المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413688
يتصفح الموقع حاليا : 231

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1629125836410.jpg

المقامات الصوفية وإرادة الحرية

ترتبط الحرية فى الاصطلاح الصوفى بالعبودية ودرجتها فى الإنسان فالعبودية هى الوجه الآخر للحرية ، وتتجلى العبودية عند الصوفية فيما يسمى بالمقامات والأحوال ، فالمقامات تفسر لنا منازل الحرية ودرجات العبودية التى يمر بها الصوفى فى تجربته ، فالمقام من الإقامة وهو عمل كسبى يقوم به العبد ويلتزم به لا يتجاوزه إلى مقام آخر إلا إذا استوفى شروط إقامته به (1) .

    ويستمر العبد فى انتقاله بين منازل السائرين كلما انتقل إلى منزل جديد علت عبوديته وازدادت حريته وقلت قيوده إلى أن يصل إلى آخر مقام للعارفين عند أوائل الصوفية وهو مقام الحرية .

   قال الجنيد بن محمد : (  الحـرية آخـر مقـام للعارف ) (2) .

    ويمكن القول أن المقامات الصوفية درجات إيمانية تزيد وتنقص كما هو معتقد أهل السنة والجماعة فى الإيمان ، وكل درجة إيمانية ثمثل بوجه آخر درجة الحرية التى عليها العبد أو درجته فى عبودية الله ، فانتقاله ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 204 .

2- السابق حـ 2 ص 461 .

 بين هذه الدرجات يكون بقدر المجاهدة وبذل الهمة فى الترقى إلى أعلى مقام ممكن .

     أما الأحوال الصوفية فهى عندهم ثمرة للجهد الكسبى المبذول فى المقامات وهى لوائح تحل بالقلب وسرعان ما تزول ولكنها من العوامل المساعدة لتخطى الدرجات فى المقامات وانتقال العبد من مقام إلى مقام أعلى فهى كالمرجح الداعى إلى الانتقال والتدرج .

    يقول الجرجانى : ( الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب     من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أوحزن أو قبض أو بسط أو هيبة ويزول بظهور صفات النفس ، فإذا دام وصـار ملكة يسمى مقاما ، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب ، والأحوال   تأتى من عين الجود والمقامات تحصل ببذل المجهود ) (1) .

    ويذكر ابن القيم أن هذه المقامات الواردة والمنازل المتعددة لها   عندهم أسماء باعتبار أحوالها ، فتكون لوامع وبوارق ، ولوائح عند ظهورها كما يلمع البرق ، ويلوح عن بعد ، فإذا نازلته وباشرها فهى أحوال ، فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهى مقامات (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التعريفات لعلى بن محمد بن على الجرجانى طبعة مصطفى الحلبى القاهرة سنة 1938م ص 145 .              

2- مدارج السالكين حـ 1 ص 35 .

    ويرى السراج الطوسى أن المقام هو مقام الرجل بظاهره وباطنه فى حقائق الطاعات ، والحال ينزل بالقلوب فلا يدوم ، وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات كالمقامات ، ولكنه ثمرة إيمانية واستشعار بحلاوة الجهد الإيمانى المبذول فى سلم المقامات (1) .

     ويمكن حصر آراء أوائل الصوفية فى مبحث المقامات واتجاهاتهم فيها ثم ترتيبها بصورة تقريبية إلى حد ما فى ظل تقسيمها إلى    المقامات الآتية :

[1] - التـــــوبة : فهى أول منازل الطريق عندهم ، وأول مقام من مقامات الطالبين فى تعبير القشيرى (2) وأول مقام من مقامات المنقطعين إلى الله فى تعبير السراج الطوسى (3) ويجعل الهروى اليقظة فى مقدمة التوبة ، فهى قومه لله من الغفلة ، ونهوض عن ورطة الفترة  وهى أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية       نور التنبيه (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 66 .                   

2- الرسالة حـ1ص 275 .                  

3- اللمع ص 68 .

4- مدارك السالكين حـ 1 ص 178 .      

 

    وإذا كانت التوبة فى لغة العرب تعنى الرجوع (1) أى الرجوع عن المذموم فى الشرع ، فإن الرجوع لا يكون إلا بعد تيقظ لسوء ما وصل  إليه الإنسان وإدراك لضرورة التغيير ، وإحساس بالحاجة إلى هذا التغير  وبمقدار ما تشتد الحاجة تكون سرعة الرجوع واللهفة على النجاة .

     والقشيرى أدخل اليقظة ضمن محتوى التوبة وفى بداية مراحلها يقول : ( أول التوبة انتباه القلب عن رقدة الغفلة ورؤية العبد        ما هو عليه من سوء الحال ، أما التوبة فبدايتها الحقيقية ، الندم       وترك الزلة فى الحال والعـزم على ألا يعــود إلى مثل ما عمل من المعاصى ) (2) .

    ويمكن القول أن التوبة هى نقطة الانطلاق والبدء للسير فى طريق الحرية ، والركن الأساسى فيها حـل عقــدة الإصرار عن القلب ، ثـم القيام بجميع حقوق الأمر على وجه الاستقصاء (3) .

