المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412669
يتصفح الموقع حاليا : 290

البحث

البحث

عرض المادة

الأحلام لا تصلح لأن تكون دستوراً

الحديث عن خليفة معصوم ليس نبياً ولا رسولاً يعود بذاكرتي إلى ما قرأته قديماً عن المدينة الفاضلة التي لم ولن توجد إلا في مخيلة أفلاطون.

فمن السهل على المرء أن يعيش في برج عاجي، يجول بفكره هنا وهناك ويعيش جنة أرضية في مخيلته تؤنسه في وحشته وتسلي نفسه ويريح بها ضميره، خصوصاً إذا ما كان يتقلب في مجتمعات عاشت على المظالم منذ زمن بعيد (1)، من حقه أن يريح فكره ويعيش حُلمه، ولسنا نلومه على ذلك، لكن أن يفرض هذه الأحلام على الناس جميعاً ويكفّر من لا يعيش معه هذا الخيال وذاك الوهم، جاعلاً آماله وظنونه جزءاً لا يتجزأ من الدين يوالي ويعادي الناس عليه فهذا ما يحتاج منا إلى وقفة تأمل.

تُرى لو جاز للأئمة الإثني عشر أن يتولوا الخلافة، أترى هؤلاء الناس الذين يعتقدون فيهم العصمة ولا يجوّزون عليهم الخطأ ويدندنون حول هذا الكلام ليل نهار، أتراهم سيصمدون على رأيهم هذا إذا ما رأوا من هؤلاء الأئمة ما لا ينبغي أن يحصل أم أنه سرعان ما تنشئ المعارضة لبعض القرارات والأحكام؟

هذا الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب –وهو إمام معصوم عند الإمامية- لما تولى الخلافة زمناً يسيراً، وصالح معاوية بن أبي سفيان على الخلافة ماذا فعل فيه شيعته الذين يزعمون عصمته؟ نادوه بـ (يا مذل المؤمنين) (2)، ومنهم من طعنه في فخذه، ومنهم من اكتفى بالاعتراض بالقول دون الفعل، ومنهم بلا شك من سخط عليه لكنه لم يملك التصريح بالمعارضة والعصيان.

هذا هو الواقع الذي يرفضه أرباب النظرية الإمامية، مع أنه واقع ملموس، سطرته كتب الفريقين السنة والشيعة.

ولله در الإمام الشيعي الزيدي"المنصور بالله" (المتوفى 614هـ) إذ يقول مبيّناً تهافت نظرية الإمامة عند الإثني عشرية: (وأما قولهم: إنّ المكلفين يكونون مع وجود الإمام أقرب إلى القيام بما كلفوه، فقول غير سليم وقياس لا يستقيم بل لا يمتنع في المشاهدة كونهم أبعد مع وجوده من فعل الطاعة، وأقرب إلى فعل المعصية كما كان في أيام علي والحسن والحسين سلام الله عليهم، فإنّ الناس ارتكبوا في أيامهم من الآثام، وحلوا من عقد الإسلام ما لم يكن قبل ذلك ولا بعده.

وهذا الحسن بن علي عليه السلام نهض في شيعة أبيه وأجناده فثاروا به فجرحوه ونهبوا بيت ماله وسلبوا أمهات أولاده، وصغّروا عظيم حقه، حتى تمكّن منه عدوه، واستولى على الأمر من ليس من أهله.

وكذلك الحسين بن علي عليه السلام أناخ بإزاء شيعة أبيه بعد استدعائهم له، وإنفاذهم للرسل المتواترة إليه لإزعاجه ووعدهم له النصرة، والقيام بما يجب من حقه، وتقلد أكثرهم البيعة، والعقد الوثيق في ملازمة طاعته فقادوا الخيول، وأرخوا الكتائب حتى أحاطوا به من كل جانب، وحاولوه من كل وجه حتى سفكوا دمه، وحصدوا بشفار السيوف وشبا الأسنة جميع من حضره من أهل بيته سلام الله عليهم بضعة عشر غلاماً ممن له مرتكض في رحم فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأي قرب تراه إلى الطاعة، وأي بعد تراه من المعصية، والأمر كما يعلمه العقلاء بالضد من ذلك، بعدوا من الطاعة وقربوا من المعصية مع وجود الإمام المعصوم المعلوم لإمامة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ولده) إلى أن قال ناقداً اعتقاد الإثنى عشرية إمام القائم المنتظر الغائب: (فإن قدّروا رئيساً ظاهر الأمر مبسوط اليد، فهذه صفة لا توجد في إمامهم الذي ادعوا إمامته، لأنهم ذكروا أنّ الخوف شرّده حتى لم يقرّ به قرار، ولا تلقته دار، وزاد خوفه على خوف الخائفين وهربه على هرب الهاربين) إلى أن قال: (بل ذكر علماؤهم الكبار في كتبهم المحصّلة أنّ الإمام ما منعه من الظهور لأوليائه إلا مخافة أن يظهر أمره إلى الظلمة بسعاية بعض السعاة فيهلكه، فلذلك تكتم

