المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413277
يتصفح الموقع حاليا : 327

البحث

البحث

عرض المادة

الرسول والتشريع

وممـا وصلني: أنهم يقولون لنا عن نبي الإسـلام صلى الله عليه وسلم: أنتم تقولون إن محمدا ً لا ينطـق عن الهوى، وأنتم تعلمون أن الله غيّر كثيرا ً من أحكامه، فإن كان وحيا ً فـي الأول وفي الثاني فقد تعارضا، وإلا فقد أخطأ؛ لأنه تبع الهوى. 

ويقولون لنا: أنتم تقولون: إن القرآن يقول: " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ " النجم: 4.

ثم يأتي القرآن ويعدل، وما دام قد عدل، فليس بوحي.

نقـول لهـم: إن عندكم غباء أو عندكم سـوء نيـة، وتلاعب بالألفاظ للوصول إلى هدفكم، انظروا إلى معنى: " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ " النجم: 3.

اللـه فوضـه وائتمنه علـى أن يقول، بدليل أنـه قال له في القرآن: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " الحشر: 7.

إذن فقد جعل للرسـول تفويضا ً أن يقول ما يشـاء، وكان بعض العلماء إذا سـئل عن حكم لا يوجد فيه نص من القرآن، وإنمـا هو من فعله صلى الله عليه وسلم، فالسـائل يقول للعالم: هات لي نصا ً من القرآن على أن الأوقات التي فرضها خمسـة، أو أن الظهر أربع ركعات، فكان العلماء يقولون:  " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " الحشر: 7.

الله شرع الصلاة إجمالا ً، وترك للرسول صلى الله عليه وسلم تفصيلها؛ عدد ركعات، وعـدد أوقات، وحركات، وكلامـا ً، كل ذلك فوض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى قوله:  " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " الحشر: 7.

ونقـول لهـؤلاء: هاتـوا لي نصا ً مـن دسـتوركم يقول: ان الموظف الذي يتخلف خمسـة عشـر يوما ً يُفصل، لا نص في الدستور يقول هذا، ولا حق للمفصول ان يقول: انكم خالفتم الدستور، لأن الدسـتور ينص علـى القواعد العامـة، ويترك التفصيل الجزئي للسلطة. 

فالرسول يجيء له أمر إجمالي من الله، ثم يقول لنا: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " الحشر: 7.

وهذا ما نسـميه باللائحة التنفيذية، أو المذكرة التفسيرية، أو القوانين المكملة. 

وهنـاك نزعـة جديدة بيـن المسـلمين تقـول: لا نعترف بالمذاهب الأربعة، لا الشـافعي ولا أبـي حنيفة، ولا مالك، ولا أحمد، كل هؤلاء لا نعترف بهم ثم بعد ذلك تطاولوا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

نقول لهـم: أنتم تصلـون الظهـر أربعا ً، والعصـر كذلك، والمغرب ثلاثا ً، وهكـذا، فهاتوا أنتم دليلا ًعلـى ما فعلتم من القرآن حينئذ لا يستطيعون أن يأتوا بالدليل. 

نقول لهم: هذا هو الدليل:  " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " الحشر: 7.

هـذا هو الدليل على أن ما جاء في القرآن إجماليا ً يجيئ به الرسول صلى الله عليه وسلم تفصيلا ً. 

والله تعالى يقول:  " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ " المائدة: 92.

فكرر الأمر بالطاعة للرسول وهناك:  " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ " آل عمران: 32.

ومرة أخرى:  " وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ " النور: 56.

فقط. 

فتشـريعات الله التي أمرنا الحق أن نطيعه فيها: تشـريع اشـترك فيه الله والرسول، الحق شرع، والرسول شرع أيضا ً، فهذا نطيع فيه الله ونطيع فيه الرسول. 

وتشريع آخر شرعه الله وبينه الرسول، فهذا نطيع فيه الله والرسول.

وتشـريع آخر لم يشرعه الله، وإنما شرعه الرسول وانفرد به وهذا نطيع فيه الرسول. 

إذن فمعنى: " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ " النجم: 3 أن الوحي إما أن يجيء بالأمر جملة وتفصيلا ً، وهذا ليس للرسـول فيه عمل، وإما أن يجيء الأمر جملة، ويعطي الله قضيته تفويضية للرسـول في أن يشرع، كما قال: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " الحشر: 7.

فإن حكم الرسول حكما ً ثم جاء الحق وعدل له فيه وصوبه له، فهذا دليل على أن ذلك فيما فوض الله فيه الرسول، فحكم فيه بما تقتضيه الفطرة الإيمانية البشرية، ولكنه لم يكن هناك حكم من الله فعدل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.

هذا هو معنى: " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ".