    ويقول الطوسى فى تعلقات التوبة التى يتحرر منها بتركها :

    (  شتان بين تائب وتائب فتائب يتوب عن الذنوب والسيئات  ــــــــــــــــــــــــ 

1- المفردات للراغب الأصفهانى ص 76 .

2- الرسالة حـ 1 ص 276 .               

3- السابق حـ 1 ص 277 .

وتائب يتوب من الزلل والغفلات وتائب يتوب من رؤية      الحسنات والطاعـات ) (1) .

    والتوبة مع كونها أول مقام من المقامات عندهم إلا أنها لا تزول بالانتقال إلى مقــام آخر ولكنها محمولة معه ضمنا مجموعة تحت لوائه  وهكذا القول فى سائر المقامات ، فكل مقام يحمل فى طياته المقامات السابقة ، ومن ثم فقد اعتبر ابن القيم منزلة التوبة أوسط المنازل وآخرها كما أنها أولها ، وذلك لأن العبد السالك لا يفارقها ولا يزال فيها إلى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل أو مقام آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به يقول ابن القيم :

     (  فالتوبة هى بداية العبد ونهايته وحاجته إليها فى النهاية ضرورية  كما أن حاجته إليهـــا فى البداية كذلك ) (2) .

   ودليل ذلك عنده ما قاله الحق سبحانه وتعالــى مخاطبا المؤمنيـن التائبيــن :

{ وتوبوا إلى الله جميعا أيهـا المؤمنون لعلكم تفلحون } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 69 .            

2- مدارج السالكين حـ 1 ص 178 .

3- النور / 31 .

وقـال أيضا : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } (1)  وإنما أراد من التائبين الاستمرار فى التوبة عند الترقى فى سلم    المقامات (2) .

     ومن ثم فإن التوبة مفتاح باب المقامات ، فتوجب للتائب آثارا عجيبة لا تحصل بدونها ، فتوجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده ورضا عنه عبوديات أخـر ، فإنه إذا تـاب إلـى الله تقبل الله توبته ، فرتب له على ذلك القبول أنواعا من النعم ، لا يهتدى العبد   إلى تفاصيلها ، بل يزال يتقلب فى بركتها وآثارها مالم ينقضها   ويفسدها (3) .

     وفى هذا يقول تعالى عن نوح عليه السلام وهو ينصح قومه بالتوبة لكثرة بركاتها : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- التحريم / 8 .           

2- السابق حـ 1 ص 178 .

3- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيم الجوزية حـ 1 ص294 مكتبة المتنبى القاهرة  بدون تاريخ .

4- نوح / 9 : 12 .                

والتائب عليه أن يعيش فى صراع دائم مع نفسه ، دون أن يكون الجسد موضع احتقار أو تعذيب أو إهانة ، فله أن يباشر ما احلت الشريعة من زواج ونسل وغير ذلك (1) .

     وربما يصيب التائب فى بدايته أن ينتابه اليأس إذا حدث أن عاد إلى المعصية ذات مرة فينبغى ألا يقنط فى حمل إرادته على تجديد التوبة مرة بعد مرة ليرد الانتكاسة ويبدأ من جديد فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد العابدين التائبين ومع ذلك يقول : ( إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة ) (2) .

   فكان من سنته صلى اللـه عليـه وسلم دوام الاستغفار (3) .

    فإذا استوفى العبد مقام التوبة ووصل إلى نهاية الطريق فيه انتقل إلى المقام الذى يليه وهو مقام الورع .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 277 .              

2- أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء ، باب استحباب الاستغفار     والاستكثار منه برقم (3702) وأبو داود فى كتاب الصلاة ، باب فى الاستغفار برقم (1515) والنسائى فى عمل اليوم والليلة برقم (442) وأحمد فى المسند حـ 4 ص 260 والطبرانـى فــى المعجـــم برقــم (888) .

3- الرسالة حـ 1 ص 287 .      

 

قال السراج الطوسى : ( والتوبـة تقتضـى الورع ) (1) .

  وفى انتقاله إلى الورع يستصحب معه مقام التوبة ويرتقى درجة فى طريقه إلى مقام الحرية .

[2] - الـــــورع : وهومقام بين التوبة والزهد ، فبعد أن سلم المرء نفسه لله بالتوبة الصادقة والأسى على ماض ضاع منه فى معصية الله يعزم عزما أكيدا على تجنب ما حرم الله والتمسك بما أحل وأباح  وبعدئذ يرتقى درجة إيمانية أخرى وهى أن يعتاد قياس الحلال والحرام بمقاييس فيها تشديد وقوة هذه المقاييس هى مقاييس الورع فليس كل الحلال فى نظر الورع سواء ، فهناك حلال لا يعصى الله فيـه  وحلال لا ينسى الله فيه ، وهناك حلال بين ، وحلال فيه اشتباه وينبغى على العبد أن يتورع عن كل ما فيه دخن (2) .

