المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412258
يتصفح الموقع حاليا : 360

البحث

البحث

عرض المادة

الوحي والرسول

وقد أشـاعوا فيما أشـاعوا فـي كتبهم أن محمـدا ً صلى الله عليه وسلم كان رجـلا يصيبه الصرع، وكل ما حدث مما قال: إنه قرآن، أو إنه حديث قدسي أو إنه حديث نبوي، كل ذلك كان نتيجة الصرع.

والرد على هذا أن نقول باختصار: هل المصروع يفيق مما يكون منه في أثناء صرعه؟ 

إن المصـروع يفعل، وحين يفيـق ينكر ما فعل، ولا يذكره ولكـن الذي حدث لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه كان حيـن يأتيه الوحي في منتهى الهدوء، وفي منتهى السـكون، وفي منتهى الاستقرار، ولا يحدث له إلا ما يحدث من اضطراب لا رجوع له.

لـم يجربوا عليـه في أثنـاء الوحي كلمة خرجـت منه، ولا تفرًقا في جوارحه، وإنما كانوا يلاحظون أشـياء كانت تحدث منـه وهو فـي منتهى الثبـات، وفي منتهى الاتـزان، ومنتهى الاستقرار، فإذا ما انفصلت عنه هذه الحالة حكى كل ما أوحيَ إليه من الله -تعالى-.

والذي يدل على بطلان مزاعمهم: أن الوحي كان ينزل عليه بالنجم[1] الطويل من القرآن فيسـتغرق وقتا ً طويلا ً ليحكيه ويقرأه، فإذا ما قرأه وكتبه كتبة الوحي، عاد فقرأه في الصلاة وحين يقرؤه في الصلاة كان يقرؤه كما كتبوه عنه، فهل هناك في الوجود واحد يستطيع أن يقول كلاما، قد يستغرق الساعة فأكثر، ثم يقال له: أعده كما قلته، فيعيده كما قاله؟ 

لا شك أنه حين قال فكتبوا عنه، وحين أعاد فكان كما كتبوا يقيم الدليل على أنه يصدر عن قضية ذكرها القرآن، هي قوله تعالى: " سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ " الأعلى: ٦

لأن هذا أمر خارج عن نطاق البشر. 

هاتوا أي إنسان ليتكلم ربع ساعة، ثم سجلوا عليه ما تكلم بـه، ثم قولوا له: أعد علينا ما تكلمت به، فإنه لا بد أن يخطئ، ولكننا نأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنجده يسجل ما يقول في أثناء الوحي، ويقرؤه في الصلاة، فلا نجد فارقا بين هذا وذاك.

قالـوا: إن محمـدا يأتي بكلام، فمرة يقـول: إنه قرآن، ومرة يقول: إنه حديث قدسي، ومرة يقول: إنه حديث نبوي. وصنعوا من ذلك مصدر تشكيك، وقالوا: إنه حين كان يروق له أن يقول: ذاك قرآن، يقول: ذاك قرآن، وحين كان يروق له أن يقول: ذاك حديث قدسـي، يقول: ذاك حديث قدسـي، وحين كان يروق له أن يقول: ذاك حديث نبوي، يقول: ذاك حديث نبوي.

نقـول لهم: إن الـذي أخذتموه لتجعلوه ضد نبي الإسـلام هو في صالح نبي الإسـلام، وعادة يترك الله بعض الحق عند الأحمق، ليدل على حمقه. 

نقـول لهم: هاتوا لنـا في عالم الإنس إنسـان له موهبة ان يقـول، وما دامت لـه موهبة أن يقول، فسـجلوا لـه مميزات أسـلوبه، ثم اسـألوه أن يغير الأسـلوب إلى أسـلوب آخر، سـجلوا له الأسلوب الآخر، ثم قولوا له: نريد اسلوبا ً ثالثا ً فإنه لا يستطيع ان يتبرأ من أسلوبه الأول ابدا ً، وذلك لأن الأسلوب هو الطريقة اللازمة للشـخص في أداء المعاني، وما دامت له طريقة في أداء المعاني، فإن الأداء سـيأخذ تشخصا ً لا يمكن أن يبرّئ صاحبه نفسه منه.

فـإذا مـا جئنا بأسـلوب قرآني، وأسـلوب حديث قدسـي، وأسـلوب حديث نبوي، فسـنجد أسـاليب ثلاثة لا يمتزج فيها أسلوب بأسلوب، بل لكل أسلوب خواصه ومميزاته وطبائعه.

فهل يسـتطيع بشـر أن يجعـل لموهبته الأساسـية ثلاثة أسـاليب، بحيث يقـول: أنا الآن سـأتكلم بأسـلوب قرآن، ثم يقول: أنا سـأتكلم بأسلوب حديث قدسـي، ثم يقول: أنا الآن سـأتكلم بأسـلوب حديث نبوي، إن هذا لا يمكن أن يكون في طاقة البشر. 