لـم يكن هنـاك حكم من اللـه، ولكنه بمقتضـى التفويض مـن الله قال بمقتضـى الفطرة الإيمانية البشـرية، وبعد ذلك يدلنا الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق في الكلام عنه، فترك رسـول الله يتكلم بالفطرة البشرية الإيمانية، ولكن الله أعلى حكمة من الرسـول، فيعدل له ليعرفـه أنه لم يفوضه ويتركه لبشـريته ليقول ما يشاء، فإذا جاء بشـيء تحكم به البشرية على مقتضـى حكمتها يعدل الله له، فإذا ما قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي عدّل لي الحكم، دل ذلك على أن الرسـول صادق فـي الكلام عـن الله، وأنه لا عزة له من اللـه، ولا كبرياء له أن يصوب له ربه.

فـكل ذلـك يثبت أنـه مأمور، ولكنـه حتى فـي حالة عدم موافقتـه للحق لا يقال: إنه أخطـأ؛ لأن الخطأ أن توجد عندك قاعـدة صوابيـة فتخالفهـا، فيحاول المصحـح أن يعدل لك؛ بمعنـى أن يقـول لك: إن قولك لا يتفق مـع القاعدة الصوابية التي أعطيتها لك. 

القاعدة مثلا ً أن الفاعل مرفوع، فإذا نطقه الناطق منصوب صوبناه له، وقلنا: إنه أخطأ فصوبناه؛ لأن عنده قاعدة صوابية.

ولكـن الرسـول صلى الله عليه وسلم في المواضـع التي عدّلت لـه لم يكن عنـده فيها حكم مـن الله، بل هو يقـول بمقتضى التفويض، وبمقتضى الفطرة الإيمانيـة، ولكنه إن وافق الحق أقره، وإن لم يوافـق الحكمة العليا عـدل له الحكمة البشـرية بالحكمة الربانية. 

وقد بحثنا عن الرسـول صلى الله عليه وسلم بعد ذلـك فوجدنا أنه مأمون، لم يسـتحِ أن يقول بعد ذلك: صوّبنـي ربي، مما يدل على انه مأمون على كل ما يقول. 

إذن فقول الله تعالى: " وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ " معناه أنه لم تكن عنده قضية فخالفها ليخدم هواه.

ولنأخـذ قضيـة زيد بن حارثـة، زيد بن حارثـة كان عبدا ً لخديجة -رضي الله عنها- ووهبته خديجة لرسـول الله صلى الله عليه وسلم، وجـاء أبوه وقد عرف أنـه في مكة، وأراد أبـوه أن يأخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يذهب إلى أبيه، وبين أن يبقى معه، فاختار أن يبقى معه.

لقد قال زيد وهو ِحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت لأختار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، ولم يرض أن يذهب مع أبيه.

فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنان البشري أن يكافئ زيدا ً على اختياره له، فدعاه: زيد ابن محمد، بعد ما كان اسـمه: زيد بن حارثة. 

فاللـه تعالى لم يوافق على مسـألة التبني هـذه، وأراد أن يبطلها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند غيره، فأنزل قوله تعالى: " ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ " الأحزاب: 5.

أكان هناك حكم بألا يعدل عن انتساب الأبناء إلى الآباء، ثم جاء محمد وعدل عن هذا الحكم ليقول: زيد ابن محمد؟

لم يكن هناك حكم، وإنما صنع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك ليرد جميل زيـد حين رغب عن أبيه، وأحب البقاء معه، ولذلك فقد أنصف الحق -وهو الحكيم- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:  " ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ "

وأقسـط أفعل تفضيل، من القسـط، وهو العدل، يعني هو أعـدل عند الله يعني أكثر عدلا ً، يعنـي أن محمدا ً صلى الله عليه وسلم لم يكن فعله ظلما ً وجورا ً، ولو أنه تعالـى قال: ادعوهم لآبائهم فذلك هوالقسـط عند الله، لـكان فعل محمد جـورا ً وظلما، ولذلك قال: أقسط. 

فكأنه تعالى قال لرسـوله: أنت فعلت القسط والعدل، لأنك أردت مكافأة زيد على حبه لك، ولكن أنا عندي قضية أعدل.

" ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ " الأحزاب: 5.

فـكأن محمدا ً صلى الله عليه وسلم بدعوتـه زيدا ً: «زيد ابـن محمد» عادل، ولكن الله أعدل، والرسـول لا يستنكف أن يقول: لقد عدّل الله الحكم، وعلى كل حال فهو لا ينطق عن الهوى.

ونقول لهم أخيرا ً: هاتوا لنا مصروعا ً مثل صرعته، ينشـئ لنا هذا النظام الهائل، الذي يحكم حركة الحياة كلها، من قمة لا إلـه إلا اللـه، إلى إماطـة الأذى عن الطريق، فهـل يعقل أن يكون هذا النظام الهائل حصيلة الصرع كما تقولون؟

  • الجمعة PM 11:03
    2022-04-08
  • 790
Powered by: GateGold