    فالورع هو الأساس والأصل وعليه يدور الأمر كله وهو أعز الصفات وأجلها وأولاها بالرعايـات وهو أجدرها ، لأنه وصف ذاتى لا يمكن استعارته أو الوصول إلى تحصيله من جهة الغير (3) .

      ــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 70 وانظر الرسالة حـ 1 ص 287 الصدق لأبى سعيد الخراز ص 29  

2- الرسالة حـ 1 ص 287 بتصرف .

3- فضائح الباطنية لأبى حامد الغزالى ص 187 بتصرف تحقيق وتقديم د . عبد الرحمن بدوى ، نشر الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1383 هـ .

* الورع درجات فى موطنه :

   ويقسم السراج الطوسى الورع إلى ثلاث مراحل ذاتية يقطعها الصوفى لينتقل من مقام التوبة إلى مقام الزهد (1) :

  • أولهـا : تورع عن الشبهات التى اشتبهت عليه وهى ما بين الحرام البين والحلال البين وفيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع فى الشبهات فقد وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى    يوشك أن يقع فيه ) (2) .

ثانيهــــا : تورع عما يقف عنده القلب ويؤلم الصدر ، فإذا حاك فى صدره شئ لم يقدم على إتيانه يقول السراج : ( وهذا لا يعرفه إلا ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص 70 ، 71 بتصرف .

2- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه برقم (52) وأخرجه مسلم فى كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب فى اجتناب الشبهات برقم (3329) والنسائى فى كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات فى الكسب حـ 7 ص241  وابن ماجه فى كتاب القتن ، باب الوقوف عند الشبهات برقم (3984) وأحمد فى مسنده حـ 4 ص 269.  

أرباب القلوب والمتحققون ) (1) .

  وهو كما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم : ( والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) (2) .

     فالرسول جعل الإنسان حارسا على نفسه ومصدرا من مصادر الرقابة على ذاته ومميزا للحلال والحرام ، إضافة إلى ما سبق فى المرحلة الأولى من مقاييس التمييز المنقولة والمعقولة .

  • ثالثهــا : تورع عن كل ما شغل عن الله وهو ما سئل عنه الشبلى

  فقيل له : يا أبا بكر مـا الرع ؟

  فقـال : أن تتـورع ألا يتشتت قلبك عن الله طـرفة عـين (3) .

    فإذا ألف العبد بمرور الأيام هذا اللون من التربية المتفوقة فى مراحل الورع أمكن عند ذلك أن يدخل فى صف الزاهدين حيث الدنيا بأسرها لا تساوى شيئا ، فالقلب متعلق بالله ومجموع على طاعته ، وهنا يكون ــــــــــــــــــــــــ

1- اللمع ص70 .

2- أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب تفسير البر برقم (2553) والترمذى فى كتاب الزهد ، باب ما جاء فى البر والإثم برقم (2389) وابن حبان فى كتاب البر والإحسان ، باب الإخلاص وأعمال السر برقم (397) وأحمد فى المسند حـ 4 ص 182 والبيهقـى فى سننه حـ 10 ص 192 وأبو نعيم فى الحلية حـ 2 ص 3 .

3- اللمع ص 71 .                      

المرء قد ارتقى درجة أخرى فى طريق الحرية عند أوائل الصوفية  فيستصحب مقام الورع بما حمل من التوبة إلى مقام الزاهدين .

 قال السراج الطوسى : ( والـورع يقتضـى الزهد ) (1) .

 [3] - الزهـــــــــــــد :

      هو أشهر المقامات الصوفية لأنه يتوسطها (2) فهو بمثابة المرحلة الوسط فى طريق الحرية ، فكل ما سبقه من تيقظ وتوبة وورع يجعل العبد طموحا فى التخلى عن متع الدنيا والتقليل من طيبها رغبة فى تصفية النفس ، وكل ما يتلوه من صبر وتوكل ورضا هى بمثابة الضمانات التى تحفظ هذه النتيجة ، وقد نتج عن توسط الزهـد للمقامات أنه احتوى معانيها جميعا ، حتى سلك كثير منهم فى تعريفه سبلا مختلفة ، أشبه بدرجات فى ميدانه أكثر من كونها اختلافا فيه .

   فكل تعريف يعبر عن المنزلة التى يقف عندها الصوفى أو التى تشد اهتمامه أكثر من غيرها ، فمرة يعرف بالزهد بالتوكل ومرة بالرضا ومرة بالشكر أو الصبر (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 71 .

2- مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور أبو الوفا التفتازانى ص 60  .

3-  الرسالة القشرية حـ 1 ص 325 : 330 .

    فالزهـد يتسع لكثير مـن المعانى ويتقبل العديد من وجهــات النظر  وأصوب الآراء فيه ما كان مرتبطا بفهم الكتاب متسقا مع السنة ملاصقا للدليل .

    ويرى المحاسبى أن الزهد لا يعنى السلبية فى مواجهة الحياة ، فالحياة دار ابتلاء وامتحان يخوض المرء فيها تجارب متعددة يقلبها الله له فى كل وقت ، فالغنى قد يكون زاهدا فى غناه والفقير قد يكون راغبا حال فقره (1) .

