المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413528
يتصفح الموقع حاليا : 275

البحث

البحث

عرض المادة

تقييم نقدي لدوكينز، ودينيت، ولويس، وولبرت، وهاريس، وستنجر (3)


الفكر

بخلاف الوعي، لدينا ظاهرة الفكر، ظاهرة الفهم. مع كل استخدام للغة يُكشَف عن نسق وجودي مجرد غير مادي بداهة. يكمن في أساس التفكير والتواصل ومهارة استخدام اللغة، قدرة إعجازية. إنها القدرة على ملاحظة الاختلافات والتشابهات، وملاحظة الشموليات والتعَميمات؛ أو ما يسميه الفلاسفة المفاهيم والمسلمات وما شابه ذلك. فهي طبيعية إنسانية استثنائية، وببساطة محيّره. فكيف يمكن لك، منذ الطفولة، أن تفكر دون عناء في كل من كلبك تحديدا، والكلاب بشكل عام؟ أو كيف يمكن أن تُفكر في الاحمرار، بشكل منفصل عن التفكير في شيء ذا لونٍ أحمر (بالطبع لا يتواجد الاحمرار بشكل مستقل، لكن خلال شيء أحمر اللون). فأنت قادر على أن تجرد فتميز فتوحد، بدون اللجوء لقدرتك على إعادة التفكير. كما أنك قادر على أن تفكر في أشياء فاقدة للوجود الفيزيائي وللخصائص المادية، مثل فكرة الحرية أو نشاط الملائكة. إن تلك القدرة على التفكير تتجاوز بطبيعتها المادة غير الحية.

إذا وجد أي من يخالف أي من هذا، فعليهم أن يتوقفوا عن الكلام والتفكير لكي يحققوا اتساقا داخليا. فمع كل مرة يستخدمون اللغة، هم يجسدون تمامًا الدور واسع الانتشار للمعنى والمفاهيم والنوايا والعقل في حياتنا. ولا يمكن فهم الحديث عن أن التفكير لديه نظير مادي (لا يوجد عضو مسؤول عن الفهم)، على الرغم من أن البيانات الـمُدخَلة عن طريق الحواس أوجدت بالطبع بعض المواد الأولية المستخدمة في التفكير. فبمجرد تفكيرك في ذلك لدقائق، ستصل بفهمك على الفور أن فكرة أن فكرك عبارة عن، بطريقة أو بأخرى، كيان مادي هو أمر سخيف بدرجة لا يمكن تخيلها. دعونا نقول إنك تفكر الآن في تخطيط نزهة مع عائلتك وأصدقائك. ستفكر في أماكن مختلفة محتمل أن تذهب إليها، ستفكر في الأشخاص الذين تريد دعوتهم، ستفكر في الأشياء التي تريد جلبها، ستفكر في السيارة التي ستستخدمها، وما شابه ذلك. هل من المترابط منطقيًا أن نفترض أن أي من تلك الأفكار، بطريقة أو بأخرى، مُشكلة من مواد؟

القضية الأساسية هنا هي أن دماغك ذاتها –بالمعنى الدقيق للكلمة– لا تفهم. أنت من تفهم. دماغك تمكنك من الفهم، وليس بسبب أن أفكارك تُصاغ في دماغك، أو بسبب "أنك" تحفز بعض الخلايا العصبية على العمل. لنأخذ على سبيل المثال عملية إدراكك أن القضاء على الفقر شيء جيد، تلك عملية متكاملة كونها فوق مادية في جوهرها (دلالة المعنى) ومادية في التنفيذ والإخراج (المفردات والخلايا العصبية). لا يمكن فصل العملية إلى شيء مادي وفوق مادي، لأنها عملية غير قابلة للفصل عن الفاعل العاقل، والذي يتألف جوهريًا من جزء مادي وجزء فوق مادي. هناك بنية لكلًا من الجزء المادي والجزء فوق المادي، إلا أن اندماجهما المتكامل بشكل بالغ يجعل من الصعب تأويل أفعالنا على أنها مادية فقط أو فوق مادية فقط أو حتى مزيج من الاثنين. إنها حتما أفعال كائن روحاني ومتجسد.

تنشأ الكثير من المفاهيم الخاطئة حول طبيعة الفكر، من المفاهيم الخاطئة حول أجهزة الكمبيوتر. ولكن دعنا نقول نحن نتعامل مع حاسوب فائق مثل الجين الأزرق، الذي يجري حوالي مائتي تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة. يكمن الخطأ الأول في افتراض أن الجين الأزرق هو "شيء" مثل البكتيريا أو النحلة. ففي حالة البكتيريا أو النحلة فنحن نتعامل مع كيان فاعل، مركز للحدث والفعل حيث يُعد وحدة كاملة متكاملة عضويًا، هو كائن حي. جميع أفعاله مدفوعة عن طريق أهداف بقائه حيًا وتوالُده. لكن الجين الأزرق هو عبارة عن حزمة من الأجزاء التي تجري وظائف، بشكل منفرد أو بشكل تعاوني بيني، زُرِعت ووُجِهَت عن طريق خالقي تلك المجموعة.

