المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409079
يتصفح الموقع حاليا : 374

البحث

البحث

عرض المادة

ثقب في العين: هل يجب أن يطابق التصميم افتراضاتنا المسبقة؟

في النقاشات الدائرة حول نظرية التصميم الذكي، لا يوجد اعتراض يطرح بصورة متكررة مثل اعتراض (انعدام الكمال)، الذي يمكن تلخيصه في التالي؛ لو أنَّ طرفًا ذكيًّا هو من قام بتصميم الحياة على الأرض، إذًا لأمكنه أن يخلق حياة أخرى ذات تصميم مثاليٍّ، لا يتضمن أية نقائص واضحة، وكان بإمكانه أيضًا أنْ يفعلَ ذلك من البداية، ويبدو أنَّ لهذا الاعتراض قدرًا من الجاذبية الشعبية، غير أنَّهُ لا يتعدى صورة معكوسة لحجة ديوجانس؛ فبما أنَّ شيئًا ما لا يناسب فكرتنا عن الكيفية التي ينبغي أنْ تكون الأشياء عليها، إذًا فهو دليل ضد التصميم.

لقد تردد هذا الاعتراض بين أوساط العلماء والفلاسفة البارزين، لكنه طُرحَ متقنًا على يد كينيث ميلر (Kenneth R. Miller) عالم الأحياء بجامعة براون:

"هناك طريقة أخرى للرد على نظرية التصميم الذكي؛ وهي أن نفحص النظم البيولوجية المعقدة بعناية، بحثًا عن أخطاء لا يمكن لأيِّ مصمم ذكي أن يرتكبها؛ ولأن التصميم الذكي يعتمد في عمله على أسس قوية قائمة على أرض صلبة، فينبغي أن تكون الكائنات المصممة قادرة على تنفيذ مهامها مثاليًّا. وبالمقابل؛ لأن التطور يعتمد على البِنَى البيولوجية الهيكلية المادية القائمة بالفعل، فلا ينبغي عليه أن يصل للكمال. فأيّ البِنَى البيولوجية الحالية يعتبر نظامًا بيولوجيًّا معقدا؟

تمدنا العين –النموذج المفترض للتصميم الذكيِّ– بالإجابة، فلطالما سبق وتغنينا بالمزايا الاستثنائية لهذا العضو، لكننا لم نستعرض جوانب محددة في تصميمه مثل؛ التمديدات المشبكية العصبية لوحدات التحسس الضوئي، فهذه الخلايا المستقبلة للضوء، والتي تقع في شبكية العين، تمرر سيالات عصبيّة لمتسلسلة من الخلايا المتصلة بينيًّا، والتي بدورها تمرر المعلومات لخلايا العصب البصري في النهاية، وصولًا إلى الدماغ.

والمصمم الذكي –الذي يتعامل مع عناصر تلك التمديدات المشبكية– حتمًا سينتقي الاتجاه الذي يحقق أفضل وأعلى درجة جودة بصرية، فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن لأحد أن يقرر وضع الوصلات العصبية أمام الخلايا المستقبلة للضوء بدلا من أن توضع خلف شبكية العين –وبالتالي يُمنَع وصول الضوء إلى الخلايا المستقبلة له–.

لكن ما لا يمكن تصديقه هو كيفية بناء شبكية العين البشرية!

فهناك خلل كبير يُوْجِبُ على التمديدات المشبكية العصبية أن تدخل مباشرة خلال جدار شبكية العين، لنقل السيالات العصبية الصادرة عن الخلايا المستقبلة للضوء إلى الدماغ، والنتيجة كانت نقطة عمياء في شبكية العين؛ وهي منطقة تقوم فيها ملايين الخلايا الحاملة للسيل العصبي بدفع الخلايا الحسية وتنحيتها جانبًا.

