المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409086
يتصفح الموقع حاليا : 225

البحث

البحث

عرض المادة

في نقد التوظيف الإلحادي لمعطيات العلم

تقوم النزعة الإلحادية اليوم على توظيف فيزياء الكم على نحو لا يخلو من غرض أيديولوجي ؛ حيث تقتطع هذه النزعة فرضية محايثة الصدفة للوجود، فتزعم نفي النظام، لتنتهي إلى نفي الألوهية. هذا باختصار هو المسلك المنهجي الذي يشتغل به أحدث تقليعات الفكر الإلحادي اليوم الزاعم أنه مدرك لمعطيات العلم ومستوعب لراهن تحولاته، مع أنه يوظف هذه المعطيات على نحو لم يخطر حتى على بال مبدعيها ومؤسسيها الكبار!

ويتناسى هذا الموقف الإلحادي، أن النزعة الإلحادية في القرن التاسع عشر مع لابلاس وماركس ... كانت ترتكز على الحتمية الفيزيائية من أجل توكيد إلحادها، حتى أن لابلاس عندما سأله نابوليون عن مكان الإله في نسقه الفيزيائي الشبيه بساعة منتظمة قال لا حاجة لي به ؛ لأن الكون منتظم ذاتيا على نحو داخلي!(1)

إن هذا التناقض كاف في تقديري لفضح التوظيف الإيديولوجي ؛ فليست المسألة الإلحادية تعبيرًا عن وعي بمستجدات العلم إنما هي مجرد توظيف لها لتوثيق موقف اعتقادي جاهز مسبق. وإلا لما حصل هذا التناقض التام في استعمال العلم (وأقصد بالتناقض: الاستدلال بنظام الوجود على استغنائه عن أي قوة خارجية (الإلوهية) مع لابلاس ؛ والاستدلال اليوم بالفوضى والصدفة في فيزياء الكوانطا (فيزياء الكم) للقول بعدم وجود النظام، وبالتالي عدم وجود المُنَظِّمِ (الإله)!!

وبين هذا وذاك، أريد في هذا المقال توجيه التفكير نحو ابستمولوجيا العلم(2) للنظر في أسسه المنهجية، وفي مدى اقتدارها على الإجابة عن سؤال معنى الوجود إجابة دينية أو إجابة إلحادية:

–1–

يُحدد الفلاسفة المدلول الغائي للعلم في كونه نشاطا عقليا يستهدف فهم الطبيعة. وبتحديدهم هذا يتضح أن التفكير العلمي يرتكز ابتداء على فكرة مبدئية مسبقة تتمثل في الاعتقاد بقابلية الطبيعة للفهم والعقلنة، وإلا لما جعلها موضوعًا لعملية الفهم والتعقل. وهذا ما يصطلح عليه فلسفيا بمُسلمة محايثة العقل للوجود، أي أن الوجود الطبيعي منتظم على نحو معقول وقابل من ثم للفهم العقلي.

إن هذه المُسلمة الثاوية داخل العقل العلمي هي منطلق مبدئي للممارسة العلمية؛ وبذلك أريد أن أنبه إلى أن العلم يستوي مع غيره من أنماط التفكير في احتوائه على مسلمات غير مبرهنة، حيث تُتَّخذ منطلقات للبرهنة على غيرها لا على ذاتها. وهذا ما نجد توكيده في النظرية المنطقية، حيث أبان كورت غودل استحالة أن يبرهن نسق معرفي على جميع قضاياه، ومن ثم لا بد للأنساق المعرفية من أن تحتوي على مُسلمات ابتدائية غير مبرهنة.(3) وهذا الوعي المنطقي إذا أدركه هؤلاء الذين يركنون إلى ظاهر العلم المقتطعة من مختصراته المدرسية، الذين يحسبون أن كل معطياته المعرفية مؤسسة برهانيا على نحو قطعي يقيني، سيبدلون من وثوقهم هذا، ويقطعون مع هذا التصور الساذج الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه متجاوز اليوم في حقل إبستملوجيا العلم.

كيف يقارب العلم الوجود الطبيعي؟

إن الطبيعة مجموعة أشياء وظواهر محكومة بالصيرورة، وللإمساك عقليا بهذا الوجود الطبيعي المتحرك كان لا بد للعلم من أن يصطنع أداوت ووسائل لتمكينه من إدراك الكون. ومن بين أهم هذه الوسائل المفاهيم.

فامتداد الأشياء والظواهر يقاربه العلم بمفهوم المكان؛ وصيرورة الوجود –أي حراكه– يقاربها بمفهوم الزمان... ثم إن تتالي الظواهر واحدة تلو أخرى جعل العلم يصطنع مفهوم العلاقة السببية/الحتمية لعقلنة هذه الصيرورة. وعندما يضع علاقة سببية يحرص العلم على صياغتها رياضيا، حيث ينزع العلم الكلاسيكي نحو تكميم الظواهر بناء على اعتقاده بأن "الكون مكتوب بلغة رياضية" كما يقول جاليليو.