   فالغنى الصادق المطيع خازن من خزان الله ليس حبسه للأموال ضنا بها وحرصا عليها ، فهو زاهد وإن كثر عنده المتاع ، فالرسول صلى الله عليه وسلم نال حظوظا تسعد وتبهج من الزواج واللبس والمظهر  وكان يستدين لحوائجه ويرهن فى مقابل الدين ويأكل اللحم والحلوى  وغير ذلك من المباحات وكان  صلى الله عليه وسلم قدوة للزاهدين لا زهد يفوق زهده (2) .

   يقول المحاسبى : ( واعلم أن محبة الغنى مع اختيار الله لعبده     الفقر تسخط ومحبة الفقر مع اختيار الله لعبده الغنى جور ، وكـل ــــــــــــــــــــــــ

1- أعمال القلوب والجوارح ص 44 .      

2- صيد الخاطر لابن الجوزى ص 27 مطبعة دار الفكر بدمشق سوريا سنة 1380 وانظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله ص 101 : 109 .

ذلك هـرب من الشكر لقلة المعرفة وتضييع للأوقات من قصر     العلم ) (1) .

    ويذكر المحاسبى أنه لا يأمر بالشبع فالزهد واجب فيه ، ولكنه يحرم الجوع الذى ينهك القوى ويضعف الجسد ، فإذا ضعف الجسد ضعفت العبادة (2) .

    فمن دعا الناس إلى الجوع فقد عصى الله سبحانه وتعالى ، فالله رغب فى الصوم ، وقد فرض رمضان على نبيه ولم يفرض عليه الجوع ولا العطش فالذى ينال جوعا أو عطشا بلا صوم فليس بمأجور (3) .

    فالزهد عند المحاسبى عبودية وتربية روحية من خلال المعرفة والالتزام بالأحكام التكليفية (4) وهو مرتبط عند  المحاسبى بالمقام السابق وهو مقام الورع ، فالورع ليس سوى مرتبة فى تدرج القيم الروحية تعلوه ــــــــــــــــــــــــ

1- رسالة المسترشدين ص 163 .    

2- تلبيس إبليس لابن الجوزى ص 216 نشر دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان  بدون تاريخ .

3- المسائل فى الزهد للحارث المحاسبى ص 227 .

4- فصول فى التصوف للدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعى ص 105 نشر دار الثقافة للنشر والتوزيع  القاهرة سنة 1991 ، 1992 .

مرتبة أخرى هى الزهد ، فمحاسبة النفس لتمييز الحـلال الطيب من الحرام أو المشتبة فى أمره عمل لا جدال فيما يعود به من نفع على العبد   ولكن خيار منه أن يترك العبد الدنيا ويزهد فيها .

    فالدنيا ليست سوى بلاء لا عودة إليه والاشتغال بالدنيا ابتعاد عن الله والتحرر من الدنيا وسيلة إلى التقرب من الله والتفرغ لعبادتة فلا قيمة لها فى الحقيقة ولذا وجب الزهد فيها (1) .

* الزهد عند أبى سعيد الخراز :

     لا تختلف نظرة الخراز عن نظرة المحاسبى للزهد ، فالقلب الزاهد هو الذى استحيا من الله أن يرى نفسه خادما للدنيا فضن بنفسه على خدمتها ، فرمى بها عن قلبه وأعتق نفسه من رق عبوديتها واعتز أن يكون خادما لها بعزة العزيز الذى أعزه بالاعتزاز عنها (2) .  

    فإذا كانت حريته منها تزيده قربة وعبودية لله ، كانت الدنيا طوع يديه لا تؤثر فيه مهما بلغ عنده مقدارها ، لأن قانون الإخضاع والاستعلاء عليها سيسرى فى هذه الحالة على الذهب والحجر فيستويان فى نظر المؤمن وهذه الحقيقة يعبر عنها أبو سعيد بقوله : ( لايكون العبد زاهدا مستكمل الزهد حتى يستوى عنده الحجارة والذهب ، عندها ــــــــــــــــــــــــ

1- استاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبى للدكتور عبد الحليم محمود ص 293  .

2- الصدق لأبى سعيد الخراز ص 43 .            

تخرج قيمة الأشياء من قلبه ) (1) .

وذلك أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما يسرنى أن لى مثل أحد ذهبا أنفقه فى سبيل الله تعالى ، تأتى على ثالثة يكون منه عندى شئ إلا دينار أرصده لدين على ) (2) .

     فمن ملك من أهل العمل والصدق شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل لا لـه ، وأن الله خوله فيه وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه ، فالنعمة بلاء حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بهـا علـى طاعة الله ، وكذلك البلوى والضراء اختبار وابتلاء حتى يصبر ويقوم بحق الله فيه (3) .

    فالأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون من بعدهم الذين أشعرهم الله بأن أبلاهم فى الدنيا بالسعة وخولهم ، كانوا إلى الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 32 . 

2- أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : ( ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهبا ) برقم (6445) ومسلم فى كتاب الزكاة ، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدى الزكاة برقم (991) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب فى المكثرين برقم (4231) وابن حبان فى كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك برقم (3213) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 467 وانظر السابق ص 44  

3- السابق ص 33 .               