وينبغي ألا يُفهمَ هذا الكلامُ كإيحاء بأن العين تعمل بصورة سيئة، بل هي آلة بصرية رائعة؛ حيث أنها تخدمنا خدمة جليلة، لكن مفتاحَ نظرية التصميم الذكي لا يكمنُ فيما إذا كان عضو أو نظام ما يعمل جيدا أو لا، لكنه يكمن في التخطيط الأساسي للبناء البيولوجي الهيكلي، فالنظام هو نتاج واضح يدلُّ على حدوث التصميم. وبالنسبة للتخطيط الهيكلي للعين؛ فلا يتضح فيه أيَّ تصميم ذكي".(16)

لقد عَكَسَ حديثُ ميلر التباسًا وغموضًا جوهريًّا واضحًا؛ فمفتاح نظرية التصميم الذكي لا يكمن فيما إذا كان التخطيط الأساسي للبناء البيولوجي الهيكلي هو نتاج واضح لحدوث التصميم أم لا، إنَّ الاستدلال على حدوث التصميم في النظم المتفاعلة قائم على (رصد التعقيد غير القابل للاختزال)، والذي يكون على مستوى عالٍ من التحديد والتخصص. فلا يضاهي تراصُّ العناصر المنفصلة متقنة التوافق والتركيب –لتحقيق وظيفة ما– أيًّا من العناصر نفسها. وبالرغم من تأكيدي أنّه ينبغي على المرء دراسة النظم البيولوجية الجزئية للوصل إلى أدلة تثبت وجود التصميم، لكن لنستخدم مقالَ ميلر كنقطة انطلاق، لدراسة إشكاليات أخرى بخصوص حجة (انعدام الكمال).

الإشكالية المركزية هي أنّ الاعتراض يستلزم ويستوجب وجود الكمال على الدوام! وبصورة أوضح؛ إنّ المصمم الذي يمتلك القدرة اللازمة لصنع تصميمات أفضل، لا يحتاج –بالضرورة– لفعل ذلك. فمثلًا يعتبرُ التقادم المخطط أو المدمج أمرًا شائعًا في مجال التصنيع، حيث يُتعمّد ذلك أثناء تصنيع المنتج؛ لئلا يدوم استخدامه، فيصبح غير مرغوب فيه بعد مدة زمنية معينة، على الرغم من أنه قد يكون صالحًا، وذلك لأسباب حلّت محلَّ أبسط أهداف التميز الهندسي! ومثال آخر شخصي: إنني لا أعطي أطفالي أفضل وأجمل الألعاب خشية إفسادهم بأن يكونوا مدللين، كذلك لكي يدركوا قيمة القرش. تتغاضى حجة (انعدام الكمال) عن إمكانية وجود دوافع متعددة للمصمم تُحيلُ التميز الهندسي مرارا إلى دورٍ ثانوي، وقد اعتقد معظمُ الناس –على مر التاريخ– بوجود التصميم، رغم ما يقعُ من أمراض وموت ونقائصَ أخرى واضحة.

الإشكالية الأخرى في حجة انعدام الكمال أنَّها تعتمد تحليلا نفسيّا ناقدًا للمصمم (غير معلوم الهوية)؛ فمعرفة الأسباب التي من شأنها أن تجعل مصممًا ما يفعل كذا ولا يفعل كذا تكاد تكون مستحيلة، إلا إذا أخبرك المصمم نفسه بها. يمكنني مثلًا أنْ أزورَ معرضًا للفن الحديث، لأجد –بالصدفة– أشياء مصممة وغامضة (بالنسبة لي وحدي على الأقل). فالخصائص التي تباغتنا بغرابتها في تصميم ما، قد يكون وضعها المصمم هناك لسبب ما؛ فنيٍّ جماليٍّ مثلًا، أو لإضفاء التنوع، أو للتباهي والتفاخر، أو لغرض عمليٍّ غير واضحٍ ولم نكتشفه بعد، أو لسبب لا يمكن تخمينه، أو أن تلك الخصائص قد وضعت بلا سبب أصلا. فحتى إن كانت تبدو غريبة، لا يمكننا إنكارها؛ لأنها لاتزال مصممة بيد كائن ذكي عاقل. إنَّ العلة من الاهتمام بالعلم ليست معرفة الحالة العقلية الداخلية للمصمم، بل (هل يستطيع الفرد تلمس التصميم من حوله أم لا؟). وفي مناقشة عن سبب قدرة الكائنات الفضائية الموجودة على الكواكب الأخرى بناء تكوينات اعتبارية، حيث يمكننا ملاحظتها ونحن على سطح الأرض كتب الفزيائي فريمان دايسن: "لست محتاجًا للتساؤل والبحث عن الدوافع، فمن يريد –ولماذا– أنْ يفعلَ مثل هذه الأشياء؛ لماذا يفجر الجنس البشري القنابل الهيدروجينية؟! لماذا يبعث بصواريخ صوب القمر؟! إنه من العسير تحديد الأسباب بدقة".(17)