والعلم الغربي الكلاسيكي منذ بدء انطلاقته الفعلية في القرن السابع عشر –مستفيدا من الرصيد الثقافي العربي الاسلامي– قام على هذا التصور السابق إيضاحه، أي انتظام الطبيعة وقابليتها للصياغة والتكميم الرياضيين. لكن المستجدات التي انبجست منذ بداية القرن العشرين خففت من غلواء هذا التصور الحتمي للوجود الطبيعي، وأدخلت معطى جديدا هو الصدفة، حيث تبين أن الوجود غير قابل للدخول بكل ظواهره ومجالاته ضمن هذه الأطر والمقولات الذهنية التي يعتمدها الوعي العلمي.

–2–

يذهب علم فيزياء الكم إلى أن المجال ما تحت الذري ليس مجال السببية والحتمية كما هو الشأن في المجال الفيزيائي المألوف لنا في تعاملنا اليومي. لذا نجد هيزنبرغ يؤسس قانون "اللاتحديد" أو "عدم التعيين" كمدخل منهجي ضروري لفهم البنية الداخلية للذرة. وهذا ما فرض من ناحية أخرى اعتماد المقاربة الإحصائية الاحتمالية كميثودلوجيا منهجية.

والواقع أنه قبل هيزنبرغ، أي بدءا من أبحاث ماكس بلانك، لم يعد يكفي لدراسة الظاهرة الكونية الاعتماد على نيوتن وماكسويل، بل اتضحت ضرورة الانتقال إلى نموذج معرفي جديد يجاوز مفاهيم السببية والحتمية.

لقد فتحت الفيزياء الكوانطية بكشفها عن المجال ما تحت الذري أمام الوعي العلمي والفلسفي أسئلة جديدة تتمحور حول طبيعة الوجود:

هل هو فعلا وجود منظم؟ أم أن الصدفة جزء أساس من تكوينه؟

وإذا قلنا بوجود الصدفة فهل يعني هذا انتفاء السببية الناظمة للوجود، وبالتالي انتفاء وجود إرادة عاقلة (الألوهية بالمفهوم الديني) هي التي قامت بتنظيمه؟

قبل النظر في نوعية الجواب الفيزيائي المتداول اليوم حول مسألة الصدفة أريد أن أطرح سؤالا أوليًا أراه مُدخلا لإعادة النظر والتفكير في طبيعة أبحاث فيزياء الكوانطا وهو:

هل فعلا يكشف العالم ما تحت الذري عن وجود فوضى؟ أم أن هذه الفوضى مجرد نتاج ضعف أدواتنا ووسائلنا العلمية في القياس؟

إن المجال الموضوعاتي للفيزياء الذرية قلب الكثير من المُسلمات والمفهومات والمناهج. بل حتى داخل المنطق، حيث نادى المناطقة بوجوب استبدال المنطق الصوري الأرسطي؛ لأنه قائم على رؤية قيمية ثنائية (يختصرها مبدأ الثالث المرفوع)، وهو بذلك عاجز عن احتواء هذه الظاهرة الوجودية الجديدة والمدهشة.

وأمام هذه الظاهرة الخارقة لمألوف التفكير العلمي الكلاسيكي ونسقه المنطقي في مقاربته للوجود لم يكن أمام العقلانية إلا أن تقف موقفا من ثلاثة مواقف ممكنة، كما يقول روجر موشيلي:

إما أن تعد الصدفة الملحوظة في بعض ظواهر الطبيعة نتاج جهلنا بقوانين تلك الظواهر وأسبابها. وهذا بالفعل ما يعبر عنه بوانكاري بقوله:"إن الصدفة هي فقط مقياس جهلنا".

والفرض الثاني هو أن الصدفة نتاج تقاطع سلسلتين أو أكثر من الأسباب المستقلة وهذا هو التعريف الشهير الذي وضعه كورنو.(4)

والفرض الثالث حسب روجر موشيلي يمكن أخذه من تعريف برجسون لمدلول الصدفة(5)، وهو التعريف الذي مهد لإيضاحه بمثاله التالي: "قطعت ريح شديدة سقفا من القرميد فسقط فوق رجل كان مارا في الطريق فمات." في العادة نقول عن الحادث إنه وقع صدفة . لكن لو أن الريح قطعت ذات السقف وسقط على الأرض دون أن يحدث قتلا، فإننا نسميه حدثا عاديا ناتجا عن قوانين الطبيعة.

ويخلص برجسون من هذا المثال إلى تنبيهنا إلى أمر هام وهو أننا لا نصدر وصف الصدفة إلا عندما يكون ثمة تعلق بمصلحة بشرية . وبالتالي فالصدفة نوع من التأويل البشري يتم خلعه على الظواهر الحتمية.