ساكنين لا إلى الشئ وكانوا خزانا لله جل ذكره فى الشئ الذى ملكهم   ينفذونه فى حقوق الله تعالى غير مقصرين ولا مفرطين ولا متأولين على الله ، وكانوا غير متلذذين بما ملكوا ولا مشغولى القلوب بما ملكوا ولا مستأثرين به دون عباد الله (1) .

* الزهـد عند المكــى : أما المكى فيستند فى معرفة الزهد فى الدنيا إلى مفهوم الدنيا فى القرآن الكريم فيقول : ( لا يمكن لعبد أن يعرف الزهد حتى يعرف الدنيا أى شئ هى فقد قال الناس فى الزهد أشياء كثيرة ، ونحن  غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذى  جعل فيه الشفاء والغنى ) (2) .

    ويعتمد المكى فى معرفة الدنيا على مجموعة من الآيات يختزل فيها أوصاف كل آية ثم يسلمها إلى آية أخرى إلى أن يصل إلى وصف واحد يبين حقيقــة الدنيا .

1- الآية الأولى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } (3) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق ص 34  .

2- قوت القلوب حـ 1 ص 245  .

3- آ ل عمــــران / 14 .

     فهذه سبعة أوصاف هى جملة متاع الدنيا ، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من أصول هذه الجمل ، فمن أحب جميعها فقد أحب   جملة الدنيا ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل فقد أحب       بعض الدنيا (1) .

   يقول المكى : ( فعلمنا بنص كلام الله أن الشهوة دنيا ، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنها تقع ضرورات ، فإذا لم تكن الحاجة دنيا دل أنها لا تسمى شهوة وإن كانت قد تشتهى ) (2) .

2- الآيـــة  الثانيــــــة : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعـب ولهـو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأمـوال والأولاد } (3) فرد الأوصاف السبعة إلى خمسة معان  .

3- الآيـــــــة الثـــــالثـة : { إنمـا الحيـاة الدنيا لعـب ولهــو } (4) فاختصر الخمسة فى معنين منهما جامعان .

4- الآيـــــة  الرابعــــــة : { وأما مـن خــاف مقـــام ربـــه ونهـى النفس  ــــــــــــــــــــــــ

1- السابق حـ 1 ص 245  .

2- السابق حـ 1 ص 246 .

3- الحديد / 20 .

4- محمد / 36 .

 

عن الهــوى } (1) .

    فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى ، فمن نهى نفسه عن الهوى فهو لم يؤثر الدنيا ، وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزاهد الذى لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس ولا يحزن على مفقود من ذلك ، يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشئ ، ولا يتناول عند الحاجة إلا        سد الفاقة ، ولا يطلب الشئ قبل الحاجة ، فأول الزهد دخول غم الآخرة فى القلب ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالـى ، ولا يدخل هم الآخرة حتــى يخـرج هـم الدنيــا ولا تدخـل حــلاوة المعاملـة حتــى تخرج حـلاوة الهــوى (2) .   

     وإذا كان رأى أغلب المشايخ من أوائل الصوفية فى مسألة الزهد معبرا عن الزهد فى الإسلام فإن بعضهم جعل الزهد فى صورة تبرز نوعا من الغلو والرهبانية التى لم تكتب علينا فخلط بين الاستمتاع بنصيب من الدنيا لسد الضروريات وبين التكالب عليها مما دفعهم إلى التنحى عنها وضرورياتها بالكلية وأساءوا لا إلى التصوف وحسب بل إلى    روح الإسلام .

ــــــــــــــــــــــــ

1- النازعات /40 .  

2- السابق حـ 1ص 246 .

    فهذا أبو بكر الشبلى ربما يلبس الثياب المثمنة ثم ينزعها ويضعها فوق النار أو يأخذ السكر واللوز ويحرقهما بالنار (1) .

     وهذا أبو الحسين النورى يأخذ ثلاثمائة دينار ثمن عقار بيع له ثم يصعد قنطرة ويرمى بها واحدا واحدا إلى الماء قائلا : حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا (2) وغيرهما ممن وضعوا النواة التى أنبتت أشكالا غريبة وبدعا عجيبة فى الزهد والتصوف .

    وقد رأينا كيف نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو والمسالك المتشددة التى التزم بها الملتزمون ، وأنه رأى فى تعذيبهم لأبدانهم وفى عزوفهم عن الزواج والنوم والطعام رهبانية لا تمثل روح الدين ولا تمتثل له فلم يحمس على ذلك ونهى عنه ، لأن أبسط نتائجه أن يزبل العود وينحل الجسم وتضعف القوة فيقعد الإنسان عن العمل ويمد يده بالسؤال ترده اللقمة واللقمتان ، ونحن نرى فى عصرنا اجتماعا لمثل هذه النوعية حول المساجد والأضرحة لا يعملون ولا يضربون فى الأرض بالسعى على أرزاقهم ومعاشهم ، متظاهرين بالتنسك والتعبد مدعين التزهد والتصوف حيث أصبحوا عالة على ــــــــــــــــــــــــ

1-  اللمع ص 483  .        