وعند النظر فيما إذا كانت الكائنات الفضائية ستحاول بث الحياة على الكواكب الأخرى أم لا؛ كتب (فرانسيس كريك Francis Crick) و(ليزلي أورجل Leslie Orgel): "إنَّ فهمنا لسيكولوجية المجتمعات الناشئة خارج الأرض ليس أفضل من فهمنا لسيكولوجية المجتمعات الأرضية، فمن الممكن جدا أنْ تستهدف تلك المجتمعات –التي توجد خارج كوكب الأرض– كواكب أخرى، لأسباب مختلفة تماما عن تلك التي اقترحناها سابقا".(18)

استخلص هؤلاء الكتاب في كتاباتهم أنه يمكن للتصميم أن يتجلى وُيلمَس في غياب المعلومات عن دوافع المصمم.

الإشكالية التالية هي أن المؤيدين لحجة انعدام الكمال يستخدمون تقييمهم النفسي للمصمم مرارًا كدليل إيجابي يؤكد أن التطور غير موجه. ويمكن كتابة الاستنتاج في صورة قياس منطقي:

1)كان يمكن للمصمم خلق العين الفقارية بدون البقعة العمياء.

2) العين الفقارية لها بقعة عمياء.

3) إذًا فالعين نتاج التطور الدارويني.

وبسبب استنتاج كهذا تحديدًا ابتُكرت عبارة "مغالطة النتيجة الكاذبة".

لا تحتوي المؤلفات العلمية على دليل يبرهنُ أن الانتقاء الطبيعي المعتمد على الطفرة يمكنه أن يُنْتِجَ عينًا ببقعة عمياء، أو بلا بقعة عمياء، أو جفنًا، أو عدسة، أو شبكية، أو رودوبسين rhodopsin، أو ريتينال! لقد وصل القائل إلى استنتاجه هذا المؤيد للداروينية استنادًا فقط إلى شعوره النفسي تجاه الأشياء، وكيف ينبغي أن يكون حالها من وجهة نظره. لكن أيَّ متفحص موضوعي سيخلُصُ إلى أن العين الفقارية لم يصممها أحد يعير اهتمامًا باتهام وهمي بالقصور، لأن المقارنة بغيره من الفاعلين الأذكياء غير ممكنة، وهذا قد لا ينطبق على كل العوامل الذكية.

لم تُنشر مقالة كينيث ميلر في مجلة (Reader's Digest)، لكنها نشرت في مجلة (Technology Review)، وجمهور قراءها –في الواقع– رفيعو الثقافة ومحنكون، لكونهم قادرين على التعامل مع المفاهيم العلمية المجردة وتتبع الحجج الصعبة، ليصلوا إلى نتائج ثابتة. وفكرة أن يقدم ميلر لهؤلاء القراء حجة تستند لعلم النفس والعاطفة –بدلا من العلوم الطبيعية الصلبة– يعطي انطباعًا مغايرًا لما أشيع عن القوة المتضائلة للتصميم الذكي في مقابل التطور.


(16) Miller, K. R. (1994) «Life's Grand Design,» Technology Review February/ March, pp. 29-30.

(17) Dyson, J. F. (1966) «The Search for Extraterrestrial Technology» in Perspectives in Modem Physics, ed. R. E. Marshak, John Wiley and Sons, New York, pp. 643-644.

(18) Crick, F. H. C., and Orgel, L. E. (1973) «Directed Panspermia,» Icarus, 19, 344.

  • الثلاثاء PM 01:45
    2021-11-16
  • 952
Powered by: GateGold