إذن فهو كما هو، القرآن يوحيه الله له، والحديث القدسـي يوحيـه الله له، ولكن الفـارق: أن القرآن يأتي مـن الله وحي معجزا ً متحدى به، ومتعبدا ً بتلاوته، والحديث القدسـي يأتي وحيا ً من الله، ولكنـه ليس معجزا ً، ولا متحدى به، ولا متعبدا ً بتلاوته. 

وأيضا الحديث القدسي لا تصح بقراءته الصلاة، ولا يمكن أن يكون إلا بطريقة من الطرق التي لم يجئ بها القرآن، فمثلا ً القـرآن إنما جاء بطريقة واحدة هي الطريقة الثالثة حيث قال تعالى: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ " الشورى: 51.

الوحي هو: «إعلام بخفاء» كما يقول العلماء، وهو: الإلهام، وليـس المراد به جبريـل، والمعنى: لا يمكن لبشـر أن يتلقى عن الله [مباشرة]، وأن القدرة الممكنة لا يمكن أن تتلقى عن القدرة الواجبة المطلقـة، والطاقات حين تنتقل من قوي إلى ضعيف، لا بد أن توجد بينهما وسـائط، هذه الوسـائط تأخذ مـن القوي لتعطي الضعيف، فالقوة الواجبة لا يمكن لأحد أن يتحملها. 

فالرسـول صلى الله عليه وسلم حيـن كان يتلقى عن الله، إمـا إلهاما ً، وإما أن يتكلم الله من وراء حجاب، وإما أن يرسـل رسـولا ً فيوحي بإذنه ما يشاء. 

وهـذا كل مـا يمكن أن يكـون من الاتصال بيـن الله وبين رسله، مرة يجيء بالإلهام، ومرة يجيء بكلام من وراء حجاب كما حدث ليلة الإسـراء، أو كما حدث لموسـى حين كلمه ربه، ولكن القرآن لا يمكن أن يجيء إلا من طريق واحد، هذا الطريق الواحد هو: أن يرسل رسولا ً فيوحي بإذنه ما يشاء.

إذن فالقرآن لم يثبت إلا من هذا الطريق، اما الحديث النبوي والحديث القدسي فيثبتان بالطريقتين الأخريين.من هذا الطريق، أما الحديثالنبويْبَث

ولماذا خص الله القرآن بهذا الطريق؟ 

لأن القـرآن معجزة متحدى بهـا، فلا بد أن يوجد وحي من الله ليكـون إما إيذانا ً تتغير طبيعة الرسـول صلى الله عليه وسلم بعض الشيء حتى يمكـن أن يتقبل من الوحي، وإمـا أن يتمثل له الوحي أحيانا ً كرجل، وحينئذ تكـون المسـألة خفيفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه بقى على طبيعته، والوحي هو الذي انتقل عن طبيعتـه إلى طبيعة رجل. وذلك كما حدث وجاء، وسـأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأجابه، وعجب الحاضرون، كيف يسأله ويصدّقـه، مما يدل علـى أنه يعـرف الجواب مقدما ً، وإلا لما حكم على كلام الرسـول صلى الله عليه وسلم بالصـدق، ولذلك زال العجب حينما قال لهم رسـول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنه جبريل آتاكم يعلمكم دينكم " [2].

إذن فالوحي يتشكل وقد يحدث تغيّر في طبيعة النبي صلى الله عليه وسلم حتـى يتمكن من الأخذ عـن الوحي، ولذلك يقول: إنه يسـمع حول رأسـه مثل دوي النحل، وشهد الناس أن الوحي كان إذا جاءه وهو على الناقة بركت من شدة الوحي وثقله، وأنه كان إذا أوحيَ إليه ويده على رِجل صاحب له ثقلت عليه حتى تكاد أن ترضّها[3]، وكان يشـتد عليه العرق في اليوم البارد، وكل هذا يدل على أن هناك تفاعلا ً حصل لسـيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إيذانا ً بأن جبريل قد جاء ليقول له شيئا ً.

ولكن الحديث القدسي والحديث النبوي يثبتان بالطريقين الآخرين: الأول والثاني مما ذكر الله في الآية الكريمة.

ولذلـك يجـب أن نفهـم أن الاختـلاف بين أسـلوب القرآن وأسـلوب الحديث القدسي وأسـلوب الحديث النبوي لا يجوز أن يكـون مصدر تشـكيك، وإنما يجب أن يكـون دليل إيمان بصدقه صلى الله عليه وسلم، وبأن الرسول يعطينا ثلاثة أساليب للأداء، بحيث لا يشترك أسلوب مع أسلوب، ولا تشتبه طريقة أدائية بطريقة أدائية أخرى؛ بل لبعضها خواص التحدي، أما الحديث القدسي والنبوي فليس لهما خواص التحدي، ولولا أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: فيما نقله جبريل عن رب العزة، أو يقول: قال الله -عز وجل- ما كنّا لنفرق بين حديث نبوي وحديث قدسـي، ولذلـك رأى بعض العلماء أنه لا يـكاد يوجد بينهما فارق؛ إلا أن الحديث القدسي توقيفي، والحديث النبوي بعضه توقيفي وبعضه توفيقي. 