2-  السابق ص 493  .

المجتمع ووصمة عار على الإسلام والتصوف فهل تكون الزهادة على حساب الكرامة ؟

   لا ... ما هكذا أراد مشايخ الصوفية الأوائل أو دعى الإسلام  وكل ما أرادوه أن يعرف المؤمن الدنيا وأن يعلم أنها دار فناء فيقطع الطمع فيهـا ودار ابتـلاء فيقاومها بالمجاهدة والفلاح فيها ومحاولة التحرر من قيودها وعوائقها .

      فإذا قطع الصوفى عندهم مرحلة الزهد فى رحلة الحرية انتقل إلى مقام الصبر مستصحبا ما سبق من المقامات .

[4] - الصبــــــــــر :

    فعندما يزهد الانسان فيما سوى الله يكون قد قطع منتصف الطريق   ولهذا كان لازما أن توضع إرادته على المحك وأن يختبر مدى احتماله لمشقة الرحلة فالرحلة قام بها الكثير ، ولكن القليل هم الذين استمروا فيها ووصلوا إلى منتهاها .. إلى مقام الحرية وإن كان صعبا ، ولكن بمقدار صعوبة المسير فيه يكون الشعور بقيمة الحرية .

  والبلايا التى تلم بالعبد لا تقصد لذاتها ولكن لاختبار مدى القدرة على الاحتمال ولتجديد العزيمة وشحذ الهمة على مواصلة السير فى طريق التقوى قال تعالى :

     { لـــن ينـــال الله لحــومهـــا ولا دمـــاؤها ولكــن ينـــاله

   التقــوى منكــم } (1) .

   يقول الخواص (2) :

   ( الصبر هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة ) (3) .

  وقال عمرو بن عثمان المكى (4) :

   ( الصبر هــو الثياب مـع الله سبحانه وتعالى وتلقـى بلائه بالــرحب والــدعة ) (5) .

ــــــــــــــــــــــــ

1- الحج / 37  .

2- هو أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص من أقران الجنيد والنورى له سياحات ورياضات وباع كبير فى التصوف ، مات فى جامع الرى سنة 291 هـ  انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 325طبقات المناوى ص 184 ، تاريخ بغداد حـ 6 ص7 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 325 صفة الصفوة حـ 4 ص 80  .

3- الرسالة حـ 1 ص 455  .

4- هو أبو عبد الله عمر بن عثمان بن كرب بن غصص ، صحب الجنيد وأبا سعيد الخراز وغيرهما من المشايخ ، له كلام حسن فى الزهد والتصوف ، مات ببغداد سنة 297هـ  انظر تاريخ بغداد حـ 2 ص 223 شذرات الذهب حـ 2 ص 225 حليـة الأولياء حـ 10 ص 291 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 104 المنتظم حـ 6 ص 93 صفة الصفوة حـ 2 ص 248  .

5- الرسالة حـ 1 ص 455 .

 

* والصبر له درجات فى موطنه  :

[1] - أولهــــا : الصبر على آداء فرائض الله تعالى على كل حال فى الشدة والرخاء والعافية والبلاء طوعا وكرها .

[2] - ثانيهـا : الصبر عن كل ما نهى الله تعالى عنه ، ومنع النفس من كل ما مالت إليه بهواها مما لا يرضى الله وهذه الدرجة وما سبقها هما فرض على العباد أن يعملوا بهما . 

[3] - ثالثهـا : الصبر على النوافل ، وأعمال البر وما يقرب العبد إلى الله تعالى فيحمل نفسه على بلوغ الغاية للذى رجاه من ثواب الله عز وجل .

[4] - رابعها : الصبر على قبول الحق ممن جاء به من الناس ودعا إليه بالنصيحة فيقبل منه ، لأن الحق رسول من الله جل ذكره إلى العباد ولا يجوز لهم رده  فمن ترك قبول الحق ورده فإنما يرد على الله تعالى أمره .

 [5] - خامسهـا : الصبر على احتمال مكروه النفس فإذا وقع بها ما تكرهه تجـرع العبد ذلك وترك البث والشكوى وكتم ما نزل بهـا كما قــال تعالى : { والكــاظمـين الغيــظ والعـافــين عـــن

 

 

الناس } (1) .

 فالعبد كتم ما كره وشق على نفسه احتماله فصار بذلك صابرا (2) .

       فالصبر درجات يقطع الصوفى فيه أشواطا يلتزم فيها بالثبات والثقة مع الله وهو مقام صعب المنال سريع الزوال إلا على من ثبت  الله قلبه .

    يقول الجنيد بن محمد :

      ( المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن ، وهجران الخلق فى طاعة الله تعالى شديد ، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد ، والصبر مع الله أشد ) (3) .

      فالله إذا ابتلى العبد بقدر مفاجئ فيه ألم وبلوى ثم ثبت عند أول الصدمة ولم يهتز وتجرع البلاء من غير شكوى ولم يعترض بقليه على قضاء الله وقدره فإنه يصل بذلك إلى منتهى المقام فى الصبر (4) .