ثانيا، تلك الحزمة من الأجزاء لا تدرك ما الذي تفعله، حينما تجري معاملة ما. إن إجراء العمليات الحسابية في الحواسيب الفائقة والمعاملات التبادلية في الحواسيب المركزية كاستجابة للمُدخلات وللتعليمات لهو ببساطة مجرد مسألة تتعلق بالتفاعل البيني بين النبضات الكهربائية والدوائر كهربائية والترانزستورات. بالمثل، نفس العمليات الحسابية والمعاملات التبادلية التي تُجرَى عن طريق الإنسان تنطوي على توظيف آلية الدماغ، لكن تُجري عن طريق كيان مركزي؛ الإدراك، والذي هو مُدرك لما يحدث، يفهم ما الذي يحدث، ويقوم بالإجراء عن عمد. عند إجراء الكمبيوتر لمثل تلك الأوامر، فهو لا يحتوي على وعي أو فهم أو معنى أو عقد نية أو شخص، حتى وإن كان لدى ذلك الكمبيوتر عدة مُعَالِجات تعمل بسرعات خارقة لتصور الإنسان. مُخرَجات الكمبيوتر ذات "معنى" دلالي لدينا (كأخبار حالة طقس الغد أو حسابك البنكي)، لكن بقدر ما كانت تلك الحزمة من الأجزاء التي تسمي كمبيوتر معنية بأن هناك أرقام ثنائية –الصفر والواحد– التي بها تُوَجَه الأنشطة آلية معينة. والقول بأن الحاسب "يفهم ويعي" ما يفعله يتساوى في معقوليته المنطقية، مع قول إن السلك الموصل للطاقة يمكن أن يتمعن التفكير في معضلة حرية الإدارة والجبرية، أو أن موادًا كيميائية في أنبوب اختبار يمكنها تطبيق مبدأ عدم التناقض في استراتيجية حل المشكلات، أو أن مشغل الأقراص يفهم ويستمتع بالموسيقي التي يشغلها.

الذات

المفارقة، أن أهم إغفال للملحدين المعاصرين هو نفسه أهم معطى لديهم؛ ألا وهو ذواتهم. الحقيقة المادية/فوق المادية المطلقة التي نعرفها من التجارب والخبرات هي الـمُجرِب نفسه، أي؛ "ذواتنا". وبمجرد أن نسلم بحقيقة أن هناك منظور صيغة المتكلم، "أنا"، "لي"، "يخصني"، وما شابه ذلك، نصادف أعظم وأكبر الألغاز إبهاجًا. أنا موجود. وبعكس اتجاه مقولة ديكارت "أنا هنا، إذن أنا أفكر، وأدرك، وأنوي، وأعني، وأتفاعل"، ما هي "الأنا"؟ من" أين" أتت؟ كيف أصبحت؟ فبقدر ما أن "ذاتك" ليس شيئا ماديا، فهي ليست أيضا شيء فوق مادي. هي ذاتا ذا جسد، وجسد ذا روح. "أنت" غير موجود بخلية مخية معينة أو في أي جزء من أجزاء جسمك. تستمر خلايا جسدك في التغير وتظل "أنت" ثابتا لا تتغير. إن درست الخلايا العصبية فليس في خصائص أي منهم ما يؤهلها لتكون "أنا".  بالطبع جسدك جزء لا يتجزأ من كونك أنت، ولكنه "جسدك" لأنه تشكل هكذا عن طريق الذات. أن تكون إنسانا يعني أن تكون روحاني متجسد.

في إحدى الفقرات المشهورة من كتاب (رسالة في الطبيعة الإنسانية Treatise of Human Nature) أعلن هيوم " حين أتعمق فيما أسميه "ذاتي"... لا أستطيع العثور عليها أبدا بدون إدراك حسي، ولا أستطيع إطلاقًا أن ألحظ شيئًا غير الإدراك الحسي".(14) هيوم ينكر هنا وجود الذات ببساطة عن طريق جداله بأن (بمعنى "أنا") لا يستطيع العثور على "ذاته". لكن ما الذي يوحِد له مختلف خبرات الإدراكات الحسية بشتى الارتباطات، التي تمكنه من أن يكون على علم بالعالم الخارجي، ويبقي كما هو خلال تلك الفترة. من الذي يسأل تلك الأسئلة؟ هو يفترض أن "ذاته" هي حالة يمكن ملاحظتها مثل أفكاره أو أحاسيسه. لكن "الذات" ليست شيئا يمكن ملاحظته. بل هي الحقيقة الثابتة في الخبرة، وفي الواقع، هي أساس أي خبرة.