 

 


(1) ولذا أرجّح أنّ سبب نشوء نظرية العصمة كان ردة فعل لمظالم وقعت على معتدلي الشيعة آنذاك من جهة السلطة الحاكمة ومن جهة غلو النواصب في الطعن في الإمام علي وأهل البيت بالإضافة إلى مقتل الأئمة والعلماء من أهل البيت فوجد المتطرفون والغلاة طريقاً لبث غلوهم، ولعل حرص بعض الحكام الأمويين والعباسيين على إبراز أنفسهم كظل الله في الأرض، وادعاءهم أنهم الأحق بالخلافة من غيرهم سبب رئيسي لتطرف شيعي مقابل جعل الخلافة حقاً لاثني عشر فاضلاً من أهل البيت دون سائر الناس بل دون سائر أهل البيت وجعل العصمة شرطاً في الخلافة وادعى العصمة في الإثنى عشر باستخدام نصوص لا تمُت بصلة إلى موضوع العصمة كآية التطهير وحديث الكساء كما سيأتي.

(2) صرّح بهذه الحقيقة أحد كبار علماء الشيعة الإثنى عشرية وهو ابن شعبة الحراني في "تحف العقول عن آل الرسول عليهم السلام ص308" فقال: (اعلم أنّ الحسن بن علي عليهما السلام لما طعن واختلف الناس عليه، سلّم الأمر لمعاوية فسلّمت عليه الشيعة: عليك السلام يا مذل المؤمنين. فقال عليه السلام: "ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين).

من الولي ومن العدو. فأي هيبة والحال هذه تمنع المكلفين من القبيح من إمام هذه صورته؟!) (1).

فالنظرية في واد وواقع الأئمة الإثنى عشر في واد آخر، ومن يستقرئ التاريخ الشيعي الخالص أو يستعين بكتاب جيد في هذا الباب ككتاب "تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه" للأستاذ أحمد الكاتب (2)، سيدرك بالفعل تهاوي النظرية الإمامية أمام حقائق النصوص الشيعية ذاتها.

لقد أنهك المتكلمون الذين اخترعوا مثل هذه النظريات الأمة بقضايا كانت في غنى عنها، فأورثوها فرقة واختلافاً تجرعت مرارته فترات من الزمن ولا زالت تتجرعه.

فمتى دخل على الأمة الجدل في القرآن هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ ومتى دخل على الأمة الجدل في صفات الله بين تعطيل وتحريف قابله تكييف وتمثيل وتشبيه لله بخلقه؟ إن لم يكن علم الكلام وراء هذا كله.

ونظرية عصمة الأئمة هي إحدى تلك الإفرازات، قامت على أسس عقلية نطق بها بعض المتكلمين ثم انصرفوا بعد رسمها إلى الاستدلال عليها من كتاب الله وسنة رسوله، وبذلوا في ذلك الجهد والطاقة. آمنوا بالنظرية ثم راحوا يبحثون عن الدليل، في حين أنّ ديننا يدعونا إلى البحث عن الدليل ثم الإيمان بما يأتي به الدليل لا الإيمان بما يمليه علينا الهوى ثم البحث عن ما يسعف ذاك الهوى.

ولعل من أبرز التحديات الفعلية التي واجهت هؤلاء المتكلمين هو موقف أهل البيت من نظرية العصمة التي يزعمها متكلمو الشيعة فيهم.

فقد خطب الإمام علي بن أبي طالب الناس في مسجد الكوفة قائلاً: (فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطاء ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني) (3).

وأكدّ في خطبة أخرى وهو يتحدث عن الخارجي "الخريت بن ناجية" ومحاولاته السابقة لدفع الإمام لقتل واعتقال عدد من زعماء المعارضة، أنّ من الواجب على الناس الوقوف في وجه إمامهم ومنعه إذا أراد هو أن يفعل ذلك، مذكرينه بالله عز وجل!

ولم يكن الإمام علي بن أبي طالب ليقول هذا للناس لو كان هناك اعتقاد سائد لدى شيعته بعصمته، وذلك لأنّ هالة العصمة تحتم أن يضع الإمام نفسه فوق النقد وأن يحرّم على المعارضة نقده أو التجرؤ عليه بتوجيه النصح والمشورة له، وهذا ما لم يكن يفعله الإمام علي الذي ضرب أروع الأمثلة في حسن القيادة وطلب مشورة المحكومين وإعطائهم دورهم السياسي في تقويم حاكمهم.