    وفى هذا يقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنمـا الصبر عنـد ــــــــــــــــــــــــ

1- آل عمران / 134 . 

2- انظر فى درجات الصبر كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 19 : 21 بتصرف

3- الرسالة حـ 1 ص 454  .

4- السابق حـ 1 ص455  .

 

الصدمـــة الأولى ) (1) .

     فإذا صبر على بداية البلوى فإن ما بعدها يقويه ويثبته ويزيد من عبوديته وبذلك يقطع مرحلة أخرى فى طريق الحرية ينتقل بعدها إلى تفويض الأمور لله لعلمه بأن الحادثات كلها حاصلة من الله تعالى ولا يقدر على الإيجاد غيره .

[5] - التوكـــــــــــــــــل :

    وهو الاستعانة بالله فى الثبات على طــريق الحرية ، فيختار الله وكيلا له ولن يكون هذا إلا بقطــع العلائق عن الدنيا والخلائق والخلــوص منها إلى الثقة التامة فى كفيله ووكيلــه حيث يتولى الله أحواله ويصرفها على ما يشاء ويختار (2) وإذا تولى أمر عبد بجميل عنايته كفاه كل شغل وأغناه عن كل غير ، فلا يستكثر العبد حوائجه لعلمه أن كافيه مولاه ، ومن جعل الله عز وجل وكيله لزمه أن يكون ــــــــــــــــــــــــ

1- أخرجه البخارى فى كتــاب الجنائز ، باب الصبر عند الصدمة الأولـى برقـم (1302) ومسلم فى كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت برقم (923) وأبو داود فى كتــاب الجنائز ، باب البكاء على الميت برقم (3125) والترمذى فى كتاب الجنائز ، باب الصبر فى الصدمة الأولى برقم (987) والنسائى فى الجنائز باب شق الجيوب (1870) وابن ماجه فى الجنائز ، باب الصبر إلى المصيبه برقم (1596) .

2- الصدق لأبى سعيد الخراز ص 48 بتصرف .

   وكيلا لله على نفسه فى إقامة حقوقه وفرائضه وكل ما يلزمه  فيخاصم نفسه فى ذلك ليلا ونهارا لا يفتر لحظة ولا يقصر طرفه (1) .

وفــى هذا سأل رجل ذا النون المصرى : ما التوكل ؟

فقال  :  خلع الأرباب وقطع الأسباب .

فقال السائل : زدنى ؟

فقال : إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية (2) .

    وهذا يعنى أن التوكل ترك السكون إلى أسباب الدنيا ونفى الطمع من المخلوقين والإياس منهم لأنهم لا وصف لهم بالربوبية فالمنفرد بالخلق والتدبير هو الله ، فحين علم المتوكل أنه صائر إلى المعلوم المقدر رضى بالله تعالى  وعلم أنه لا يدرك بالتوكل تعجيل ما أخر الله تعالى ولا تأخير ما عجل ، ولكنه اكتسب إسقاط الهلع والجزع واستراح من عذاب الحرص وراض نفسه بآداب الشريعة وألقاها فى العبودية وانشغل

بها وأيقن أن ما قدر سيكون ، وما يكون فهــو آت (3) .  

* التوكل درجات فى موطنه :

 والتوكل له درجات فى موطنه يقطعها الصوفى بالمجاهدة  ليصل إلى ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 418 بتصرف .

2- السابق حـ 1 ص 420  .

3- الصدق ص 53 بتصرف .             

المقام الأعلى الذى يليه :

  • فأولهـــا : سكون القلب بضمان الرب فيتجرد عن الأشياء لأن الله صدقه فى ضمانه ، فيسكن قلبه عند فقد الأسباب ثقة منه بوعد ربه  وهذه بداية التوكل (1) .
  • وثانيهــا :درجة التسليم حيث يوقن العبد بعلم الله بحاله ، فيشتغل بما أمره الله ويعمل على طاعته ولا يراعى إنجاز موعده (2) .
  • وثالثهــا : درجة التفويض حيث يكل أمره إلى الله ولا يختار فيستوى عنده وجود الأسباب وعدمها ويشتغل بآداء ما ألزم به ولا يفكر فى حال نفسه ويعلم أنه مملوك لسيده ، والسيد أولى بعبده من نفسه فهذه هى حالة التفويض .

   وإذا ارتقى عن هذه الدرجة فوجد الراحة فى المنع واستعذاب ما يستقبله من الرد فقد وقع فى مقام الرضا (3) وقد تقدم موقف أوائل الصوفية من النظر إلى الأسباب وأبرزوا دورها بما يكفى لعدم الإطالة .

[6] - الرضــــا :  وهو يقع عند كثير من أوائل الصوفية بعد التوكل

ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 422 .

2- السابق حـ 1 ص 422 .

3- الرسالة ص 422 .

