المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413894
يتصفح الموقع حاليا : 282

البحث

البحث

عرض المادة

فردوس بيكون المفقود: حين تحكمنا الأخلاق الوضعية التجريبية

(1)

في ليلة عنوانها الصمت، وريحها نسمات بعبق الماضي..

يجلس مارسيل على نافذة قرب تغريد الموج، ومغازلة البحر لنظرات البشر، تمر نسمة من عبير الهواء لتلامس جسده، فلا يتذكر إلا مادة الجلد تتفاعل مع مادة الأوكسجين، تطبع معناها على صفحات الدماغ الفارغ، فتنتج فكرا (كما ينتج الكبد الصفراء!)...

على جانب آخر من نفس الشاطئ...

يجلس جوزيف يحاكي همس البحر و أشواق الليل، تلك النسمة التي تمر على جسده تترجم إلى لغات عديدة، شعرا مرة و نثرا أخرى..

و كان جوزيف يتعامل مع اللغة على أننا نفكر داخلها(1)؛ فهي البحر حين تصفه، وهي الليل عندما تشكو أرقه، وهي الحزن وقتما تبكي دمعه..

[من هنا بدأت القصة عندما اختلفت زوايا الرؤية]

كانت تالين تتألق جمالا وطفولة وهي في العشرين، وكان جوزيف يكتبها مع البحر والمطر، فهي حبيبته الصغيرة وضياء عينيه، وكان لا يرد لها طلبا، ويرسمها كلمات كلما خلدت للنوم، بسهوتها الطفولية، التي تحاكي لغة الملائكة، فيكتب ما قسم له القدر من جمالها، ويغفو على خصلات شعرها ليستيقظ على سحر نطقها.

أما مارسيل فهو صعب المزاج، قليل الصبر، هائج الخاطر، ومعترك الشهوة، ينظر إلى الخلق نظرة المعمل والتجريب، وقد لمح تالين لحظات قليلة، حيث يسكن قرب منزلها، فكانت فكرة الفريسة والبقاء للأصلح بالإضافة إلى روح ميكافيلي تُشعل فكره، ويهرب من هذه الأفكار نحو بقايا الضمير الذي ينضب في ذاك المعمل المعتم.

(2)

تستيقظ أطلنطس...

وقد اكتنفها الضباب، وتردت الرؤية بين تزاحم ضباب الصباح، تقرأ الأمل على وجوه المارة مع نوع من القلق، جوزيف ينادي تالين، لا إجابة، الثانية والثالثة.. ساوره القلق، رفع الصوت ولا مجيب، يبحث في غرفتها، السرير خاوٍ والنافذة تتلاعب بها رياح الصيف الخفيفة، الجدران كعادتها صماء، والجو كله يزيد القلق في النفس، ارتعد جوزيف.. وتكاثفت أنفاسه متراكمة، حتى بالكاد ينالها، تالين، تاليــــــــــن، تاليــــــــــــــــــــــــــــــــن!

يهرع إلى الحي و أزقته: يصرخ، ينادي، يناجي، و لا تكاد تفهم ما يقول.

يقابله صديقه ديفيد: ما بك يا رجل تصيح كالمجنون!

- تالين يا ديفيد فقدتها صباحا، ولم أجد لها أثرًا، ولم تخبرني أنها تنوي الخروج.

- علّها يا صديقي ذهبت تجلب بعض طعام الإفطار، هلم نبحث من جديد.

تشارك أغلب سكان الحي البحث.. ولكن البحث عاد كصدى صرخة في بئرٍ سحيق.

صباح يوم الجمعة...

جميع الأجهزة الأمنية في المنطقة تبحث عن طفولة الحي، عن البسمة التي قطفت من بستانه..

العجوز أنطون يتمتم كعادته فيما يفهم ولا يفهم..

بائع الأزهار سالين يراقب المارة وكأنه مخبر، والجو قريب إلى النفس الإنسانية وقت تغرب شمسها وتكتسي ثوب السحاب.