ويستعرض الإمام علي في موضع آخر صفات الحاكم وشروطه فلا يذكر من بينها (العصمة) فيقول: (.. إنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم وإمامة


(1) المجموع المنصوري (رسالة العقد الثمين في أحكام الأئمة المهديين 1/ 389 - 390).
(2) رغم الانتقادات اللاذعة التي نالت الكتاب ومؤلفه من قِبل خصومه إلى حد استخدام سلاحي الترهيب من جهة وتشويه السمعة والتشكيك في المصداقية من جهة أخرى إلا أنّ الكتاب يُعتبر وثيقة تاريخية مهمة بحق وانتصاراً للصوت الشيعي المعتدل على الصوت المغالي التكفيري، ولا يُدرك ذلك إلا القارئ المنصف المتحرر من التعصب المذهبي، فالروايات التاريخية الكثيرة التي أشار إليها الكاتب والتي زخرت بها كتب الشيعة الإثنى عشرية تؤكد بما ليس فيه مجال للشك بأنّ نظرية الإمامية هي نظرية دخيلة على منهج أهل البيت.

(3) نهج البلاغة ص335 رقم (216) (ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين).

المسلمين: البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة) (1).

ويقول في خطبة أخرى: (أيها الناس، إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه) (2).

وينقل الصدوق في "أماليه" قصة عن فاطمة الزهراء تنافي نظرية العصمة التي كان يقول بها المتكلمون، فروى أنّ الإمام علي بن أبي طالب أنفق ذات مرة أموال مزرعة باعها حتى لم يبق لديه درهم واحد، فاحتجت فاطمة الزهراء على ذلك وأمسكت بثوبه، فنزل جبريل وأخبر النبي بذلك، فذهب إليها وقال: ليس لك أن تمسكي بثيابه ولا تضربي على يديه فقالت: إني أستغفر الله ولا أعود أبداً (3).

كما يذكر الشيخ الرضي في "خصائص الأئمة": أنّ الإمام الحسن استعار قطيفة من بيت المال فبلغ ذلك الإمام علي فغضب وذهب إلى بيت الإمام الحسن فوجد القطيفة في منزله فأخذ بطرفها يجرها وهو يقول له: النار يا أبا محمد، النار النار يا أبا محمد، حتى خرج بها (4).

وكذلك لم يشر الإمام الحسين إلى موضوع العصمة في رسالته التي أرسلها إلى أهل الكوفة مع سفيره مسلم بن عقيل، وإنما طرح ضرورة اتصاف الحاكم بشروط التقوى والالتزام


(1) نهج البلاغة ص189 رقم (131) (ومن كلام له (ع) وفيه يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق).
(2) نهج البلاغة ص247 رقم (173) (ومن خطبة له (ع) في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن هو جدير بأن يكون للخلافة وفي هوان الدنيا).
(3) أمالي الصدوق (المجلس الحادي والسبعون) ص555
(4) خصائص الأئمة ص78

بالعمل بالكتاب والدين، فقال: (فلعمري ... ما الإمام إلا العامل بالكتاب الحابس نفسه على الله القائم بالقسط والدائن بدين الله) (1).

وينقل الإمام الباقر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول شروط الحاكم فلا يذكر منها العصمة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصلح أمتي إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله وحلم يملك به غضبه وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم – وفي رواية أخرى-: حتى يكون للرعية كالأب الرحيم) (2) مما يشير إلى أنّ الإمامة تصلح لعامة الناس بهذه الشروط.

وفي الكافي عن ابن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام أن قال: يا علي، أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عنّي، ثم قال: اللهم أعِنه، أما الأولى: فالصدق ولا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً والثانية: الورع ولا تجترئ على خيانة أبداً، والثالثة: الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله يبني لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة، والخامسة: بذْلُك مَالَك ودَمَك دون دينك، والسادسة: الأخذ بسنتي في صلاتي وصدقتي. أما الصلاة فالخمسون ركعة وأما الصيام فثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أوله والأربعاء في وسطه والخميس في آخره ..) (3)، قال المجلسي في "مرآة العقول": حديث صحيح (4).

فمن الملاحظ أنّ هذه الوصية النبوية موجهة لعلي بن أبي طالب بذاته لقول النبي (يا علي أوصيك في نفسك بخصال)، وما كانت تلك الوصايا أن توجه لمعصوم وبالذات الأولى منها.

وهو ما اعترف به المجلسي في "مرآة العقول 25/ 180" فقال: (قوله صلى الله عليه وآله: (أوصيك بنفسك) أي هذه أمور تتعلق بنفسك لا بمعاشرة الناس).

 


(1) الإرشاد للمفيد 2/ 39
(2) الكافي-كتاب الحجة- (باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام) –حديث رقم (8).
(3) الكافي- كتاب الروضة- (وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين) - حديث رقم (33).
(4) مرآة العقول 25/ 180

 

  • السبت PM 07:10
    2022-05-21
  • 667
Powered by: GateGold