المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409027
يتصفح الموقع حاليا : 295

البحث

البحث

عرض المادة

تدوين وقانونية العهد الجديد

ويقفز إلى الأذهان أسئلة جديدة: كيف ظهرت الأناجيل بعد اختفاء إنجيل المسيح؟ ومن الذي كتبها؟ وما ظروف كتابتها؟

في الإجابة عن هذه الأسئلة نقول: يقرر عدد من مؤرخي النصرانية انتقال روايات شفاهية، تبلورت فيما بعد بحركة دائبة في كتابة سيرة المسيح لتلبية حاجات الكنيسة المسيحية الناشئة، ونكتفي هنا بنقل ما ذكره يواكيم إرميا في كتابه الذي نشرته الكنيسة المصرية بعنوان " أقوال المسيح غير المدونة في بشائر الأناجيل " فيقول: " ينبغي أن نضع نصب أعيننا حقيقتين أساسيتين عن بشائر الإنجيل وكتابتها: أنه لمدة طويلة، كانت كل التقاليد المعروفة عن المسيح، كلها أقوال شفاهية متناقلة .. واستمرت على هذه الصورة ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً، ولم يتغير الوضع إلا في عهد اضطهاد نيرون للمسيحيين، حينها اجتمع شيوخ الكنيسة وكبارها في خريف عام 64م، ووجدوا أن الكثيرين من أعمدة الكنيسة قد فقدوا .. ولم يجد المجتمعون أمامهم إلا يوحنا الملقب مرقص، زميل الرسول بطرس في الخدمة .. ليسجل كل ما يستطيع أن يتذكره من أحاديث المسيح وتعاليمه، وكتب مرقص بشارته المختصرة التي تحمل اسمه، وهي أقدم قصة كتبت عن حياة المسيح.

والحقيقة الثانية: أن قصة مرقس عن المسيح وأقواله قد دفعت غيره ليحذوا حذوه، وينسجوا على منواله .. وتنشأ بشائر أخرى ... حتى كان هناك عدد لا يستهان به من البشائر ...

ولما رأت الكنيسة أن الأمر جدُّ خطير بدأت في تقصي أسس هذه البشائر الأربعة المعروفة، واعتبرت ما سواها " بشائر أبو كريفية "، طوردت وجمعت وأحرقت حتى اختفت ".

وينبه المحققون إلى أمر هام، وهو أن شيئاً من الأناجيل لم يكن يسمى إنجيلاً في الصدر الأول للنصرانية، إنما سميت " كاروزوتا " أي موعظة، وذلك باللغة السريانيّة في (البشيطا)، وسميت فيما بعد بالأناجيل.

وهذه الكتابات أطلق عليها القديس جوستين في منتصف القرن الثاني اسم " مذكرات الرسل". (1)

يقول مدخل الرهبانية اليسوعية متحدثاً عن تاريخ تدوين العهد الجديد: "ويمكن تأريخ إنجيل مرقس في السنين 65 - 70م .. وأما إنجيل متى وإنجيل لوقا فلا تنعكس فيهما البيئات نفسها، لأنهما وُجها إلى بيئات أخرى، وقد وضعا بعد إنجيل مرقس بخمس عشر إلى عشرين سنة".

وقد بدأت في أواسط القرن الثاني حركة لتجميع كتاب مقدس للنصارى على غرار ما عند اليهود، وقد أثمرت ما بين أيدينا من أسفار العهد الجديد، يقول المدخل الفرنسي للعهد الجديد: " لم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة تدوين أهم ما عمله الرسل وتولي حفظ ما كتبوه ...

ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة 150م تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جداً إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس، واستعملوها في حياتهم الكنسية، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس ..

ومع ما كان لتلك النصوص من الشأن فليس هناك قبل القرن الثاني (بطرس (2) 3/ 16) أي شهادة تثبت أن الناس عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، ولا يذكر أن لمؤلَف من تلك المؤلفات صفة ما يلزم، فلم يظهر ذلك إلا في النصف الثاني من القرن الثاني ... فيمكن القول أن الأناجيل الأربعة حظيت نحو السنة 170م بمقام الأدب القانوني، وإن لم تستعمل تلك اللفظة حتى ذلك الحين ...