يسمع الضابط أنطون العجوز يقول: لماذا كانت الزهرة تمشي مع ذاك الطبيعي الكريه؟!

وعاد الضابط أدراجه وقال: من هو الطبيعي أيها العجوز؟ ومن هي زهرة؟

ويتمتم العجوز: يا لهذا الضابط الأبله، ففمه منتفخ عند السؤال، تشعر وكأنه سيأكلك عند قذف الكلمات.

أعاد الضابط السؤال، فقال العجوز: سل بائع الكير (الزهر) فهو يعرفه.

نظر الضابط إلى سالين فتفرس فيه خيفة، فتحرك نحوه في مناورة لقراءة نفسه، فما كان من الغبي إلا أن حاول الهرب!

(3)

الضابط: من هو الطبيعي الذي كان يقول عنه ذلك العجوز؟

- إنه صديقي بيكون.

- أيها الأحمق أتسخر مني؟  قل وإلا جعلتك لا تعرف تقاسيم وجهك.

- يا سيدي إنه صديقي مارسيل، وشهرته "بيكون" لحبه للتجريب والعلم الطبيعي.

- وما علاقته بتالين؟!

- لا أدري.

[صفعة قوية كادت أن تسقط أسنان هذا البائع التعيس]

- كل ما أعلمه سيدي أنه اتفق معها أن يجهزوا لعيد ميلاد جوزيف، فتخرج معه ليلاً ليشتروا بعض الزينة، فيجدها عندما يستيقظ، ويدخلُ السرورُ قلبَه، وقد بِعْتُهم بعضَ الأزهار البارحة، وبعدها لا أعلم شيئا، ولو قتلتني لن تخرج مني معلومة أخرى لأن هذا مبلغ علمي.

- على غير المعتاد...
تداهم وحدة مكافحة الجرائم بيت مارسيل، فتجده يجلس بهدوء، وجهه أقرب إلى لوح من الخشب، أنفه قصير وعيناه جاحظتان كناية عن الأرق.

- أين تالين؟

- وما يدريني سيدي الضابط!

- قال سالين: إن آخر ظهور لها معك!

[وكان الحادث مضى عليه عشرة أيام]

- نعم كان بعدها بيوم عيد ميلاد جوزيف، واستشارتني، ونصحتها بالزهور وبعض الحلوى معها القليل من الزخرفة، ثم لم أرها!

- اسمح لنا بالتفتيش.

- تفضل سيدي المحقق.

- بعد البحث المضني...
مع عدم العثور على شيء وقبل الرحيل، لاحظ رجل التحقيق منضدة سجائر وكتابًا له غلاف غريب، فاقترب منهما واشتمهما، فإذا فيهما رائحة البشر!

- ما هذا؟

- ارتبك مارسيل، وقال: ما ترى!

فأخذهما رجل البحث، وأمر بحجز مارسيل.

وبعد الفحص.. تبين أنها مصنوعة من جلد تالين!!

فأيّ جريمة هذه؟!!!

                  

(4) المحكمة
(الفصل الأخير)

أمام القضاء محامي الدفاع أبيقوري ميكافيلي يُسمى إيجور، وأما الادعاء فكان للكسير جوزيف.

- سيد جوزيف، تفضل.

- جوزيف: سيدي القاضي "إن الشر إنساني و إنساني جدًا"(2)، وإلا ما توصيف هذه الحالة من الاغتصاب الفعلي لفتاة بعمر الزهور واغتصاب كل معاني الإنسانية بتحويلها إلى مادة استعمالية بمنضدة سجائر وجلد كتاب، أية معرفة هذه التي تغلف بجلد البشر.

- جوزيف مكملاً: سيدي القاضي "الإنسان يعترف بالشر، وبالتالي يعترف بوجود حرية اختيار الشر ومسؤوليته عنه".(3)

- القاضي: أخرج سيد جوزيف من الخطب البيانية وادخل صلب الموضوع مباشرة.