ويشمل فىطياته المقامات السابقة ، فالعبد لما صدق مع الله فيما سبق ووقع بينه وبين الله التسليم والتفويض زالت عن قلبه التهم وسكن    إلى حسن اختيار الله له ، ونزل فى حسن تدبيره وذاق طعم الوجود به   فامتلاء قلبه فرحا ونعما وسرورا ، فغلب ذلك ألم المصائب       والمكروه والبلوى ، وصار اسم البلوى خزانة يستخرج منها إذا نزل     به أمورا كثيرة :

   1- فتارة يتنعم بعلم الله به إذ علم أنه يراه فى البلوى .

   2- وتارة يعلم أنه ذكره فابتلاه ولم يغفـل عنه .

   3- وتارة ولاه الله من أمره ما فيه الصلاح ففوض الأمر إلى الله وطمع أن يراه راضيا عنه كما قال جل ذكره : { يأيتها النفس  المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية } (1) فخرجوا من الرضا إلى الرضا (2) .

   ويصف القشيرى المشاعر التى تحدث لصاحب الرضا بأنه يحصل له فوائد ولطائف لا تحصل لمن دونه من الحلاوة عند وجود المقصود وهو لا يجد الراحة فى المنع فقط بل يشعر بزوائد الأنس ونسيان كل أرب ــــــــــــــــــــــــ

1- الفجر / 27 ، 28 .

2- الصدق ص 66 بتصرف .

وحلاوة الطاعة تتصاغر عند حلول لذة الرضا حتى يؤخذ العبد عن جملته بالكلية وهذا عين التوحيد ومقام الحرية (1) .

    ويتضح جليا أن مقام الرضا ينهى سلسلة المقامات ، فالرضا نهاية الجهود وبذل المجهود من قبل الإرادة فى الوصول إلى الحرية والتى عبر عنها الجنيد بقوله : ( الحريـــة آخـر مقام للعــارف ) (2) .

    وفى الوقت ذاته تبدأ رحلة جديد من أحوال الجود من منة المعبود   وقد اختلف أوائل الصوفية فى ترتيب الرضا أهو آخر المقامات أم أول الأحوال ؟ فقال بعضهم : الرضا من جملة المقامات وهو نهاية التوكل فالرضا كسبى ، وقال بعضهم  : الرضا من جملة الأحوال وليس ذلك كسبا للعبد بل هو نازلة تحل بالقلب  .

      قال القشيرى : ويمكن الجمع بين اللسانين فيقال : بداية الرضا مكتسبة للعبد وهى من المقامات ونهايته بداية الأحوال (3) .

   ووقوع الرضا فى هذا الموقع يدل على أن كل المقامات السابقة كانت مجاهدات ومكابدات القصد منها قطع كل طريق على النفس حتى لا تستروح متع الحياة ، أو تستكن لمطالبها وأطيابها وأن يستعد ــــــــــــــــــــــــ

1- الرسالة حـ 1 ص 423 .

2- سبق تخريجه ص 395 .

3- الرسالة حـ 1 ص 423 .

القلب للامتلاء بعبودية الله وحده أو بالوجه الآخر يستعد للامتلاء بالحرية من كل ما سوى الله .

   فالرضا محصلة نهائية لقوتين متصارعتين مختلفتين فى الاتجاه ، اتجاه يمثل عبودية الله والحرية مما سواه ، واتجاه يمثل عبودة المخلوق والتحرر من منهج الله ويقاس مقدار الرضا بمقدار تفوق القوة المتجهة نحو الحق على القوة الجاذبة إلى الخلق .

   وهذا فى حد ذاته اثبات للحرية بمقوماتها وأصالتها فى الذات الإنسانية من جانب ، وتحقيق للذات الإنسانية بالوصول إلى الكمال البشرى من جانب آخر .

    فالرضا عند أوئل الصوفية يعد من أحسن الحلول التى تقدم لحل المشاكل التى آثارها المتكلمون حول الجبر والاختيار أو الفعل الإلهى والفعل الإنسانى وغير ذلك مما حمل العقول ما لا تطيق .

     فإن الراضى حين يسلم نفسه وعمره لخالقه قد أقر بحريته وإرادته المحضة فى هذا الاستسلام وأدى غايته القصوى فى الحياة باتباعه الكامل لمنهج الله واستسلامه لتدبيره .

   قال تعالى : { فإما يأتيانكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لما حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } (1) .

* شكل تلخيصى للمقامات الصوفية وإرادة الحرية :   

  

[ الحــرية آخر مقـام للعـــارف ]   

                                                                 ( نهايــة الرحلة )

                                                 [7]     ــــــــــــــــ الحرية

   الطــــريــــــق                        [6]     ــــــــــــــ الرضــا

   إلى مقام الحرية                   [5]    ـــــــــــــ التوكــل

                                [4]    ــــــــــــ الصــبر

                          [3]    ـــــــــــــ الزهـــد

                    [2]    ـــــــــــــ الـــورع

              [1]    ــــــــــــــ التوبــــة

ـــــــــــــــــــــ

( بداية الرحلة )                                  [ نهايــة المقـامـات ]

                                                    [ بـداية الأحـــوال ]

 

ــــــــــــــــــــــــ

1- طه / 123 : 125 .

  • الاثنين PM 05:57
    2021-08-16
  • 2243
Powered by: GateGold