يجدر بالذكر ما جرى بين السنة 150 والسنة 200 إذ حدد على نحو تدريجي أن سفر أعمال الرسل مؤلف قانوني، وقد حصل شيء من الإجماع على رسالة يوحنا الأولى ... هناك عدد كبير من المؤلفات (الحائرة) يذكرها بعض الآباء ذكرهم لأسفار قانونية في حين أن غيرهم ينظر إليها نظرته إلى مطالعة مفيدة ..

وهناك أيضاً مؤلفات جرت العادة أن يستشهد بها ذلك الوقت على أنها جزء من الكتاب المقدس، ومن ثم جزء من القانون لم تبق زمناً على تلك الحال، بل أخرجت آخر الأمر من القانون، ذلك ما جرى لمؤلف هرماس وعنوانه الراعي، وللديداكي، ورسالة كليمنس الأولى، ورسالة برنابا ورؤيا بطرس ". (2)

وهذا الذي ذكرته مقدمة العهد الجديد نستطيع أن نجمله بأن حركة تدوين الأناجيل بدأت بعد موت أهم التلاميذ، وأخذت شرعيتها في أواسط القرن الثاني كما ساعد في تكوين قانونية العهد الجديد مرقيون الهرطوقي سنة 160م حيث دعا لنبذ سلطة العهد القديم، واحتاج لتزويد كنيسته بأسفار مقدسة أخرى، فساهم أتباعه في نشر هذه الأناجيل فقد جمع في عهده إنجيلاً، وراجعه مراجعة دقيقة ليتمشى مع أفكاره، وجمع إليه رسالة بولس إلى أهل غلاطية، وهي رسالة تؤكد إبطال الناموس ونقده، ثم أضاف رسائل بولس إلى أهل كورنثوس وتسالونيكي وأفسس وفيلبي وفليمون.

[كيفية اختيار الأناجيل الأربعة]

أما الكيفية التي اختارت بها الكنيسة هذه الأناجيل دون غيرها، ومكان الاختيار ... فلا يوجد أي تفصيل عند النصارى عن هذه النقطة سوى ما ذكره المدخل الفرنسي للعهد الجديد: "يبدو أن مقياس نسبة المؤلف إلى الرسل استعمل استعمالاً كبيراً، ففقد رويداً رويداً كل مؤلَف لم تثبت نسبته إلى رسول من الرسل ما كان له من الحظوة ".

ولكن هذا القول إنما يصح لو كانت هذه الأناجيل جميعاً قانونية، ثم بدأ بعضها يفقد بريقه عند التحقيق والتدقيق، بينما حصل العكس في تاريخ الكتاب المقدس، إذ لم يعتبر شيء من هذه الكتب قانونياً، ثم بدأ في الاختيار فيما بعد، ويقول الأب كننغسر بأن الأناجيل التي رفضت هي التي لا تتفق مع الخط الأرثوذكسي. (3)

ويوضح الصورة - بدقة أكثر - الدكتور واين جردوم أستاذ كلية اللاهوت في ترينتي فيقول: "علينا أن نعي أنه ليس من المستحيل أو من المستهجن أن ترتكز الكنيسة على مجموعة من العوامل، منها الدعم الرسولي، والتناغم مع سائر الأسفار الكتابية، وإدراك أغلبية ساحقة من المؤمنين أن كتابة معينة هي موحى بها من الله، لكي تقرر أن كتابة معينة هي حقاً كلمات الله، وتندرج بالتالي ضمن القانون". (4)

وعليه فهذه الأسفار أضحت مقدسة وفق مجموعة من المعطيات البشرية التي جعلت من كلام البشر كلاماً إلهياً موحى به، وهذا الأمر استدعى مرور عشرات السنين قبل أن تتوافق المسيحية على كتابها الذي تسميه اليوم بالعهد الجديد، فمتى حصل هذا التوافق؟

يجيب فيلسيان شالي أن القرن الرابع شهد الصياغة النهائية للعهد الجديد الذي يتكون من النصوص السائدة بين الكنائس، يقول شالي: "تكون هذا القانون بصورة نهائية في القرن الرابع، وقد اضطروا لتكوينه بجمع الكتابات التي تقرأ في الكنائس الكبرى، والتي اعتبرت متفقة مع الآراء المتوسطة المقبولة من المسيحية في ذلك العهد". (5)

وهذا لا يعني أنه لم يقر شيء من الأسفار قبل ذلك، فإنه من المتفق عليه عند مؤرخي الكنيسة أن الأناجيل الأربعة ورسائل بولس قد أقرت في أواخر القرن الثاني، وكان أول من ذكر الأناجيل الأربعة المؤرخ أرينيوس سنة 200م تقريباً، ثم ذكرها كليمنس السكندري، ودافع عنها، واعتبرها واجبة التسليم.