- جوزيف: سيدي القاضي حجتي إنسانية أخلاقية، لابد من هذه الخطب!

[القاعة صامتة.. وكأن حكم الأخلاق اكتسحها]

- القاضي: تفضل سيد إيجور.

- إيجور: إن القانون الأول في أطلنطس -العلمية التجريبية- كما قررها الحكماء أنه:

لا معنى إلا للتجريب، والقانون الثاني: أن الكلام عن الأخلاق والما وراء لا معنى له، كما قررت الوضعية المنطقية، أما الثالث: أن البقاء للأصلح، والرابع: أن الميكافيلية هي الحلم الأخلاقي الأعلى، والأخير: أن الحياة والسعادة هي اللذة.

- وبناء عليه سيد إيجور؟

- حسنا سيدي القاضي لنأخذ فعل موكلي حسب هذه القوانين الكلية:

موكلي استخدم الدهاء المصلحي الميكافيلي في استدرج المادة الأنثوية ليجلبها لمنزله، ثم أقام مذهب اللذة باغتصابها على نية حفظ النوع والبقاء للأصلح!

ضجة من أنصار الأخلاق.. فيسكتهم القاضي بمطرقة سندانه.

- أكمل سيد إيجور.

- بعد تمرد هذه المادة دفعها موكلي فارتطم رأسها بالحائط ونزلت جثة هامدة، وكما هو متعارف عليه أن أسطوانة الدفن والطقوس الميتافيزيقية هي أمور غير علمية تجريبية، فقرر موكلي تحويل هذه المادة المنزوعة القداسة إلى منضدة سجائر وغلافًا لكتاب معرفي، ليؤكد ألا صوت إلا صوت التجريب واللذة والمصلحة.

حل ارتباك إنساني في القاعة... أخرسه صوت القاضي: هل عندك ما تضيفه سيد إيجور.

- إيجور: لا.

- وأنت سيد جوزيف.

جوزيف: يا سيدي، أستنجد بك، حَكِّمْ الضميرَ والمعاني الإنسانية النبيلة، لا تكونوا يا سادتي من أتباع منهج "كل شيء مباح".(4)

[تم تداول القضية، وخرج القاضي لينطق بالحكم]

- القاضي: حسب قوانين أطلنطس وإرشادات الحكماء، تقرر تبرئة المتهم، وتكريمه بجائزة المدنية كأفضل مُطبق للمذهب الوضعي التجريبي، رفعت الجلسة.

في الليل.. يتسلل جوزيف إلى غرفة القاضي، وبعد أن قتل حراس منزله يوقظه، فينهض القاضي مفزوعًا.

- ما بك يا بني، لماذا هذه النظرات؟!

- لا شيء سيدي القاضي، فقط أريد تطبيق المنهج الوضعي عليك.

- يا بني أستطيع قلب الحكم و تغييره، فهذا من المصلحة، وهي ضمن قوانين الحكماء.

- اصمت.. اصمت سيدي القاضي!

- يا بني أستنجدك الضمير!

جوزيف وهو يمرر السكين على نحره يردد:

                      - لا وجود لحكم الضمير في أطلنطس!


المراجع:

(1) John Russon, “Emotional subjects: Mood & Articulation in Hegel's philosophy of mind”, International Philosophical Quarterly Vol. 49, No. 1, Issue 193 (March 2009).

(2) مصطفى عارف، “هرمنيوطيقيا الفعل الإنساني : الإنسان الإرادة و اللاعصمة”، مجلة تبيّن للدراسات الفكرية و الثقافية - العدد الثامن - ربيع 2014.

(3) الناصر عمارة، “المرض : مقاربة إتيقية هرمنيوطيقية”، مجلة تبيّن للدراسات الفكرية و الثقافية - العدد الثامن - ربيع 2014.

(4) دوستويفسكي، “الإخوة كارمازوف”، ترجمة سامي الدروبي، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم.

  • الثلاثاء PM 12:10
    2021-11-16
  • 986
Powered by: GateGold