال {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}، وفي خبر إنه قال: ومن الظالم من ولدي؟ قال: من سجد لصنم من دوني فقال ابراهيم {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام}).

وقال الحافظ شمس الدين يحيى بن الحسن الحلي في كتابه "العمدة": (ونظيره في استحقاق الإمامة، لأنه يستحقها على طريق استحقاق النبي صلى الله عليه وآله للنبوة سواء بدليل قوله


(1) الاحتجاج للطبرسي 1/ 373 وتفسير نور الثقلين للحويزي 2/ 546
(2) الأمالي للطوسي ص378 - 379

سبحانه وتعالى لابراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} والظلم هاهنا هو الشرك، وحد الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك قد وجه عبادته إلى غير مستحقها، وهو عبادة الأصنام وهي غير مستحقة للعبادة) (1).

وقال في "خصائص الوحي المبين": (وكذلك من عبد الأصنام من ولد إبراهيم عليه السلام لم ينف عنهم النسب، وإنما نفى عنهم استحقاق الإمامة على مقتضى نفي الوحي العزيز للإمامة عمن عبد الأصنام بدليل قوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}) (2).

وقال أيضاً: (فقال تعالى مجيباً له {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} وأراد بالظلم هنا عبادة الأصنام وأنّ من عبد الأصنام لا يكون إماماً {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِين} (3) (4).

وكل هذا يلتقي التقاء واضحاً مع ما نص عليه كتاب الله تعالى من اعتناء إبراهيم عليه السلام بقضية التوحيد ونبذ الشرك بشكل خاص، فقد كان إبراهيم الخليل إمام الموحدين كلهم، ولذلك كان اليهود والنصارى يتنازعون إمامة إبراهيم عليه السلام لهم فقال لهم رب العالمين {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين} (5).


(1) العمدة ص173
(2) خصائص الوحي المبين ص137
(3) كانت الآية في الأصل (إنّ في هذا لبلاغاً لقوم يعقلون)، فلعل المؤلف قد وهِم إذ لا وجود لمثل هذه الآية المزعومة في المصحف كله! فاقتضى الأمر مني تعديل الآية كما هي في كتاب الله تعالى، والغريب أنه قد كررها في كتابه أربع مرات وفي مواضع متفرقة دون التنبه لمثل هذا الخطأ الشنيع!
(4) خصائص الوحي المبين ص188
(5) سورة آل عمران آية 68

ولذا كثيراً ما ترى أنبياء الله يشيرون إلى ابراهيم عليه السلام وإلى ملته، في إشارة منهم إلى تلك الإمامة الدينية.

فهذا يوسف عليه السلام يقول لصاحبه في السجن {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} (1).

وهذا يعقوب عليه السلام وهو على فراش الموت يجمع بنيه ليسألهم عن التوحيد اقتداء بأبيه إبراهيم عليه السلام الذي جمعه وإخوته ليُحضهم على التمسك بالدين كما أخبر الله تعالى عنه بقوله {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} (2).

وحتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم مأمور من الله تعالى باتباع ملة إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد كما قال الله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} (3) فأين هذا كله مما يدّعيه الشيعة الإثنا عشرية في أنّ المراد بالظلم في الآية الكريمة هو الذنب؟!

ولماذا أغفلوا ما ترويه تفاسيرهم من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمامين الباقر والصادق وهم يزعمون أنهم أتباع العترة الطاهرة والمدافعون عن تعاليمهم؟!

إنه الهوى وما يفعله في أصحابه!

 


(1) سورة يوسف آية 38
(2) سورة البقرة آية 130 - 133
(3) سورة النحل آية 123

  • السبت PM 07:33
    2022-05-21
  • 1293
Powered by: GateGold