–3–

بالنظر إلى الأبحاث الدارسة لإشكالية فيزياء الكوانطا نرى أن بعض التأويلات المتفلسفة التي أطلقها الفيزيائيون تنزع نحو القول بأن الصدفة هي وجودية وليست معرفية. بمعنى أن الوجود ما تحت الذري وجود خارق للانتظام السببي! وعدم كشف أسباب وأشكال انتظامه ليس نتاج ضعف وسائلنا في المعرفة، بل نتاج طبيعة الوجود ما تحت الذري ذاته.

لكن هل ثمة حقا إمكانية علمية للجزم بهذا التصور؟

هل يملك الفيزيائي المشتغل في حقل الذرة أدوات منهجية تسمح له بالقطع اليقيني الجازم في شأن هذا المجال الوجودي الدقيق الذي يشتغل فيه؟

أميل إلى الاعتقاد بأن هذا التصور الذي يرجع الصدفة إلى الوجود يفتقر إلى الاستدلال الجازم، فهو مجرد افتراض. وهنا أستحضر جاك هارتونك أحد كبار المتخصصين في حساب الاحتمال، حيث يميز بين ما يسميه بالصدفة الموضوعية الهشة، والصدفة الموضوعية الصلبة؛ فالأولى تتحصل بسبب ضعف أدوات المعرفة، أما الثانية فهي صدفة أنطلوجية حاصلة بسبب طبيعة الوجود ذاته الذي تنتفي منه السببية. وفي سياق بحثه في هذين النوعين من المداخل المنهجية الدارسة لإشكالية الصدفة في الوجود الطبيعي، ينتهي إلى أن الأمر غير قابل قطعا للبت والتوكيد. فلا يستطيع العلم أن يجزم بأن الصدفة ما هي إلا نتاج ضعف أدوات المعرفة، كما لا يستطيع الجزم بأنها راجعة إلى طبيعة الوجود ذاته؛ بل كل ما هو ممكن هو اعتبار أحد الفرضين كمُسَلَّمة عقلية غير قابلة للبرهنة.

أرى في قول هارتونك توكيدا لنسبية القدرة المعرفية البشرية، ووقوفا عند محدودية إدراكها للوجود. وفي قوله مقدار كبير من لمسة العلم وحكمة العلماء، ولو أن الداعين للفكر الإلحادي اليوم كان لهم بعض من هذه الحكمة لما استسهلوا هذا التوظيف الإيديولوجي للعلم ومعطياته.

لكن في المقابل إن كثيرا من دعاتنا يقعون في ذات المزلق فتراهم باسم الإعجاز العلمي يقتطعون بضع معلومات معرفية أذاعتها العلوم، فيسارعون إلى أن يؤسسوا عليها تطابقات بِلَيِّ أعناق النصوص القرآنية والحديثية، على نحو لا يسمح به العلم ولا النص الشرعي ذاته.

ينبغي أن نعلم أن سمو وعلو الحقيقة الكلية للوجود يجعل كل مقاربة معرفية لها محكومة بأن تعي ابتداءًا أن هذه الحقيقة هي أمر إعتقادي لابد فيه من مقدمات توضع موضع التسليم. ونحن في هذا كمسلمين معتقدين بقرآننا لا نستشعر تجاه أكبر عقل علمي لا أدري، ولا أصغر ملحد يشاكس بمقولات العلم دون فهم أصولها، بأي استصغار؛ لأننا ندرك أن كل نسق معرفي –علميا كان أو غير علمي– لابد في قيامه المنطقي من مسلمات ابتدائية. والحقيقة الوجودية الكبرى –حقيقة الألوهية وما بعد الوجود، والقضاء والقدر...– هي أفق ديني يجذب التفكير، ولكن لا يمكن لوعاء العقل أن يشملها ويهيمن عليها بأقيسته واستنباطاته. وكل تنطع لاختزال هذه الحقيقة –على وساعتها وعمقها– بعقلنة تزعم الوثوق والشمول فذاك –في نظرنا– سلوك لا معرفي؛ لأنه ناتج عن جهل بحقيقة العقل ذاته وإمكاناته الابستيملوجية المحدودة بطبيعتها التكوينية، وليس فقط بمحمولها المعرفي.


(1) نص العبارة بالفرنسية  Ne me faut pas de cette hypothése

(2) ابستمولوجي Epistemology هو ذاك الفرع الفلسفي المهتم بطبيعة ومنهج ومجال المعرفة، ويأتي فرع الأنطولوجي Ontology في الفلسفة كعلم دراسة وجود الأشياء وكينونتها.

(3) يُنظر: مُبرهنة عدم الاكتمال الأولى لجودل  Godel's first Incompleteness Proof

(4) Antony Augustin Cournot, The Creative Power of Chance, p13.

(5) Henri Bergson, Creative Evolution, p233–234.

  • الثلاثاء PM 12:01
    2021-11-16
  • 942
Powered by: GateGold