إن اللـه اصطفـى بعض خلقـه وأعدّهم علـى عينه، حتى يكونـوا أهلا ً لتلقي الوحي من السـماء، ليرحمهم جميعا ً، بأن جعل مشقة التلقي عن الأعلى مقصورة على هؤلاء المختارين، فلو أن الله خاطب كل إنسان لكان قد تعرض لهذه التغيرات، ولكنه قصر هذه المتاعب على هؤلاء المصطفين الأخيار.

ويدل على هذه المتاعب قوله تعالى: " أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) " الشرح: 1-3 .

فحينمـا فتر الوحي عن رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي كان يجيئـه بمشـقاته، وكان يجـيء بتبعاتـه، حتـى إن رسـول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد أن يسرى عنه: " دثّروني .. دثّروني " وكان يرجف كأن فيه شيئا ً من الحمى.

إذن فهذه متاعب تحملها رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم ليأخذ عن أمته الوحي، ولو أن الله أراد أن يخاطب الناس كما خاطب رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم؛ لكان في ذلك العنـت كل العنت على الجميع، ولكن اللـه اصطفى واحدا ً لحمل هذه المسـألة، ومع هذا الإعداد قد أصابه من المتاعب ما يقول الله فيه: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) " الشرح: 4-5.

إذن فالشـيء الـذي كان يأتـي أولا ً بالمشـقة قـد اعتاده الرسول، حتى كانت المتاعب في المرة الثانية أقل من الأولى، ولذلك قال الله تعالى في سورة أخرى:  " وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ " الضحى: 4.

وذلـك لأن العلاقة بين الوحي وبين الرسـول كانت صعبة، ولكنه بعد أن كان يفصم عنه الوحي، كان يجد حلاوة ما ألقاه الله إليه، فيعجبه ما أخذ، ولذلك أوجد الله فيه طاقة اشتياقية، والطاقات الاشتياقية تهضم كثيرا ً من المتاعب، فتجعله يتمنى أن يحدث له ذلك مرة أخرى. 

هذا التمني يرسمه لنا بعض الفلاسفة بصورة فيقول: هب أنك رأيت شـجرة من التفـاح في أعلى الجبـل، والجبل وعر، والصعـود إليه صعـب، ولكنك تحملت المشـقة فوقعت مرة، وتشـبثت بالصخر مـرة، حتى وصلت إلى الشـجرة، وأخذت منها ثمرة، فأكلتها. 

فحيـن تأكل يحدث لك شـوق أن يحدث لـك مثل ذلك، هذا يُوجِد لـك طاقة ثانية فوق طاقتك الأولى، أو ينسـيك المتاعب، فإذا ما أغراك فإنك تشـتاق إلى تعب تعقبه لذة، أما فـي الأولى فأنت تعبـت بعد أن أدركت لذة، فهـذه اللذة التي أدركتها بعد تعبك الأول هي التي سهلت لك التعب الثاني. 

فالرسـول حين نزل عليه الوحي أول مرة، فالثمرة لم تأت بعد فلمـا جاءته الثمرة جعل الله له فتـرة توجد له طاقة من الشوق، وطاقة من الحنين، إلى حلاوة ما يصله من الله وهذه الحلاوة يسـرت له كثيرا ً من المتاعب، ولذلك لم يعد يقول بعد الوحـي: «دثروني.. دثرونـي» ولا: «زملونـي .. زملوني» ولا يقول: «فغطّني حتى بلغ مني الجَهْدَ» [4].

معنـاه: إنـك قد أخـذت المتاعـب الأولى، وهـذه المتاعب ستيسر لك الوحي في المرات التالية. 

إذن فالحق -سبحانه وتعالى- إنما يعطي لرسوله صلى الله عليه وسلم من فيضـه عطاءات متعددة؛ عطاء هو قرآن يقول عنه له: تحد به القوم، وعطاء آخر هو أحاديث قدسية، ليست للتحدي، وعطاء ثالـث هو أحاديث نبويـة، يفوضه فيها ولذلـك ليس الحديث النبوي كله كلام؛ بل إن رأى غيره تكلم فسـكت ولم يرد عليه فهـذا حديث نبوي، وإن فعل واحد فعلا ً فسـكت فهذا حديث نبوي. 

والحديـث النبـوي أحيانا ً يكون توقيفيا ً، وأحيانا ً يكون توفيقيا ً، والحديث القدسي توقيفي من الله، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينمـا يعرضه يقول: عن رب العـزة، أو قال: رب العزة، دلالة علـى أنه من الله، ومن الحديث نفسـه يدل على أنه من الله، واللـه هو المتكلم، أما الحديث النبوي فمنه ما ألهمه الله أن يقوله، ومنه ما قاله بتوفيق الله تعالى.

 

[1] يعني المقدار الكبير من الآيات.

[2]  رواه الامام مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، رضي الله عنهما – برقم 8.

[3]  رضّ الشيء: كسره، دقه وضربه بشدة. (المجلة)

[4] رواه البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- برقم: 3.

  • الجمعة PM 10:59
    2022-04-08
  • 805
Powered by: GateGold