يقول الدكتور دوود ويل في كتابه "أطروحة حول ايرينوس": " نحن على يقين بأن كتابات كل من أكليمنس الرومي , هرماس, أغناطيوس، وبوليكارب، والذين كتبوا بعد التاريخ المفروض لكتبة الأناجيل ليس بها أي ذكر لهذه الكتب الأربعة ".

وأما جوستين (الشهيد) أحد أبرز آباء الكنيسة فقد كتب في منتصف القرن الثاني مستدلاً لألوهية المسيح بأكثر من ثلاثمائة نص من العهد القديم ونحو مائة من الأناجيل المرفوضة، ولم ينقل نصاً واحداً من الأناجيل الأربعة، بل لم يشر إليها البتة، يقول البطريرك الدكتور قايلز في كتابه "السجل المسيحي": " هذه الأسماء متى ومرقس ولوقا ويوحنا لم يذكرها جوستين, ولا أي نص منها نجده في أي من كتاباته".

وأما بقية أسفار العهد الجديد فقد بقيت موضع نزاع بين الكنائس طوال القرن الثالث، وقد قبلت بعض الكتب في الكنائس الشرقية كالرسالة إلى العبرانيين، بينما رفضها أتباع الكنائس الغربية، وقبلوا رؤيا يوحنا اللاهوتي. (6)

[ترتيب الأسفار المقدسة ودلالته]

وكما وقع الخلاف في إلهامية بعض الأسفار وقع الخلاف في ترتيب هذه الأسفار في العهد الجديد، وهذا الخلاف مهم، إذ كلٌ رتب الأسفار حسب ما يعتقد لها من قيمة وقداسة وأهمية، فالخلاف في الترتيب خلاف في قيمة الأسفار.

وأقدم قائمة رتبت الأسفار كانت في أواسط القرن الرابع قائمة أثناسيوس 367م، وكان ترتيبه كالتالي: الأناجيل ثم أعمال الرسل ثم الرسائل الكاثوليكية ثم رسائل بولس ثم سفر الرؤيا.

ثم أصدر مجمع روما 382م ترتيباً آخر، تلا الأناجيل فيه رسائل بولس ثم رؤيا يوحنا ثم الرسائل الكاثوليكية السبعة.

وأما الترتيب الحالي فكان من قرارات مجمع ترنت 1546م. (7)

وهكذا تبين لنا من خلال استعراض مسيرة الأناجيل تأليفاً وتقديساً، أن تقديس هذه الكتب عمل بشري لا يستند إلى دليل من هذه الكتب، بل هو قرار اختلفت فيه المجامع حتى أُقر، ولو كان من الوحي لما اختلفت فيه المجامع، ولما احتاج إلى قرار كنسي ليصبح مقدساً ووحياً إلهياً.


(1) انظر: المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (44)، الإنجيل والصليب، عبد الأحد داود، ص (13، 25)، المسيحية الحقة التي جاء بها المسيح، علاء أبو بكر، ص (41 - 42).

(2) انظر: قراءات في الكتاب المقدس، عبد الرحيم محمد (2/ 268 - 269)، المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، ص (33 - 35).

(3) انظر: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس، أحمد عبد الوهاب، ص (79 - 81)، الكتاب المقدس في الميزان، عبد السلام محمد، ص (89 - 91).
(4) كيف يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي، واين جردوم، ص (49).

(5) موجز تاريخ الأديان، فيلسيان شالي، ص (227).
(6) انظر: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (2/ 381).

(7) انظر: محاضرات في مقارنة الأديان، إبراهيم خليل أحمد، ص (17).

 

  • الخميس PM 02:17
    2022-05-12
  • 1030
Powered by: GateGold