في الحقيقة من كل الحقائق المتاحة لدينا، الذات هي الحقيقة الأكثر وضوحًا والتي لا جِدالَ فِيهِا، وفي نفس الوقت الأكثر إماتة للفيزيائية. ينبغي توضيح أنه لا يمكن ادعاء إنكار الذات دون الوقوع في التناقض. هناك رد شهير لبروفيسور على سؤال "كيف لي أن أعرف أني موجود؟" رد البروفيسور "ومن الذي يسأل؟". الذات هي ما نحن عليه، وليس ما لدينا. إنها الـ"أنا" التي ينبثق منها منظور صيغة المتكلم. لا يمكننا تحليل الذات، لأنها ليست حالة عقلية يمكننا ملاحظتها أو وصفها.

ومن ثم، الحقيقة الأكثر جوهرية التي ندركها جميعا هي الذات البشرية، وتفهم الذات سيؤدي لا محالة إلى صياغة رؤى حول جميع المسائل الخاصة بأصل الأشياء، وسيعطي للحقيقة ككل بعدًا منطقيا متكاملا. ندرك أن وصف الذات محال، ناهيك عن تفسيرها بلغة الفيزياء والكيمياء. العلوم لا تستكشف الذات، بل الذات هي التي تستكشف العلوم. ندرك أنه ليس هناك أي رؤية مترابطة منطقيا لتاريخ الوجود، إذا لم تستطع تقديم تفسيرًا لوجود الذات.

أصل فوق المادية

إذن، كيف ظهرت الحياة والوعي والفِكْر والذات؟ يبين التاريخ الزمني للكون بزوغ مفاجئ لهذه الظواهر؛ فالحياة ظهرت بعد عصر تجمد الأرض بقليل، والوعي أبرز نفسه في ظروف غامضة خلال الانفجار الكامبري، واللغة ظهرت في "النوع الرمزي" بدون أي تمهيد تطوري. الظواهر التي نبحثها تتراوح بين نظم معالجة الرموز والشفرات والكيانات الفاعلة بينة النِيَّة مدفوعة الغاية من ناحية، والإدراك الذاتي والفكر التصوري والذات الإنسانية من ناحية أخرى. السبيل الوحيد المترابط منطقيا لوصف تلك الظواهر هو القول إنـها أبعاد مختلفة للكائن والذي هو فوق مادي بطريقة أو بأخرى، فبالرغم من أنها تتكامل تمامًا مع الجانب المادي، لكن مع ذلك هي جديدة تماما على المادة. نحن لا نتحدث هنا عن أشباح تسكن آلات، بل عن كيانات فاعلة ذات طبائع مختلفة، فمنها المدرِك ومنها المدرِك المفكر. ففي كل حالة لا نتحدث عن حيوية ولا عن ثنائية، ولكن عن تكامل، عن كل متكامل،
عن كلانية تمزج بين ما هو مادي وما هو عقلي.

على الرغم من أن الملحدين الجدد فشلوا في أن يستوعبوا طبيعة أو مصدر الحياة والوعي والفكر والذات، إلا أن الرد على سؤال أصل فوق المادية يبدو واضحا؛ الكيان فوق المادي يمكن أن ينشأ فقط من أصل أو مصدر فوق مادي. تأتي الحياة والوعي والعقل والذات بالضرورة من أصل أو مصدر حي مدرِك مفكر. وبما أننا نعتبر مراكز ومحاور الوعي والشعور والفكر حيث أننا قادرين على التعلم والحب والاعتزام والتنفيذ، لا أرى منطقا في أن تلك المحاور نتجت عن شيء يفتقر في نفسه لكل تلك النشاطات. وبالرغم من أن العمليات الفيزيائية البسيطة لديها القدرة على تخليق ظواهر فيزيائية غاية في التعقيد، لكننا هنا لسنا معنيين بالعلاقة بين البسيط والمعقد، نحن نسأل هنا عن أصل "المحاور"؛ إذ ببساطة لا يمكن تصور أي حقل أو مصفوفة مادية قادرة على إنتاج كيانات فاعلة تفكر وتتصرف. وبما أن المادة غير الحية غير قادرة على أن تتنج مفاهيم وتصورات، لذا، على مستوى خبرتنا الحياتية، نميل إلى أن عالم الذوات الفاعلة الحَيّة المُدرِكة المفكرة خلقت لِزاما بواسطة مصدر حي؛ عقل.


14. David Hume, A Treatise of Human Nature, edited and with an introduction by Ernest C. Mossner (Hammondsworth, Middlesex: Penguin Books, 1985), 300.

  • الثلاثاء AM 11:20
    2021-11-16
  • 852
Powered by: GateGold